فأحاط الجنود بي ليقبضوا علي، فارتددت إلى الوراء صائحا في ثورة: لا تقتربوا مني!
وتحفزت لأدافع عن نفسي، فتقدموا نحوي واحدا وراء الآخر، ودفعتهم عني واحدا بعد واحد، فغضبوا وهجموا علي هجمة واحدة يضربونني ويجرونني وصاحب الأشرطة الحمراء يصيح بهم: إلى السجن إلى السجن، حالا! المجرم! الكلب! ابن ال...
فما كدت أسمعه يهم بذكر أبي حتى انطلقت من فمي شتائم لا أدري كيف تدفقت من فمي، وكانت قبضة الجنود على ذراعي الاثنتين وعلى رقبتي مثل كماشات الحديد، فحملوني غصبا وقذفوا بي في عنف إلى غرفة، وأغلقوا بابها ورائي، وكاد يغمى علي من الألم والغيظ، فلم أتنبه إلى ما حولي إلا بعد لحظات، فقمت وأعضائي كلها تنبض ألما وجعلت أتحسس جوانب الغرفة المظلمة، فعلمت أني في جحر ضيق لا يزيد على مترين في مترين، وأرضه من البلاط وهواؤه عفن الرائحة.
وكادت روحي تزهق من الضيق والحنق والشعور بالإهانة والظلم، واندفعت مثل المجنون أصيح بأعلى صوتي، وأخبط على الباب بجمع يدي غير مبال ما يصيبني من الألم، وجعلت أنطق بشتائم مقذعة وألفاظ عجيبة لو سمعتها من غيري لضحكت سخرية منها، كنت أصيح قائلا: «افتحوا لي أيها المجرمون ... أنا الشعب ... افتحوا لي أيها اللصوص، وستجدون جزاءكم ... أنا الشعب ... أنا الشعب ...» ولكن صيحاتي وشتائمي كانت ترتد إلى أذني ساخرة ضاغطة قاسية، وكلت يداي من الخبط وخارت قواي وبح صوتي، فتكومت على الأرض مستندا إلى ظهر الباب، وخيل إلي أني انتقلت إلى عالم فظيع ممقوت ليس من عالم الإنسان، وأخذت أسأل نفسي: «أهكذا يعامل اللصوص والمجرمون؟» فلو كنت مجرما بادئا أو لصا صغيرا ثم عوملت هذه المعاملة لخرجت من هذه الغرفة وأنا مصمم على أن أكون قاطع طريق وسفاك دماء.
ومرت اللحظات بطيئة، وخيل إلي أنني سأبقى هناك طول حياتي بغير أن يهتم أحد بأمري، أو يقدر أحد على إطلاقي، كأنني حشرة أو فأر أو كلب، وعدت أسأل نفسي: أأنا الشعب الذي كنت أتحدث عنه في خطبتي في المسجد وفي السرادق؟ هل أنا الشعب الذي يخطب السادة وده في دعاياتهم الانتخابية، ومن أجله ينشئون مقالات التمجيد في الجرائد اليومية؟
وتصاعد برد البلاط إلى عظامي فأحسست قشعريرة في جوفي وألما في رأسي، وغثيانا في نفسي، فقمت منتفضا، وتضاعف حنقي حتى كدت أخرج عن وعيي، وأخذت أخبط الباب مرة أخرى بيدي الاثنتين وأصيح بأعلى صوتي وأشتم وألعن وأهدد، وعزمت على أن أواصل الخبط حتى تتحطم يداي ثم أخبط بعد ذلك بقدمي حتى تتكسرا، وبرأسي حتى يتفتت، ولست أدري كيف استطعت أن أستمر على الخبط والصياح هذه المدة التي مرت كأنها ساعات طويلة، ثم سمعت بعد حين صوت المفتاح يدور في القفل، وانفرج الباب وتدفق شعاع من النور في الظلام، وتنفست حانقا وأنا ألهث من الثورة، ولا شك أن منظري كان مخيفا؛ لأن الجندي الذي فتح الباب تنحى عن طريقي في فزع، وكانت يداي تلتهبان من الألم، ولكني لم أعبأ بهما وخرجت مسرعا فاتجهت إلى غرفة الجندي ذي الأشرطة الحمراء عازما على أن أقتص منه غير مبال ما قد يكون بعدها.
وصحت بأعلى صوتي عندما اقتربت من غرفته قائلا: «أين أنت أيها النذل الطاغية، أيها العنكبوت الحقير!» ولكني لم أجده وراء المكتب، فقلت مستمرا في صياحي: «أين صاحب الشوارب المصبوغة؟ أين العنكبوت الذي كان هنا؟» فضحك الضابط الشاب الذي كان جالسا وراء المكتب، وقال: «تفضل هنا.» وأشار إلى كرسي بجانبه، وكان وجهه يتألق بشرا كأنه يرى منظرا مسليا، ولكن منظره هدأ كثيرا من فورة نفسي، وكان فتى لا يزيد على الخمس والعشرين كأنه تلميذ حسن الهيئة، وأسنانه بيضاء تلمع من وراء ابتسامته، ووجهه الأسمر الوديع الذي خلا من الشوارب يخالف في كل شيء شكل صاحب الأشرطة الحمراء.
وأعاد الضابط قوله: «تفضل هنا.» مشيرا إلى الكرسي الذي أمامه، فجلست صامتا أفرك يدي وأنا أنهج من الجهد، وكان رأسي ساخنا وحلقي ملتهبا، فقدم الضابط إلى فنجان القهوة الذي كان أمامه فلم أتردد في أخذه شاكرا، وكان ألذ شيء عندي في تلك الساعة، وكان الضابط في تلك المدة مطرقا فوق المكتب ينقر عليه بقلم ذهبي في يده، وخاتمه الماسي يلمع بأشعة براقة مع حركة يده، ودق جرس التليفون فاستند إلى ظهر كرسيه، وابتسم وأخذ في الحديث متبسطا مسترسلا كأنه لا يريد شيئا سوى ذلك الحديث، فكان يشير بيده إشارات رشيقة معبرة كأنه يريد أن يؤثر في سامعه على الطرف الآخر من السلك، وكان أسلوبه في الضحك أنيقا له نغمة ظريفة سلت من نفسي كثيرا من حنقي، ولم أستطع أن ألتفت إلى موضوع حديثه؛ لأني شغلت عن ذلك بما كان يدور في رأسي من الأحاديث الحانقة.
ولما فرغ من الحديث اعتدل في مجلسه، ونظر إلي قائلا: هيه؟
فلم أدر بأي شيء أجيبه ولا كيف أعبر له عن سخطي واحتجاجي، وما ذنبه هو إذا كان صاحب الشوارب الطويلة قد أساء إلي وظلمني؟ وقلت له هادئا: لست أدري يا سيدي ماذا أقول لك، ولكني أهنت هنا وأوذيت واعتدي على حريتي ولن أتنازل عن حقي.
Halaman tidak diketahui