Kesedihan Pemain Biola
أحزان عازف الكمان
Genre-genre
ها أنا ذا أهيم في الشوارع وأضيع فوق الجسور وأضل الليل بطوله بحثا عن المعنى وصراخا في وجه اللامعنى الوقح الجبار، لكن ماذا يفيدني هذا أو يفيدك؟ ودمي يتسرب في دهاليز اليأس كما يتسرب دمك من كل فتحاتك وأحاول أن أوقفه مع بقية الطيبين. آه يا سندي في الكهولة والشيخوخة،
ولحظة بعد لحظة وتتحول في يد البؤس والحاجة إلى أفعى مسمومة تلتهمك يا وحيدي وتلتهمني؟ هل يجدي الآن أن أهتف معك أيها الطيب العميق الإيمان وأدعو إلهك الذي لم أتوجه إليه أبدا بالدعاء: ساعدني يا ربي؟ استجب لوحيدي إن كنت ترفض أن تستجيب لي، ارحمه يا رحمن يا رحيم من المرض الملعون، وعاقبني إذا أرادت مشيئتك أشد عقاب.
6
في الخامسة من مساء الجمعة، يجلس في مقعده بجوف الحوت الحديدي العملاق الذي يشق كالحربة الخرافية جبال السحب المتراكمة كأمواج الزبد على ارتفاع يزيد على العشرين ألف متر أو كيلو متر لا يدري، فقد أعلنت المذيعة الرقم من داخل غرفة القيادة، بينما كان رأسه يميل على صدره للإغفاء لحظات، وصحا على لكزة خفيفة من جاره السمين المتشح الرأس بالغطرة والعقال ليجيب على سؤال المضيفة الآسيوية الوديعة الوجه والعيون والابتسامة عن نوع العشاء الذي يحبه. أجابها بالإنجليزية باختصار وتناول من يدها كوب الليمون وهو يكرر الشكر والاعتذار. ثم مال رأسه على صدره بعد أن شرب العصير ليحمي عينيه المحمرتين من المشاهد المضحكة المبكية على شاشة التلفاز ويحمي رأسه الثقيل من مطارق الثرثرة مع الجيران. أخذت صورة الراقد على فراش المرض الملعون تتركب في رأسه وتجمع خطوطها وظلالها وألوانها الداكنة وتكلمه أيضا وهو يهبط بين اليقظة والنوم إلى عالمه السفلي: أكلمك يا أبي فاسمعني وإن عجزت عن النطق بعبارة واحدة ، ومن غيرك يفهم لغة الوجه المصفر الشاحب والعيون التي انطفأ فيها سراج الأمل الذي كان يتوهج بالوعود قبل أيام معدودة؟ من غيرك يلمس أيضا جرح القلب وعثرة الساقين والقدمين على أول خطوات الطريق؟ آه يا أبي، يا أبي الحبيب. أتعلم الآن أنك أقرب إلي مما كنت في أي يوم مضى من حياتنا البائسة التي كانت مستورة ثم كشفت يد مجهولة عن وجهها التعس وحجبت عنه إلى الأبد نور الشمس والأمل المؤجل في شيء من الراحة والأمان؟ في كل يوم أراك فوق فراشي ولا أنخدع بابتسامتك التي تمر على وجهي وصدري وشعر رأسي وهي ترتعش من الخوف والخجل والذل والهوان، وما زلت تحمل معك أكياس الدم وتخفي عني الحقيقة التي لم تغب عني لحظة واحدة. هل شعرت أنني أشفق عليك أكثر مما أشفق على نفسي؟ وما قيمة حياتي أو موتي وأنا أرى شجرتك العجوز المصفرة الأوراق تطقطق في الريح ويتماسك في داخلها الخواء أمام ضربات المطر والسوس والظلام المطبق الذي يتردد فيه عواء كلاب الموت المتوثبة؟ أعرف ما تتعرض له كل يوم وكل ساعة. أتساءل عن قيمة بقائي أو ذهابي مع ما تلقاه من جحود الأصدقاء وتنكر الأقرباء وانغلاق الأبواب وقلة الحيلة. أود أن أقول وأنا ألمح أمارات الذل والقنوط على ملامحك: الحالة ميئوس منها يا أبي. أنا وأنت ونحن وهم. أليس هذا هو الحصاد الحتمي للزمن الرديء؟ لقد عشت تتحدى كل الأخطار وتواجه كل الذئاب والكلاب المسعورة. حتى النسور التي تنهش كبدك كل يوم كما حدثتني عن ذلك البطل الأسطوري الذي نسيت اسمه، لكن أسراب النسور التي انهالت عليك كانت أبشع من كل ما قدرت، وحتى التحدي الذي جربته مني وتحملته لم يكن أقل قسوة عليك. كنا نتصادم ونتلاطم ويرتطم كل منا بالآخر ثم لا نلبث أن نتصالح ونتلاقى في منتصف الطريق. أؤدي الصلوات في أوقاتها وأزدري السياسة وأسخر من ساس يسوس لأتوج العلم على رأس الزمن القادم فتبتسم في النهاية وتقول: المهم يا ولدي هو أن تؤمن بصدق وبعمق ، حتى الإيمان بالخرافات والأحلام وبما كان يبدو كالأوهام قد ولد العجائب والمعجزات، آمن بما تشاء، ولكن آمن، وآمنت بالله وبالعلم وجعلتهما سيدي مصيري وقائدي عربتي الضعيفة المرتعشة الأطراف. تابعت معي طريق الأمل وأعنتني على عبور حفره المفاجئة، وشجعتني حين حكيت عن زاد العمر الذي أعطتنيه حبيبة القلب وزميلة الدراسة، لم تخف تذمرك واستنكارك عندما عرفت أنها ابنة برجوازي ورجعي عريق، وطمأنتك أن قنديل حبها الساطع كسف شموع ظنوني وهواجسي، بل إن أباها الذي عرفتني به قد ذكرك باحترام شديد وأبدى رغبته في لقاء لم يتم ولم يكن غضبك لكرامتك ليسمح بأن يتم أبدا، لكنك لم تقف عقبة في الطريق، وكررت علي خطبتك المعتادة عن الحرية والكرامة والضمير واحترام النفس وسائر الكلمات التي داست عليها أقدام العصر الغليظة. آه يا أبي، وهي تزورني كل يوم وتحاول أن تضع البكاوي في يدي أو تحت مخدتي فأصرخ في وجهها الحنون الذي أطفأ اليأس المتزايد أضواء مرآته الشفافة، وأنا الحائر بين أب يهيم على وجهه بحثا عن كيس واحد من الدم وبين الآلاف التي تقدمها لؤلؤة القلب فأفضل عليها الغرق في قاع القاع، وبينكما أتساءل كل يوم بل كل لحظة بينما يجثم فوق صدري الكابوس الزاحف على ذبالة العمر المرتجفة: متى يا رب أغرق في القاع؟ متى يا أرحم الراحمين ترتفع بالسيف ذراع الكابوس فتطيح برأس المهندس الموعود وتضع نهاية لشقاء الأب المنكود؟
7
حمد الله أن يدا طرقت باب كهفه بقوة فانتشلته من الموت الأصغر قبل أن ينتصف النهار ويفوت أوان التوقيع. نفض صوت زوجته النوم من عينيه وجلجل كأجراس الخطر في وديان ذاكرته الضعيفة: هيه. حمدا لله على السلامة، حذار أن ترجع للنوم ويفوتك ... - لا تخافي، سأذهب في الحال. - في الحال، وإلا خصموا اليوم من الراتب والمكافأة النهائية، لا تنس ... - ماذا أيضا؟ - قسط غرفة النوم يحل أول الشهر، وشهادات الأولاد، والقسط الأخير للسيارة، أنا نفسي كنت نسيت. - العدوى أصابتك مني، كيف حال الأولاد؟ - بخير بخير، المهم ترسل المبلغ في أول فرصة ممكنة، خذ بالك أيضا ... - إنني متزوج ولي أولاد وعلي مسئوليات. - نسيتني كالعادة، أردت أن أقول خذ بالك من نفسك. - حاضر حاضر، بوسي الأولاد حتى أراكم في أقرب وقت. - ولماذا المصاريف؟ هل نسيت أننا ... - ربك يقدم ما فيه الخير، مع السلامة، مع السلامة.
8
شرب كوب الشاي على عجل وأسرع إلى الكلية. سلم على الزملاء والطلاب الذين وجدهم في طريقه وفوجئ بالساعي البنجلاديشي القصير يجري نحوه ويأخذه بين أحضانه، ووقع عند السكرتير على دفتر الحضور وسأل كل من رآه عن الصحة والأحوال، وبينما كان يشرب القهوة التي حملها إليه الساعي الطيب القلب أخذ يستمع إلى مسلسل المهام التي تنتظره في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة: محاضرة الموسم الثقافي، الندوة التي سيرأسها والندوة التي سيعلق عليها عن أزمة المنهج في نفس الموسم، اللجان الخمس أو السبع التي سيخطره السكرتير بمواعيدها المحددة، ورقة العمل التي شارك بها في ندوة مجلة الكلية عن غياب بعد المستقبل عن الفكر العربي، ثم هناك التحضير المتواصل للمادتين الجديدتين اللتين كلف بهما في هذا الفصل الدراسي، تذكر العبيد المقيدين بالسلاسل في قاع السفينة المظلم في مسلسل الجذور الذي كان يحرص على متابعته وتساءل وهو يرتشف آخر جرعة من قهوته: ما المخرج من هذا الملل الأزلي؟ هل ثمة شيء أو شخص ينقذه منه وهو الذي لا يفتأ يحلم بالمنقذ والإنقاذ؟ ومتي تأتي لحظة التجلي وتكشف عن وجهها الذي احتجب خلف ستائر الأيام والأعمال وفر هاربا من ضجيج عجلة التعذيب العقيم؟
ودارت عجلة التعذيب وهو لا يملك أن يدافع عن نفسه، وأخذ يقاوم في صمت حتى لا يغوص في دوامة الرمال التي تسحب قدميه وتهدد بأن تغمر رأسه ببعض الأعمال الجانبية التي كان يكلف بها بين الحين والحين، وفكر أن يسارع بإرسال مبلغ لا بأس به إلى صديقه الجليل ولكنه تذكر أن الذاكرة قد خذلته كعادتها، وأنه نسي حتى أن يحصل منه على رقم الهاتف ورقم حسابه في البنك أو أن يتأكد من اسم الشارع الذي طالما سارت فيه قدماه بحكم الفطرة والشوق دون أن يخطر على باله أن يتحقق منه: هل هو شارع ابن حنبل أم ابن مالك أم ابن باجة أم ابن ... وابتسم حين طافت بذهنه صورة الحمار الأبيض النشيط الذي كان أبوه يرسله من الحقل أو من المحل إلى البيت فيجده واقفا أمام البوابة الكبيرة في ثقة وأمان.
غير أن هذه الابتسامة وأمثالها كانت تتوارى خجلا وراء وجهي الابن والأب اللذين لم يرهما أبدا، وصمم بينه وبين نفسه أن ينتظر أول الشهر ويستأذن في زيارة خاطفة ولو أدى الأمر ألا تزيد عن ثمان وأربعين ساعة لسبب طارئ لا يحتمل التأجيل.
Halaman tidak diketahui