ونظرت إليه.
السحنة واحدة لا تكاد تتغير؛ سحنة ضامرة وأشداق مشفوطة وذقن لا بد نابتة وشعرها نام بجنون هو الآخر، تكاد الشعرة تلتوي عند نهايتها وتنقض على جارتها وتعضها، وملابس مهما اختلف لولها مهرأة وممزقة ومربوطة أحيانا بحبال.
لم يكن أكثر ولا أقل من مجرد مجنون فقير آخر.
وكل من كنت أراهم كانوا مجانين فقراء. وكم هو عسير على النفس أن ترى غيرك مجنونا، أن ترى الإنسان ذلك الكائن الحي الذكي الذي تشير له فيفهمك، وتقول النكتة فيضحك، وتصادقه فيحبك، ويؤمن فيضحي بحياته في سبيل إيمانه، وتريه الشيء فيتعلم؛ أن ترى ذلك الإنسان وقد تحول إلى كتلة بشعة من اللحم والملابس الممزقة والتصرفات الشاذة والصرخات، كتلة لا تعي ولا تحس ولا تستجيب ولا تملك حتى أن تسقي نفسها الماء!
كان العسكري الذي يصاحبه قد وقف على يمينه، وقريبه الذي جاء معه بجانبه وعلى يساره، والمجنون بينهما قصير أقصر منهما، وشعره أسود وأكرت ومهوش، والمجنون وملامحه شائخة، ولكن ليس في رأسه شعرة بيضاء واحدة. وكان حافيا ومع هذا يرتدي طربوشا قديما لا زر له ولا هيكل.
ومنذ أن دخل ووقف لم يغير وضعه أبدا؛ فيداه مضمومتان أمامه إحداهما قابضة على الأخرى تكاد تخنقها، ورأسه ينظر إلى الأرض بزاوية، وعيناه مصوبتان إلى قدميه، وكان باديا أنه لا يرى حتى قدميه، وإنما يخترق ببصره الأرض الواقف عليها وما وراء الأرض، ويهيم في شيء بعيد مجهول. وكذلك لم يتوقف عن الكلام، وكان يبدو أنه لا ينوي التوقف أبدا، وصوته يخرج لا حماس فيه ولا حرارة، ولا يرفعه ولا يخفضه مهما تغير ما يقول كأنه شريط مسجل لا يتوقف دورانه، وإذا سئل لا ينتظر ليعرف السؤال، ولكنه يواصل كلامه، ويخرج عن الموضوع الذي يتكلم فيه قليلا ليجيب، ثم يعود بسرعة إلى شريطه المسجل الذي لا يتوقف، وحين عدت أستمع إليه كان يقول: يمضوني على عقد البيع أونطة؟ كنت اتهبلت أنا عشان أبيع تلات عمارات بتلاتة صاغ ونص فرنك شركة؟ أطلب منهم الأجرة يضربوني ويدوني نكلة، والبواب عايز ألف جنيه في الشهر، وشركة الميه ليها عداد.
مرة أخرى حديث عن العمارات والثروات الموهومة التي كون الناس أجمعين عصابات لاغتصابها.
وأعدت السؤال: بتقول اسمك إيه؟
ومرة أخرى سكت، ونظر إلي نظرة لامعة فيها بريق مخيف، ثم عاد يكمل حديثه ذا النغمة الواحدة، وكأنما كان سكوته خللا أصاب الشريط للحظة ثم عاد إلى الدوران.
وكانت نظرات الجنون في عيون المرضى تخيفني أول الأمر؛ إذ فيها ذلك الوميض المفاجئ المريع، وكأن عقولهم تحترق داخل رءوسهم، وعيونهم تنفث شرر الحريق. نظرات تجعل الإنسان يخاف من الجنون. ونادرا ما يخاف الإنسان من إنسان، ولكن نظرة واحدة من تلك النظرات كفيلة بأن تجعله يخاف. وأفظع خوف هو خوف الإنسان من الإنسان. وأول الأمر أعاملهم مثل غيري من الناس باحتراس الخائف؛ ولهذا كانوا دائما يرتكبون حماقات، فيحاول أحدهم أن يعضني مثلا، أو يبصق على وجوه الواقفين حوله، أو تنتابه لوثة ويهم بإلقاء نفسه من الشرفة. وكان هذا يزيد من احتراسي وخوفي؛ فقد كنت أحس على الدوام أني أمام آلة خطرة لا ضابط لها ولا رابط، كالبندقية المعبأة التي قد تنطلق من نفسها في أية لحظة وتقتل، وبمضي الوقت رأيت منهم مئات، وبمضي الوقت ألفت تلك النظرات، والألفة تزيل الخوف، وحارس الأسد لا يخاف من الأسد. وهكذا فقدت حيطتي وأصبحت أعاملهم وكأني لا أعامل مجانين؛ فأفك عنهم القيود، وأعطي الواحد سيجارة، وأدعه يشعلها بنفسه ويدخنها، ولا أضحك من غرابة ما يقول، وأعجب شيء أنه ما من أحد منهم عاملته بألفة وحاول إيذائي. وأيقنت آخر الأمر أن النظرات النارية التي يطلقها المجنون من عينيه وتخيف ليست في الحقيقة سوى نظرات خائف، نظرات رعب من العالم والناس يبلغ حد الجنون. إنه يؤذي غيره لخوفه من أن يؤذيه غيره، ويتوحش لاعتقاده أن الناس قد تحولوا إلى وحوش. والواقع أننا كثيرا ما نتحول إلى وحوش. إننا إذا رأينا شذوذا في تصرفات إنسان لا نغفر له، ونعامله بقسوة، وكأنا نعاقبه على شذوذه؛ وبهذا تصبح تصرفاتنا شاذة في نظره، ويزيد حينئذ شذوذه. وقد يكون الأمر في مبدئه حبة فنصنع منها قبة. ويكون التصرف الشاذ بسيطا فنقلبه إلى جنون مطبق، ونصف المجانين مجانين لأنهم مرضى، والنصف الآخر لأننا أرغمناهم على الجنون.
Halaman tidak diketahui