118

فناء . ولو انه آمن بعقله بان هذه الدنيا دار فناء ودار ممر ، وان العالم الآخر عالم بقاء سرمدي ، فما دام ايمانه العقلي هذا يكون موجودا ، ولم يدخل الايمان في قلبه ، بل ولم يحصل الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للايمان القلبي . فهو لا يزال يميل فطرة ، الى الدنيا والبقاء فيها كما طلب ابراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا الاطمئنان ، فانعم به عليه . اذا ، اما ان القلوب لا تؤمن بالآخرة ، مثل قلوبنا ، وان كنا نصدق بها تصديقا عقليا ، واما انها لا اطمئنان فيها ، فيكون حب البقاء في هذا العالم ، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجودا . ولو ادركت القلوب ان هذه الدنيا هي ادنى العوالم ، وانها دار الفناء والزوال والتصرم والتغير ، وانها دار الهلاك ودار النقص ، وان العوالم الاخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وابدية ، وانها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور ، لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم ، ولنفرت من هذه الدنيا . ولو ارتفع الانسان عن هذا العالم ووصل الى مقام الشهادة والوجدان وراى الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلق به ، والصورة الباطنية لذلك العالم عالم الآخرة والتعلق به ، لاصبح هذا العالم ثقيلا عليه ، وغصة في حلقه ، ولنفر منه ، واشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغير . كما جاء في كثير من كلام الاولياء .

يقول الامام علي عليه السلام : «والله لابن ابي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه» (1) .

ذلك لانه راى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا ، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيء ابدا . ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة ، لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة . ان الوقوع في الكثرة ، ونشاة الظهور والاشتغال بالتدبرات الملكية بل التاييدات الملكوتية ، يعد كل ذلك للمحبين والمنجذبين ، الم وعذاب ليس بمقدورنا ان نتصورهما .

ان اكثر انين الاولياء انما هو من الم فراق المحبوب والبعد عن كرامته ، كما اشاروا الى ذلك بانفسهم في مناجاتهم ، على الرغم من انهم لا يحجبهم حجاب ملكي او ملكوتي ، وقد اجتازوا جحيم الطبيعة الذي كان خامدا غير مستعر ، وقد خلوا من التعلق بالدنيا وتطهرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية . الا ان الوقوع في عالم الطبيعة هو بذاته تلذذ طبيعي وقسري ، مما كان يحصل لهم ، ولو باقل مقدار ، فكان ذلك من باب الحجاب . وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

«ليران على قلبي واني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (2) .

Halaman 122