السلطة خدت ولدي
غناها مقطعا مقطعا بصوته اللطيف والجنود يتطلعون إليه، فاغري الأفواه ضاحكي الأسارير تلاحق أكفهم ترديده بالتصفيق، وكان أحدهم قد تأثر بما أدركه من بعض معاني الأغنية، فراح يهتف: «أروح بلدي ... أروح بلدي» ... فتشجع كمال بما حظي من سرور سامعيه وأقبل يجود من إنشاده، ويحسن من ترنمه، ويعلي من صوته، حتى ختمت الأغنية بين التصفيق والاستحسان الذي شاركت فيه الأسرة من وراء الخصاص بقلوب ملؤها السرور والإشفاق. أجل شاركت الأسرة في الاستحسان بعد أن شاركت - بقلوبها أيضا - في الغناء، تتبعوه بإشفاق وقلق، دعوا له بالسلامة والإجادة، خافوا عليه الزلل أو النشاز كأنما يغني بالإنابة عنهم جميعا، أو كأنما هم الذين يغنون من حنجرته، وكأن كرامتهم - أفرادا ومجموعة - أمست متعلقة بنجاح الغناء، نسيت أمينة في لجة هذا الشعور مخاوفها، حتى فهمي لم يكن يفكر في أثناء ذلك إلا في الغناء، وما يرجو له من نجاح، فلما انتهى بخير تنهدوا من الأعماق، وودوا أن يبادر كمال إلى العودة قبل أن يطرأ طارئ يفسد عليهم مسك هذا الختام. والظاهر أن الحفلة آذنت بانتهاء فقد قفز كمال إلى الأرض، فسلم على الجنود فردا فردا، ورفع يده محييا، ثم انطلق يعدو صوب البيت، فهرولت الأسرة من المشربية إلى الصالة لتكون في استقباله. أقبل عليها لاهثا مورد الوجه، مبتل الجبين، تنطق عيناه وأساريره وحركات أعضائه المرسلة بلا اتزان أو غاية بالفرح والفوز. أترع قلبه الصغير سعادة غامرة، ما كان بوسعه إلا أن يعلن عنها بكل سبيل، ويدعو الآخرين إلى الاشتراك فيها كالفيضان الزاخر يضيق عنه النهر، فيغمر الحقول والوديان، وكانت نظرة واحدة تلقى بروية كافية لأن تريه مغامرته معكوسة على صفحات الوجوه ... ولكن الفرح أعماه فهتف بهم: عندي خبر لن تصدقوه ولن تتصوروه.
فقهقه ياسين متسائلا في سخرية: أي خبر يا عزيز عيني؟!
كشفت هذه الجملة الغشاوة عن عينيه كأنها نور شعشع فجأة في الظلام، فرأى الوجوه على ضوئها مفصحة ناطقة، بيد أن علمه برؤيتهم لمغامرته عوضه عما ضاع من فرصة إدهاشهم بحديثه العجيب، فأغرق في الضحك وهو يضرب ركبتيه بكفيه، ثم قال وهو يغالب الضحك: أرأيتموني حقا؟!
عند ذاك جاء صوت أم حنفي وهي تقول بنبرات متشكية: كان الأفضل أن يروا تعاستي! ... علام هذا الفرح كله بعد أن سيبت مفاصلي؟ ... حادثة أخرى كهذه والله يرحمني.
لم تكن خلعت ملاءتها كزكيبة فحم منتفخة، يعلو وجهها الشحوب والإعياء، وتلوح في عينيها نظرة استسلام غريبة، فسألتها أمينة: ماذا حدث؟ ... ماذا دعاك إلى الصراخ؟ ... لقد لطف الله بنا فلم نشهد شيئا مفزعا.
فأسندت أم حنفي ظهرها إلى ضلفة الباب، وأخذت تقول: حدث ما لن أنساه يا ستي ... كنا عائدين وإذا بشيطان من هؤلاء الجنود يقفز أمامنا، ويشير إلى سيدي كمال ليذهب إليه، ففزع سيدي وجرى إلى درب قرمز، ولكن جنديا آخر اعترض سبيله، فانحرف إلى بين القصرين وهو يصرخ، فغاص قلبي من الخوف، وجعلت أستغيث بأعلى صوتي، وعيناي لا تفارقانه وهو يجري من جندي إلى جندي حتى أحاطوا به ... كدت أموت من شدة الخوف وزاغ بصري، فلم أعد أرى شيئا، وما أدري إلا والناس قد اجتمعوا حولي، ولكني لم أكف عن الصراخ، حتى قال لي عم حسنين الحلاق: «ربنا يكفيه شر أولاد الحرام. وحدي الله .. إنهم يلاطفونه ...» آه يا ستي لقد حضرنا سيدنا الحسين ودفع عنا الشر.
فقال كمال معترضا: لم أصرخ أبدا.
فضربت أم حنفي صدرها بكفها قائلة: لقد ثقب صراخك أذني حتى جننتني.
فقال بصوت منخفض كالمعتذر: ظننتهم يريدون قتلي، ولكن أحدهم جعل يصفر لي ويربت كتفي، ثم أعطاني (وهنا جس جيبه) شوكولاتة، فذهب عني الخوف ...
Halaman tidak diketahui