ولَمَّا تَسَرَّبَ الكذبُ إلى الرواة ورويت أحاديث عن الرسول ﷺ لم يقلها، ظهر
تقصُّد تسمية الرجال، رِجَالِ السَّنَدِ، والنظر فيهم بحثًا وتقييمًا بالجرح والتعديل؛ وصار الحديث فَنًّا يُتَعَلَّمُ بأصول. ولذلك صار استنباط الأحكام يحتاج إلى معرفة بالنصوص الشرعية واللغة العربية، فصار لا بد من أن يقرن الحكم الشرعي بدليله أو يصحب معهما بوجه الاستدلال. فانبرى العلماء المخلصون، والفقهاء الواعون إلى هذا الأمر فصنفوا الكتب لحفظ الدين. فبدأ الفقهُ يتكوَّنُ تكوينًا جديدًا في البحث، ويرتَّبُ ترتيبًا خاصًا في التبويب. وعلى اختلاف الأساليب في تبويبه وترتيبه. فنجد
أن الإمام مالك صنف الموطأ على تبويب الأحكام وجعل فيه الأدلة من الأحاديث والآثار وموقوفات الصحابة حين يبدي رأيه في المسألة جوابًا أو بيانًا. ونجد الشافعي على منهاجه وأضاف وجه الاستدلال ومناقشة الرأي المقابل أو المحتمل كما فعل في الرسالة والأُمِّ. ونجد بعضهم رتب المسانيد على أسماء الرجال كما فعل الإمام أحمد في المسند وقبله الإمام أبو حنيفة في مسنده، ثم عمرت المكتبة الإسلامية بمئات الألوف من المؤلفات في الفقه والحديث والتفسير بأساليب متنوعة من التبويب والعرض.
وكانت عنايةُ العلماء فائقةٌ في الفقه، إذ جعلوا آراء الأئمة الأعلام في الفقه واستنباطاتهم في مدونات كبرى مرتبة ومبوَّبة ثم عملوا على إيجازها بما يُسَهِّلُ الحفظ، وتفنَّنُواْ في تطويرها بما يخدم طلاب العلم وبما ينتج منهم علماء معلمين، وقادة سياسيين، وجنود محاربين وقضاة عادلين. فعملوا على شرح الغامض، وإثبات الأدلة لما أبهم دليله، ووضعوا المتون للمذاهب على حسب ضرورة الدارس وأهليته في طلب العلم. واعتنوا بآراء الخلاف وكيفية التعامل معها، بما يسهل للباحث المعاصر الوصول إلى قواعد أكثر ضبطًا للرأي المكوّن في جميع العصور، سيما عصرنا المتخلف عن تقدم سلف الأمة من الفقهاء والمحدثين والمفسرين.
ويجب أن لا ننسى محاولة الكفار بعد أن نجحوا في غزو المسلمين بعد منتصف القرن الثامن عشر الميلادي في أخذهم بإفشاء الفاحش من الرأى الذى يغالط أذهان العامة من المسلمين في ضرورة دراسة العلوم الشرعية، سيما منها الفقه على وجه
1 / 18