بدا له قوله عسير الهضم، مثيرا للريب كما يخلق بشاب تتدفق ينابيع حياته الوجدانية نحو هدف واحد لا يتمثل له إلا في صورة «زوجة» وتحت مقولة «الزواج»، فعز عليه أن يتناول أخوه المستهتر مقولته المقدسة بهذه المرارة الساخرة، وتمتم في دهشة بالغة: ولكن زوجك سيدة ... كاملة!
فهتف ياسين ساخرا: سيدة كاملة! هو ذاك، أليست كريمة رجل فاضل؟ ... وربيبة أسرة كريمة؟ ... جميلة ... مهذبة ... ولكن لا أدري أي شيطان موكل بالحياة الزوجية يجعل من جميع المزايا السالفة أعراضا تافهة لا يلقى إليها ببال تحت ضغط الملل المسقم، كأنها بعض ما نغدق على الفقر من صفات النبل والسعادة كلما تراءى لنا أن نعزي فقيرا عن فقره.
فقال فهمي ببساطة وصدق: لا أفهم حرفا مما تقول. - انتظر حتى تعرف بنفسك. - لماذا إذن يصر الناس على الزواج منذ بدء الخليقة؟ - لأن الزواج - كالموت - لا ينفع معه التحذير ولا الحذر.
ثم مستطردا وكأنه يخاطب نفسه: لشد ما عبث بي الخيال فسما بي إلى عوالم تفوق مباهجها الأحلام، وطالما ساءلت نفسي: هل يجمعني حقا بيت واحد بغادة حسناء إلى الأبد؟ يا له من حلم! ... ولكني أؤكد بأنه ليست ثمة مصيبة أفدح من أن يجمعك بيت واحد بحسناء إلى الأبد.
وغمغم فهمي في حيرة رجل يعز عليه - فيما يكابد من أشواق الشباب - تصور الملل: لعله بدت لعينك أشياء وراء الظاهر الذي لا يعاب!
فقال ياسين وهو يضحك بمرارة: لا أشكو إلا الظاهر الذي لا يعاب! ... شكواي في الحق منصبة على الجمال نفسه! ... هو ... هو الذي مللت لحد السقم، كاللفظ الجديد يبهرك معناه لأول مرة ثم لا تزال تردده وتستعمله حتى يستوي عندك وألفاظ مثل «الكلب» و«الدودة» و«الدرس» وسائر الأشياء المبتذلة، يفقد جدته وحلاوته، وربما نسيت معناه نفسه، فغدا مجرد لفظ غريب لا معنى له ولا وجه لاستعماله، ولعله لو عثر عليه الغير في إنشائك أخذهم العجب لبراعتك على حين يأخذك العجب لغفلتهم، ولا تسل عما في ملل الجمال من فجيعة؛ إذ إنه يبدو مللا بلا عذر مقبول، وبالتالي قضاء محتوما ... فيتعذر التفادي من يأس ليس له من قرار، لا تعجب لقولي، إني عاذرك لأنك تنظر من بعيد، والجمال كالسراب لا يرى إلا من بعيد.
على مرارة اللهجة شك فهمي في حقيقة بواعثها، إذ إنه مال من بادئ الأمر إلى اتهام أخيه - لا الطبيعة البشرية - لما عرفه عنه من انحراف السلوك، ألا يجوز أن ترد شكواه في الحق إلى ما لهج به من مجون في حياته السابقة على الزواج؟! ... أصر على هذا الظن إصرار رجل يأبى أن يفجع في أعز آماله، ولما كان ياسين لا يهتم بآراء أخيه بقدر ما يهتم بالإفصاح عما في صدره هو، فقد واصل حديثه وهو يبتسم لأول مرة ابتسامة وضيئة: أصبحت أدرك موقف أبي حق الإدراك! ... وأفهم ما جعل منه ذاك الرجل العربيد الراكض وراء العشق أبدا! ... كيف كان يتأتى له أن يصبر على طعام واحد ربع قرن من الزمان، وقد قتلني الملل بعد خمسة أشهر؟!
فقال فهمي وقد قلق لإقحام أبيه في الحديث: حتى على افتراض أن شكواك صادرة عن تعاسة مركبة في الطبيعة البشرية، فالحل الذي تبشر به ... (هم بأن يقول: بعيد عن الطبيعة السوية، ثم عدل عنه ليكون أكثر منطقية، فقال) بعيد عن الدين.
فقال ياسين الذي كان يقنع من الدين بالإيمان، دون اكتراث جدي لأوامره ونواهيه: الدين يؤيد رأيي، وآي ذلك أنه سمح بالزواج من أربع غير الجواري اللاتي كانت تكتظ بهن قصور الخلفاء والأغنياء؛ فقد فطن إذن إلى أن الجمال نفسه - إذا ابتذلته العادة والألفة - مل وأسقم وقتل.
فقال فهمي باسما: كان لنا جد يمسي مع زوجة ويصبح مع أخرى، فلعلك أن تكون وريثه ...
Halaman tidak diketahui