إنها تجربة من قريتنا، أهديتها لكل قرية حل أو يحل فيها خلاف. (35) السارق والفزورة
جميل جدا هذا النشاط التثقيفي والترفيهي الذي تحفل به حياتنا، جميل جدا أن يكون لنا ناد للسينما تعرض فيه أروع الأعمال، جميل أن يكون لنا جرائد يومية ومجلات تنشر صورا وأحاديث وقصصا، جميل جدا هذا الجانب من حياتنا، مهم جدا ولازم وضروري، ولكن المشكلة أن حياة الناس والشعوب لا تستقيم أبدا هكذا بساق ثقافية ترفيهية فنية واحدة، لا بد للحياة كي تستقيم من ساقين. الساق الأخرى هي الإنتاج الجدي الدائب الذي نصنع به بلادنا ونقهر به أعداءنا ونبني الغد. ولقد كنا قبل حرب الأيام الستة نعتقد أن هذه الساق الثانية الجادة موجودة ودائبة العمل، كنا نعتقد أننا مهما أسففنا في التهريج أو مهما بالغنا في الترفيه عن أنفسنا، فسيبقى لنا دائما هذا الجانب الجاد ممثلا في محافل علمية جامعية وغير جامعية، وفي قوات مسلحة برجال وعتاد وروح علمية حقيقية، وفي صناعة وطنية تبنى على أسس متينة، تبنى لتعيش مائة عام أو ألفا أو إلى الأبد، ولكن عدوان 5 يونيو أثبت لنا للأسف الشديد أن هذا الجانب العلمي الجاد الخطير غير موجود بالمرة، أو إذا كان موجودا فهو موجود بشكل غير علمي وغير جاد بالمرة، موجود أيضا بشكل سطحي تظاهري ترفيهي مثله مثل ساقنا الفنية الأخرى، وقد كنا ننتظر أن يكون أول حركة لما بعد النكسة هي عملية بناء عاجلة فائقة النشاط، ليس فقط لقواتنا المسلحة، إنما لهذا الجانب الأساسي من جوانب حياتنا كلها، ولكننا اليوم نتلفت لنجد للأسف أن شيئا من هذا لم يحدث، فطاقتنا كلها لا تزال موجهة إلى فنون المسرح والاستعراض والأشكال الفنية الجماهيرية الأولى، لا تزال أهم قضايانا هي حسن الإمام وبين القصرين، ومشكلة الأغنية هي المشكلة الملحة التي لا بد أن نفرد من أجلها الصفحات ويدور النقاش بانفعال صارخ وبحدة، وكأنها مسألة حياة أو موت، لا نزال كما كنا تماما بدليل أني قرأت بعيني رأسي أن مشكلة الغناء في مصر هي أن بسلامته الأستاذ شفيق جلال مريض بالإنفلوانزا وأنه زعلان لأن أحدا من زملائه والمعجبين به لم يسأل عنه، ولذلك فقد تطوع وأعطى لباب أبو نضارة رقم تليفونه ليسأل عنه الناس ويحدثهم عما فعلته الإنفلوانزا الملعونة به.
لو كان ما حدث في 5 يونيو قد حدث لشعب آخر لترك كل شيء في حياته؛ الثقافة والسينما والحب وأي شيء، ونذر نفسه لعملية إثبات وجوده أولا كإنسان يستحق الحياة على ظهر الأرض أو لا يستحقها بالمرة، إن ما حدث ليس أمرا هينا بالمرة أيها السادة.
هكذا صورونا، ملايين من الغوغاء التي تركب كل شيء وجرت أمام إسرائيل الصغيرة ذات المليونين، وصحيح أن شيئا كهذا لم يحدث ولكن العالم معذور إذا صدق الصورة، وإسرائيل في ستة أيام قد أتت على تجهيزات ثلاث دول عربية قامت بها في بحر عشر سنوات وأكثر.
إن أي شعب في الدنيا ما كان باستطاعته الصبر على ما حدث في 5 يونيو. أي شعب كان لا بد سيهب نفسه وكل ذرة قدرة لديه وطاقة في سبيل محو هذه الصورة المشينة وإثبات أنه ليس شجاعا فقط، وليس أقوى بكثير مما يظن أعداؤه، ولكنه قادر على النصر إذا شاء، قادر ليس فقط على استعادة أرضه وحقه وسلاحه، ولكنه قادر على أن يصنع بأرضه ومعداته ومؤسساته وسلاحه حضارة تشع بالنور وتضيف إلى تراث الحضارة في العالم.
وما دامت الفوازير قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حضارتنا في العصر الراهن، ما دامت قد أصبحت مخزن 13 والسر الذي سنغزو به الحضارات الأخرى ونهزمها مثلما هزمت الحضارة الفرنسية أوروبا الرجعية بمبادئ ثورتها، وغزت إنجلترا العالم بثورتها الصناعية، وأمريكا بالتكنيك، وروسيا باللينينية، ما دمنا سنغزو العالم بفوازيرنا فإليكم فزورة يحتار العقل في حلها ويعجز، الفزورة هي:
كيف استطاعت كوريا الشمالية وتعداد سكانها (10) ملايين نسمة أن توجه هذه اللطمة الرهيبة للمارد الأمريكي العملاق؟ كيف استطاع بلد صغير هذا شأنه، هذا البلد الفقير الذي يبلغ متوسط دخل الفرد فيه مبلغا أقل بكثير من متوسط دخل الفرد في أي بلد عربي، كيف استطاع بلد كهذا أن يهلك من أعدائه في الحرب الكورية مليونا و93 ألفا ما بين مدني وعسكري وقتيل وجريح بما فيهم 397000 جندي أمريكي، وأن يسقطوا 13000 طائرة ويتلفوا 300 دبابة و550 بارجة حربية؟ وكيف استطاعوا اليوم أن يأسروا باخرة التجسس هذه وأن يمرغوا الأنف الأمريكي المهيب في الوحل؟
بعض المتسرعين سيقولون إنها تفعل هذا اعتمادا على حلفائها في الصين والاتحاد السوفيتي، ولهؤلاء أقول: إننا أيضا بوسعنا الاعتماد عليهم بل اعتمدنا عليهم. بعض الناس سيقولون ربما الفرد الكوري أشجع من الفرد العربي، ولهؤلاء أقول: إنه حين يأتي الأمر للشعوب فلا يوجد شعب في العالم أشجع من شعب، فقد يوجد أفراد جبناء لدى كل شعب، هذا صحيح! ولكن هناك دائما عددا أكبر من الشجعان بحيث إن مستوى الشجاعة يتساوى لدى كل الشعوب.
ما هو إذن حل هذه الفزورة الغريبة؟ كيف تملك كوريا ذات عشرة الملايين هذه القدرة الخارقة على مواجهة العدوان الأمريكي، بينما لا نملك نحن، ذوي الثمانين مليونا، قدرة ماثلة، ليس على مواجهة العدوان الأمريكي نفسه وإنما على مواجهة ذيل من ذيول العدوان الأمريكي، إسرائيل ذات المليونين؟
إن حل الفزورة - أيها السادة المستمعون - واضح وبسيط، الحل أن عشرة الملايين هؤلاء لهم قيادة واحدة لا تخاف أمريكا وتربي شعبها على الاستهانة بها.
Halaman tidak diketahui