وتناهى السؤال إلى وعينا غريبا مدويا. وانطلقت عيوننا تستكشف البحيرة. وفقدنا الأبصار في المسطح اللانهائي من الماء. وغابات الحشائش المتناثرة، والسماء ذات الضوء الشاحب ، والقمر المكسور الذي بدأ يزحف صوب الأفق. ولا شيء سوى هذا. لا شيء سوى الماء الكثير الآسن. الماء الأسير الباقي بعد الصراع، صراع النيل والبحر الكبير، والنيل الهائل الذي أنشب أظافره في البحر وأسر الكثير من مائه وحاصره. وصنع البحيرة، لا شيء سوى سكون غامض مثير مليء بأسرار وألغاز، سكون الأسى ومعسكرات الاعتقال، وسكون مرعب مخيف، سكون البحيرة التي عبدها القدماء.
ولم نكن بعد قد عرفنا الكثير عن ابن الخالة. كنا نود أن نعرف كل شيء عنه من لون شعره إلى طريقته في المشي.
قالت: أبدا يا بني .. لما الضرب حصل قال لي لازم تسافري.
قلت ما أسافرش، قال لازم. قلت له يا بني أنا ماليش إلا أنت، وربنا هو حيلتي من دنيتي. أسيبك ازاي. قال لازم وركبني المركب. ورحت مصر. يقطعني أنا اللي ما استنيت وياه. يقطعني اللي سبته. - وحارب؟! - وحارب وجاتله رصاصتين في رجله. - وعرفتو ازاي؟ - هو في المشتشفى وبعت لنا جواب في الصليب الأحمر يا خويا وقال الخدمة زي الزفت ومفيش أكل ولا شرب يا بني يا حبيبي .. مين يجيب له يشرب إذا عطش؟ مين يسقيه؟ مين يسأل عنه؟
واعتدلنا جميعا.
كان الأمر يتأرجح في نفوسنا بين الشك واليقين، كن نعتقد أنها لا بد أم قد لسعها الشوق إلى ابنها المحجوز هناك وصممت على رؤيته. وقصص البطولة مودة «موضة»، كل قاطن هناك لا بد اشترك، وكل قاطن بطل، وكل واحد قتل من الأعداء مئات. وتبادر إلينا أن الخالة هي الأخرى تود تضخيم الأمر واختلاق المستحيل لتصل. ولكنا اعتدلنا. فغير الأم لا يستطيع أن يمثل أبدا دور الأم. وأم غير المجروح لا تستطيع أن تمثل أبدا دور أم ابنها مجروح، وكانت في جلستها التي لم تغيرها، والتي يخيل للإنسان إذا رآها أنها واقفة، وواقفة على أطراف أصابعها وليست جالسة، وعيونها وهي تنظر إلى بعيد ولا تطرف ولا تمل الرؤية والنظر وكأنها تتشوف إلى حبيب، وكلماتها، والطريقة التي تنطق بها كلماتها، ودموعها التي تغرق الكلمات وتغص الحلق. كانت بلا ذرة شك مجروحة وأم مجروح. اعتدلنا ونحن نحس بقشعريرة انهيار، وكأننا ونحن ننظر إليها نعبد الخالق أو نصلي للشرف.
وقال حلمي: خالة. - نعم يا خويا. - إنتي زعلانة إنه حارب؟ - أنا يا بني زعلانة إنه مجروح ودلوقت لوحده.
وقهقه حلمي كمن يود أن يغير طعم الحديث، وسألها في سخرية غير لاذعة: طيب .. افرضي يا خالة إنك كنت وياه ساعتها كنت ح تخليه يحارب؟
وانحدرت دموع كثيرة من عينيها، وقالت في لهجة روتينية: أيوه كنت أخليه.
وزام حلمي غير مصدق، فتابعت إجابتها بإخلاص هذه المرة: كنت أخليه أخليه .. إنما لازم كنت أحارب وياه .. رجلي على رجله.
Halaman tidak diketahui