فالضمير اجتماعي؛ أي إنه الصورة التي يقدمها المجتمع لنا كي نعيش ونسلك على رسمها؛ ولذلك يختلف الضمير من أمة لأخرى، فضمير المرأة في سيلان أو تبت لا يؤلمها عندما تتزوج جملة رجال في وقت واحد، في حين نحن نشمئز من هذا السلوك، بل إن الضمير يتغير عندما تتغير الظروف؛ فإننا نستنكر القتل في الشارع أو البيت، ولكنا نجيزه للجندي في المعركة أو للطيار فوق المدينة.
ومع أن المجتمع الذي نعيش فيه يعمم بيننا قيما اجتماعية وأخلاقية؛ فإننا ننقسم طبقات وطوائف دينية أو ثقافية؛ ولذلك تختلف ضمائرنا؛ فالفلاح الأجير لا يدرك من معنى الحرية ما يدركه عضو في هيئة سياسية مكافحة، وفي مديريتي قنا وسوهاج نجد أفرادا بضمائر يدوية تنشد الفضيلة بالانتقام والثأر، ويحس هؤلاء الأفراد وخزا في ضمائرهم عندما يهملون الانتقام والثأر.
وحين نقول: «رجل ليس له ضمير» إنما نعني بهذا القول أن غرائزه الانفرادية قد تغلبت على غرائزه الاجتماعية، وكثير من الإجرام يعود إلى هذا الاتجاه، والغرائز الانفرادية؛ أي: تلك التي تبعثنا على أن ننشد مصالحنا الخاصة دون مراعاة لمصالح المجتمع، هي أقدم غرائزنا وأثبتها في كياننا النفسي؛ أي إنها الحيوان الذي لا يزال حيا فينا، وهي فطرية لا تحتاج إلى تعليم وتربية، أما الغرائز الاجتماعية فجديدة، ولذلك نتعلمها من المجتمع بالقدوة والدين والعادات واللغة والكتاب والمدرسة، ولهذا السبب نجد أن الحيوان الاجتماعي يمتاز بضمير ما؛ لأن الاجتماع يضعه بين اختيارين يحدثان له وجدانا - هو بالطبع دون وجداننا بكثير، ولكنه؛ أي هذا الوجدان - يحمله على أن يقدر مسئوليته أمام المجتمع كي يقدر مصلحته الذاتية.
انظر إلى الكلب وأنت تأكل؛ فإنه يشره إلى الطعام ولكنه يحجم لأنه يخاف، وهو في هذا التردد بين الشره والخوف يحدث له وجدان يحرك ذكاءه ويجعله يحس بالمسئولية، والكلب حيوان اجتماعي يعيش معنا ويصادقنا، ونحن - في منطقه الكلبي - كلاب مثله، ولكن انظر إلى القط الذي لا يتأخر عن خطف ما في الطبق إذا جاع، والقط بالطبع حيوان انفرادي، يعيش في بيوتنا ولكنه لا يشترك معنا في عواطفنا؛ فإذا خرجنا لم يتبعنا، وإذا دخل علينا غريب لم يهاجمه كما يفعل الكلب؛ ولذلك نحن نعجز عن تعليم القط السلوك الاجتماعي الذي يوافقنا، ولكنا ننجح مع الكلب في هذا التعليم.
ونحن والكلب من الحيوانات الاجتماعية التي نجد فيها بذرة الضمير، ولكن يجب ألا نفهم من هذا أن الضمير يتكون بالفطرة؛ فإن نظرة عاجلة في أنحاء العالم تدل على أنه ليس كذلك، وأنه يكسب بالتعليم، وأن ما نعده رذيلة في أمة قد يكون فضيلة في أخرى، كظاهرة الضمد (زواج المرأة جملة رجال) التي قلنا إنها شائعة في سيلان وتبت.
والضمير مؤلف من ثلاث ذوات: (1)
الذات البيولوجية؛ أي: ما ورثنا من الحيوانات في الملايين من السنين الماضية، وهي أحط ذواتنا التي نطلب بها حاجتنا البدائية؛ كالطعام والأنثى والسيطرة، ولكنها مع انحطاطها أثبت ذواتنا ودوافعها أقوى الدوافع عندنا؛ لأنها غرائز وشهوات، وهي كامنة في الأكثر وجدانية في الأقل. (2)
الذات الاجتماعية، وهي مؤلفة من التقاليد والعادات والأفكار الاجتماعية التي نستخدمها لمصلحة الذات البيولوجية السابقة دون مخالفة للمجتمع الذي نعيش فيه، وهي وجدانية في الأكثر كامنة في الأقل. (3)
الذات العليا التي تتألف من الدين والأخلاق والمثليات، التي تحملنا على أن ننكر على أنفسنا بعض المباهج، ونحن نكسبها في الطفولة من الأبوين، ولكننا ننقحها بعد ذلك.
وضميرنا مؤلف من هذه الذوات الثلاث، ولكن الذات الأولى تتغلب في المجرم وتجعله أنانيا لا يبالي المجتمع، في حين أن الذات الثانية تتغلب في الإنسان العادي الذي لا ينحط ولا يرتفع، أما الذات الثالثة فتمتاز بها الصفوة في الأمة، ووخز الضمير هو في النهاية الألم الذي نحسه للصراع القائم بين هذه الذوات الثلاث في أنفسنا، والضمير السليم هو الذي تتغلب فيه الذات الثالثة على الذاتين الأوليين، أو على الأقل تتغلب فيه الذات الثانية على الأولى.
Halaman tidak diketahui