بدأت الصديقة أو القريبة - لا أحد يعرف - تعلق من عندها هي الأخرى تعليقات داعرة كأنها صادرة عن امرأة كشفت عن نفسها كل حجاب، متسائلة بشغف المحرومة عن إحساسهن «الجسدي» بزملائهن الموظفين، مبدية اشمئزازها من خيبتهن وكسوفهن الذي لا يليق بموظفات مثلهن يقبضن كالرجال الماهية في «آخر الشهر»، وكأنها لا ترى في العمل سوى طريق مختصر إلى الرجل أو «الذكر» في الرجل، منطق بدا لهن، حتى لبهيجة صاحبة «القصة» والضحكة واللبانة مثيرا للغثيان. والغريب أن تشترك بهيجة بالذات معهن في الشعور، فقبل بضعة أسابيع كانت يكاد يكون لها في العمل نفس الرأي، بل لم لا نقول إنه السبب الحقيقي لبحثها عن العمل وتفتيشها عن الوظيفة ... كأنما كانت تفتش عن حظيرة للرجال هم موجودون فيها بمختلف الأنواع والأشكال والأحجام بحيث تصبح كل مشكلتها أن تختار؟ ماذا حدث حتى أصبحت مشكلتها بعد بضعة أسابيع من الوجود بالحظيرة، ومن الاحتكاك بالرجل في مجال الوظيفة، وبعد موعد أو اثنين خرجت فيهما بلا حماس كبير مع زميلين لها ... ماذا حدث وأنساها هدفها الأساسي، وفقد الرجل طعمه القارص الأول وبدأت تجد له في نفسها مذاقا جديدا لا يلدغ، ولا يجعل جسدها يقشعر، ولا يصيبها بأي إحساس يمت إلى الجنس أو الجسد بصلة؟ وأصبح كل ما يعنيها في الحظيرة أن تعرف من هو الرئيس من المرءوس ومن صاحب المستقبل، إذ هناك في مؤخرة عقلها المغامرات قد تغيرت بقدرة قادر إلى مشاريع، كانت مشاريع - لدهشتها - زواج ... زوج تختاره بعقلها المجرد عن الهوى وبوعيها المجرد عن الشعور، بل في أقل من شهر تطورت مشاريعها تطورا آخر وأصبح همها لا أن تسعى «للترقي» عن طريق اختيار الزوج الأرقى في الوظيفة والمستقبل، وإنما للترقي عن طريق أن تترقى هي وتحتل الوظيفة التي يتنافس على خطبة صاحبها المتنافسون، ولا بأس هنا من استعمال كل الطرق وأي الطرق على الوظيفة الأحسن، بالعمل المتواصل لكسب رضاء الرؤساء، بالشكولاتة أو البونبون أو بأنوثتها حتى، أي تطور أصابها هي التي ذهبت تفتش عن الرجال في العمل «لإشباع» أنوثتها، فانتهت في أقل من شهرين إلى التفتيش عن العمل ونتائج العمل في الرجال، حتى لو اضطرها الأمر «لاستعمال» أنوثتها وجعلها وسيلة للوصول، في ذلك الميدان الجديد الذي اكتشفت في حظيرة الرجال وجوده؟
وحتى فيما وصلت إليه كانت تعليقات السيدة الجالسة واضعة فخذا فوق فخذ تتحدث عن كل ما هو «عيب» بانطلاق زائد، وكأنما هي العالم المتبحر يطرق موضوعه المفضل ... السيدة الغريبة التي استنكرت حين سألتها إن كانت تشتغل - مجرد السؤال - باعتبار أن العمل «عيب» لا يليق بالسيدة الفاضلة أن تترك بيتها لأجل أن تزاوله ... السيدة التي تفخر بأنها «ربة بيت» وتلتقط مواقف العيب لتخوض فيها وتتوسع، معتقدة أنهن ما دمن يرتكبن العيب الأكبر ويعملن فلن يمانعن قطعا في مزاولة العيوب الصغرى مثل الحديث عن العيب والنكات والقفشات العيب.
كلمات كانت وجوه البنات تخضر لها كإشارات المرور وتصفر وتحمر، ويشعرن لدى سماعها أن مسافات شاسعة الطول قد حملتهن بعيدا عن عالم «حريمي» آخر قائم وعتيد، وكن إلى أسابيع قليلة مضت من رعاياه وعبيده ... عالم المرأة فيه في نظر الرجل، وبصراحة قد تجرح في نظر نفس المرأة أيضا عيب متجسد يرتدي الفساتين ويتجمل بالمساحيق، وكل رغبة لها أو مطلب تحمل في ثناياها وصمة عيب أبدية ... خلقت عيبا وستظل إلى يوم مماتها عيبا، تلك هي الحقيقة الوحيدة الراسخة في عالم الحريم والرجال الذي كن يحيين فيه، وكل ما عداها من حقائق لا يفعل أكثر من أن يؤكد تلك الحقيقة الكبرى ويعمقها، من أسابيع قليلة مضت خرجن من عالم العيب هذا إلى عالم اللاعيب اللاخطأ، عالم اللارذيلة، عالم الرجال، خرجن من عالم كل ما فيه ومن فيه حرام إلى عالم كل ما فيه ومن فيه حلال، ولا تستغرق وقتا كبيرا لتكشف أنها نوبة في الأرض المحايدة، في العمل، حيث لا تسري قوانين البيت والمجتمع، حيث لا تسري قوانين الأخلاق، حيث القانون الوحيد المطاع هو قانون العمل، حيث الخطيئة الكبرى لمن لا يعمل. بضعة أسابيع أتاحت لهن أن يرين الرجال ويرين أنفسهن - لأول مرة - متجردين ومتجردات عن العيب واللاعيب، عن الحرام والحلال، بدأن بعدها يقتنعن أن للحياة قوانين أخرى وأحكاما تختلف عن الأحكام الأزلية اختلافا شاسعا كبيرا، كبر المسافة الكائنة بينهن وبين السيدة الجالسة واضعة فخذا فوق فخذ تتحدث بفخر الأسيرة بآسرها، والعبدة بسيدها ومحور حياتها، عن العيب.
ويبدو أن السيدة قد أخذت وقتا طويلا تضحك فيه ببحبحة وتسخسخ فيه بإرادتها لدى ذكر الرجال وعالم الرجال، قبل أن تدرك أن الأخريات لا يشاركنها، وبمعنى أصح يتفرجن عليها تفرج المشمئز.
ودون أن تخجل أو تؤنب نفسها قالت: ده انتو الظاهر جد أوي، دانا مش بتاعت كلام من ده، أنا ست بتاعت حظ وفرفشة وانتو باينكم خام أوي أوي، لا، اسمحيلي يا ختي يا يسرية أصلي أنا ما استحملش الجد أبدا، بيعمل لي ارتكاريا يا حبيبتي وأنا مش ناقصة هرش، عن إذنكم.
وكأنما انزاح عن صدورهن هم ثقيل أو كانت السيدة رجلا يخجلن من الحديث أمامه، والتشبيه ليس من عندي، لقد جاء على لسان سناء وهي تشيع المرأة وتكاد تسمعها الكلمات ... تشبيه ضحكن له، وما لبثت «نور» خريجة التجارة أيضا وكاتبة الآلة في السكرتارية أن علقت عليه قائلة: أهو احنا دلوقتي لا احنا ستات على ناحية ولا رجاله على ناحية، زي ما نكون عملنا جنس تالت.
فقالت سناء: ما هو لازم يحصل كده! ما احنا ستات إنما بنقوم بعمل رجاله، زي الرجاله لما بيقوموا بشغل الستات ... زي الترزي اللي بنفصل عنده وزي الأسطى إبراهيم الكوافير ... مش تلاقوهم برضه ستاتي شوية ... نواعمي كده؟
ثم أضافت ضاحكة: زي احنا ما ابتدينا نخشن شوية.
ولكن مجرى الحديث تغير فجأة، مالت نور على يسرية وقالت لها شيئا، رفعت يسرية بعده صوتها في شبه صرخة: يا نهار أبيض، وعندنا كمان! - إيه هو اللي عندكم؟
ورسمت نور بإبهامها وسبابتها مصطلح «الفلوس» وقالت سناء: في السكرتارية كمان؟ أنا كنت فاكرة عندنا بس.
Halaman tidak diketahui