سكن روع ياسين، وما لبث أن تذكر مغامرته السعيدة مع الجندي، فلم يستبعد أن يوجد له من زملائه نظائر في لطفه ورقته، ثم رأى أن يدعم قوله ويثبته في فؤاد الأم الملتاع، فأشار إلى أم حنفي التي لم تزل في موقفها قائلا: ألا تريان أن أم حنفي لم تكف عن الصراخ إلا حين لم تجد داعيا له. ها هم الناس ينفضون من حولها تعلوهم الطمأنينة.
فغمغمت أمينة بصوت مرتعش: لن يطمئن قلبي حتى يعود إلي.
وتركزت أعينهم في الغلام، أو فيما يلوح منه بين آونة وأخرى، غير أن الجنود استردوا أذرعهم المتشابكة، وضموا سيقانهم المنفرجة كأنما اطمأنوا إلى عدول كمال عن التفكير في الهرب، فبدا الغلام بكامل هيئته، بدا باسما يتكلم كما استدلوا عليه من حركة شفتيه، وإشارات يديه التي استعان بها على الإفصاح عن أفكاره، فدل التفاهم بينه وبينهم على أنهم يستطيعون إلى حد ما استعمال اللغة المصرية، ولكن ماذا يقول لهم أو ماذا يقولون له؟ ... هذا ما لم يستطع أحد أن يخمنه، بيد أنهم ثابوا إلى رشدهم، حتى الأم نفسها استطاعت أخيرا أن تشاهد المنظر العجيب الذي يمثل تحت ناظريها بدهشة ممزوجة بقلق صامت دون عويل أو استغاثة، على حين جعل ياسين يضحك قائلا: الظاهر أننا غالينا في التشاؤم حينما ظننا أن احتلال هؤلاء الجنود لحينا سيكون مصدر متاعب لنا لا تنتهي.
ومع أن فهمي بدا ممتنا لسلوك الجنود مع كمال، إلا أنه لم يرتح إلى ملاحظة ياسين، فقال دون أن تتحول عيناه عن الغلام: ربما اختلفت معاملتهم للرجال أو النساء عن معاملتهم للأطفال. لا تغل في تفاؤلك.
وكاد ياسين يندفع متحدثا عن مغامرته السعيدة، ولكنه أدرك لسانه في اللحظة المناسبة، فأمسك تفاديا من إثارة أخيه، ثم قال على سبيل الملاطفة والتودد: ربنا يخلصنا منهم على خير.
وتساءلت أمينة في لهفة: ألم يئن لهم أن يدعوه مشكورين؟
ولكن بدا على دائرة كمال أن ثمة جديدا ينتظر، فقد تراجع أحد الجنود الأربعة إلى خيمة قريبة، ثم عاد بعد قليل بكرسي خشبي فوضعه أمام كمال، وما لبث الغلام أن وثب إلى الكرسي فوقف منتصب القامة مشدود الذراعين إلى أسفل، كأنما ينتظمه طابور القسم المخصوص، وقد انحدر طربوشه إلى قذاله - دون شعور منه في الغالب - كاشفا عن مقدم رأسه الكبير البارز. ما خطبه؟ ماذا وراء هذه الوقفة؟ لم يطل بأحد التساؤل إذ سرعان ما علا صوته الرفيع وهو ينشد:
يا عزيز عيني
بدي أروح بلدي
يا عزيز عيني
Halaman tidak diketahui