78

وندر بين أئمة الدين من غاص في أدب قومه غوصه، ووعى من أشعارهم وطرفهم مثل ما وعاه. قال الأصمعي: «ما قطع عمر أمرا إلا تمثل فيه ببيت من الشعر.» ونحن نرجع إلى الشعر الذي تمثل به فنراه في أحسن موقع وأصدق شاهد، ونلمح من قليل أخباره في خلوته أن الأدب كان جانبا من جوانبه التي ترق فيها حاشيته، ويأنس فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى فطرته. جاء عبد الرحمن بن عوف إلى بابه، فوجده مستلقيا على مزحفة له، وإحدى رجليه على الأخرى وهو ينشد بصوت عال:

وكيف ثوائي

16

بالمدينة بعدما

قضى وطرا منها جميل بن معمر؟!

فلما دخل عبد الرحمن وجلس قال له: يا أبا محمد، إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس.

ولم يقصر إعجابه بالشعراء على الذين وافقوا المواعظ والسنن الدينية، بل نظر في فنهم وفاضل بينهم في بلاغتهم، ففضل امرأ القيس لأنه «سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر.»

17

ونوادره مع الشعراء والرواة كثيرة، تدل على شغفه بالبلاغة الصادقة، وحفظه لأجمل ما يحفظ بين أهل عصره، كما تدل على ذلك خطبه ورسائله وشواهده وأمثاله.

وقد يصح أنه نظم الشعر أو لا يصح، فقد نسبت إليه أبيات وأنكر هو أنه شاعر؛ حيث يقول: لو نظمت الشعر لقلته في رثاء أخي. ولكن الصحيح أنه كان يحب الشعر البليغ، ويرويه، ويوصي بروايته، وأنه نشأ في قوم يحبون مثل ما أحب، ويعجبون بمثل ما أعجبه، ومنهم أبوه الذي نظم الشعر في أكثر من مناسبة، وروى عنه أنه قال لما توعده أبو عمرو بن أمية:

Halaman tidak diketahui