ولم أكن في حاجة إلى فحص كثير لكي أدرك أن الرجل الواقف أمامي تنطبق عليه كما تقول اللائحة، أحكام المادة كذا من قانون الأمراض العقلية.
ولكن كان لا بد من بضعة أسئلة أخرى تعذبني وأنا ألقيها وأسمع الإجابة عنها؛ فالإنسان منا إذا وقع نظره على عين أعور أو أعمى أو ساق مبتورة اقشعر وأحس بألم ممزوج بالخجل، وكف عن النظر، فما بالك حين يحادث الإنسان شخصا ذا عاهات متعددة ليس باستطاعته أن يرى أو يسمع أو يفكر، وإذا كان من المؤلم أن تقول للمشلول اجر، فمن المؤلم أكثر أن تسأل فاقد العقل وتطلب منه أن يجيبك ويفكر، ومع هذا كان لا بد أن أسأله، فقلت له كالعادة: عارف النهاردة إيه؟
وبنفس الهمهمة المستمرة التي لا تنقطع مضى يقول: شافوني داخل مسكوا في خناقي، النهاردة أول الشهر وبقى لهم ثلاثة أشهر ما دفعوش الإيجار، والمحضر ساكن في البيت والثلاث عمارات يتباعوا والبيع لازم يحصل النهاردة.
وهززت رأسي لا أدري ما أقوله، والرجل ذو الطربوش المزعزع فوق رأسه واللحم الجاف الشاحب الظاهر من خرقه يتحدث عن العمارات وبيعها، وقريبه واقف ينظر بمرارة وقلق وتحت إبطه لفة لا بد فيها طعام رفض المريض أكله، ووراء وجودهما أمامي لا بد قصة؛ قصة طويلة حافلة؛ فأن يجن واحد في العائلة مأساة، وإذا كانت العائلة فقيرة فالمأساة أفظع؛ إذ لا بد قبل أن تعترف السلطات بصحة الخلل الذي طرأ على قوى الشخص العقلية، أن يرتكب حادثة أو أكثر، ويحاول قتل نفسه على الأقل مرة، ويصبح وجوده «خطرا على أرواح الأهالي وممتلكاتهم». بعد هذا وليس بأي حال قبله، يصبح في استطاعة أهله أن يقدموا بلاغا إلى القسم والقسم يتحرى، وبعد أن يتم التحري يرسل عسكري، ويعود الأهل إذا كانوا محظوظين آخر النهار إلى الحارة أو الزقاق ومعهم عسكري، ويؤخذ المريض إلى القسم عنوة ويضرب زفة. وهناك يفتح محضر وسين وجيم، ثم يرسل المريض بخطاب وفضيحة إلى مفتش الصحة. وإذا كان حظ المريض من نار ظهر الخلل واضحا أمام مفتش الصحة، فإذا اقتنع بمرضه أحاله إلى القسم مرة أخرى، وإلى أن تأتي عربة المستشفى يوضع المريض في السجن على انفراد، ومكتفا لا يستطيع حراكا، ولا تأتي العربة في العادة إلا بعد يوم أو يومين أو إذا آن الأوان، وإذا جاءت ظلت ترفعه وتهبده، والتومرجية في المستشفى يرفعونه ويهبدونه، حتى تصعد البقية الباقية من عقله إلى بارئها.
لا بد أن يحدث كل هذا قبل أن يصبح من حق المريض بعقله أن يستلقي فوق سرير المستشفى الكالح.
ولا بد أن كل هذا قد جرى ويجري لمحمد شحاتة علي الواقف يتحدث أمامي حديث خالي البال عن العمارات وأصحابها.
وإذا كان الفقر في حد ذاته يهد كرامة الإنسان وآدميته، فما بالك إذا جن الفقير؟
قلت له لأسهل الأمر عليه: لأ يا عم محمد النهاردة الأربع، ويبقى بكرة إيه؟
ودون أن يغير طريقته قال: إن شاء الله بكرة السبت، بكرة سوق السبت أبيعهم في السوق بالمزاد العلني، واللي ما يشتري يتفرج، والفرجة بقرش واللي حاضر.
وكنت أعتقد قبلا أن الجنون حالة كالموت يتساوى فيها الناس إذا فقدوا عقولهم، ويصبح كل مجنون نسخة من الآخر، وإذا بي أجد أن الأمر غير هذا بالمرة؛ فهم ليسوا قطيعا واحدا من فاقدي العقول؛ كل منهم كائن مستقل بذاته وقصته ومسلكه الغريب الخاص به، حتى الكلام لكل طريقته المعينة التي لا يحيد عنها، والدائرة التي يدور حولها كلامه لها نصف قطرها الخاص به، والذي قد يكون عمارة، وقد يكون عصابة، وقد يكون غضبه من أهل أو حبيب.
Halaman tidak diketahui