ولكن ما كادت السيدة تفرغ من الحديث حتى تبدل شعوره فانقلب انقباضا وحزنا، وذهبت عنه الشماتة الكالحة، وحل في مكانها الرثاء والرحمة، ثم لمح في أعماق نفسه أمنية غامضة كما يلوح وميض النار من خلال الرماد، أتزول العقبة التي تفصل بينه وبين علية ويختفي ذلك الشاب من بينهما فجأة كما ظهر بينهما فجأة؟ ولكن أكانت علية ترضى بذلك لو حدث وتقبل عليه باسمة سعيدة؟
ولما فرغوا من الإفطار ذهب فؤاد مع السيدة ماري إلى الأسرة ليقدم تحيته إليها، وكان أحد الأطفال ابن علية، يدرج في أول مشيه، وكان له وجهها وعيناها الزرقاوان وشعرها الأشقر، وتبسم الطفل إلى فؤاد وهو يقبله وأنس إليه ذلك الأنس الذي يملأ به الأطفال القلوب انشراحا.
ولكن علية لم تنزل إلى الشرفة في ذلك الصباح، فقد أتعبها السفر وآثرت البقاء في غرفتها، وتمنى فؤاد لو دعته أمها أو أختها إلى عيادتها، ولكنهما استأذنتا بعد قليل وصعدتا وحدهما بعد أن حملهما فؤاد تحيته إليها.
ولما بقي وحده عاد إليه ما كان يعتريه من ضيق ووحشة بعد أن خيل إليه أنه قد شفي منهما، وخشي أن يطول عليه يومه إذا هو قضاه في الفندق ساكنا، وهو يعلم أن علية تقضي اليوم كله في غرفتها، وما كان ينبغي له أن يقبع في ركن الشرفة طول يومه متلهفا إلى رؤيتها.
فأخذ سيارة إلى بعلبك لزيارة معبدها القديم، وسار حينا في سهلها الأحمر الفسيح الأجرد، يحاول أن يصرف نفسه إلى التفكير في المناظر التي حوله لعل ذلك يشغله ويهون عليه انتظار يومه حتى يعود إلى الفندق في المساء، وكان منظر الإقليم شبيها بما ألف من مناظر مصر، وكان أهله قريبين إلى البدو من قومه، فكان يحدث نفسه في مدة رحلته عن هذه البلاد التي تمزقت قطعا كما يتمزق البدن في أشلاء متناثرة، وكل قطعة منها تعيش وحدها في رقعة صغيرة لا تكاد تغني شيئا في حياتها، وقد قنع أهل كل قطعة منها بما هم فيه واغتروا بأسماء ينخدعون بها أو يخدعون أنفسهم بسحرها، فما ذلك الاستقلال الذي يتلقفه الناس خرافة عن القدماء؟
ما معنى ذلك الاستقلال الممزق إذا كانت الأمم لا تجد في أرضها ما يدعم وجودها؟
إنها خرافة خلفها القدماء يوم كانوا في أيام فطرتهم الأولى، ثم تلقفها أهل الجدل وسخفاء الرأي الذين أوغلوا في طلب الحرية حتى مرقوا منها.
فإن الأمم تتجمع اليوم في كتل كبرى لتكفل الحياة لأنفسها وما هذه الأرض الفسيحة التي تمتد من حدود الترك إلى وسط أفريقيا والتي تمتد من بحر الهند إلى بحر الظلمات سوى أجزاء يتم بعضها بعضا، وليس من بينها من فرق المكان والأرومة مثل ما بين شرق أمريكا وغربها أو شرق روسيا وغربها.
ولو كانت الفرقة التي بينها من صنع الغير لكان عذر هذه البلاد أنها مغلوبة على أمرها، ولكن الفرقة آتية من قبل باطنها، ففي كل رقعة منها فرقة تنظر إلى نفسها ولا تعبأ ما يكون من أمر بلادها ما دامت تفوز بالسيادة في أفقها الضيق، ألم تكن هذه حال الأندلس قبل زوالها إذ كان لكل مدينة منها أمير للمؤمنين ومنبر؟ ظل هكذا فؤاد يحدث نفسه حتى عاد إلى الفندق في المساء، ووثب قلبه عندما رأى علية على الشرفة تطل على الوادي ساهمة والأطفال يسعون من حولها كفراخ القطا، وكان وجهها مصفرا فيه أثر من هزال، ولكن ما كان أصفى لون عينيها! وما كان أبدع قسمات وجهها!
لقد كانت هي علية التي رأى صورتها أول مرة في مرسم أخيها، صورة الراهبة في الثياب البيض! أهذه الصورة الوديعة هي التي اختارت «صدقي» وآثرته عليه وغرها لألاء مظهره؟ أهاتان العينان الزرقاوان الصافيتان هما اللتان لم تستطيعا النفوذ إلى أعماقه لتبصرا ما هناك من حب صاف؟ أم كان هذا كله من صنع خياله ولم تكن علية سوى أنثى من الحيوان فاختارت من استطاع أن يشق طريقه إليها في قوة غير متردد؟ أكانت زلة منها أم هي زلة منه أم هي عبثة من عبثات المقادير التي تحمل البشر في تيارها كما يحمل تيار النيل العود الضئيل الذي رآه من قبل؟ واستقبلته علية مرحبة به ترحيبا مخلصا صريحا، ولكنه رأى في عينيها بسمة حزينة خيل إلى عقله المرتبك أنها تحمل معنى الاعتذار.
Halaman tidak diketahui