فتمتم ياسين متنهدا: لعلي ...
على أن ياسين - حتى ذاك الوقت - لم يكن أقدم على تحقيق حلم من أحلامه المتمردة، حتى إنه رجع إلى القهوة فالحانة، ولكنه تردد قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة ، قبل أن ينزلق إلى زنوبة أو إلى غيرها. وما الذي جعله يفكر ويتردد؟ ... ربما لم يخل من إحساس بالمسئولية حيال الحياة الزوجية، وربما لم ينج من تهيب لرأي الدين في «الزوج الفاسق»، الذي توكد لديه أنه غير رأيه في «الشاب الفاسق»، وربما أيضا أن خيبة أقوى أمل تردد في جوانبه صدت نفسه عن لذات الدنيا حتى يفيق، على أن واحدة من أولاء لم تكن لتقيم في سبيله عائقا جديا خليقا بأن يقف مجرى حياته، إلا أنه وجد إغراء لا يصمت في سيرة أبيه التي استحوذت عليه، وما بدا من زوجه من «حكمة» قرنتها في ذهنه بامرأة أبيه، فينشط خياله إلى رسم تخطيط لحياتها المستقبلة معه على مثال حياة الست أمينة مع أبيه، أجل تمنى كثيرا لو تطمئن زينب إلى الحياة التي تقدر عليها، كما تطمئن امرأة أبيه إلى حياتها، فيثب هو مثل وثبات أبيه الموفقة ليعود آخر الليل فيحظى ببيت هادئ وزوجة مستنيمة. بذاك - وبذاك وحده - تراءت له الحياة الزوجية محتملة، بل أثيرة ذات مزايا تفتقد. «فيم تطمح أية امرأة وراء البيت الزوجي والارتواء الجنسي؟! ... لا شيء! ... إنهن حيوانات أليفة كالحيوانات الأليفة ينبغي أن يعاملن، أجل لا يجوز للحيوانات الأليفة أن تتطفل على حياتنا الخاصة، وإنما عليها أن تنتظر في البيت حتى نفرغ لمداعبتها، أن أكون زوجا خالصا للحياة الزوجية هو الموت، منظر واحد وصوت واحد وطعم واحد لا تزال تتكرر وتتكرر ... حتى تنقلب الحركة والجمود سيين، والصوت والصمت توءمين، كلا كلا، ما لهذا تزوجت ... إن قيل إنها بيضاء، ألست ذا مآرب في السمراء، بل والسوداء ... وإن قيل إنها مدملجة فما عزائي عن النحيلة والجسيمة، أو إنها مهذبة سليلة نبل وكرم، فهل عطلت من المزايا ربيبة العربات الكارو؟! ... إلى الأمام ... إلى الأمام ...
51
كان السيد مكبا على دفاتره حين طرقت عتبة الدكان حذاء ذات كعب عال، فرفع عينيه باهتمام غريزي، فرأى امرأة تشتمل الملاءة اللف منها على جسم لحيم، وتنحسر حافة البرقع الأسود عن جبين ناصع وعينين مكحولتين، فابتسمت أساريره في ترحاب طال تشوقه إليه، وعرف من توه الست أم مريم، أو حرم المرحوم رضوان كما صارت تدعى أخيرا، ولما كان جميل الحمزاوي مشغولا ببعض الزبائن، فقد دعاها للجلوس على كثب من مكتبه، فأقبلت المرأة تخطر وجلست على المقعد الصغير الذي فاضت عنه أعطافها وهي تلقي إليه بتحية الصباح، ومع أن التحية من ناحيتها والترحاب من ناحيته جريا على النحو المعهود الذي يتكرر كلما جاءته «زبونة» تستحق التكريم، فإن الجو الذي غشي ركن الدكان من حول المكتب شحن بكهرباء تعوزها البراءة، لاحت أمارات لها في الجفنين المسبلين حياء حول عروس البرقع من ناحية، والنظرة المتربصة فوق سفحي الأنف العظيم من ناحية أخرى، كهرباء خفية صامتة إلا أن نورها الكامن كان متحفزا في انتظار لمسة كي يسطع ويشعشع ويستعر نارا ... كأنه كان ينتظر هذه الزيارة التي انجابت عن آمال مهموسة وأحلام مكبوتة، ولكن لأن وفاة السيد محمد رضوان أثارت منه فكرا وهيجت رغبات كما يهيج انطواء الشتاء شتى آمال الشباب في الطبيعة والأحياء، زال بموته الشجا الذي اعترض إحساسه بالمروءة، فأمكنه أن يذكر نفسه بأن المرحوم لم يكن إلا جارا - لا صديقا - ورحل، كما أمكن شعوره بجمال هذه المرأة الذي أعرض عنه قديما حفاظا على كرامته أن يعبر عن ذاته ويطالب بنصيبه من المتعة والحياة، إلا أن عاطفته نحو زبيدة، كان أدركها العطب كالفاكهة في نهاية موسمها، فلاقت المرأة منه - على خلاف الزيارة السابقة - ذكرا متوثبا وعاشقا متحررا ... على أن خاطرة ثقيلة - أن تكون الزيارة بريئة - مرت به، ولكنه نفاها عن نفسه بقوة، مستشهدا بما بدا منها في الزيارة القديمة من رقيق الإشارات وبديع الريب، مؤكدا ظنونه بهذه الزيارة نفسها التي ليس ثمة ما يوجبها إن لم يكن مثل ما يدور بنفسه، ثم صمم أخيرا على أن يتلمس سبيله كخبير قديم ... فقال لها برقة باسما: خطوة عزيزة!
فقالت في شيء من الارتباك: الله يكرمك، كنت راجعة إلى البيت فمررت بالدكان فتراءى لي أن آخذ لوازم الشهر بنفسي.
فطن إلى «اعتذارها» عن المجيء ولكنه أبى أن يصدقه، فأن يتراءى لها أن تأخذ لوازم الشهر بنفسها ليس شيئا إن لم يكن وراءه دافع، لا سيما وأنها تدري بالبداهة والغريزة أن مجيئها بعد «مقدمات» الزيارة القديمة خليق بأن يثير في نفسه الريب، وأن يبدو لعينيه «تمحكا» غير خافي الدلالة، فزادته مبادرتها إلى الاعتذار ثقة وقال: فرصة طيبة لأحييك ولأكون في خدمتك.
فشكرته في اقتضاب أصغى إليه بنصف انتباه؛ إذ شغل بالتفكير في الكلمة التالية، لعله كان من الطبيعي أن يعرج على ذكر الزوج الراحل مترحما، ولكنه تحاشى هذا الخاطر أن يفسد عليه الجو كله، ثم تساءل: هل يهاجم أو يمسك حتى يستدرجها إلى الهجوم؟ لكل طريقة لذاتها ... بيد أنه لم يشأ أن ينسى أن مجيئها وحده خطوة كبيرة من جانبها تستحق حسن الاستقبال من جانبه، فاستطرد قائلا، وكأنه يتمم حديثه الأول: بل فرصة طيبة كي أراك!
تحرك الجفنان والحاجبان حركة، ربما دلت على الحياء أو الارتباك أو كليهما معا، ولكنها فضحت قبل كل شيء فطنتها إلى ما وراء مجاملته الظاهرة من معان خفية، على أنه رأى في حيائها استجابة لشعورها الباطني الذي دفعها إلى زيارته أكثر منه استجابة لقوله، فازداد اطمئنانا إلى تخمينه الأول، وراح يؤكد ما عناه في نغمة رقيقة قائلا: أجل فرصة طيبة كي أراك.
عند ذاك قالت بلهجة تنم عن عتاب حبيس: لا أظن أنك تعد رؤيتي فرصة طيبة!
فوقعت لهجة العتاب من صدره موقع الرضا والسرور، لكنه قال كالمحتج: صدق من قال إن بعض الظن إثم.
Halaman tidak diketahui