وكعادة لحظات السرور القليلة التي نادرا ما كنت أسعد بها، لم تكن لحظة سرور خالصة؛ فقد شابها في الحال بعض الخوف، الخوف الذي أعرف أنني ما إن أبدأ أحس به يتكاثر بسرعة مذهلة إلى أن يخنق سروري ويمحوه. وخوفي هذه المرة بدأ باحتمال صغير، احتمال ألا تأتي في اليوم التالي. لماذا لا تكون هي الأخرى قد قررت أن تقطع علاقتها بي، تماما مثلما قررت أنا؟ كل الفرق بيننا أنها قررت ونفذت، وبدأت التنفيذ في الحال.
سموها لعب عيال ومراهقين، ولكن ركنا رئيسيا من أركان العلاقات بين المحبين ليس في مزاولة الحب فقط، ولكن في أي الطرفين يقطع علاقته بالطرف الآخر أولا، وإذا كان الحب مزيجا من مزاولة العلاقة والخوف من قطعها، أو على وجه الدقة الخوف من أن يقطعها الطرف الآخر قبل أن نقطعها نحن. إننا في هذه الحالة نصاب بغصة مزمنة لا نبرأ منها. والمهجور لا ينسى هاجره أبدا.
وخوفي هذه المرة لم يكن أن أهجر، فحتى إذا كانت ستهجرني فالسبب لن يكون لأنها كرهتني، السبب في هذه الحالة خارج عن إرادتها تماما.
ورغم هذا فقد كنت خائفا ألا تجيء فيفسد تدبيري؛ إذ في هذه الحالة لن أنجح في قطع صلتي أنا بها؛ فالمهم ليس أن تنقطع صلتنا، أو تقطع هي صلتها بي، المهم أن أقطع أنا صلتي بها. أنانية ما في ذلك شك، ولكن الحب نفسه، أليس هو الرغبة في الاستحواذ على إنسان آخر؟ أليس هو قمة الأنانية؟ وقد يبدو أني سمحت لنفسي بالإطالة والتبحر في أشياء سخيف أن يتبحر الإنسان فيها. ولكني لا أعتقد أن كل من مر بتجربة حب - وكل منا لا بد قد مر - سيعتبر هذا تبحرا سخيفا. إنها تبدو لحظتها لنا وكأنها كل الحياة، وكأنها أهم من الحياة. لقد ظللت أفكر في تلك التفاصيل التافهة، ولم أفق منها طوال اليوم كله وجزءا كبيرا من الليل، حتى نمت . وكنت أحس طوال الوقت أني أفكر في أهم شيء في دنياي، وأن هذا العمل هو أهم ما يمكنني مزاولته، بل حتى اليوم التالي لم أنقطع عن التفكير على هذا النحو، ولم أكن ضيقا بتفكيري ولا حزينا، بالعكس كنت أحس أني كلما أوغلت في التفكير أحسست بشجن خفي، شجن رائع حبيب، وتوهان ورغبة ممدودة في بكاء طويل، وأمنية دفينة في سعادة كبرى، وتصور غير واضح لآمال، ويأس غير مر يعصف بالآمال. حالة لم أكن أريد أن أفيق منها ولا أن تنتهي أو تتبدل، حالة استنفدت فيها إحساسي بأني مظلوم مرة وإحساسي بأني ظالم مرة أخرى، غالب مرة ومغلوب في المرة التالية، مرة أحس أني أحب ومرة أحس أني محبوب، مرة أحس أني شرير ومرة أحس أني ضحية شرير خبيث، مرة أحس أني كل شيء ومرة أحس أني لا شيء، مرة أنا ضيق بنفسي أشد الضيق، ومرة أنا سعيد بنفسي أقصى سعادة.
وأنا مستسلم لهذه الموجات لا أريد أن يكون لي إرادة في ضبطها أو تكييفها، كالمدمن حين يستسلم سعيدا لمفعول العقار، ويشل بنفسه إرادته ليترك لإرادة العقار أن تحدد سعادته ونشوته، أنا أيضا كنت تاركا هذه الحالة تقرر أفراحي وأشجاني، سعيد بأني مستسلم لها، لا إرادة لي في فرحي أو حزني، ولا في سعادتي أو شقائي.
ولم أكن أعرف أبدا أن تلك هي آخر حالة تصلح لمواجهة الموقف الذي كان علي أن أواجهه صباح اليوم التالي، ولا حتى بعد الظهر حين جاءت سانتي.
أجل! في الصباح حين ذهبت وبي من الهيام ما بي إلى الورشة، فوجدت المكتب الطبي غارقا في وسط بحر زاخر الأمواج من العمال، عشرات ومئات وربما آلاف، جاءوا كلهم يطلبون الخميس والجمعة والسبت إجازة، ومدير الورشة في مكتبه حائر ساكت يترقب، ومعظم العمل في الأقسام قد توقف، وآلاف من عيون العمال تترقب، والقسم الطبي يترقب، وحتى الباشتمرجي بوجهه الوردي السمين يترقب، وكلهم يترقبون ما سوف أفعله، وليس في ذهني فكرة مما يمكن أن أفعله.
ولمقدمي تحرك العمال يفسحون لي الطريق، تحركوا في بطء وتكاسل ووجوه لا تتوقع خيرا ولا تبشر بخير، كانوا على الأقل قد حسبوها بينهم وبين أنفسهم قبل حضوري وأدركوا أن عددهم كبير، أكبر مما يجب بكثير، أكثر من نصف عمال الورشة، وعرفوا أنه وإن كان الحل في يدي إلا أنه صعب حتى لو كنت في أحسن أحوالي؛ فمعنى أن يمنحوا كلهم إجازات أن يتعطل العمل في الورشة تماما ويقف، ولكن لأنهم كانوا كثيرين جدا فقد كانوا متأكدين أنهم بكثرتهم سيحلون المشكلة، وعلى أي وجه.
ووصلت إلى مكتبي بعد جهاد، وحاول الباشتمرجي أن يخرج العمال المنتظرين في الحجرة يكادون يملئونها ويغلق الباب كعادته كل يوم فلم يستطع، لا لأن العمال فضلوا الخروج ولكن لأنهم لم يستطيعوا؛ إذ كانت جميع ممرات المكتب وحجراته وما حوله تعج بغيرهم من المنتظرين، ووقف عم مرسي في النهاية مشبكا يديه أمام كرشه في عجز واستسلام ينتظر أوامري.
والمشكلة أني كنت لا أعرف بالضبط ماذا يجب علي أن أفعل، من لحظة أن وضعت قدمي في الورشة ورأيت هذا العدد الهائل، وأنا أحاول أن أعثر على شيء محدد أستطيع أن أفعله أو آمر بفعله بلا فائدة. ضجة العمال في الخارج تصلني كهدير محيط عميق، وهمسات العمال الواقفين في الحجرة تتلاصق أجسادهم وتتدافع أحتار في تفسيرها وفهم معناها، وأكثر ما يضايقني عيونهم المنصبة كلها علي ترقب أي انفعال تفلته ملامحي، أو أية رمشة يرمشها جفني. وأحسست أن وجودهم وأنفاسهم ونظراتهم وحفيف أنفاسهم وهمساتهم يشلني تماما ويبقيني عاجزا عن الحركة أو التصرف. وكان أول ما قلته: أخلوا الحجرة. وكأني كنت أتمنى أن تفشل عملية الإخلاء فأجد عذرا وجيها لكيلا أتصرف، أو يخلوها فعلا فأستطيع أن أجمع نفسي وأحدد ما أريد وأتصرف على ضوء ما أحدده؛ فمستحيل أن «يفكر» الإنسان وهو في حضرة جمهور يراقب عملية تفكيره، بل هو حتى لا يستطيع أن يتنفس بانتظام إذا وجد في حضرته جمهورا يراقب عملية التنفس.
Halaman tidak diketahui