فضحك السيد ضحكة عالية وقال: أأنت ولي من أولياء الله أم مأذون شرعي؟! كان أبي شبه عقيم فأكثر من التزوج، وبالرغم من أنه لم ينجب سواي، إلا أن عقاره تبدد بيني وبين زوجات أربع مات عنهن، إلى ما ضاع على النفقات الشرعية في حياته، أما أنا فأب لثلاثة ذكور وأنثيين، وما يجوز لي أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدد ما يسر الله علينا من رزق، ولا تنس يا شيخ متولي أن غواني اليوم هن جواري الأمس، واللاتي أحلهن الله بالبيع والشراء، والله من قبل ومن بعد غفور رحيم.
فتأوه الشيخ وقال وهو يهز نصفه الأعلى يمنة ويسرة: ما أبرعكم يا بني آدم في تحسين الشر! والله يا بن عبد الجواد لولا حبي لك ما باليت أن تحدثني وأنت قاعد على فاجرة ...
فبسط السيد راحتيه وقال باسما: اللهم استجب.
فنفخ الشيخ متبرما وهتف قائلا: لولا مزاحك لكنت أكمل الناس. - الكمال لله وحده.
فالتفت إليه وهو يشير بيده كأنه يقول «فلندع هذا جانبا»، ثم ساءله بلهجة المحقق الذي ضيق عليه الخناق: والخمر؟ ... ماذا تقول فيها؟!
وسرعان ما فترت روح السيد ولاح في عينيه الضيق ولزم الصمت مليا، وآنس الشيخ من صمته تسليما فصاح بظفر: أليست حراما لا يقارفه من يحرص على طاعة الله ومحبته؟
فبادره السيد قائلا في حماس من يدفع بلاء محققا: لشد ما أحرص على طاعة الله ومحبته! - باللسان أم بالعمل؟!
ومع أن الجواب كان حاضرا إلا أنه تمهل متفكرا قبل أن ينطق به. لم يكن من عادته أن يشغل نفسه بالتفكير الذاتي أو التأمل الباطني. شأنه في ذلك شأن الذين لا يكادون يخلون إلى أنفسهم، ففكره لا يعمل حتى يبعثه إلى العمل شيء خارجي، رجل أو امرأة أو سبب من أسباب حياته العملية، وقد استسلم لتيار حياته الزاخر مستغرقا فيه بكليته، فلم ير من نفسه إلا صورتها المنعكسة على سطح التيار، ثم لم يتراخ توثبه للحياة مع تقدم العمر؛ لأنه بلغ الخامسة والأربعين ولم يزل يتمتع بحيوية فياضة مشبوبة لا يتأثر بها إلا الشاب اليافع؛ لذلك جمعت حياته شتى المتناقضات التي تراوح بين العبادة والفساد، وحازت جميعا رضاه على تناقضها دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذاتية أو تدبير مما يصطنع الناس من ألوان الرياء، ولكنه كان يصدر في سلوكه عن طبيعته الخاصة بقلب طيب وسريرة نقية وإخلاص في كل ما يفعل، فلم تعصف بصدره عواصف الحيرة، وبات قرير العين. وكان إيمانه عميقا، أجل كان إيمانا موروثا لا دخل للاجتهاد فيه، بيد أن رقة مشاعره ولطافة وجدانه وإخلاصه أضفت عليه إحساسا رهيفا ساميا نأى به عن أن يكون تقليدا أعمى، أو طقوسا مبعثها الرغبة أو الرهبة فحسب، وبالجملة كان أبرز ما يتميز به إيمانه بالحب الخصب النقي. بهذا الإيمان الخصب النقي أقبل يؤدي فرائض الله جميعا، من صلاة وصيام وزكاة في حب ويسر وسرور، إلى سريرة صافية وقلب عامر بحب الناس، ونفس تسخو بالمروءة والنجدة جعلت منه صديقا عزيزا يستبق القوم إلى الري من منهله العذب، وبتلك الحيوية الفياضة المشبوبة فتح صدره لمسرات الحياة ولذائذها، يهش للمأكل الفاخر، ويطرب للشراب المعتق، ويهيم بالوجه القسيم، فينهل منها جميعا في مرح وبهجة وولع، غير مثقل الضمير بإحساس خطيئة أو وسواس قلق، فهو يمارس حقا منحته إياه الحياة، وكأنما لا تعارض بين حق الحياة على قلبه وحق الله على ضميره، فلم يشعر في ساعة من حياته بأنه بعيد عن الله أو عرضة لنقمته، وآخاه في السلام. أكان شخصين منفصلين في شخصية واحدة؟! ... أم كان اعتقاده في السماحة الإلهية بحيث لا يصدق أنها تحرم هاتيك المسرات حقا، وحتى في حال تحريمها فهي حرية بأن تعفو عن المذنبين ما لم يؤذوا أحدا؟! الأرجح أنه كان يتلقى الحياة بقلبه وإحساسه دون ثمة تفكير وتأمل، وجد بنفسه غرائز قوية؛ يطمح بعضها لله فراضها بالعبادة، ويتحفز بعضها الآخر للذات فأرواها باللهو، وخلطها بنفسه جميعا آمنا مطمئنا، دون أن يشق على نفسه بالتوفيق بينها. لم يكن يضطر إلى تبريرها بفكره إلا تحت ضغط انتقاد كالذي جابهه الشيخ متولي عبد الصمد، وفي هذه الحال يجد نفسه أضيق بالتفكير منه بالتهمة نفسها، لا لأنه يهون عليه أن يكون متهما أمام الله، ولكن لأنه لا يصدق أبدا أنه متهم، أو أن الله يغضبه حقا أن يلهو لهوا لا يصيب أحدا بأذى، أما التفكير فكان يتعبه من ناحية ويكشف عن تفاهة علمه بدينه من ناحية أخرى؛ لذلك تجهم للسؤال الذي ألقاه الرجل عليه متحديا وهو: «باللسان أم بالعمل؟» وأجابه بلهجة لا يخفى فيها الضيق: باللسان والعمل معا، بالصلاة والصيام والزكاة، بذكر الله قائما وقاعدا، وما علي بعد ذلك إذا روحت عن نفسي بشيء من اللهو الذي لا يؤذي أحدا أو يغفل فريضة، وهل حرم محرم إلا لهذا أو ذاك؟
فرفع الشيخ حاجبيه وأغمض عينيه معلنا عن عدم اقتناعه ثم تمتم: يا له من دفاع في سبيل الباطل!
وتحول السيد فجأة من الضيق إلى المرح كعادته فقال بأريحية: الله غفور رحيم يا شيخ عبد الصمد، إني لا أتصوره عز وجل غاضبا أو متجهما أبدا، حتى انتقامه رحمة خافية، وإني أقدم بين يديه الحب والطاعة والبر، والحسنة بعشر أمثالها. - أما في حساب الحسنات فأنت رابح.
Halaman tidak diketahui