64

ثم تأتي بعد ما تقدم مرحلة تالية، وهي مرحلة التصفية والتنظيم.

وفي هذه المرحلة يعاد النظر إلى قصاصات كل غلاف على حدة؛ لإبقاء ما يظهر من مجموعة المسائل أنه جوهري ضروري لا غنى عنه لاستيفاء مقاصد الكتاب، وتنحية ما يظهر على نقيض ذلك أنه زيادة يستغنى عنها، وتكرار يدخل في خلال المقاصد الأخرى، ويلحق بها على هذا الاعتبار، ولا يندر في هذه الحالة تغيير عناوين الأقسام وتفريع المسائل إلى أبواب في القسم الواحد، كل باب منها منفرد بجانب من جوانب البحث يستقل بعنوانه وحدوده.

وقد يرى هنا موضع الاختلاف اليسير بين منهج التقسيم والتنظيم، ومنهج التبويب والترتيب ... فإن التبويب على منهجنا هذا ينطوي في التقسيم ولا يسبقه، بل لا يتأتى التفريع قبل الفراغ من تقرير الأصول.

أما الترتيب فليس من أسرار الصناعة أن أقول إنني لست ألتزمه في جميع الأحوال، فموضوع البراهين القرآنية في الكتاب الذي نحن بصدده كان أول فصل كتب فيه، وموضوع الفلسفة اليونانية جاء - على ما أذكر - بعده في ترتيب الكتابة ... ولست أغفل الترتيب لغير سبب يستدعيه تنظيم أوقات العمل. ولكنني أنظر إلى الوقت الميسور لكتابة الفصل، وإلى الأيام التي أفرغ فيها للتأليف بين الأعمال الأخرى، فإذا كان أمامي ثلاثة أيام تركت الفصل الذي يحتاج إلى خمسة أيام أو عشرة أيام متوالية، وفضلت الابتداء بالفصل الذي يكفيه الوقت الميسور بغير انقطاع أو تأجيل. •••

وقد كان صديقنا المازني يقول: إن أسلوبه الاستطرادي لا يمكنه من بناء الدور الثالث في المنزل قبل الدور الثاني على حسب تعبيره ... ولكنني أعتقد أن تشبيه المراحل هنا بمسافات الطريق أقرب إلى الواقع من تشبيهها بطبقات البناء؛ لأن فصول الكتاب لا تقوم على اختلافها في العلو والارتفاع كما تقوم على اختلافها في الابتداء والانتهاء على خطوط الطريق، ومتى عرفت مسافات السير من الميل الأول إلى الميل الألف فلا فرق بين الابتداء بالتمهيد من الميل الأول إلى العشرين والثلاثين وبين الابتداء به من الميل العشرين والثلاثين، إلى ما بعد ذلك من المراحل والمسافات.

وإنما المهم هو التحقق من حدود كل مسافة بالنسبة إلى سائر الحدود، وهذا هو العمل الواجب قبل الشروع في الكتابة من مبدئها، فلا بد من الاطلاع على عناصر الكتاب عنصرا عنصرا في كل مبحث قبل كتابة فصل من الفصول.

وليس لكتابة المقالات منهج يخالف هذا المنهج في تأليف الكتب سوى الخلاف الضروري بين الإطالة والإيجاز، وبين التشعب ووحدة الموضوع، فكل فكرة في المقالة حاضرة قبل أن تكتب كلمتها الأولى، ولكن أفكار المقال غير تعبيراته، بل غير صبغته الفنية في أكثر الأحيان؛ لأن إشباع المعنى ساعة الكتابة قد يوحي بألفاظ العبارة التي تليها، وقد يكون للعاطفة صلة بأسلوب التعبير عن المعنى، فيشتد شعوري بها على قدر إشباعها وقوة أدائها، وربما تحول القلم من أسلوب الانفعال إلى أسلوب السخرية والتهكم، أو من أسلوب النقد إلى أسلوب التنديد والتفنيد، إذا ارتفعت نغمة المعنى وارتفعت طبقته أثناء الأداء، كما يحدث في أداء أصوات الغناء حيث تظهر آثار الفوارق العاطفية بين نغمة ونغمة، وبين توقيع وتوقيع مع وحدة النوطة الموسيقية. ويحدث هذا في فصول الكتب، كما يحدث في المقالات المنفصلة، فربما كتبت الفصل وعيناي مغرورقتان كما حدث في كتاب «أبي الشهداء»، وربما كتبت المقال وفي نفسي مغالبة عنيفة للبكاء كما حدث في مقالات الرثاء للمازني، والنقراشي، وغاندي، وسعد زغلول.

ولم أعالج كتابة القصة في غير قصة واحدة مطولة هي قصة «سارة»، وقصص قلائل من الحكايات أو الأماثيل القصار.

ورأيي في منهج القصة أن إبلاغ مؤثراتها النفسية إلى وجدان القارئ هو كل ما يطلب من كاتبها بغير قيد مرسوم، ولا اتباع لمذهب مدرسة خاصة أو فنان معلوم.

وقد قيل غير مرة إن «سارة» لا تجري على منهج القصة المتبع، ولم يقل أصحاب هذا الرأي ما هو المنهج المتبع الذي يعنونه، وما هو القانون الفني الذي يفرض على كل كاتب، ولا يسمح له بالتصرف فيه ...

Halaman tidak diketahui