وقرابة بلبيس كان الهدوء قد أخذ طريقه إلى عقلها، وسكتت حتى بدأ بعض الجريئين من الركاب يعودون إلى أماكنهم، وكان الشبراوي يمنع نفسه منعا عن قذفها من القطار، فقد كان يغلي على طربوشه الذي ضاع أمام عينيه.
واستمر يغلي حتى دخل القطار محطة مصر.
وانتظر الشبراوي حتى نزل كل الناس، ثم شدها بعنف، ولف ذراعه حول ذراعها وجعلها لاصقة بها كالكماشة، ولكنها لم تكن في حاجة إلى كل هذه الشدة، فإنها كانت تمشي معه كالحرير المطاوع.
وبهره ميدان المحطة، ولكن الظروف لم تكن متاحة أمام الذكريات لتشغل باله.
وعلى الفور ركب الترام وهي معه أعقل ما تكون، ونزل في العتبة، وخرم على شارع الأزهر، واشترى طربوشا بالريال، وهو يلعن زبيدة وأباها وفلوسه الحرام.
ولم يسترح إلى الطربوش الجديد فوق رأسه، وأحس أنه ثقيل كقطعة الدبش.
وعقد العزم على أن يجعل زبيدة تغور من وجهه أولا، ويتخلص من مسئوليتها، ثم بعد ذلك تكون مصر كلها له وهو لها، واستراح لهذا القرار، وركب الترام والناس فيه فوق بعضهم، وغرق يراجع ما فات من متاعبه وما سيجيء، ولكنه صحا في نصف الطريق يطمئن على زبيدة، فوجدها لاصقة بأفندي من الراكبين وفكها قد تدلى في بلاهة راضية، والأفندي منسجم غاية ما يكون الانسجام، ومتشاغل بقراءة جريدة يحملها. وزغدها الشبراوي وهو يشدها بعيدا، وانقلب الرضا الذي على وجهها غضبا، وزغردت وسقط العمدة، وعاش الريس أبو بطة.
وأوقف الكمساري الترام بلا محطة، وأنزل الشبراوي وهو يشبعه لوما وتريقة وتقريعا على ركوبه ومعه واحدة لها هذه الخطورة.
ووجد الشبراوي أنه من المستحسن أن يأخذها كعابي إلى المحافظة، ومشت زبيدة على يمينه وقد صممت ألا تكف عن زغردتها، والتأم شارع محمد علي كله وراءهما وبجوارهما، وكلما كثر الناس علا صوت زبيدة، بينما راح الشبراوي في غيبوبة ووجهه لا يرتفع عن الأرض.
ورأى العسكري الواقف أمام باب المحافظة هذا الجمع مقبلا، وفيه زغاريد وأصوات فتوقع حدثا مثيرا، ووقف الشبراوي يسأله عن طبيب المحافظة، وعرف العسكري الحكاية بخبرته ورثى له، فالساعة كانت قد جاوزت السادسة ولا أحد هناك.
Halaman tidak diketahui