وأنشأ يقول: أرهف السمع لحديثي أيها الصديق؛ لأن الذي أنابه محدثك الليلة هو آخر ما أنا به متحدث، فإن هاتفا يهتف بي، إنني على وشك الرحيل من هذا العالم، وأنا غدا عن هذه الدنيا ظاعن متحمل ... فإذا ذهبت يا صاحبي فوصاتي إليك أن تقص على أهل الدنيا حديثي ليعلموا كم تعذبت ... وليدركوا، فتكون عظة وتحق عبرة ...
والآن، هأنا ذا جئت أقص حديث حبه كما سمعته منه آخر مجلس لنا، والعناصر متمردة ثائرة ... •••
والآن وأنا أقص عليك أمري، يعود بي الخاطر واثبا إلى ما وراء تلك الأشهر القليلة التي حسبتها الأعوام الرخية، وخلتها من بطئها وتثاقل أيامها الحقب المستطيلة الوانية. لي الله من تلك الأشهر، لكم حفلت بالأسى الممض، والويل الحازب، والحزن الكاسر للفؤاد، أيام مضيت من عمل إلى عمل، ضاربا في الأفق ألتمس السلوة ولا أجدها، وأرجو البرء من البرحاء ولا برء منها ولا شفاء. وإني لأسائل النفس اليوم من عجب وحيرة: أتراني واجدا القصاص على ما اقترفت يوم أقف أمام بارئي، أم ترى هذا العذاب الذي خضته هذا العام الذي انفرط، والأسى الذي أنا خائض بين عدوتيه على الأعوام القادمة، سيروح قصاصا كافيا في عين الله الذي يرعى الأرض ومن عليها، ويشرف على الناس أجمعين ...
وإني لتعروني على الذكرى هزة، ويأخذ بأنفاسي هدأة الليل، وسكون نامة الطبيعة، يأس غلاب أليم، فأود لو أنني ذهبت أختم حياتي بيدي، ثم يمسكني الخوف مما وراء هذا العالم، وخشية ما أعد الله لنا في الآخرة، فأمضي أذرع حجرتي ذهابا وجيئة حتى يوهن الليل، وتبدو مطالع السحر، فأتهالك على الفراش من فرط الإعياء، فأنهض للعمل في بكرة النهار كأني قد قطعت ما بين طرفي الليل وسنان العين نائما ...
منذ عامين وكنت قد جاوزت العشرين، فارقت دار أهلي، ونزحت عن موطني، كما يفعل أكثر الشباب، في طلب الرزق والتماس العمل، فتقلبت في أعمال عدة، حتى استقر بي ختام المطاف في مصنع كبير ملاحظا للعمل: وكان «ف» وهو فتى في مثل سني مساعدا لي في عملي، فما لبثنا أن رحنا صديقين وليين، يجمع بين فؤادينا محض الولاء، ويؤلف بيننا خالص الود.
وكان «ف» ذا طبيعة جموح تنزع إلى اللهو والمجانة كل منزع ... وكان يميل بعض الميل إلى الشرب، ويستطيب الجلسة إلى الكأس، وما كادت تنفرط بضعة أسابيع على لقائنا واختلاطنا في عملنا وفراغنا حتى وجدتني أعاطيه وأشاربه، ولم يكن إقبالي على الشراب رغبا فيه ونزوعا إليه، وإنما أردت أن أريه أنني على الشراب كذلك لقادر.
ففي ذات مساء ونحن جالسان معا نشرب ونتسامر، أنشأ صاحبي يحدثني قائلا: استمع إلي، ما بالك لا تحاول اقتناص الفتاة الممتنعة على القانصين؟
قلت: من عجب الفتاة الممتنعة على القناص! يا لله! ومن تكون، وفيم امتناعها، وكيف استحال قنصها؟ ...
قال: هي فتاة في هذه الناحية عزت على المغازلين، وأبت الاختلاط بالشباب، واستكبرت على المتحببين، فتاة تدعى «سوسن» وهي والله أملح ظبيات المدينة وعذاراها الحسان، ولكن لم يستطع أحد حتى اليوم أن يخلص إليه ودها ... أو يصيب منها موعدا للقاء.
فهززت رأسي هزة الساخر المستخف، ومضيت أقول في لهجة الاعتداد والخيلاء: إنني مراهنك على أني فاعل، بل في وسعي أن أجعل بيني وبينك عهدا أنني خاطبها وظافر بودها إذا حاولت.
Halaman tidak diketahui