وكان فولتير من طبقة البرجوازية التي تلي طبقة الأشراف، وكان يرى تلافي هذا الفرق بالغنى، فلم يهمل مصالحه المالية، قال برونتير: «لقد أدرك فولتير أن تمثيل دور في المجتمعات الراقية يتطلب ثراء عند عدم الانتساب إلى طبقة الأشراف»، ويضارب ويكسب في المضاربة، ويكتب له التوفيق في كثرة الربح من كتبه وأعماله المالية، فيبلغ دخله السنوي حين وفاته نحو 370000 فرنك من الذهب.
ويغدو فولتير محل شبهة لدى ملك فرنسة لويس الخامس عشر، كما سبق أن ساءت صلاته بفردريك الأكبر، وقد صار من الثراء ما يقدر معه على ابتياع القصور، فاشترى قصر فيرنه الواقع على حدود سويسرة، والمشرف على بحيرة جنيف (1755)، حتى إذا ما أمر باعتقاله تمكن من الفرار، وقد أقام بهذا القصر حتى قبيل موته.
ولم يكن فولتير ليتمتع بصحة جيدة، وما لاقى في الحين بعد الحين من محن كان يسوقه إلى الموت. ومن العجيب - مع ذلك - أن أبدى في السنين الثلاث والعشرين التي بقيت له من عمره نشاطا عظيما على الرغم من مشيبه، فشن في هذه المرحلة الأخيرة من سنه غارة شديدة على الاستبداد والتعذيب وعدم التسامح وجرائم التعصب ومظالم القضاء.
ومما حدث أن اتهم تاجر بروتستاني من تولوز اسمه كالاس بقتل ابنه، فحكم البرلمان (المحكمة العليا) عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه مع التعذيب سنة 1762، ويطلع فولتير على براءة كالاس، وعلى أن الابن مات منتحرا وعلى ضلال القضاء، فيشهر حربا ضروسا على ظلم المحكمة، ويطالب برد اعتبار ذلك المسكين، فيقضي برلمان باريس بهذا في سنة 1765، ويحمل فولتير على تعويض أسرة المظلوم، فينال لها من الحكومة مبلغا من المال، ويتفق له مثل هذا التوفيق في رد اعتبار لالي تولندال في سنة 1778.
وفي ذلك الدور الأخير من حياته عاد لا يؤثر في الرأي العام بالكتب المطولة، وإنما صار يؤثر فيه - على العموم - بما كان يرسل من رسائل نشرت له منها عشرة آلاف، وبما كان ينشر من كراريس وأضابير لا يحصى لها عد، فظهر معظمها بأسماء مستعارة مستوحيا فيها حوادث الساعة، وبذلك يكون قد قام بتمثيل دور أنشط الصحفيين الذين عرفوا حتى ذلك الزمن وأشدهم لذعا وأكثرهم لمعا.
وفي ذلك الدور الأخير من حياة فولتير يظهر كتابه «كنديد، أو التفاؤل» الذي ملأ صيته الأجواء، وكان فولتير حين وضع هذا الكتاب في الرابعة والستين من سنيه، وقد نشر في جنيف سنة 1759 خاليا من اسم المؤلف والناشر، ولم يقل فولتير أين وضع الكتاب ولا متى كتبه، وقد أظهر للناس مترجما عن الألمانية بقلم الدكتور رالف ...
وقد انتشر كتاب كنديد بسرعة هائلة، وأعيد طبعه باستمرار، حتى إنه وجد له ثلاث عشرة طبعة مؤرخة في سنة 1759، ولم يقتصر صيت الكتاب على فرنسة، بل عم أرجاء الدنيا، وترجم إلى أرقى لغات العالم مرات كثيرة.
وكان يسود العصر الذي ظهر فيه فولتير مبدأ التفاؤل القائل: «إن كل شيء هو أحسن ما يكون في أحسن ما يمكن من العوالم»، وكان فيلسوف ألمانية الشهير ليبنتز يحمل لواء هذا المذهب، وما كان يقع في العالم من مصائب، وما يحل به من كوارث، لا يجعل فيلسوفا مفكرا مثل فولتير يقول بهذا الرأي.
ومما حدث أن أصيبت أشبونة في سنة 1755 بزلزال هائل، جعل عاليها سافلها، وأن اشتعلت حرب السنين السبع في سنة 1756، فأودت بحياة عشرات الألوف من الناس. فهذان الحادثان وما إليهما هزت جميع الافتراضات التفاؤلية هزا عنيفا، فأتاحت لفولتير فرصة الحملة على مذهب التفاؤل بلا هوادة، فقال في كتاب كنديد كلمته وأذاع موعظته.
وفي كتاب «كنديد» جعل فولتير «بنغلوس» بطل التفاؤل، وجعل «مارتن» بطل التشاؤم، وما يعارض به فولتير تشاؤم «مارتن» وتفاؤل «بنغلوس» هو ما يعارض به اللاهوت النصراني وتفاؤل «ليبنتز الرواقي».
Halaman tidak diketahui