وهكذا، وبانزلاقة فجائية وجدت سناء أنها وزميلاتها قد أصبحت فجأة في قلب المشكلة.
ولا تدري لماذا أحست بكل تلك الفرحة الطاغية التي اجتاحتها لمجرد علمها أن قسم التراخيص ليس هو الوحيد الذي يقوم بالعمل الآخر الثاني.
وشهدت الغرفة الصغيرة التي كانت مسرحا للاحتفال المتواضع أكثر من خبطة على كف، وارتعاشات يد علامة البراءة والاستنكار، بينما الصدور تتهيأ وكأنها مقبلة على سباق لتقص كل منهن على الأخريات أغرب وأعجب واقعة رأتها في حياتها.
وبعد قصة من نور وأخرى من نجاة بدأن يدركن أن قصصهن متشابهة إلى حد بعيد، وأن لا غرابة إلا في أنها حدثت لكل منهن على انفراد، وإلا في أنها صادرة عن جنس غريم آخر.
هنا كففن عن الحكي وإصدار آهات الدهشة والاستنكار، وبدأت تظهر على الواحدة منهن إذا تحدثت علامات دالة على تفكير، فالحديث كان قد اتخذ وجهة نادرا ما يتخذها حديث النساء عن الرجال، إذ هو لم يكن يدور عنهم كرجال، وإنما عنهم كأكلة عيش، وعن الوجه الآخر لعالمهم، عالم المسئولية وأكل العيش ... العالم الذي أقاموه واحتكروه واحتفظوا بمفاتيح أسراره، العالم الذي تكفل بصبهم في قوالبهم وتكوين أمزجتهم وصنع هياكل شخصياتهم وقيمهم، قالت نجاة: عندنا محمد أفندي راجل زي أولية الله تمام، حاجج مرتين وطول النهار السبحة في أيده وطول النهار يكلمنا عن اللي يصح واللي ما يصحش، والمصيبة أنه مش بيدعي، ده جد تلقيه كريم وعنده نخوة وشرف ونبل، آخر شرف ونبل! وأعرف لك بعد كل ده قال إنه بياخد على كل استمارة جنيه، معتبرها عيب وكل حاجة، إنما يقول لك على رأيه: هادي نقرة يا ولد عمي وهادي نقرة. - ونروح بعيد ليه؟ رئيس الإدارة بتاعتكم يا سناء راجل بيلعب بوكر بدينه، وقال إيه قبل ما يلمس الورق لازم يقرأ الفاتحة.
وتدخلت نور صاحبة الحفلة: طيب أنا بعيني بقى شفت الحكاية دي، الراجل اللي ساكن تحتنا ده موظف في شركة، لو كنتم هنا امبارح كنتو سمعتوا الصراخ جايب من آخر الشارع وكل يوم والتاني مولد بالشكل ده، وعلشان إيه ده كله؟ حضرته بينزل ضرب في ابنه لما بيجي متأخر من بره، ومتأخر دي عنده يعني بعد الساعة عشرة، كويس كده؟ إيه رأيكم لينا واحد قريبنا بيشتغل معاه لما سمع الحكاية دي مات م الضحك، وقال: مش معقول ده، أي حد تاني معقول، إنما الراجل ده بالذات ... ده معروف عنه زي الشمس إنه بيورد الستات لكل الموظفين الكبار في الشركة. - ومستغربة ليه؟ هادي نقرة يا ولد عمي وهادي نقرة.
وارتفعت ضحكاتهن عالية، وما لبثت سناء أن قالت مواصلة نغمة السخرية: الظاهر الرجالة دول عندهم لكل مبدأ دوسيه ... الشرف في بيته غير الشرف في عمله، والحرام في الليل غير الحرام في النهار، والفضيلة ما تمنعش الرذيلة، كله موجود مع بعض في حالة تعايش سلمي.
ثم اعتدلت جادة لتكمل آراءها «الفلسفية» بقصة حقيقية عن رئيسها عم صفوت أفندي، الرجل الذي هدهد عليها كالأب وحاول أن يقنعها باقتسام الرشوة، والذي لا تخلو جملة من جمله من حديث شريف أو آية قرآنية. - من يومين كان صفوت أفندي يحكي لي كيف اكتشف مرة أن مع ابنه الصغير إصبع طباشير ملون، سأله عن مصدره فتلجلج، وحقق معه فعرف أنه أخذه من صندوق الطباشير في حجرة الرسم دون علم المدرس ... وكيف ظل ساعة يشرح له خطأه ويوضح له الجريمة التي ارتكبها، وكيف أمره في النهاية أن يذهب في الغد إلى المدرس ويعترف له بما حدث، ويرد الأصبع، وكيف لم يفعل الولد، وكيف ضربه وأخذه من يده في الصباح وذهب معه إلى المدرس، وجعله يعترف للمدرس أمامه بما فعله ويطلب الصفح والمغفرة، قصة من فم عم صفوت أفندي حكاها عرضا ودون أن يكون له من وراء حكايتها هدف، وعم صفوت أفندي هذا لا يجد عيبا أبدا في الحصول بطريقة غير شريفة بالمرة على نقود تشتري آلاف أصابع الطباشير؟
وأنهت سناء قصتها قائلة أنها لا تزال إلى الآن حائرة مع صفوت أفندي لا تعرف كيف تحكم عليه ... إذ ما الحكم على نفس الشخصية والمنطق والعقل حين تنهى عن الشيء بحرارة وصدق حقيقيين في نطاق، وبحرارة وصدق ترتكبه في نطاق آخر؟ كيف تحكم عليه؟
وبدأ الحديث يتعثر وقد استغرقتهن جميعا تأملات، وبدأ الحديث يأخذ شكل الأحكام ... أحكام تدين الرجال وتشمئز من عالمهم المنقسم على نفسه، وذواتهم التي تحيا بمائة وجه ومنطق، وأحكام أخرى تصدر وتحاول أن تجد العذر وتغلفها صاحبتها بكلمة عطف، والجميع يسيطر عليهم الشعور بأن هؤلاء الرجال وإن كانوا أكثر منهن خبرة وقدرة، إلا أنهن ها هن يكتشفن أنهن أكثر منهن قذارة أيضا، وأنهن بعالمهن قد يكن أكثر تخلفا وضيق أفق، إلا أنهن أيضا أكثر نظافة. - المسألة مس مسألة قذارة ونظافة يا جماعة. - أمال المسألة إيه يا نجاة؟
Halaman tidak diketahui