240

At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Genre-genre

٤) أَنَّ مَعْنَى (مُحَدَّثٍ) أَصْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ مَنْ يُحَدِّثُه، كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلحَدِيْثِ (قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ كَيْفَ مُحَدَّثٌ؟ قَالَ: (تَتَكَلَّمُ المَلَائِكَةُ عَلَى لِسَانِهِ». (١)
٥) أَمَّا عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عبَّاسٍ ﵁ نَفْسِهَا؛ فَالجَوَابُ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ أوجُهٍ: (٢)
أ) أَنَّ هَذِهِ القِرَاءَةَ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً وَلَا مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ، وَلَا يَجُوْزُ الاحْتِجَاجُ بِهَا فِي أُصُوْلِ الدِّيْنِ. (٣)
ب) إِنْ كَانَتْ صَحِيْحَةً؛ فَالمَعْنَى أَنَّ المُحَدَّثَ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَانُوا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُنْسَخُ مَا يُلْقِيْهِ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ. وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ ﷺ، وَلِهَذَا كَانَتِ الأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَكفِيْهِم نَبيٌّ وَاحِدٌ؛ بَلْ يُحِيْلُهُم هَذَا النَّبِيُّ فِي بَعْضِ الأُمُوْرِ عَلَى النَّبِيِّ الآخَرِ، وَكَانُوا يَحْتَاجُوْنَ إِلَى عَدَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَيَحْتَاجُوْنَ إِلَى المُحَدَّثِ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ أغْنَاهُم اللهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ؛ فَكَيْفَ لَا يُغْنِيْهِم عَنِ المُحَدَّثِ! وَلِهَذَا قَالَ ﷺ: (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ) (٤) فَعَلَّقَ ذَلِكَ بِـ (إِنْ)؛ وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ اسْتِغْنَاءَ أُمَّتِهِ عَنْ مُحَدَّثٍ كَمَا اسْتَغْنَتْ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ سَوَاءً كَانَ فِيْهَا مُحَدَّثٌ أَوْ لَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ لِكَمَالِهَا بِرَسُوْلِهَا الَّذِيْ هُوَ أَكْمَلُ الرُّسُلِ وَأَجْمَلُهُم. (٥)
ج) أَنَّ المُحَدَّثَ هُوَ المُلْهَمُ، وَالإِلْهَامَ لَا يَعْنِي العِلْمَ بِالغَيْبِ الَّذِيْ اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَإنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَالظَّنُّ لَيْسَ بِعِلْمٍ يَقِيْنِيٍّ. (٦) (٧)

(١) قَالَ الهَيْثَمِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ) (١٤٤٣٩): (رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَفِيْهِ أَبُو سَعْدٍ - خَادِمُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ - وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ).
(٢) قَالَ القُرْطُبِيُّ ﵀ فِي تَفْسِيْرِهِ (٧٩/ ١٢): (قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ﴾).
(٣) اُنْظُرْ شَرْحَ العَقِيْدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ (ص١٦) لِشَيْخِ الإِسْلَامِ ﵀.
(٤) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٣٦٨٩) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (٢٣٩٨) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا.
(٥) اُنْظُرْ شَرْحَ العَقِيْدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ (ص١٦) لِشَيْخِ الإِسْلَامِ ﵀.
(٦) وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ القَيِّمِ ﵀ فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ) (٦٨/ ١) إِلَى أَنَّ التَّحْدِيْثَ أَخَصُّ مِنَ الإِلْهَامِ، فَقَالَ ﵀: (التَّحْدِيْثُ أَخَصُّ مِنَ الإِلْهَامِ، فَإِنَّ الإِلْهَامَ عَامٌّ لِلمُؤْمِنِيْنَ بِحَسْبِ إِيْمَانِهِم؛ فّكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدَ أَلْهَمَهُ اللهُ رُشْدَهُ الَّذِيْ حَصَلَ لَهُ بِهِ الإِيْمَانُ، فَأَمَّا التَّحْدِيْثُ فَالنَّبِيُّ قَالَ فِيْهِ: (إنْ يِكُنْ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ) يَعْنِي مِنَ المُحَدَّثِينَ، فَالتَّحْدِيْثُ إِلْهَامٌ خَاصٌّ وَهُوَ الوَحْيُ إِلَى غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ).
قُلْتُ: وَعَلَى كُلٍّ؛ فَإِنَّ الإِلْهَامِ وَالتَّحْدِيْثَ لَيْسَ بِعِلْمٍ يَقينيٍّ.
(٧) وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى كَوْنِهِ مُرْسَلًا؛ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيْرِ مَا يُعْرَفُ بِالطَّيِّ وَالنَّشْرِ فِي لِسَانِ العَرَبِ، فَيَكُوْنُ المَعْنَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا أَلْهَمْنَا مِنْ مُحَدَّثٍ؛ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا)
فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا. أَفَادَهُ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ) (٣٤٢/ ٤).

1 / 240