أوان الحب
قسوة الحب
رهان على الحب
الفتاة التي تصنع الرجال
معنى الحب
ما الذي يقتل الحب؟
حب بلا نسل
زحام على قبر
هتاف الأمومة
زوج طاغية
Halaman tidak diketahui
أوان الحب
قسوة الحب
رهان على الحب
الفتاة التي تصنع الرجال
معنى الحب
ما الذي يقتل الحب؟
حب بلا نسل
زحام على قبر
هتاف الأمومة
زوج طاغية
Halaman tidak diketahui
ألوان من الحب
ألوان من الحب
تأليف
عباس حافظ
مقدمة
بقلم عباس حافظ
في هذه القطع العشر، ألوان نضر، وظلال سود وخضر من أرفع العواطف وأسماها، وأشرف الدوافع وأقواها، وهو الحب، خليقة المصور البديع الباري، ويد اللطيف الخبير، الذي سوى الإنسان و عدله، في أي صورة ما شاء ركبه، وجعل الحب في الحيوان أشد غرائزه، وأحاله في الإنسان أكبر تمييزه، لأنه الغريزة مع لطف الحس، وتهذيب الحضارة وجمال اللون والشارة، ووحي الفكر، وإلهام الضمير.
الحب هو غذاء القلب، ومادة الروح، وجوهر الكون، ومحرك الدنيا والرابط بينها وبين الآخرة.
الله فيه يتجلى، والإنسان به يسمو، والعالم على هداه يسير.
وهذه ألوان مختلفة منه، كل منها طبيعي لأنه في الفطرة، وكل ظل من ظلاله جميل لأنه فيء الدوحة البشرية التي منها نبتنا وعلى أفنانها تنقلنا، ومنها ثمراتنا على الدهر وأزهارنا في مواسم الحياة وحقول الزمان ومسيرة السنين.
Halaman tidak diketahui
ومن يؤمن بالحب فهو بالله مؤمن، ومن يكفر به فقد كفر بنعمة الحياة التي جعلته شركة سواء بين الحيوان والإنسان.
أوان الحب
الحب ...!
لقد قضيت الحياة كلها أحلم به وأتلهف عليه وأتوق إلى مطالعه، ولو أنه جاءني بادرا لما وجدني خافة للقائه، ولقد كنت على طول الحنين إليه لا أرى من زماني فسحة للبحث عنه، ولكنه لم يجئ باكرا، وإنما طال عليه الغياب، ثم أقبل يدلف ويمشي وئيدا على أدبار الشباب ...
ولكنك لن تجد في قصة هذا الحب شيئا يروقك أو يوقد بعض ناره في جوانحك؛ لأنه حب بدأ على ثنية الكهولة، ولم يبد على بواكر الشباب وسطع الحداثة، إذ تروح النفس مترعة بأحلامه، ولا يزال الخاطر مصقول الأديم متهيئا لاستقباله .
إي والله لم أجد من زماني فسحة للحب، ولكن الذي صرفني عنه وعدل بي عن واديه، لم يكن غير واجب الرعاية لأختي الصغيرة «ج ...»، فقد قضت أمنا يوم كانت أختي في العاشرة وأنا في السادسة عشرة، فكانت رعايتي لتلك الصغيرة ومساعدتي لأمي المسكينة، التي لم تستطع نهوضا من الصدمة التي عاجلتها بوفاة أبي، قد تركتاني أكبر قبل الأوان.
وكان أبي أبدا يناديني: «يا عوني الصغير»، فكنت أزهى بهذه الكنية، وآتيه فخارا بهذا الاسم، وأجد فيه الفرح والخيلاء.
وكنت أقرب شبها بأبي مني بأمي، فقد ورثت عنه عينيه السوداوتين الهادئتين، اللتين توحيان من الأعماق قوة الإرادة وحب الريف والميل إلى القرية.
وكان أبي رئيسا للحطابين الذين يعملون في أرباض قريتنا، وكانت أمي مخلوقة ناعمة ... صنع الله لها، تلك الأم الغريرة الضعيفة الحول، الواهية الإرادة، لا تسأل شيئا ولا تسأل عن شيء، وكانت الصغيرة «ج ...» أقرب شبها بها. وكانت أمي من أهل الحضر، ولدت ودرجت وقضت مطالع شبابها في المدينة، فلم تكن تروقها عيشة القرى، ولم يفتنها مشهد الحقول، ولم تستروح نفسها لأفق الريف.
وفي ذلك العهد لقيت أبي، فكأنما التقت قوة السروة الباسقة الصلبة المتينة بطراوة أنفاس الربيع اللين العليل، وكان أبي يناديها «بأنفاس السماء» لنعومة بدنها، ونصاعة محياها، ومسة من لون الذهب الأصفر الناضر تزين جدائلها المرسلة، وذلك العبق الخفيف الخفي المذهل الساحر الذي يدع الناس ينادون زهرة الربيع بأنفاس السماء وشذاها.
Halaman tidak diketahui
وكذلك كانت في عين أبي وعيني، ولكنها لم تكن زهرة من زهرات البر، فلم تأخذ في النمو حيث مضى بها أبي إلى الريف الفقير الساكن، بل عاجلها الذبول فنكست - فعل الزهرة الذاوية - رأسها، وعادت أشبه الأشياء بشجرة اللبلاب تتعلق بالسروة الناهضة في صميم الفضاء.
ففي ذات يوم والشمس تتزاور بادية من خلف السروات الناحلات المديدات. إذ ارتفع في السماء فبدد الصمت الرهيب صوت عظيم تهلع له النفوس، وتنهد القلوب هدا، صوت قصف توالى ينذر بوقوع حادث في أكناف الغاب، وأخذ الناس يهرعون على الصوت من كل مكان، ويلتمسون الطبيب، ويطلبون للمصاب الغياث ...
ولكن ترى من يكون هو، لقد مضت كل ذات بعل وذات ولد تسأل وهي شاحبة اللون واجفة الفؤاد: من هو؟ وما الخطب الذي دهمه؟ ووقفن لاهفات جازعات ينتظرن النبأ، ويرتقبن قصة المصاب.
وجاء فتى من الحطابين يعدو، فقال: إن الرفقة قادمون بأبي ... وا حزناه ... لقد رأيت أمي ... أمي المسكينة، الحلوة، الضعيفة، الواهية، تتواثب من فرط الألم، وتتساند من فداحة الكارثة، وأما أختي فأخذت تتصايح وتبكي بدافع الغريزة، وهي لا تدري علام البكاء وما مبلغ المأساة وجلال الخطب، وإنما تبكي لبكاء أمها، وتجاوب بالدمع دمعها، وأنا، الله لي ... لقد استقرت على وجهي عيناه السوداوتان، وشفتاه الملتهبتان وهما تبتردان رويدا وتصفران على مهل، وهو يحاول أن يبعث من صدره أنفاسه المتحشرجة الخافتة الراجفة، نعم، أنا عونه الصغير، وسناده الأكبر. وفي رفق يمازحه إصرار، راحت جارة لنا تفك يدي أمي المشتبكتين حول صدره، وتمشي بها وطفلتها منصرفة بهما من الحجرة، وجثوت أنا بجانب أبي، ومضيت أقول بصوت مختنق: إنك لن تتركنا يا أبي ... وحاول هو أن يرفع يده ليلاعب جدائل شعري ملاعبة ألفتها منه ولطالما فرحت بها ولذني لطفها ورفقها، فتراخت يده ولم تستقم؛ إذ سقطت كتلة عظيمة من الخشب فوق صدره فحطمت أضالعه، وتركت يديه مرتخيتين واهيتين متساقطتين إلى جنبيه.
وانحنيت وذهبت أنصت إلى الكلمات التي راحت تخرج من بين شفتيه المختلجتين متقطعة لاهثة لا تكاد تبين.
قال لقد رقيت مركزا أسمى من مركزي أيتها الصاحبة الصغيرة والولية الحسناء ... نعم، أنا تاركك لنفسك، ومعتزل في هذه الحياة عملي. يا عوني الصغير، أنت الآن عوني الأكبر ... لديك أمك الصغيرة، «أنفاس السماء»، ولديك أختك الغريرة الحسناء، ألست ناهضة في العيش بجانبها، آخذة بيديهما، يا حبيبة أبيك وخليفته في عشيرته ...!؟
فأطرقت إطراقة الإيجاب؛ إذ عصاني منطقي فلم أجد لساني على الجواب مسعفا، ورأيت بياضا يغشى فمه شيئا فشيئا ثم يتصاعد إلى خديه، ويكاد يبلغ عينيه، فانحنيت أداني وجهه وأمس بخدي فمه، فإذا بذلك الفم قد سكن وانقطع اختلاج الشفتين واسترد ملك الموت من الأرض وديعة السماء.
طار لبي، وغام السحاب على خاطري وعيني، ورفعت رأسي ونظرت إلى عينيه الجامدتين، فأفلتت من بين شفتي أنة مجنونة موحشة، وإذا بيدين رقيقتين - لكن قويتين - قد رفعتاني من مجثمي وسمعت صوت الطبيب يناديني قائلا: شجاعة أيتها المرأة الصغيرة وتجلدا لأجل أمك؛ فإنها أحوج ما تكون اليوم إلى عونك.
وعند ذلك ارتفعت ورائي صيحة كظيمة متهيبة تقطع نياط القلوب، فدرت بعيني فرأيت شبح أمي الناحل المترنح حيالي، وعيناها الأليمتان ترسلان نظرات لهيفة متوسلة، كأنما هي تحاول أن تدرك مبلغ المصاب وتتساءل ما معنى الخطب وما أمره، وشفتاها تهتزان في حركة تهد الفؤاد، ويداها الصغيرتان البضتان تصعدان وتهبطان وقد جاءت فترامت على صدري وتعلقت بثوبي ونحري، ومن فوق بدنها الواهي الناحل ألقيت العين على أبي ... أبي وابتسامته الباسلة الحائرة التي لا تزال على وجهه، وفي لهجة رهيبة ومنطق جليل رزين غمغمت أقول معطية عهدي، مقدمة أمام جثمانه الهامد موثقي: «سأتولى مكانك يا أبت ... سأتولى مكانك، فنم بسلام».
ولما قضينا للميت الراحل حقوقه، خففت أنا وأمي وأختي من القرية إلى المدينة العامرة المخيفة بضجيجها وزحامها، ولكن فتنة الحضر لم تستطع أن تمنع شجرة اللبلاب المتعلقة بجزع السروة الصلبة المتينة من التشبث بسنادها، فما انقضى عام حتى وافت أمي الصغيرة أبي إلى مرقد الآخرة، وضجعت بجانبه تحت أطباق الثرى.
Halaman tidak diketahui
وما بقي من مكافأة أبي استعنت به بعد رحيل أمي على شراء حانوت صغير على القارعة لبيع الفاكهة. •••
ومرت بي ثمانية أعوام طوال عنيفة جاهدة، دأبت فيها على الخدمة في الحانوت، وبرعت في استهواء زبائني، واكتسبت خبرة برغباتهم، فاستطعت أن أجعل الصبية «ج» الحسناء رافلة أبدا في المطارف الناعمة، تزيدها حسنا، وتكسبها تفتحا وازدهارا.
وفي المساء، إذا لم يكن حفل ولا خروج إلى النزهة، اعتدت أن أكب في البيت على الخيط والإبرة، أحيك في معزل ثوبا جديدا لأختي تريده للظهور غانية حالية في محفل منتظر أو وليمة وشيكة. ومن خلال الظلال لا ألبث أن أرى عينين ناعمتين براقتين مصقولتين تطالعانني ضاحكتين متهللتين، وهما مترعتان مراحا بالحب، واسترواحا إلى الصبابة، وقد تحقق أمل الشباب، وصحت في الصبا الأحلام.
وكان حبيبها فتى ممتشق القد مكتمل العضل، ذا فم حلو ومعارف عليها من الصباحة آيات بينات. وفيما كانت تلك الإنسانة الصغيرة الخيالية البديعة تذوب متلاشية في تلك الأحضان القوية الرقيقة المفتولة، كنت أذهب أسائل النفس في حسرات: لماذا لم تقدر لي السعادة، ولم قد حرمت ذلك الهناء ...؟
وأذكر ليلة دعاني فيها شاب مليح إلى الذهاب معه إلى العشاء في مطعم فخم والانطلاق بعد نعمة المائدة إلى الملهى، فخفق فؤادي سرورا وطربا لتخيل قضاء بضع ساعات في رفقة ذلك الأغيد المليح، ولكني تذكرت أن أختي ستذهب في تلك الليلة بالذات إلى مرقص بديع، ولم أتم بعد ثوب زينتها، فاستعفيت ولم أقبل المقترح. وكان هذا آخر العهد بيني وبين ذلك الفتى.
وجاء اليوم الذي كاشفتني أختي الطفلة الغريرة اللدنة الناعمة كأمها بعزمها على القران، ففي تلك الليلة أطلت الجلوس إلى المرآة فأدركت أنني مدانية حدود الكهولة، وأنني من فرط حناني عليها ورعايتي تركت الحياة تمر بي مرا، حتى أصبحت ولم أعد غير فتاة عانس انمحت مسحة جمالها فغدت خلية من سمات الحسن ومعالم الحداثة.
واها لي، وحسرة على الشباب، لقد كنت أحلم بالحب ولا أزال به حالمة، فيأسا أيتها المسكينة وهيهات؛ فإن الحب لم يخلق لمثلك، وإنما أنت عون أبيك وخليفته في عشيرته ... •••
وكذلك لبثت عشرين سنة بجانب «ج» أرعى لها بيتها وهي متعلقة بي كما كانت أمنا تتعلق بأبينا، وكانت هي تقول إنها لا تستطيع العيش مستغنية عن عوني، فظللت في عونها، وكانت - وا حسرتاه عليها - لا تزال في ربق الشباب عندما عاجلها الموت فذهبت للقاء أمها وأبيها، وكان زوجها يحبها ويعجب بها، ولكن قبل أن تتفتح أكمام الزهر والأعواد التي زرعناها حول قبرها، وكانت تلك الأزاهر أحب شيء إلى نفسها، جاء زوجها إلى البيت بزوج أخرى، ولم تكن هذه تحتاج إلى سناد تترامى عليه، وعماد تنهض فوقه، فلم ألبث أن أدركت أنه لم تعد بأحد حاجة إلى بقائي.
لقد كنت من الحداثة ضرورية لا غناء لأبي عني، ولا لأمي من بعده، ولا للصغيرة «ج» التي تركاها لرعايتي وعوني. فإذا بي على رأس الأربعين، وحيدة لا حاجة بأحد إلي، ولا مكان لي عند أحد.
وجاءني يقول وهو متكره متردد: إنه قد أعد العدة لإيوائي إلى دار هادئة يعيش فيها نساء مثلي لا يعملن عملا مجهدا، ولكن يجدن رفاهية ورعاية بقية آجالهن.
Halaman tidak diketahui
وأحسب أنه كان ينبغي لي أن أكون شاكرة لهذا الصنيع، عارفة هذه المحمدة له. ولكن روحا من الثورة والتمرد تولتني؛ إذ أحسست أنني قد خدعت في صفقة الحياة وغبنت، فلقد ظللت الماضي كله أعطي كل شيء ولا آخذ شيئا، أعطيت الشباب والآمال والأحلام، وها أنا ذي اليوم لا أجزى عما وهبت غير العيش بقية الأجل بين جدران ملجأ ...
وا حزناه ... أنا التي لهفت على الحب وحلمت به، ودعوت إليه، قضى القدر أن أحتبس في دار للعجزة ... واللائي أدبر العمر بهن ...
يا لله ... أدبر العمر بهن، ولكني لم أعد كذلك.
لقد كنت فتية أحس في الأضالع وقدة الشباب، وكيف تنطفئ نار تجد في كل يوم وقودها من اللهفة على الحب وحرارة الأمل، والتوق إلى المنى البعيدة؟
لقد ثارت نفسي متمردة تريدان تحتال آخر الحيل قبل أن تسكن إلى اليأس وتودع الأمل الوداع الأخير. •••
وأعلنت صحف المساء أن معرضا للملاهي والألعاب سيقام على ضفاف البحر تذكارا ليوم مشهود، ومضت تطنب في وصف ضروب اللهو التي حشدت فيه. فما كدت أقرأ هذا النبأ حتى أجمعت أمري على أن ألقي بآخر سهم في كنانتي على مرمى الحياة قبل أن أستسلم إلى دخول ذلك الملجأ صاغرة، فعددت فضلة المال التي ادخرتها، فكانت يسيرة ولكنها تكفي لركوب القطار ودفع الأجر ونفقة البيت. إذن لا بأس ... سأثب الوثبة الأخيرة ... سأعيش لنفسي يوما واحدا في العمر، يوما بهيجا حافلا بمتع الحياة من لهو وقصف، وإذن لن يستطيع العيش في الملجأ أن يحرمني نعمة ذكرى ذلك اليوم وصورته ...!
وذهبت إلى دولاب ثيابي فأخرجت أحسن حلله، وأبى شعري الفاحم إلا أن يلتوي ويسترسل فروعا وخصالا متلطفة تلاعب جبيني وخدي، وراح خيال شبابي المستعاد وعيني السوداوتين يضحك لي في المرآة عندما تناولت جعبتي الصغيرة ومشيت منصرفة لاقتناص ... الحب ...!
وأخذت الجماهير تتقاطر، وما لبث الخليج أن بدا حاشدا بالسابحين والسابحات في مختلف الألوان، تسطع منهم الأذرع وتبرق السيقان. وارتفعت صيحات الفرح من شفاه ملتهبة بحرارة الشباب، تختلط في الفضاء بأصوات الباعة من كل صنف ولون، وعادت الرمال البيضاء المترامية على الضفاف حديقة مفراحا بهيجة تطالع العين منها المظلات البديعة والأثواب المهفهفة، وقوالب الحسن التياه، والملاحة ذات الدل والخفر والخيلاء ... وظللت لحظة مستطيلة قانعة بالجلوس فوق الرمال الدافئة وتأمل المارة ورؤية مشاهد الألعاب، ولكني ما لبثت أن درت بعيني فألفيت الناس جماعات، مثنى وثلاث ورباع، كلهم بإلفه فرح، وبرفيقه طروب، أو بصاحبه في سرور وابتهاج، ووجدتني في وسط هذا الجمع وحيدة من الخلان، لا رفيق إليه منتهى جذلي، ولا سمير أضاحكه وأنعم في بهرة الحفل بسمره، فتولتني وحشة أليمة وظمأ إلى الرفقة ولهف على الصاحب والخدين، ورحت أجيل العين في الوجوه لعلي ملاقية وجها أعرفه أو أسمع صوتا آلفه، فوجدتني وحيدة غريبة لا شأن لها بالجمع، بل امرأة محت الأيام مسحة الجمال من معارف وجهها، يدفعها الشباب المساميح الصباح الوجوه بالمناكب، ويمرون بها ولا ينظرون. وا حزناه! لقد كنت بعد كل تلك السنين أحسبني مختلسة من العمر يوما واحدا ذا مراح وابتهاج، أعده ذكرى طيبة مواسية لبقية الأجل أقضيها بين جدران ملجأ موحش أليم.
لك الله أيتها العانس المسكينة، ودعي الأمل، هيهات ما لك في هذه الحياة من نصيب، اذهبي اطلبي إلى الوردة أن تغمض وإلى الزهرة أن تعود كما نواراكما كانت. ما أنت والحب، وما أنت والمراح، أنت عون أبيك وسنده، ولكن أبي ... ها أنا قد عدت وحيدة وقد تركني الذين وصيتني بهم، ولم يعد لصغيرتك من تعينه وترعاه، وذهب الأمل، وخبت وقدة اللهفة على الحب. •••
واحتملني تيار الجمع الزاخر في طريقه، فما لبثت أن وجدتني في السرادق الرحيب الذي أقيم في المعرض للعبة الأحصنة الخشبية، فانتبذت من القوم مكانا فجلست ملقية يدي في حجري وأسلمت خاطري للتفكير.
Halaman tidak diketahui
ولست أدري كم لبثت في مجلسي، وإذا بيد قوية قد ألقيت فوق يدي، فتطلعت بوجهي فأبصرت وجها وسيما تطل منه عينان زرقاوان تنظران إلى وجهي نظرة مستطيلة مفعمة حنانا وتأثرا.
قال صاحب ذلك الوجه بصوت ملتهف خفيض: ماذا بك يا سيدتي؟ فأثر في نفسي حنان صوته، فوجدتني أقول وأنا خائرة النفس معذبة: إنني وحيدة. قال: وحيدة! ... وخطف على وجهه نور رحمة وشهاب حنان غريب.
فقال: يا لك من مسكينة! ألا صديق؟
فهززت رأسي هزة النفي ولم أتكلم.
فسكت لحظة ثم ابتسم قائلا: هل لك في ركبة معي فوق الأحصنة؟ فخفق فؤادي ونهضت واثبة وقد عاودني الأمل.
ولما رجع بالتذكرتين لمحت على وجهه لهفة كأنها رجاء الفتى وضراعة أهل الشباب، وركبنا مرتين ثم استعدنا الركوب مرات، ونحن ضاحكان مسروران. وفيما كان يعينني على النزول لمس كتفي كتفه واستندت ذراعي إلى ذراعه، فإذا موجة من كهرباء قد سرت في مفاصلي فهزتني هزا.
وكان ذلك إحساسا جديدا لم أشعر من قبل بمثله.
وجلسنا فوق الرمال، وأكلنا شيئا من الحلوى، وكسبت في النصيب سلة من سلال البقل والخضر، فما عتمت هذه السلة أن أعادت إلى خاطري ذكر أحلامي الماضية ولهفاتي على عيش الزواج وحياة ربة الأسرة، ورأيت الحاضر، نعم هذا الحاضر الهنيء الرغيد ذاويا متلاشيا في المستقبل الأليم، حفت جوانبه الوحشة، وقام على حفافيه عذاب.
وتناول هو السلة فعلقها بذراعه باسما وبذراعه الأخرى أمسك بذراعي، فقال: لنترك هذه ونذهب نركب إلى طوفة طيبة فذلك نعيم كدنا ننساه.
قلت: أوثر أن نجلس جلستنا هذه لنشنف أسماعنا بصوت الموسيقى إذا لم تر من ذلك بأسا، فسرت في تضاعيف صوته أنغام حنان ورنة لهف غريب، وهو يقول: أمتعبة أنت؟ قلت: كلا، ولكني أرى أن نختم يومنا على الأغاريد، فذلك أبدع ما يختتم به يوم كهذا ...
Halaman tidak diketahui
ولفنا الصمت في مجلسنا مليا.
وكان هو بالحديث البادئ .
قال: هلا أنبأتني أين مقامك؟ وفيم لقاؤك؟ حتى نتوافى إلى يوم آخر طيب كهذا جميل المبتدأ حلو المختتم.
وا حسرتاه ... يوم آخر ... لقد نهضت في مخيلتي جدران الملجأ وأسواره الشاهقة، وكإنسان بلغ أقصى نهاية العذاب، ثم لم يستطع عليه بعد ذلك صبرا. رحت بين عبرة مخنوقة، وزفرة كظيمة، أقص عليه قصتي، فلما أتممتها امتدت ذراعه فطوقتني، وراح صوته في مثل حنان الأمومة يقول: واها لك أيتها المسكينة! واها لك أيتها الصغيرة المحزونة!
وجثوت إلى جانب أبي.
فاستعدت يدي من إمساكته وحاولت الكلام بثبات، ولكني اختنقت بالعبرات فلم أستطع صبرا.
قلت: والآن لا أمل! لقد ذهب الحلم الجميل، ولم يبق غير ذكرى هذه الساعات القليلة، تلك عدة أيامي القادمة.
وعاد يتناول يدي الباردتين في يده الحارة المستعرة، وراح يقول في لهجة المتضرع المبتهل: ما أحوجني إلى عونك يا عون أبيك وأهلك، إن لدي البيت الذي كنت به تحلمين، والأفق الذي كنت عليه تلتهفين، أواه أيتها الصغيرة! ... أنت والله المرأة التي كنت الحياة كلها أتمناها، وتهفو نفسي إليها، فهل تجدين في فؤادك لعامل دؤوب مثلي موضعا؟ وهل ترضين بي في الحياة شريكا؟
وشد يدي حتى كاد يؤلمني، ولكني لم أتألم ولم أحفل؛ فقد كانت تلك أولى ساعات الحب ومطالعه.
لقد لقيت ضالتي المنشودة وفزت في قنص الحب، وصحت الأحلام بعد لأي ويأس. وما أبدع الحب يجيء وئيدا ويقبل على مهل، فينعش موات الأمل، وينسي المرء ما كابد على الطريق وما ذهب من مراحل الأجل.
Halaman tidak diketahui
طوبى للحب، إنه رحيم بديع وإن جاء بعد الأوان ...
قسوة الحب
كنت زوجا وفية فاضلة، لم يخطر لها يوما أن تخون بعلها، ولا هي يوما خانته، وما أتيت حياتي أمرا نكرا، ولا قرفت في العيش شرا فيعيبني المجتمع به، ولكني مع ذلك قتلت رجلا ...
ذلك ما نبأني به والد القتيل بعد أن عفا عني وصفح، فقد راح يقول إنه لهين على المرأة أن تقتل كما هو بين عليها أن تهب الحياة ...
يا عجبا! ما كنت أعرف ذلك ولا عن لي من قبل، بل قد كنت أتدبر الأمر من ناحيتي الخاصة، وأعمل على أن أدفع عني غائلة القانون. وما كنت أدري ما على المرأة التي تجد من الرجل الحب من فرائض كبار، وتكاليف ثقال ...
وأنا اليوم أسند في حدود الأربعين، وكان زواجي منذ ستة عشر عاما، وزوجي راغد العيش، موفق في الحياة، فنحن نسكن دارا جميلة في أرباض المدينة ولم نرزق ولدا، وقد مضت حياتي حتى العام الفارط هادئة مألوفة، إلا فترات تتولاني خلالها السآمة، ويغمرني ألم الوحشة، فأجلس أستعيد أحلام الشباب وأماني الصبا، أيام كانت النفس لاهفة على الحب تتمنى لو تصيب إعجابا وحبا، ولست أدري علام رحت أتمنى شيئا كهذا ولم أعد الصبية الحدثة، ولا الفتاة الغر اللعوب، ولا حق لي فيه اليوم ولا أنا من أهله، ولكنا كذلك نحن النساء، قد نجاوز حدود الشباب، ثم لا تزال نفوسنا على الحب لاهفة، والعين لنعمته ولذاذته طلعة، وعسير علينا أن نتخلى عن ذلك الأمل ونستدبر ذلك الرجاء.
ومنذ قراب عام، قبل عهد هذا الأمر الذي جرى والذي أنا به محدثتكم، جاءت نسوة من المدينة في زورة لدارنا، وكنا جالسات نخيط ثيابا، وقد جئت بفضلة من حرير وردي اللون فقلت لصواحبي شاكية آسفة: أحسبها لا تكفي لنصطنع منها غطاء لوسادة. فقالت صاحبة منهن: لم لا تصنعين منها قميصا مقورا لا أكمام له يا عزيزتي؟ ...
قلت ضاحكة: يا عجبا! ... ألمثلي يصلح القميص المهفهف الوردي لا كم له؟ ...
فقال: نعم، وله حاشية من مخمل مذهب، فأنت مديدة القامة سمراء المعارف، وإنك لتترائين في ريطة مهفهفة كهذه مليكة من الملكات البهيات الباهرات ...
قلت: ولمن ترين ألبسه؟ ومن ذا سيشهدني مترائية به؟
Halaman tidak diketahui
قالت: لزوجك تلبسينه، وعلى عينه تخطرين به.
فضحكن من قولها فاكهات، فقد كنا نعلم أن أزواجنا لا يحسبوننا مليكات، ولا يروننا - وإن تجملنا لهم ما تجملنا - البهيات الباهرات.
ولكني أمسكت بفضلة الحرير فالتففت بها، وكان اليوم مطيرا والحجرة معتمة، فما لبثت أن أدركت على بصيص الضياء أنني رحت في لفة تلك الفضلة الوردية اللون رائعة حقا، وحسناء باهرة ولا خفاء، ولقد كنت في صباي بدينة ممتلئة البدن، ولكني اليوم نحلت فأضحيت ممشوقة هيفاء، واتسعت حدقتاي فرحت في العين نجلاء.
وانثنت صاحبتي تقول: في الحق ما رأيتك يوما تلوحين كما لحت الساعة رائعة حسناء، ألا اصطنعي منها الغلالة الفضفاضة يا عزيزتي على بركة الله.
وكنت أعلم في نفسي أنني ما كنت لألبس شيئا كهذا غريبا بديع الرواء، فإن زوجي سيحسبني به ممثلة من رخيصات الممثلات، ولكني مع ذلك استمعت إلى نصيحة صاحبتي فجعلت من تلك الفضلة قميصا ولم أصطنع له الحاشية المذهبة إبقاء على حشمة هونا ما، وحرصا على شيء من وقار.
وفيما كنا نهيئ ذلك القميص، أنا وصديقتي، راحت تقول: لقد سمعتك يوما تقولين إن لزوجك آلة كاتبة قديمة العهد يضعها في غرفة مكتبه، فاسمعي إذن، إن لدينا غلاما قد انحدر من بلده البعيد ليقيم عندنا، وهو يعد نفسه اليوم لدراسة علم التجارة، وقد قلت له إن في وسعه أن يجيء في بعض الأحيان ليتدرب على الكاتبة عندكم ويمرن أنامله.
قلت: لا ضير من ذلك، فإن زوجي لا يعود في المساء في هذه الأيام من كثرة عمله وتراكم شواغله.
قالت: إن الغلام فتى هادئ وديع عليه من الذكاء سمات ومخايل. •••
وفي أصيل اليوم التالي جاء الغلام.
وكنت قد غسلت شعري قبل قدومه وجلست أجففه في قاعة الاستقبال، ولم أكن عقصت جدائلي بعد، ولا قصصت من ذوائبي الغزار، فعل النساء في عصرنا هذا، وديدن الحسان البرزات، وإنما تركت شعري مرسلا على سجية فروعه الوحفة، وضفائره المديدات.
Halaman tidak diketahui
وتلفت حولي أبحث عن ثوب أشتمل به ريثما تجف جدائلي، ونحن اليوم لا نقنع إلا بالطريف، ولا يرضينا في كل يوم سوى الجديد القشيب، فتناولت الثوب المهفهف الشفاف الوردي اللون الذي اصطنعته.
حقا لقد أصابت صديقتي فيما رأت! فقد تراءيت بذلك الثوب باهرة ساحرة الرواء، ورحت أمسك في يدي بمروحة يابانية مذهبة الحواشي، وكان شعري قد جف وراع ... ودق الجرس ...
وذهبت ففتحت الباب وبدوت حيال الغلام ، وأخذ مشهدي عينه، فتراجع مبهوتا كأنما قد رأى شبح حورية من بنات السماء.
قلت: أأنت ... طالب التجارة ...؟
قال: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك بمقدمي.
وخيل إلي أنه قد راح بي المأخوذ المبهوت. وظننت دهشته تلك بعض حياء الشباب، ولكن رعشة شفتيه، دلتني على أن ما به قد تجاوز حدود الدهشة والاضطراب، فأخذته إلى حجرة زوجي ورتبت له المنضدة كما يشاء.
وراح يقول: إن ذلك منك لجميل، وهو منك طيب وكريم. وكان الغلام فتان الطلعة، غريب الملامح، في الربيع الثامن عشر، ناحل البدن أزرق العينين مثال الحياء، تطل من عينيه نظرات حييات، وفورات شعرية ما أحسبني رأيت منها يوما في عيون الشباب!
وكانت عيناه الزرقاوان لا تطرقان النظر إلى وجهي.
قلت: أيروقك المكان؟
قال: أحسبه كذلك ...
Halaman tidak diketahui
ووقفت أنظم صفوف الكتب والأوراق فسقطت إحدى جدائلي على ذراعي العارية، فاستقرت عينه عليها لا تبرحها، ولم يكن أحد غير زوجي قد رآني وأنا بادية في غلالة شفافة كتلك، ولم أكن أحسب أنها تثير ألباب الرجال. ولكني عندما أدركت مبلغ التأثير الذي أحدثه مشهدي مترائية بذلك الثوب الرقيق الفضفاض، شعرت بشيء من فرح الأطفال، فاصطبغ وجهي بلون الأرجوان، ولم أتمالك نفسي من أن أبتسم ابتسامة مفعمة بالرقة واللطف، وإن لم أخرج بها عن حدود الاحتشام.
وانثنيت أقول للغلام: أنا تاركتك لتشتغل، فإن أردت شيئا فتعال اسألنيه فإني جالسة في حجرة الاستقبال.
ومضيت من الحجرة أرفل في ذلك الثوب النضير على عينيه، وكان أولى بي أن أذهب فأنضوه عني، وأستعيض عنه ثوبا من الثياب التي أبتذلها في البيت، ولكني في الحق لم أفعل، وإنما عدت إلى حجرة الاستقبال فوقفت حيال المرآة أشد من حواشيه وأهذب من ثنياته وتلافيفه وأهز فروعي حول كتفي، ثم رحت أستلقي على المتكأ.
بالله! منذ كنت صبية غرا لم يقع لي مثل هذا الإحساس الغريب الذي جال بنفسي، وغمر لبي في تلك الساعة، ذلك إحساس متدفق فياض طاغي المد، معتلج الأواذي، بل إحساس لا يكون إلا في أقاصيص السحرة وبنات الجن ، إحساس تكتمه المرأة عن كل مخلوق ولا تصفه لأعز صاحب وصديق.
وجلست أنصت إلى دقات مفاتيح الآلة الكاتبة، وأتمثل عيني ذلك الغلام الوسيم المقسم، فخلت كأني أتعاطي أفاويق عقار مسكر مخدر كنت إليه مشوقة لاهفة.
وفيما أنا مسترسلة مع ذلك الحلم اللذيذ الساحر، إذ سمعت صوتا يقول: لا تتحركي ... فإذا لهذا الصوت رنة صوت العابد القانت لا أحسب امرأة تحلم بمثله من حبيب جليل الحب مكتمل الولاء.
وكنت أعلم أنه ينبغي لي أن أرد الغلام عما هو آخذ فيه، ولكني لم أكن في ماضي الحياة قد سمعت من فم رجل من أهل الدنيا صوتا حلوا عذب الأغاريد! ...
ووقف الغلام يتأمل شعري الفاحم المرسل حولي، وينظر مليا إلى ثوبي المهفهف الشفاف لا يكاد يستر بدني.
قال: أتأذنين لي أن أجيء وأكثر المجيء؟ ...
قلت: بلا ريب ...
Halaman tidak diketahui
قال: شكرا شكرا ...
وانصرف مسرعا لا يلوي على شيء ... •••
وكذلك جعل يجيء بانتظام، وراحت صديقتي تحدثنا بأخباره، قالت: إن أباه شيخ كبير في بلد صغير بسواد الريف، وقد نشأ الغلام وحيدا من الخلان في كل بلدة، وأحسبه تعثر في علة فاستطالت العلة به عاما كاملا.
قلت: لا عجب إذا هو اليوم بدا ناحلا واهي البدن.
قالت: أظنه قد عوفي من زمان بعيد وابل، ولكنه في الحق غلام عجيب، بل دودة كتب، كثير القراءة، مكب على العلم. وإن كان أهله يقولون إنه يقرأ كتبا لا يخلق بمثله أن يتناولها ... حقا إنه لغلام حساس شفاف العاطفة.
قلت: إنه ينظم شعرا.
قالت: يا عجبا! أشاعر هو أيضا؟ ولم تكن صديقتي تعرف ذلك عنه. ولكنه في تلك الأصائل الثلاثة التي قضاها يتدرب على الأداة الكاتبة عندنا لم يصنع شيئا سوى كتابة القصائد، وكانت القصائد تكتب لي، فقد جعل يجيء إلي بها في خجلة وحياء، فكنا نجلس على المتكأ معا ويروح هو ينشدنيها بنفسه، وكان مجلسنا أبدا هادئا في خلوة رقيقة على نسائم الأصيل إبان الربيع، ولم أكن أجد رغبا في الخروج من البيت، ولا أرتقب زائرا يزور، ولم يكن علي عمل أؤديه حتى تحين الخامسة فأنهض لتهيئة العشاء لزوجي قبل رجعته، ورحت أجد مسرة النفس في الخلوة إليه، والاستماع إلى شعره وقصيده الحافل بوصف الجمال وشكاة الحب، ووقف عند بيت يصف فيه لمسة يد المليكة الفاتنة فألقى يده على يدي ولم أكن طيلة الحياة بالإنسانة المجنونة العاطفة، الخلابة الهوى، فأردت أن أظل على خلقي هذا وعهدي، فاجتذبت يدي في رفق منه، فتركها غير ملحاح في إمساكته، ولكنه ظل يرنو إلى يدي بين فترة وأخرى، فعل الطفل الحزين السليب من شيء حلو كان يطلبه فحيل دونه.
والتهب خدي في ذلك المساء عندما غادرني غلامي الجميل، ووقفت أتطلع إلى وجهي في المرآة ... يالله من بريق عيني وسطع نظرتي.
في الحق ما شهدت لهما يوما ذلك البريق الساطع، ولا عجب إذ راح زوجي يقول عندما عاد في ذلك المساء: أنت تلوحين مشرقة الليلة يا طفلتي العجوز! أكنت في السينما؟
فابتسمت لنفسي ورحت أوازن بين مسرة رؤية مشاهد الصور المتحركة وبين خفة الفرح الذي أجده، فتضاءلت تلك المسرة في عيني وعفتها بجانب هذه الرعدة المسكرة التي تسري مني في أنحاء البدن.
Halaman tidak diketahui
وفي المرة التالية جلسنا نتحدث، فمضى هو يقص علي طرفا من حياته الموحشة القفر من الأنيس، ويتكلم في الحب ويقول إنه ليراه شيئا غامضا جليلا، ورائعا بديعا، ذا دب إلى النفس ما لبث أن غمرها من جميع نواحيها.
فابتسمت لوصفه ونبأته أنني بأحلام الحب عليمة.
فانفجر يقول لي: الله! لقد كنت أشعر بأنك ستدركين وتفهمين وأنت المرأة الأريبة الجميلة البديعة الساحرة.
فكدت أضحك وجعلت أقول لصواحبي ما بي، وأكاشفهن بما وجدت، ولكني كدت أبكي أيضا ويهجم الدمع في عيني، فقد نسيت أنني كنت بادي الرأي أحسبه غلاما مفتونا، وقد راقني أن أسمع أحاديثه عن الإعجاب بي وعن الجمال وعن الحب، وكان الغلام مفعم الفم بهذه الكلمات الكبار الجلائل، وفي كل مرة راح يقولها كنت أدرك من نظرات عينيه أنني أنا عنده المعنية بها.
وجعل يتناول يدي في يده، ولست أدري كيف رحت أتركها له وأصبر لها طويلا في يده، وكان يمسك بها في شيء من سذاجة الطفولة، ثم لا يلبث أن ينظر نظرة الطفل المتغلب على دموعه إذا أنا حاولت أن أقطع عليه فيض أحاسيسه بمحاولة اجتذابها منه.
ولقد كان والله يتعبدها تعبدا، وكنت أنثني أضحك، وتهتز نفسي اهتزازا إذا انتهت خلوتنا، متخيلة أننا كنا في حلم، ومضى الحلم.
ولكني لم أنبئ زوجي بما جرى، فما كان بوسعي أن أقف فيض هذه اللذة الجديدة التي مضت عندي أشبه شيء بعقار مخدر أدمنت تعاطيه وهيهات أن أكف عنه.
ومضيت أحدث النفس قائلة: لا ضير من ذلك ولا بأس ما دمت امرأة فاضلة ولن أعدو حد الفضيلة، فليكن هذا إذن سري الدفين الجميل.
وفي الحق أي جذل رحت أجده في أن يكون لي عند نفس ساذجة حلوة حب بليغ وإعجاب عظيم ولا يعلم الناس بأمرنا، فلقد صغرني هذا الخاطر عشر سنين وردني مفراحا طروبا هانئة، وجعلني أبدو حسناء لأول مرة في الحياة! ...
وانثنيت أعمل بنصائح صديقتي فألبس المخمل والمهفهف والغلائل الشفافة وأطيل الوقوف للزينة أمام المرآة، فعل الفتاة في مقتبل أيام الشباب، حتى بدوت في عين هذا الفتى الناشئ أشبه شيء بالمليكات ...
Halaman tidak diketahui
وكان يقول وهو يتراجع خطوة ليتأملني وأنا خاطرة نحوه: يا مليكتي.
ثم يمضي فيجلس بجانبي جلسته الغريبة، نصفها طفولة ونصفها عبادة، وأحيانا يضع رأسه في راحتي أو يسند جبينه إلى كفي وينشئ يحدثني بكل ما يجول في نفسه ويجري في خاطره وأنا سكرى بنشوة الحب.
قال يوما في توسل ورجاء: دعيني أنادك باسمك فحسب.
فضحكت من فرط السرور بأن في الدنيا مخلوقا لا يزال يريد أن يناديني نداء الفتى للفتاة.
فتناول يدي في رفق وتهيب العابد الخاشع وغمغم يقول: يا غادة الجمال!
وطبع قبلة على يدي، ومضى.
وكانت أناملي لا تزال راعشة، يتدفق الدم خلالها حارا ملتهبا عندما ذهبت لأهيئ لزوجي طعام العشاء، ولكني لم أشأ أن أسترسل مع نزق الحب، وإنما قلت لنفسي لا بأس من قليل من لذة بريئة عفة كتلك في جو حياة صامتة خرساء في ظل زوج لا يعرف ما الحب.
وما خطر لي أن أنظر إلى هذه العلاقة الجديدة من ناحية الغلام، أو أتدبر ماذا يكون منه إذا منعته بعد أن شجعته.
وكان الغلام متلاشيا في حبه لي، وأثار هذا الخاطر في نفسي زهوا وأولد خيلاء، عرفانا مني بأنني رحت عنده شغله الشاغل ليل نهار، وأنني مانعته الاسترسال معي ورادته عن التمادي، وأنا على ذلك جد قديرة. وكانت تلك ولا ريب قسوة، ولا تحتاج المرأة في سني إلى شيء من البراعة تحشده للتسلط على فؤاد غلام.
وجاء يوما يتوسل، قال: البسي القميص الوردي اليوم فأنت فيه أجمل وأبهى.
Halaman tidak diketahui
ففعلت وجئت به بادية!
قال: دعي فروعك مرسلة، يالله من شعر المرأة! إنه والله السحر المبين!
فجلست فوق المتكأ وجدائلي نائمة حولي، والغلام جاثم عند قدمي.
وراح يتناول شعري فرعا فرعا فيقبله عشرا ويتمسح به عشرا، ورفع وجهه إلى وجهي.
قلت: حذار!
قال: ألا تسمحين لي بقبلة من خدك أيتها الفاتنة، إنني على القبلة في لهف.
فألقيت يدي على كتفه في رفق أمنعه.
قال: أتمنعيني القبلة وأنا ...
فأدركت إذ ذاك أن إعلان الحب قد وقف على شفتيه ... فهل تراني مانعته عن المضي في حبه؟
نعم، ذلك ما خطر لي في تلك اللحظة، فلم أحفل بألم الغلام من ذلك، ولا بفجيعة نفسه.
Halaman tidak diketahui
قلت: سكوتا! لا ينبغي لك أن تتكلم.
فجعل يرعش ألما وهو يقول: أنا نازل على ما تشائين! أفطاردتي أنت من رحمتك؟
وكنت أعلم أن ذلك كان أكبر واجبي، فقد هتفت بي الحكمة وناداني الضمير أن افعلي ولا تترددي، ولكني كنت مثله راعشة راعدة أخشى أن أفقده فتذهب عني فرحة الإحساس بحبه لي وإعجابه بي.
وعاد يقول وهو يقبل ذوائبي: أنت لا تريدين مني أن أذهب؟
قلت: كلا! ولكن اكفف عن هذا.
قال: لتكن مشيئتك، فهل تبيحين لي جدائل شعرك أغمرها قبلا؟
قال: إنني على القبلة في لهف!
قلت: نعم، لك هذا فحسب.
وكنت لا أزال راعشة النفس عندما ذهب ، فقد كدت أواقع المحظور، وأخترق السياج.
وظل يجيء تباعا، وفي كل يوم نتمادى قليلا، ففي المجلس تظل يدي أبدا في يده، وكان أكثر مجلسه يهوي عليها تقبيلا، ثم يعمد إلى جدائلي فيقبلها، وإلى ثوبي وإلى ذراعي العاريتين فيلثم ما شاء أن يلثم.
Halaman tidak diketahui
وتفاهمنا على الحب بيننا وإن لم نتصارح به، ولم يكن أحد في المدينة يعلم بأمرنا.
وكان لصديقتي أربعة أولاد كبار، وما كانت تتصور أن غلاما في مثل سن أكبر أبنائها، يمكن أن يحب صديقتها التي في سنها.
وكنت من ناحيتي لا أفتأ أقول لها: إن الغلام يدأب على العمل ويكد له، ولم أعد أدعو الصديقات إلى بيتنا، واعتذرت لهن بأنني آخذ دروسا في فن التطريز، وأنني أخرج من البيت في كل أصيل لذلك الدرس.
أما زوجي فقد راح يقول في ذات عشاء: أحسب ذلك الغلام «معجبا» بك مفتونا.
ومضى يضحك فاكها.
ذلك إذن هو رأي زوجي في الأمر ومعتقده، إنني إذن في مأمن من كل فضيحة أو خطر.
وعشت أيامي تلك في فرحة غاشية، أقضي ساعات الفراغ في إعداد ثياب جديدة للظهور بها على الغلام إذا قدم، وكان يجيء وأنا أحيك الثوب الطريف فيتناوله فيقبل الكمين والصدر والنحر ويقول: أنا بتقبيل الثوب جد قانع.
ولكنه في مرة ما قبل جبيني، وفي مرة أخرى قبل ما بين عيني.
لقد عشت في سكرة مقيمة لا أفيق منها وقد غادرتني سن الأربعين، فعدت شابة حارة الشباب، أعيش في قصة من أقاصيص السحرة، غير آبهة بأن هناك غلاما يدفع ثمن ذلك من نجيع دمه وحشاشته ... •••
وانتبهت من سكرتي على حين غرة، وصحوت من أحلامي على صدمة عنيفة. إذ وجدت الناس قد أخذوا يتحدثون فيما بينهم عن علاقتي بالغلام وأمري معه، ورأيت نظرة غريبة متهمة في عين صاحبتي، وسمعت خلسة غلاما يقول لصديق له وأنا أمر بهما: نعم، هذه هي السيدة التي يصعد ذلك الفتى المعهود إليها في كل أصيل.
Halaman tidak diketahui
لقد مسحت هذه المخاوف عن فؤادي هناءته، فقد كان حلم الحب بديعا لذا ساحرا، ولكني لم أشأ أن أشتريه بسمعة المرأة المتزوجة، وأحسب أنني لم أكن في الحق أحب الغلام لذات نفسه كحبي لذلك الإعجاب الغريب منه بي، فلما رأيت لذة الإعجاب قد جعلت تختلط بألم الضمير، أهابت بي نفسي أن امسكي.
وقد قامت القطيعة بيننا في ذات يوم كان فيه الغلام جذلان متوثبا.
قلت: دع شعري لا تجذبه.
قال: لا تغضبي فإنني مهاجمك بحب القبل.
فتولاني الرعب، إذ أدركت أنه قد تمادى فما أستطيع له ردا.
قلت: لقد كان الذي بيننا حماقة الحمقى.
قال: حماقة؟ يا عجبا!
وتراءت في عينيه نظرة مشدوهة كمن هو موشك أن تغشاه الغاشية وشعرت بأن موعد قدوم زوجي قد قرب فخفت واضطربت.
قلت: عد إلى بيتك.
فراحت آماله وحنينه ومخاوفه ولهفاته تجتمع كلها على صفحة وجهه، ولكني لم أرع لها ولم أحفل ...
Halaman tidak diketahui