يعتقد كانت أنه ليس من مهمة الأخلاق أو العقل العملي على الإطلاق وصف الأمور الواقعية أو التنبؤ بها، وإنما تنحصر هذه المهمة في إرشادنا إلى الطريقة التي ينبغي أن نحيا بها، وإلى ما ينبغي علينا فعله. وهكذا فإن أحكام العقل العملي لا تمدنا بمعرفة بالمعنى النظري، وإنما هي أوامر عملية وظيفتها إرشادنا في اتخاذ قراراتنا. وليست وظيفة الاستدلال العملي أو الأخلاقي تبديد الشكوك العقلية المتعلقة بالموجودات، وإنما هي القضاء على تردد الإرادة. ويعتقد كانت أن لهذا التردد نوعين رئيسيين؛ (أ) تردد ناشئ عن التعارض المعتاد بين الرغبات أو الميول. (ب) وتردد ناشئ عن التعارض بين الرغبات أو الميول الطبيعية وبين شعورنا بالواجب. وللتغلب على هذين النوعين تماما من التردد العملي، يوجد نوعان رئيسيان من الأوامر؛ (أ) أوامر مشروطة
hypothetical imperatives ، تنبئنا بما ينبغي علينا عمله لإرضاء رغباتنا. (ب) وأوامر مطلقة
categorical imperatives ، تنبئنا بما ينبغي علينا عمله بوصفنا كائنات أخلاقية. فإذا شئت حفظ صحتي، فينبغي علي ألا أستسلم للقلق. ولكن الأساس الوحيد الذي يرتكز عليه «الواجب» في هذه الحالة هو رغبتي الطبيعية في حفظ صحتي. وإذن فالأمر في هذه الحالة أمر مشروط تستمد ضرورته العملية الوحيدة من رغبتنا في تحقيق الغاية التي يعبر ذلك الأمر عن وسيلتها الضرورية. أما الأوامر المطلقة فتقتضي منا أداء الأفعال التي تدعو إليها، بغض النظر عن ميولنا الشخصية. وهي لا تتساءل عن تفضيلاتنا أو أذواقنا، وإنما توجه إلينا دون قيد أو شرط، وعلى نحو لا شخصي، بوصفنا موجودات أخلاقية عاقلة. •••
ويرى كانت أن مفتاح الفهم الصحيح للأوامر الأخلاقية أو المطلقة هو تصور القانون؛ أي المبدأ الذي يصح دون استثناء. غير أن القوانين الأخلاقية تختلف عن قوانين الطبيعة التي يصنعها العلم في أنها لا تنبئنا بما هو كائن بالفعل، وإنما تنبئنا بما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن يفعله أي كائن عاقل في ظرف معين. وعلى ذلك فالأمر المطلق، الذي طالما أشير إلى وجه الشبه بينه وبين «القاعدة الذهبية»،
6
هو أنه ينبغي علينا ألا نتخذ لأنفسنا من قواعد السلوك في أي موقف عملي سوى تلك القواعد العامة التي نريد لها أن تكون على الدوام قوانين شاملة للطبيعة. ولنقل مرة أخرى إن هذه القواعد ليست قوانين الطبيعة، وأن النظر إليها على هذا النحو ينطوي على سوء فهم لوظيفتها، ولكنها لا تصبح قواعد أخلاقية إلا إذا اتجهت إرادتنا - بقدر استطاعتنا - إلى أن نجعلها كذلك.
ولقد وجهت إلى نظرية كانت انتقادات كثيرة. والذي يهمنا هنا هو النتيجة الهامة لتمييزه القاطع بين العقل الخاص أو النظري والعقل العملي؛ أي بين العلم والأخلاق. ذلك لأن قبول المرء لفكرة كانت المسماة بفكرة «العقلين»، وقوله مع كانت إن أساس كل عقل عملي يكمن في الإرادة لا في العقل وحده، كفيل بأن يؤدي على التو إلى تخليص مجال رئيسي كامل للتفكير الفلسفي من الخضوع للسلطان المطلق للمنهج العلمي. حقا إن علم الأخلاق، وكل مبحث آخر قد يماثله في هذا الصدد، قد يظل «عقليا» بمعنى هام، ولكن ليس لنا أن نظل ننظر إلى العقل في هذه الحالة على أنه ملكة نظرية خالصة. وفضلا عن ذلك، فإذا كانت الاعتقادات اللاهوتية أو الميتافيزيقية الوحيدة المشروعة، كما يرى كانت، هي تلك التي تبنى، آخر الأمر، على مطالب الإرادة الأخلاقية، فإن هذا يؤدي إلى استبعاد فرعين آخرين في البحث الفلسفي لهما أهمية عظمى من ذلك المجال الذي يجوز تسميته ب «العلم»، مهما كانت مرونة فهمنا لهذا اللفظ. وبالاختصار ففي وسعنا أن نرى، في هذا الجزء ذي الأهمية التاريخية من فلسفة كانت، أن الفلسفة ذاتها تنتقل تدريجيا من مركز علم العلوم
super science ، إلى مركز الأيديولوجية. ومع ذلك فالأمر ذو الدلالة الحاسمة هو أن كانت ذاته يستطيع أن يعترف بهذا الانتقال في حالة الأخلاق، ويؤكد في نفس الآن مع ذلك أنها نوع من النشاط العقلي.
وعلينا، لكي نتم رسم الصورة، أن نتابع تحليل كانت لشروط الحياة الأخلاقية خطوة أخرى؛ فالأوامر الأخلاقية كما رأينا مطلقة، ومع ذلك فهي في نظر كانت لا معنى لها إلا إذا بنيت على افتراضات أو مسلمات معينة. مثال ذلك أنه ما لم تكن الإرادة الأخلاقية حرة في فعل ما يأمر به القانون الأخلاقي أو عدم فعله، فإن الأخلاق ذاتها تعد وهما خادعا. غير أن شيئا، في رأي كانت، لا يفرض علينا حقيقته بنفس القوة التي تفرضها علينا أحكام الضمير. ومع ذلك فلا سبيل لنا إلى تصور أنفسنا أحرارا، طالما أننا ننظر إلى أنفسنا بوصفنا كائنات عضوية مادية؛ ففي هذه الحالة يخضع سلوكنا، شأنه شأن سلوك أي كائن عضوي، لتحكم العلل الطبيعية. وبالاختصار، فإن أجسامنا، بقدر ما يمكننا «معرفتها» بالوسائل العلمية، هي ظواهر في الزمان والمكان، وبالتالي فهي خاضعة تماما لقوانين الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء. غير أن مذهب كانت في الأشياء في ذاتها يتيح له مهربا من هذه النتيجة؛ فليس من الضروري افتراض أن مقولة العلة والمعلول تنطبق على ما يتجاوز نطاق الظواهر المكانية - الزمانية. وعلى ذلك، فلما كان الاعتقاد بأن الإرادة حرة ضروريا لضمان حقيقة الحياة الأخلاقية، فإنا نستطيع أن نؤمن، دون تناقض، بأننا ننتمي إلى علم أخلاقي «خارج» عن عالم الظواهر المكانية والزمانية. وبهذا تكون الافتراضات «الميتافيزيقية» الأولية للأخلاقية متمشية تماما مع قواعد البحث العلمي.
وعلى هذا النحو يحاول كانت، بسلسلة من الحجج التي لا يتعين علينا ذكرها في هذا المقام، أن يثبت، على أسس أخلاقية، أن من واجبنا الاعتقاد بأننا أفراد أحرار في عالم روحي عاقل، وأننا بهذا الوصف، خالدون أيضا. كذلك يأتي كانت بحجج لإثبات أن الضرورة العملية تحتم علينا الإيمان بكائن أو إله هو وحده الذي يضمن لنا الخلود، ويجعل بذلك للحياة الأخلاقية أساسا. غير أن هذه المعتقدات أو الموضوعات الإيمانية ليست سوى مصادرات للعقل العملي؛ فمن المحال معرفة ما إذا كانت صحيحة، وأية محاولة نظرية لإثبات صحتها تؤدي بنا حتما إلى نقائض العقل الخالص وقضاياه الممتنعة. وبالاختصار فإن كانت ينظر إلى الدين (وكذلك الميتافيزيقا في الواقع) على أنه من لواحق الحياة الأخلاقية؛ فقبولنا ل «حقائقه» لا يرجع، في نهاية الأمر، إلى وجود أي دليل عليها، وإنما لأن هذا أمر يحتمه كوننا فاعلين أخلاقيين.
Halaman tidak diketahui