Kesedihan Pemain Biola
أحزان عازف الكمان
Genre-genre
هامش ثالث وأخير:
بعد أجيال وأجيال جاء إلى جديس زائر غريب، وفي الطريق إلى دار الضيافة أدهشته مناظر العمارات الضخمة والأبراج السكنية العالية والطرق العريضة المسفلتة والأسواق والمحلات والمعارض المرصعة بأضواء النيون الساطعة. سأله موظف الاستقبال عن أوراقه فقدم له جواز سفره وهو يبتسم: أنا مؤرخ يجمع أخبار الأولين ويدون حكاياتهم. لقد أصبحت جديس الجديدة مدينة رائعة!
نظر إليه الموظف باستغراب وهتف : ألم تسمع بقرار مجلس الثورة بتسميتها مدينة الزرقاء؟! قال الغريب: حقا؟ وأين أجد المكان الذي رأت فيه الشجر يتحرك؟ هل يمكنني أن أصعد البرج الذي اكتشفت منه جيش ابن تبع؟ قدم له الموظف خريطة المدينة وفردها أمامه وهو يشير بإصبعه إلى سهم أسود في الطرف الأقصى منها: لقد أقيم فيه فندق سياحي خمسة نجوم! سأل الغريب: وهل بقيت آثار تدل عليها؟ قال الموظف: بالطبع، ولا يصح أن تفوتك زيارة متحف الزرقاء. ثم مال بجذعه ومد وجهه نحوه وهو يهمس في أذنه: يقول المختصون إنهم عثروا على خصلة من شعرها الذي أمر حسان بحلقه، وقطعة من ثوبها الذي مزقه جنوده، والحجر الذي انطبعت عليه آثار قدميها الحافيتين في الرمضاء، وفي المساء يمكنك أيضا أن تشاهد في حديقة دار الضيافة عرض الصوت والضوء ... إلى هذا الحد نهتم بالتراث! عاد الغريب يسأل: وطسم التي حكمها عملوق الظالم، هل توقفت غاراتها؟ قهقه الموظف ضاحكا حتى تندت عيناه: هناك أجهزة الإنذار المبكر؟
تجول الغريب في أرجاء المدينة ثلاثة أيام. رأى قصورها وقبورها، سمع نعيق غربانها وأنين عصافيرها، تملى طويلا في وجوه ذئابها ونمورها وقرودها وكلابها وجرادها وفيرانها، وبحث عبثا عن شاهد وحيد على الزرقاء، وعندما تطلع من نافذة القطار الذي أقله إلى مدينة أخرى بدا له كأنه يلمح وجه عمياء طويلة القامة محلولة الجدائل تجري مسرعة وتحاول أن تخترق غابات الإسمنت وتشق عباب الزحام وترفع صوتها ليطفو فوق هدير القطار وزعيق المكبرات: من يسمع استغاثة الزرقاء كلما تحرك الشجر؟! من يسمع استغاثة الزرقاء كلما تحرك الشجر؟!
1
تائهة على الصراط (1)
1
صامتة غائبة عن الوعي منذ أن داهمتها الجلطة فعطلت مراكز الكلام والفهم والاستجابة لما يدور حولها أو في داخلها. تجلس مستندة إلى ظهر السرير المعدني البني اللون، أو تتمدد على جنبها الأيمن أو الأيسر كتلة سوداء لا يميزها شيء عن البطانية والملاءة الكالحة في الحجرة المسدلة الستائر التي لا يزورها ضوء الشمس إلا لحظات في الصباح لتجديد الهواء أو نفض الأغطية، وعندما يفتح عليها الباب ليطل عليها زائر من الأهل أو الجيران، أو لتقدم لها ابنتها الأرملة الطعام، تظل على حالها نائمة على جنبها أو مستندة إلى ظهر السرير، وجهها متجه إلى الحائط، عيناها الصافيتان تائهتان زائغتان على الدوام، يداها الصغيرتان تتشابكان ثم تفترقان وتمران على الرقبة والصدر ثم إلى حجرها تتشابكان من جديد، وإذا توقف الزائر أمامها أو جلس قليلا على طرف سريرها فلا بد أن يتعجب من براءة الطفولة التي تكسو الوجه وتسبح في العينين رغم تجاوزها السبعين وربما الثمانين (فلا أحد يحتفظ لها بشهادة ميلاد أو تسنين أو بطاقة هوية ...) ولا بد أن يصدق ما يردده الجميع عن ارتداد الشيوخ إلى الطفولة، وأن يندهش من منظر طفلة عجوز لا تتحرك ولا تنطق ولا تهتم. حتى الصلاة التي كانت شاغلها الوحيد لم تعد تؤديها، والمسبحة الطويلة التي كانت لا تكف ليل نهار عن تلاوة الشهادتين عليها والدعاء لأمواتها وأموات المسلمين لم تعد تثير في يدها أي رغبة للإمساك بها فبقيت ملقاة أمامها كالهيكل العظمي المتحجر لحيوان بحري منقرض. لم يبق فيها إلا فم يزدرد الطعام الذي يقدم إليه في نهم حيواني، ولم يبق إلا جسد يتغذى ويتمثل الغذاء ويخرج الفضلات. وأحيانا تسأل ابنتها نفسها أو تسأل الضيف أو القريب الذي يتصادف زيارته لهما: هل يمكن أن يتحول الإنسان فجأة إلى شجرة ثابتة أو تمثال حجري أو حيوان أعجم توقف كل شيء فيه إلا الفم والمعدة والمسالك؟ وربما تضحك من شدة عجبها وتعبها في خدمتها وهي تقول: حكمتك يا رب! أنت الذي حكمت بهذا عليها وعلي. ثم تستدرك قائلة كأنها تبكي: أحيانا أسمع من حجرتها صوت أنين كمواء قطة عجوز تنادي على صغارها، وأكاد أميز صوت ندائها: يا ولدي، تعال يا ولدي ... وتضرب كفا بكف والألفاظ الخارجة من حنجرتها تتهدج وترتعش على حافة العتبة الصوتية التي يتداخل فيها الضحك مع البكاء مع صيحة تختلج بالغضب والسخرية: اللهم لا اعتراض، اللهم لا اعتراض.
2
في صباح ذلك اليوم الدافئ من ديسمبر المتقلب رن الجرس ثم تبعته خبطات خفيفة على شراعة الباب الخارجي للشقة الصغيرة. كانت الأرملة قد فرغت من طعام أمها وحمامها وانصرفت لإتمام زينتها وإعداد فطورها فلم تسمع شيئا حتى تتابعت اللمسات الحنون على الزجاج كطرقات أنامل طفل أو دقات منقار عصفورة وحفيف رجليها وجناحيها، وعندما فتحت الباب ندت عنها صيحة فرح لم تستطع أن تخفي نغمة الشكوى الحبيسة: خالي عبد الهادي، جئت في ميعادك يا حاج.
Halaman tidak diketahui