فحص الطبيب مريضه، ممعنا على مهل ومدققا، ثم تمتم لنفسه وقد ابتعد بضع خطوات عن مرقد المريض قائلا: العلة عسيرة، وقد تستعصي على الشفاء، إلا إذا نهض المريض بعزيمة من إرادته، فربما اخترق جدار علته إلى حيث الهواء المشمس النقي الطلق المكشوف، فما إن سمعته من موقفي في ركن الغرفة، تخالط همومي عن مريضنا هموم أخرى، لا تبرحني لحظة إلا لكي تعود لتقيم لحظات، وأعني بها تلك الهموم التي ما تنفك حائرة تلتمس طريقها نحو جواب مقنع مقبول عن سؤال تفرضه حياتنا الثقافية علينا فرضا، وهو: لماذا نبذل كل هذا الذي نبذله من جهود، نحو تثقيف الشعب بالثقافة الصحيحة، ونحو تنويره لعله يرى النور، دون أن نحقق مما أردناه له إلا قليلا بل وأقل من القليل! ولقد كانت تراودني علة في جسم الثقافة العربية، تحس حيالها أنها قد أزمنت حتى استعصت على الزوال، فأتركها إلى حين. فلما سمعت تمتمة الطبيب عن حالة مريضنا، بأنها علة قد ضربت بجذورها إلى مجرى الدم، ولن تزول عن العليل بها إلا إذا نهض ذلك العليل بعزمة قوية من إرادته، همست لنفسي: وكذلك الأمر بالنسبة إلى ذلك الموضع من مواضع الضعف في ثقافتنا العربية، الذي حدثتك عنه منذ حين، وكنت أعني به ذلك الغبار اللفظي الكثيف، الذي نلتف به فيحتوينا في جوفه احتواء يسد علينا مصادر الضوء، لكننا ونحن في غمرته، لا يطوف بخواطرنا قط أن وراء ذلك الخماسين الفكري نورا يصلح أن يستضاء به، بل يغلب علينا وهم بأن عتامة الغبار اللفظي الذي احتوانا، هي هي نفسها عين الشمس لمن شاء أن يستضيء!
والتشخيص الصحيح لهذه الحالة المرضية، هو - ببساطة - أن اللغة «وأعني كل لغة من لغات الناس» بقدر ما هي لأصحابها دالة وهادية إلى الصواب، تكون كذلك مضللة وموجهة إلى الخطأ، دون أن يشعر المخطئ بأنه أخطأ بل قد يصعب عليه أن يتصور كيف وقع له الخطأ، وإذا استخدمنا تشبيها يوضح لنا الفرق بين الحالتين، قلنا: إن اللغة في الحالة الأولى، التي تكون فيها دالة وهادية، يقرؤها القارئ، أو يسمعها السامع، وكأنه ينظر خلال لوح زجاجي شفاف، إلى ما هو واقع وحادث في دنيا الأشياء، مما جاءت العبارات المقروءة أو المسموعة لتتحدث عنه، فاقرأ - مثلا - هذه الجملة الآتية: كانت نافذة مكتبي مفتوحة، عندما هبت الريح القوية، فبعثرت الأوراق على أرض الغرفة. ألم تشعر أثناء قراءتك أن صورة ترتسم في ذهنك جزءا جزءا حتى اكتملت؟ إنها صورة تستطيع وأنت على يقين بأن تعلم عما حدث في غرفة مكتبي. إذا اقتنعت بأني صادق فيما قلته، وحتى إذا شككت في صدقي، فالصورة قد أمدتك بمادة تحتمل الحدوث، وإذا كنت وكيلا للنائب العام، وجئت لتحقق في الحادثة، لعرفت - مهتديا - بتلك الصورة: عن أي الوقائع توجه الأسئلة، لمن تحاسبه. لكن اقرأ هذه العبارة السابقة، وهذه العبارة الأخرى هي: إن روحانية الشرق هي سبيله إلى الخلاص من أدران المدنية «الغربية وشرورها»، ألست ترى أنه إذا كانت العبارة الأولى قد شابهت لوح الزجاج الشفاف، الذي نفذت ببصرك خلاله فرأيت ما وراءه، فإن هذه العبارة الثانية هي أشبه بلوح من زجاج معتم، يرد بصرك إليك، لتجد نفسك حبيس كلماتها، ترددها وترددها دون أن ترى خلالها شيئا من حقائق الواقع الفعلي، وإذا لم توافقني في ذلك، ظانا أن العبارة الثانية هي كالعبارة الأولى، ترشد قارئها أو سامعها إلى حقائق عن الإنسان وحياته، بل ربما بدت العبارة الثانية هذه وكأنها «أعمق» أبعادا، و«أغزر» معنى، فراجع نفسك متسائلا في نزاهة العلماء: عن أي الشواهد أبحث لكي أتحقق من صدق هذه العبارة أو عدم صدقها؟ فأولا: هي عبارة تحدثني عن «روحانية الشرق» وما تنفع به بلدان الشرق، فأين حدود هذا «الشرق» يا ترى؟ وهل تطلق كلمة «الشرق» هذه بمعناها الجغرافي، أم يطلقونها على تقسيمات حضارية وثقافية؟ أما إن كانت الأولى فهي - إذن - اسم على غير مسمى معلوم؛ لأن المعنى الجغرافي لكلمة «شرق»، يجب أن يؤسس على خطوط الطول في الكرة الأرضية. ولما كانت بعض الأقطار التي يدرجونها في «الشرق» تقع مع أقطار «الغرب» في خطوط الطول، ويكفيك أن تنظر إلى البحر الأبيض المتوسط، لترى أن شواطئه الشمالية التي هي من أوروبا، وأن شواطئه الجنوبية التي هي من أفريقيا، متساوية من حيث المعنى الجغرافي «للشرق» أو «الغرب»، فهما إما أن تكونا شرقا معا، وإما أن تكونا غربا معا، لكن العرف قد جرى واستقر على أن تكون الشواطئ الشمالية محسوبة على الغرب، وأن تكون الشواطئ الجنوبية محسوبة على «الشرق»، فلا يبقى - إذن - إلا أن يكون المقصود بالشرق في العبارة الثانية، هو إشارة إلى حضارات وثقافات، تختلف عن حضارات أوروبا (ومعها أمريكا) وثقافاتها، فهل ترى شيئا من وضوح المعنى، إذا ضممت الوطن العربي إلى الوسط الأفريقي إلى الصين واليابان والهند وغيرها من أقطار الشرق الأقصى؟
وإنك لتغوص في غياهب الغامض والمجهول، حين تضيف إلى ذلك «الشرق» الذي لم نعرف كيف نحدده لنفهمه كلمة «الروحانية»، فما هي الصفات التي إذا اجتمعت في إنسان، قيل عنه إنه «روحاني» بتلك الصفات؟ وحتى إذا وقعت على شيء من تلك الصفات، فهل تعقل أن تكون قد توافرت لأفراد شعوب امتدت من اليابان شرقا إلى الساحل الغربي من أفريقيا، وهي شعوب قد يبلغ عدد سكانها ثلاثة أرباع أهل الأرض جميعا؟
وقد نفرض جدلا، أنك قد بلغت بفضل الله سعة من العلم، ونفاذا في البصيرة، بحيث يمكنك التصور الواضح لما تعنيه كلمتا «روحانية الشرق»، فماذا أنت صانع فيما أوردته العبارة التي هي مدار حديثنا الآن، عن أدران المدنية الغربية وشرورها؟ أفي مستطاعك حقا أن تكون على علم واف كاف شاف، بما تعنيه «المدنية الغربية»؟ وإنك لتعرف - بالطبع - أن في تلك «المدنية» علوما كثيرة ومنوعة، وفنونا منها التشكيلي في التصوير والنحت والعمارة، ومنها التعبيري في الموسيقى والمسرح، وآدابا، ونظما، ومؤسسات خيرية تضطلع بسد حاجة المحتاج، كما لا بد أنك تعرف أن في ذلك الغرب أسرات عرفت كيف تربي أبناءها وبناتها، وماذا عسى أن أذكره لك من مقومات «المدنية الغربية»، التي جاءت روحانية الشرق فخلصت الشرق من أدرانها وشرورها، لكنني سأفرض جدلا أن علمك بكل هذا واسع وعميق، مما استطعت به أن تنسب إلى تلك المدنية أدرانا وشرورا، هي في رأيك، فوق المعروف المألوف عن شعوب الشرق من أدران وشرور، فهل تحققت يا صاحبي من «الشر» ماذا يكون معناه، لتكتسب الثقة في نفسك، وفي صحة أحكامك، إذا أنت رميت بالشر شعوبا بأكملها تبلغ عدة ملايين في عدد سكانها، ثم هي هي الشعوب التي أحسبها قد أمدتك بكثير جدا مما حولك الآن وأنت تقرأ هذه الكلمات؟ وهكذا ترى أن العبارة الثانية التي قالت: «إن روحانية الشرق هي سبيله إلى الخلاص من أدران المدنية الغربية وشرورها»، لم تكن لها الشفافية المبصرة التي وجدناها في العبارة الأولى، التي قالت: «كانت نافذة مكتبي مفتوحة عندما هبت الريح قوية، فبعثرت أوراقي على أرض الغرفة». فهذه قد مكنتك من النفاذ خلال كلماتها إلى ما هو خارج حدودها، بينما تلك قد أوقفتك عند ألفاظها هي تمسي فيها، وتصبح فيها دون أن تنفذ خلاله كلماتها إلى «صورة» و«تصور»، وإنني لعلى اعتقاد لا أظنه بعيدا عن الصواب، بأنك إذا أخذت ما استطعت أخذه من الناتج الفكري في الثقافة العربية الحديثة، وجدت الغالب عليها هو ذلك النموذج الذي مثلناه بالعبارة الخاصة بروحانية الشرق في مواجهة شرور المدنية الغربية، مما جعلني أتصورنا كأننا ندور في لفظ غير واضح ولا مفهوم، يشبه أن يكون جدارا أقيم بيننا وبين حقائق الواقع الخارجي، ولست أرى مخرجا لنا من سجن كلماتنا إلا بعزيمة من إرادة قوية، تغير من بنائنا العقلي كله، لنعيد إقامته على أساس جديد، يتيح لنا ربط حياتنا الفكرية بوقائع دنيانا ودنيا الناس في هذا الزمان. •••
وبمناسبة ما ذكرناه عن «الشر» الذي يسهل علينا أن نصف به حضارة عصر بأكمله - هو عصرنا - وغير ذلك من ألفاظ ضخمة نقذف بها قذفا، حتى على أقلامنا المسئولة، وكأنها محدودة المعنى وواضحة الدلالة، في حين أنها أبعد ما تكون عن التحديد والوضوح، مما نتج عنه مناخ ثقافي مكثف الضباب مسدود النوافذ، هو الذي نعيش في ظلامه فنتخبط، نثبت اليوم ما ننفيه غدا، وننفي اليوم ما نثبته غدا، حتى في أهم المجالات وألصقها بضرورات الحياة اليومية لمعظم أفراد الشعب، كالتعليم والاقتصاد ولا أقول شيئا عن عالم الفكر، والفن والأدب. أقول إنه بمناسبة هذا الذي ذكرناه في هذا الشأن، أريد أن أستأذن القارئ في وقفة قد تطول به بعض الشيء، أقدم فيها لمحة عن مرحلة فكرية مرت في حياة اليونان الأقدمين، عاشت فيها جماعة من أصحاب الفكر الفلسفي، هي جماعة السوفسطائيين، الذين اشتقت من اسمهم هذا كلمة «سفسطة»، التي شاعت على ألسنة المتحدثين، كلما أرادوا أن يصفوا كلاما يغالط الناس ولا ينتهي بهم إلى نتيجة نافعة، ولقد عرف عن تلك الجماعة براعتهم في الدفاع عن الفكرة المعينة وعن ضدها في آن واحد، ويقال إن براعتهم تلك قد جاءتهم نتيجة تدريب على الخوض في ميدان الحياة السياسية، وفي ميدان القضاء كذلك على زعم مضمر بأن السياسي والقانوني إنما ينجحان بمقدار قدرتهما على الدفاع عن أية قضية فكرية يعرضان لها، مما أصاب الحياة الثقافية كلها في اليونان، بموجة من الشك والتشكيك في إمكان أن يستند الإنسان على حقائق ثابتة لا سبيل إلى إنكارها، حتى ظهر سقراط العظيم، فجعل رسالته الفكرية أن يتصدى لتلك الموجة، وأن يرد للمعرفة الإنسانية الصحيحة يقينها؛ وذلك بأن يطالب ويلح في المطالبة بأن تحدد معاني الألفاظ الهامة، التي يوردها المسئولون في أحاديثهم، كلما أريد بتلك الأحاديث أن تؤخذ مأخذ الجد، وبغير هذه الدقة الصارمة، يشيع العبث ولا تستقيم للناس حياة.
والذي أريد أن أستأذن القارئ فيه، هو أنني سأنتهز سياق هذا الحديث؛ لأنشر وثيقة مأخوذة بنصها، عن سوفسطاني مجهول الاسم، تدور حول لفظي «الخير» و«الشر»، وهل يكون لأي منهما معنى مطلق، أو أنهما نسبيان في معناهما، أي أن ما هو خير قد يكون شرا من بعض وجوهه، وما هو شر قد يكون في الوقت نفسه خيرا من بعض وجوهه.
وكنت قد نقلت هذا النص إلى العربية، ترجمة عن الترجمة الإنجليزية له، التي قام بها أستاذ بريطاني، ونشرها في عدد أبريل سنة 1968م من مجلة «مايند» الإنجليزية، ومعناها «عقل» وهو الأستاذ «راموند كنت اسبريج»، وأود أن أضيف هنا بأن مجلة مايند هي في أعلى مستوى من المجلات الفلسفية، التي منها وحدها يستطيع المتتبع أن يرى في أي الاتجاهات الفكرية تتجه الدراسة والاهتمامات الفلسفية، مرحلة زمنية بعد مرحلة. وهاك النص المذكور الذي نشر بالإنجليزية لأول مرة في ترجمة الأستاذ اسبريج، وينشر هنا الآن بالعربية لأول مرة كذلك.
عنوان الموضوع «عن الخير والشر». (1)
كان المتفلسفون في اليونان، هم الذين قاموا بالمحاجات ذات الوجهين الخاصة بالخير والشر، فكان بعضهم يقول إن الخير شيء والشر شيء آخر، على أن آخرين منهم يقولون إن الخير والشر شيء واحد؛ إذ قد يكون شيء ما خيرا لبعض، وشرا لبعض آخر، أو قد يكون بالنسبة إلى شخص معين واحد، خيرا حينا، وشرا حينا آخر. (2)
إني لممن يؤيدون أصحاب الرأي الثاني، وسأجعل تمحيصي لهذا الرأي منصبا على مثل أسوقه من الطعام والشراب ولذائذ الجنس، فهذه أشياء تكون شرا بالنسبة إلى مريض، ولكنها خير لمن كان صحيح البدن، وفي حاجة إليها. (3)
Halaman tidak diketahui