وكانت السيدة لبنانية يشع وجهها بشرا ونضارة، وهي شابة تبدو في الثلاثين، ولكنها كانت - بغير شك - أكبر من ذلك سنا، إذ كان ابنها الأكبر في نحو الثامنة عشرة، وكان رب الأسرة تاجرا من ثراة بيروت يأتي مع أهله في كل صيف إلى الجبل يقيم فيه بعض أسابيع مستجما، وقد عرفت السيدة مصر وزارتها مرارا في صباها ولها فيها أهل وأصدقاء، وما أظرف أهل لبنان إذا ما تحدثوا عن مصر إلى أهل مصر، لقد خيل إلى فؤاد وهو يسمع حديثها أن بلاده جديرة بأن يهب لها من حبه أسمى مما يهب لها لو كان في استطاعة قلب البشر أن يجد في الحب موضعا أسمى، واتجه حديث السيدة إلى من عرفت من أهل مصر ومن جاء منهم إلى لبنان في ذلك العام، وكانت تتحدث في حماسة عما رأته من مباهج القاهرة والإسكندرية وتطيل في وصف مغانيهما، وكان السيد منصرفا بنظره إلى حلقة الرقص، فجرى الحديث بين فؤاد وبين السيدة كأنهما صديقان حميمان.
ومنذ تلك الليلة الأولى صار فؤاد كأحد أفراد أسرة السيد عبد الله بطرس، فكان معهم على المائدة وفي البهو، وكثيرا ما كانوا يجولون معه بين القرى الجميلة، فيزورون أركانا ما كان يستطيع فؤاد أن يهتدي إليها لو سار وحده، ومر أسبوعان أحس فؤاد بعدهما أن نفسه تسفر بعد غيمها وجسمه يتعافى بعد سقمه وتدب إليه القوة، وزالت وحشته وصار لا يذكر آلامه إلا كما ينظر الآيب من سفر إلى الأفق الذي خلفه وراءه، وجلس في الصباح يوما على المائدة ينتظر نزول أصحابه ليفطروا معا، وكان منظر الوادي يتفتح تحت أشعة الشمس المشرقة فتبدو منه قطعة بعد قطعة كأنه يتحرك فاترا بعد نوم عميق، وانصرف إليه يدس بصره في شعابه وبين أشجاره ويتنفس من الهواء الذي طالما سمع أنه يجلو الصدر، فلم يشعر بمجيء السيدة حتى سمع صوتها المرح يحييه تحية الصباح، فقام يستقبلها ورأى في نظرتها بسمة وهي تقول: لقد أتى إلى هنا بالأمس أصدقاء أعزاء، وإنه ليسرك أن تعرفهم بغير شك.
ولم تنتظر حتى يسألها عن هؤلاء فمضت في حديثها تصفهم قائلة إنهم أصدقاء قدامى عرفتهم من سنين حتى كأنهم صاروا أهلها، وأشارت برأسها في تجاه أقصى الشرفة قائلة: «انظر إلى هناك».
فنظر فؤاد إلى حيث أشارت، فرأى سيدتين وثلاثة أطفال، وكانوا في الطرف الأقصى من الشرفة المزدحمة، وقد صفت فيها الموائد وعليها أكواب القهوة والشاي وأوعية الزيتون واللبنية والزبد، وكان الخدم يتسارعون في تلبية كل نداء فلم يستطع فؤاد أن يتبين من السيدتين سوى صفحة وجه إحداهما، إذ التفت لفتة سريعة إلى الأطفال الذين يتواثبون حولها.
ولكن شيئا في هيئتها استرعى نظره كأنه قد سبق له أن رآها.
وسألته السيدة: أما تعرفهما؟
فقال في تردد: لا أظنني أعرفهما، وإن كان يلوح لي من إحداهما شبه أتذكر منه صورة مبهمة.
فقالت السيدة: هي أسرة ثري من ثراة الإسكندرية اسمه مصطفى بك سري!
فكاد فؤاد يثب من مقعده ومد عنقه متطاولا، إنها - بلا شك - أمها، هي أم علية نفسها، وأما الأخرى فلم تسبق له رؤيتها.
وقال محاولا إخفاء اضطرابه: أظنني أعرف هذه الأسرة.
Halaman tidak diketahui