والسؤال متواتر ولكنه عجيب؛ لأن الكمال المطلق صفة الخالق وليس صفة المخلوقات، وكل مخلوق محدود، وكل محدود فلا بد فيه من نقص يحس على صورة من الصور: صورة قبح أو صورة شر أو صورة عذاب.
ولو جاز أن يخلق الله إلها آخر لوجب أن يكون هذا الإله محدودا وأن يكون حده نقصا على صورة من تلك الصور أو على صورة غيرها لا نعرفها.
ونحن لا نعالج أن نحل المشكلة كما يحلها القائلون بأن الألم والشر والرذيلة أوهام زائلة ليست لها حقيقة باقية، فإن كانت أوهاما فهذا لا يحل المشكلة ولا يصرفها؛ إذ لا شك أن وهم السرور أطيب من وهم الألم، وأن وهم الخير أفضل من وهم الشر، وأن وهم الفضيلة أكرم من وهم الرذيلة.
ولكننا نرى أن المشكلة كلها مشكلة اقتراح بعد التسليم بوجوب النقص في المخلوقات، وأن المراد بالاقتراح أن يكون النقص مرضيا للناقصين، أو أن يكون خلوا من الألم والعذاب.
إلا أن اقتراح الإنسان على الكون كاقتراح كل جزء صغير على مجموعه الكبير، ولا فرق بينه وبين اقتراح الحجر الذي يريد أن يدخل الجدار في الوسط أو في الزاوية، وكاملا أو مكسورا من بعض الأطراف دون الأطراف الأخرى، وعاليا على المشارف أو مدفونا في جوف الأساس.
ومن لنا أن النقص الذي لا يرضينا هو أقرب إلى الكمال من النقص الذي نرضاه؟ أليس حافز الألم هو وسيلة الشوق إلى الكمال والتفرقة بينه وبين النقص في شعور الضمير؟
بل الواقع أننا نرى هذه الآلام وسيلة الارتقاء بتنازع الأحياء، وأنها وسيلة التهذيب والازدياد في نمو فضائل الإنسان، ولو أننا سألنا رجلا ناضجا أن يسقط من حياته آثار آلامه أو آثار مسراته لتردد كثيرا بين الآلام والمسرات، ولعله في النهاية يسقط آثار المسرات ولا يسقط آثار الآلام.
ونحن نحكم على غايات الأبد بتجارب العمر القصير، فلا فرق في ذلك بيننا وبين من يحكم على الرواية المعروضة أمامه بكلمة في خطاب أو كلمة في جواب، ثم يحكم على التأليف والمؤلف كأنه شهد جميع الفصول وقابل بينها وبين شتى الفصول والروايات.
والأمر كما أسلفنا في هذا الكتاب فرض من ثلاثة فروض: فإما إله قادر على كل شيء ولا يخلق شيئا، وإما إله يخلق إلها مثله في جميع صفات الكمال، وإما إله يخلق كونا محدودا يلم به النقص الذي يلم بكل محدود.
وهذا هو الفرض الوحيد المعقول، وإذا اقترح مقترح أن يكون النقص على صورة لا نحسها فليس اقتراحه هذا بمقبول عند جميع العقول الآدمية فضلا عن العقل الإلهي المحيط بما كان وما يكون؛ لأن الإحساس بالنقص أقرب إلى الكمال عند الكثيرين من نقص لا نحسه ولا يفرق في شعورنا بين الحسن الشهي وما هو أحسن منه وأشهى.
Halaman tidak diketahui