الفريكة، لبنان في 27 نوفمبر سنة 1925
مرثاه1
من أي ناحية تأخذ هذه الذاتية الكبرى، ذات الوجوه المختلفة أجمل اختلاف وتنوع، في أجمل نظام وحدة وتوازن؛ أناتول فرانس؟ «سألت عن طريقي أولئك الذين ادعوا معرفة جغرافية المجهول جميعا - أعني رجال الدين والعلم والسحرة والفلاسفة - فلم يستطع واحد منهم إرشادي إلى السبيل الأقوم؛ لذلك اخترت هذا الطريق الذي تظله أغصان غضة مشتبكة، تحت السماء الضاحكة الضحيانة، تقودني عاطفة الجمال، فمن ذا الذي وفق إلى خير من هذا الدليل؟!»
وهكذا حشر فكره سير الأولين والآخرين، ومعارفهم وفنونهم، ودياناتهم وفلسفاتهم، فكان أوسع أدباء عصره اطلاعا، وأغزرهم مادة. ويقول العارفون: إنه كان يرصع أحاديثه بنادرة غريبة، أو بيت من الشعر منسي، أو صحيفة من صحف الأقدمين مطوية، وكان كالقناعة كنزا لا يفنى، بيد أننا - برغم هذا الحشر الحافل بمختلف الصور والآراء - لا نقف منه على صهريج مظلم موحش يخزن الماء الآسن، بل على ينبوع لا يفتأ سلسبيله يتفجر متجددا في صفاء وسخاء وضياء زهرات ذابلة، ولكنها في يده تندي وتحيا، ويحوم حولها طير ساجع، وإلا فمن أين لإنشائه سطوع الطيب والنور وموسيقى الأسحار. «إني لتأخذني الحيرة فيك يا لوسيان، إنك تضحك مما لا يجب الضحك منه، وليس يعلم قط أهازل أنت أم جاد؟»
كلمة قالتها عقيلة برجره لزوجها، والسيد برجره هذا وجه من وجوه الذاتية المعروفة بأناتول فرانس، ولعله هو؛ لأنه أحب أشخاص قصصه إلى نفسه، وأتمهم شبها به، هذه الحياة الإنسانية بما فيها من مناقضات وأوهام وشرور، وهؤلاء البشر كم عبدوا من آلهة، وشادوا من ممالك، واعتنقوا من مذاهب، فماذا بقي منها جميعا؟ بقي أنه قتلوا بعضهم بعضا، ما أكثر الحمقى والأشرار في الدنيا! أكانت لولا الرذيلة فضيلة؟ أقلت إنك على حق لولا باطلهم؟ ... لذلك أخذت السيد برجره الحيرة في أي موقف يقف من هذه الشئون، موقف الغاضب الذي يصب اللعنات، أم موقف النادب الذي يسكب الدموع؟ فضحك، بل ابتسم ابتساما لا يصدق فيه قول المعري: ضحكنا، وكان الضحك منا «سفاهة» ... «ليست السخرية التي أعنيها قاسية ولا موجعة، كما أنها لا تستهزئ بالحب ولا بالجمال، هي رفيقة سمحة تهدئ بضحكها ثورة الغضب، وتعلمنا أن نسخر من الأشرار والحمقى، الذين نبغضهم لولاها، والبغض ضعف يشيننا.»
بهذا يجيب أناتول فرانس في كتابه «حديقة أبيقور»، بالنيابة عن صديقه السيد برجره؛ ردا على سؤال زوجته: «أهازل أنت أم جاد؟»
برز أناتول فرانس إلى ميدان السياسة سنة بعثت قضية دريفوس التي شطرت فرنسة شطرين، فناضل بقلمه في الصحف السيارة، وبلسانه في المجامع العامة، ناصرا العدل والحق بجنب زولا وجوريس، وكان من قبل بعيدا عن ضوضاء الأحزاب في عزلة الحكيم، فدل يومئذ على أن وراء هذه الشكوكية الهازئة روحا شفيقا، لا يتردد في سبيل المثل العليا التي تقدس اسم الإنسان عن تضحية، تلك العزلة التي أفاضت على الناس روائع الفن البديع، وكان خصمه في ذلك الميدان التعصب بمظهريه الديني والقومي، فكسره شر كسرة، وانضم من بعد إلى الحزب الاشتراكي، ثم تقرب في النهاية من الشيوعيين، مظهرا إعجابه بلنين وبرجال الانقلاب الروسي.
كل ذلك لم يمنع شارل موراس - ألد خصومه السياسيين، وداعية الحزب الملكي الرجعي في فرنسة - من كتابة حكم بليغ يشرف كليهما على السواء، قال:
نحن منذ خمس وعشرين سنة نفر قليل، لا يريدون أن يقابلوا الحرب بمثلها؛ فهم صامتون صمت عناد، وسط الجوقة التي ترتفع أناشيدها ضد أناتول فرانس، اتقاء وإجلالا سكتنا، نعم، ربما، ولكنا سكتنا للعدل أولا؛ للعدل الفكري الذي أوحى إلى «بارس» الجليل مديحه لهذا الإمام؛ إذ أحزنه أن يناقضه، فقال: «كل ما تشاءون، ولكن أناتول فرانس حفظ اللغة الفرنسية، والأسلوب والذوق، والروح الفرنسي» ...
فيصل وأناتول فرانس ... إذا كان هذا الرسم الجميل رمزا، فماذا يعني الرمز، بل ماذا يودعه الآن فكري وأنا أنظر فيه؟
Halaman tidak diketahui