ووصل إلى دمشق في تلك الأثناء رجل اسمه صادق أفندي، وجعل يجتمع بمشايخ الدروز من حوران وببعض مشايخ لبنان، حتى إذا أتم عمله الذي حضر لأجله أمر بالعودة إلى الأستانة بعد أن أسر إلى الوالي بما جاء لأجله، ويقول أهالي دمشق إن سلوك الوالي تغير معهم بعد سفر صادق أفندي.
ثم اجتمع الدروز وحاربوا أهالي جزين وبكاسين وحرقوهما وقتلوا كثيرين من سكانهما، وزحفوا بعد ذلك على زحلة، وكان كثيرون من نصارى العرقوب، قد قاموا لمعاونة أهاليها، فالتقوا بالدروز عند ظهر البيدر، وكادت الدائرة تدور على الدروز، وقتل هناك ابن عقيدهم علي بن خطار العماد، وكان الشيخ إسماعيل الأطرش قد جمع دروز حوران وعربها عملا بأمر والي دمشق، وقام بهم لنجدة دروز لبنان، حتى إذا دخل وادي العجم، وجد فيه بعض النصارى من إقليم البلان، فقتلهم وهم 135 نفسا وسار برجاله إلى أن وصل إلى زحلة، وفي أثناء ذلك وصلت إليها فرقة من الجنود العثمانية، وعسكرت أمامها وحينئذ هجم الدروز عليها من الجنوب والغرب فصد أهاليها هجماتهم، وهم مشهورون بالشجاعة والفروسية، وظلت الحرب سجالا إلى أن قدم عليها رجال من الدروز من الجهة الشمالية، وكان الأهالي ينتظرون نجدة من يوسف بك كرم فظنوهم النجدة المنتظرة، ولكنهم ما لبثوا أن وصلوا حتى أخذوا يطلقون النار على الحامية، فانهزمت من أمامهم ورأى أهالي زحلة أن الدروز دخلوا مدينتهم من ورائهم، فارتدوا رويدا رويدا وظلوا يناوشون من أمامهم إلى أن خرج أكثر الذين في زحلة، وساروا إلى جهة بسكنتا، والظاهر أن الخوف من العرب وجنود الدولة كان مالئا القلوب، ولولا ذلك لتعذر أخذ تلك المدينة.
وكان في زحلة رجل من أهالي دير القمر رأى ما جرى وتدبره، فعلم أن الحركة مدبرة وأن لا بد من الزحف على دير القمر، فكتب إلى ترجمان قنصل الإنكليز في بيروت يخبره بما جرى في زحلة وبما يوجس منه، وتوسل إليه لكي يبذل كل ما في وسعه لحمل القناصل على الذهاب إلى دير القمر بأنفسهم؛ لأنه إذا أحاط الدروز بها لم يبق لأهلها مهرب منهم.
فسعى الترجمان مع غيره من وجوه دير القمر المتوطنين بيروت لدى قناصل الدول فلبوا طلبهم، واتفق قنصل إنكلترا مع قنصل فرنسا على الذهاب إلى دير القمر، ولو ذهبا ما حدث شيء مما حدث فيها ومما حدث في غيرها بعدها، ولكن والي بيروت أقنع قنصل فرنسا بأن لا داعي لذهابه، وإنه هو؛ أي الوالي، يرسل قومندان مركز الولاية لوقايتها، وقال مثل ذلك لقنصل الإنكليز وأقنعه بأن لا داعي لذهابه، ثم أرسل القومندان فذهب واجتمع بمشايخ الدروز وحرضهم على الفتك بالنصارى. قيل ولما رأى سعيد بك جانبلاط منه ذلك، بعث اثنين من خواصه إلى أهالي دير القمر يطلب منهم أن ينزحوا إليه إلى المختارة إذا فارقها القومندان، فصدق بعضهم كلامه وساروا إليه فحماهم، وأما الباقون فجمع أميرالاي العساكر العثمانية سلاحهم بعد أن تهددهم بأن لا أمان لهم إن لم يعطوه السلاح، وكانوا قد أفنوا كل ما عندهم من البارود والرصاص، فسلموه أسلحتهم فأدخل الدروز إلى مدينتهم فنهبوها، ثم ذبحوا كل الذين التجئوا من الأهالي إلى سراي الحكومة. قيل وكان متسلم دير القمر مخالفا للأميرالاي في هذا العمل الوحشي، وحمى كل الذين التجئوا إلى داره من الأهالي لكن الأميرالاي أمر الجنود والدروز أن يدخلوا دار المتسلم عنوة، ويقتلوا كل من لجأ إليها ففعلوا، ثم إن المتسلم نفسه جرع غصص المنون بعد أن عاد إلى بيروت.
هذا بالاختصار التام أما التفصيل فتقشعر منه الأبدان وتذوب له النفوس أسى؛ فإنهم كانوا يذبحون الولد على ركبة والدته، وينزعون الطفل من يد أمه، ويضربونه بالسيف فيشطرونه شطرين، ويردونه إليها قائلين: خذيه فقد أسكتناه لك. ويقطعون أوصال الرجل قبل أن يذبحوه، ولم يبقوا على أحد من الذكور، وقد جن بعض النساء مما رأين من الفظائع.
ما أشد توحش الإنسان إذا أطلق العنان لشهوة الغضب! وما أقبح التعصب الديني إذا حمل أصحابه على الانتقام من الذين يخالفونهم دينا! وأقبح من هذا وذاك تدبير المذابح وتنظيمها لغرض في النفوس؛ كما فعل ذلك الوالي وزبانيته وتلك الفئة الطاغية في الأستانة، فإنه كان يجب عليهم أن يعرفوا ما ستئول إليه الحال، ولكنهم أغمضوا عيونهم لكيلا يروا، وصمموا أذانهم لكيلا يسمعوا.
ووصل تفصيل هذه الحوادث إلى الكولونل روز قنصل الإنكليز الجنرال في بيروت، ووصله أيضا تفصيل ما جرى في حاصبيا وراشيا، وخلاصته أن الأمير سعد الدين كان في دمشق، وقد استعفى من الولاية على بلاد حاصبيا، فأعطيت لابنه الأمير أحمد، وكان أحمد باشا والي دمشق يتودد إليه، فطلب منه أن يعود إلى حاصبيا مع فرقة من الجنود العثمانية؛ لتحصيل الأموال الأميرية من دروزها، واستشار الأمير سعد الدين صديقا له من النصارى، فأشار عليه أن لا يذهب؛ لئلا يغتاظ الدروز من مطالبتهم بالأموال في ذلك الوقت ويثوروا عليه، فاستعفى من الذهاب لكن الوالي لم يعفه، بل اضطره اضطرارا وأرسل معه فرقة من الجند، حتى إذا وصل إلى حاصبيا وطالب الدروز بالأموال الأميرية ثاروا عليه، واجتمعوا على حاصبيا من كل الجهات المجاورة لها، فخرج النصارى منها لمناوشتهم، ثم تقهقروا وتحصنوا في السراي، فهجم الدروز على بيوتهم وسلبوها ثم حرقوها، وقال أميرالاي العسكر للنصارى إنه لا يستطيع أن يحميهم ما لم يسلموه أسلحتهم فسلموه إياها، فبعث بها إلى الدروز، وسد منافذ السراي ليمنعهم من الهرب منها، وبلغ القناصل في دمشق ما حدث، فطلبوا من الوالي أن يرسل ضابطا كرديا من دمشق ليأتي بنصارى حاصبيا إليها.
وقر القرار على إرسال أحمد بك أجليقين، فطلب أن يؤذن له بضرب الدروز إن هم منعوه من جلب النصارى، فلم يأذن له الوالي في ذلك، فرفض الذهاب على هذه الصورة، فاستدعى الوالي الشيخ كنج العماد، وأرسل معه ياورا إلى حاصبيا ومعه الأوامر اللازمة لأميرالاي الجنود العثمانية التي هناك، وبعد وصولهما بيوم واحد أدخل الدروز إلى السراي التي فيها النصارى، فقتلوهم عن بكرة أبيهم، ذبحوهم ذبح الغنم ومثلوا بهم تمثيلا، ثم صعدوا إلى دار الأمير سعد الدين في أعلى السراي، فقتلوه وقتلوا صهره الأمير جهجاه وأربعة آخرين من الأمراء الشهابيين؛ ظنا منهم أنهم من النصارى، وهجم دروز حوران على راشيا، فأدخلهم الجنود إلى سراي الحكومة، وقتلوا كل من التجأ إليها من النصارى ، وبلغ قتلى حاصبيا نحو 700 نفس، وقتلى راشيا 500، وقتلى دير القمر وما جاورها نحو 1500 نفس؛ قتلوا كلهم في الدم البارد بعد أن سلموا أسلحتهم لرجال حكومتهم.
ولا تحسبن الدروز كلهم اشتركوا في هذا العمل الفظيع خاصتهم وعامتهم، كلا فإن بعض العامة وكثيرين من الخاصة كانوا أشد الناس مردة للنصارى، فدافعوا عنهم وحموهم في بيوتهم من كل اعتداء، ولولاهم ما نجا أحد.
ولما اطلع السر هنري بدمونت على ما حل بحاصبيا حيث كانت الأميرة سلمى ووالداها؛ رجفت شفتاه واصطكت ركبتاه، وكاد يغمي عليه، ثم غلى الدم الاسكتسي في عروقه، فاحمرت وجنتاه، ونهض وجعل يمشي في غرفته ذهابا وإيابا، بل يركض فيها ركضا كمن يطارده عدو، ودخل الكولونل روز عليه وهو على تلك الحالة، وكان قد قرع الباب مرارا، ولم يسمع مجيبا، ففتحه خائفا أن يكون السر هنري مريضا، فلما وقعت عينه عليه، قال له السر هنري: قرأت تواريخ البشر الحاضرين والغابرين، فلم أر ولم أسمع أن دولة تقتل رعاياها لغير إثم ولا حرج قضاء لمآرب شخصية، كيف صبرنا على هذا الجور وكيف نصبر عليه؟ إذا رأينا رجلا يعذب نعجة أو عصفورا بغير سبب، ألا نتعرض له؟! فهب أن هؤلاء المساكين نعاج أو عصافير، أفلا تقضي الشفقة علينا أن نتعرض لمن يمسك الرجل منهم ويقطع أذنيه ويديه ثم يذبحه ذبحا؟! ألا نتعرض لمن يلقي رأس الولد على ركبة أمه ويذبحه عليها؟! ألا نتعرض لمن يأخذ الطفل الرضيع من يدي والدته ويطعنه بخنجر ثم يرده إليها والدم يسيل من صدره؟! ما هذا التوحش وما هذا الجمود الذي نحن فيه؟! أين الشهامة؟! أين المروءة؟! ثم ما حال أولئك الأرامل الثاكلات النائحات النادبات؟! وما حال بناتهن إذا كن قد تركن لهن؟! وأين مقرهن الآن؟!
Halaman tidak diketahui