فقال ضلمة باستنكار: أتخاف يا جبل أن يشي بك أحد إلى أعدائنا؟! - دعبس أحمق. - نعم ولكنه ليس بالنذل! - أخاف أن تثبت عليكم التهمة بسببي!
فقال ضلمة بثقة: سأدلك على طريق الهرب إذا أردته، ولكن أين تقصد؟ - الخلاء واسع لا يحيط به خاطر.
33
لم يتيسر الفرار لجبل إلا في الهزيع الأخير من الليل. جعل ينتقل من سطح إلى سطح في هدأة الليل، وفي رعاية النوم المرفق بالأجفان حتى وجد نفسه في الجمالية. ومضى على رغم الظلام الحالك نحو الدراسة ثم مال نحو الخلاء، متجها نحو صخرة هند وقدري، فلما بلغها على ضوء النجوم الخافت لم يعد بوسعه أن يغالب النوم، من فرط ما نال منه الإعياء والسهر، فاستلقى على الرمال متلفعا بعباءته وغط في النوم.
وفتح عينيه مع أول شعاع يضيء أعلى الصخرة، فقام من فوره كي يصل إلى الجبل قبل أن يعبر الخلاء عابر. لكن بصره انجذب نحو البقعة التي دفن فيها قدرة قبل أن يهم بالسير. ارتعدت فرائصه وهو ينظر إليها حتى جف ريقه ثم فر بنفسه وهو في ضيق شديد. ما قتل إلا مجرما، لكنه بدا كالمطارد وهو يبتعد عن قبره. وقال لنفسه: «لم نخلق لنقتل وإن فاق عدد قتلانا الحصر.» وعجب لنفسه كيف أنه لم يجد مكانا ينام فيه إلا المكان الذي دفن فيه قتيله! وشعر برغبته في الابتعاد تتضاعف، وأن عليه أن يودع إلى الأبد من يحب ومن يكره على السواء، أمه وحمدان والفتوات إلى الأبد. وبلغ سفح المقطم ونفسه تفيض بالأسى والوحشة، فسار معه نحو الجنوب حتى بلغ سوق المقطم وسط الضحى. وألقى نظرة طويلة إلى الخلاء وراءه وقال في شيء من الاطمئنان: «الآن بعد ما بيني وبينهم.»
وراح يتفحص سوق المقطم أمامه، ذلك الميدان الصغير الذي تصب فيه جملة حواري من جميع نواحيه، وتتصاعد من جنباته ضوضاء عالية تختلط فيها أصوات الآدميين بنهيق الحمير. وكان ثمة ما يدل على مولد يقام، لازدحام الميدان بالمارة والباعة والمجذوبين والدراويش والمهرجين على الرغم من أن حركة المولد الحقيقية لا تبدأ قبل الغروب، فتنقلت عيناه بين أمواج البشر المتلاطمة .. ورأى عند حافة الخلاء كوخا من الصفائح صفت حوله مقاعد خشبية فبدا على حقارته أصلح مقهى في السوق وأحفله بالزبائن، فاتجه نحو مقعد خال وجلس بجسم اشتد حنينه إلى الراحة. وأقبل نحوه صاحب الكوخ محتفلا بمظهره المتميز بين الجلوس بعباءة فاخرة وعمامة عالية ومركوب ثمين فطلب قدح شاي وراح يتسلى بمتابعة الناس.
وما لبث أن جذب سمعه ضوضاء اشتدت حول كشك حنفية مياه عمومية، رأى الناس يتزاحمون أمامها ليملئوا أوعيتهم بالماء، وكان التزاحم كالقتال عنفا وضحايا، فارتفع الصخب وتهاوت اللعنات، ثم ندت صرخات رفيعة حادة من الوسط عن فتاتين غرقتا في لجة الزحام وراحتا تتراجعان لتنجوا بنفسيهما حتى خرجتا من المعترك بصفيحتين فارغتين. بدتا في جلبابين فاقعي الألوان ينسدلان على جسميهما من العنق حتى الكعبين، فلم يظهر منهما إلا وجهان يزهر فيهما الشباب. مرت عيناه بأقصرهما دون توقف، ثم ثبتتا على الأخرى ذات العينين السوداوين فلم تتحولا عنها.
أقبلتا نحو مكان خال قريب من مجلسه فتبين في ملامحهما شبها أخويا على تميز جاذبته بقسط أوفر من الحسن، فقال جبل لنفسه منتشيا: «ما أبدع هذه الملاحة! لم تقع عيناي على مثلها في حارتنا.» وقفتا تسويان ما تشعث من شعريهما وتعيدان الخمار إلى رأسيهما، ثم وضعتا الصفيحتين مقلوبتين وجلستا عليهما والقصيرة تقول متشكية: كيف نملأ الصفيحة في هذا الزحام؟
فقالت جاذبته: المولد أجارك الله! وأبونا الآن ينتظر غاضبا!
فدخل جبل في الحديث دون وعي منه متسائلا: لماذا لم يحضر بنفسه ليملأ الصفيحتين؟
Halaman tidak diketahui