Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Genre-genre
اختير عرابي وزيرا للجهادية في وزارة البارودي، وجلس هذا الفلاح على الكرسي الذي كان يجلس عليه بالأمس القريب رفقي الشركسي، وكان صيت عرابي في البلاد قد بلغ غايته، وكان بيته كما أشرنا وكما ذكر بلنت مفزع المظلومين ومتجه المعجبين المؤمنين بحرية هذا الوطن ...
وكانت سياسة جمبتا قد صبغت بالصبغة الدينية عند المصريين، وقر في أذهان الناس أنه كان مدفوعا في سياسته بكراهيته للمسلمين، وخوفه أن ينهضوا وتقوى بينهم أواصر الإخاء فيكونوا بذلك حائلا بين فرنسا وبين أطماعها في الشرق، ويفسر بلنت نفسه مسلك جمبتا هذا التفسير، ويقول: إن من نتائج المذكرة أن بات الناس يتجهون نحو السلطان كمنقذ لهم، وأصبحوا ينظرون إلى عرابي أنه عضد السلطان في مصر والحصن الذي تحتمي فيه الآمال بعد أن يئسوا كل اليأس من توفيق ...
ويظهر أن عرابيا كان يميل من زمن إلى أن يجعل من خطته الاعتماد على السلطان، ولعل بلنت فهم ذلك من أحاديثه معه، نجد إشارة إلى ذلك في قول بلنت عن أثر المذكرة المشتركة «وجد المصريون أنفسهم لأول مرة مرتبطين كل الارتباط، فإن الشيخ محمد عبده ومن معه من المعتدلين من أنصار الإصلاح الأزهريين ألقوا بأنفسهم في زمرة الحزب الذي سبقهم بخطوات، وشعر الناس جميعا حتى الشراكسة شعور الاشمئزاز من التدخل الأجنبي، ومن ناحية أخرى فإن أشد الناس نفورا من الأتراك من عنصر القوميين ومنهم صديقي الأزهري الشيخ الهجرسي، أصبحوا يرون أن عرابيا كان على حق في اعتماده سرا على السلطان ... وبهذا كسب عرابي كسبا عظيما في ذهاب الصيت والتوقير، ولم أسمع لعدة أيام بعد ذلك من أصدقائي المصريين إلا الكلام عن الجامعة الإسلامية.»
وأنعم على عرابي برتبة الباشوية، وهو يقول إنه قبلها هذه المرة كارها، فلولا أن المنصب كان يقتضي قبولها ما قبلها، وأما عن قبوله المنصب، فما نظن أنه كان يستطيع أن يبقى بمعزل عن الوزارة، وقد صار له في سياسة البلاد هذا الشأن بعد حادث عابدين، وإنا لنعجب أشد العجب للذين يعيرون رجلا لقبوله منصبا من المناصب، ويتخذون ذلك القبول دليلا على أنه يبتغي الخير لنفسه فحسب، فهل كانت المناصب عند الناس جميعا وسيلة إلى إشباع المطامع وجلب المنافع؟ وأي شيء يجعل هذا الأزمة حتمية للمنصب؟ وأي شيء يمنع من أن تكون المناصب عند بعض الناس وسيلة لتحقيق غاية جليلة شريفة هي العمل للصالح العام؟ واي قرينة تمنع أن نسلك عرابيا في سلك هؤلاء الداعين إلى الخير العام ، الذين يتخذون من المنصب أداة لخدمة المجتمع؟ إن أبسط قواعد العدالة تضع المتهم على قدم المساواة مع البريء حتى تثبت إدانته، فأية إدانة يلصقها بعرابي أولئك الذين عابوا عليه دخول الوزارة؟
إنهم إذ يتهمونه بالسعي لصالحه هو لا يعدون بذلك حد التهمة، فله على أسوأ الفروض موضع البريء من العدالة حتى تثبت إدانته، وما أيسر أن تكال التهم لأي فرد من الناس في غير حساب، وما أصعب البينة على الذين يفترون الكذب وهم يعلمون ...
إن الذين يرون في الحكم مغنما لهم، إنما هم أولئك المفرطون في حقوق أوطانهم الموالون للدخلاء فيها، والمستضعفون من الرجال، والذين في قلوبهم مرض، والمغترون بأوهام الحياة والمالئون بطونهم كما تأكل الأنعام، أما أولو النخوة والعزة من الرجال فلن تلهيهم عن دوافع أنفسهم الحياة الدنيا وزينتها، ولن تطفئ الحمية في قلوبهم ما يحلي به الأغرار صدورهم من أوسمة، أو تزدهي نفوسهم الكبيرة الألقاب والرتب، أو يزيغ بريق الذهب أبصارهم عن الحق؛ لأن هذه جميعا عندهم مظاهر وهم يحتقرون كل مظهر إذ يطلبون الجوهر. ومن كان في هذه الدنيا كبيرا بنفسه فما به حاجة إلى أن يتكبر، ومن تكبر وهو بنفسه صغير، فلم يعد أن أضاف إلى حقارة نفسه ما هو أحقر.
ولو كان عرابي من ذوي الأطماع الشخصية لرأيناه يتنكب طريق الجهاد، ولرأينا الضعف يتسرب إلى نفسه فتفتر حميته وتبوخ وطنيته. وما ضعف عرابي وما استكان حتى مني بما مني به من محنة يوم التل الكبير لا بأيدي الآثمين الطامعين من الأجانب فحسب بل بأيدي الخوانين المارقين من بني الوطن، وظل حتى هزيمته الرجل الذي يخشى جانبه وتتقي غضبته. ولقد رأينا كيف أرسل إليه مالت يحاول أن يهدئ خاطره عقب المذكرة المشتركة، ولو أنه كان ممن يشترون بالمال لأمكن شراؤه كما اشتري بعد ذلك سلطان مثلا، الذي كان يتظاهر بأنه من أكبر أنصار الحركة القومية، ولكن عرابيا كان مؤمنا بجهاده مخلصا لقضيته؛ فارتضى أن يخوض غمار الموت، وأن ينفى بعد ذلك من الوطن، وأن يسلب جميع ما ملك.
ورفض عرابي أن يكون وليا لذوي الغايات والأطماع، جاء في مذكراته عن نوبار باشا قوله: «أرسل إلينا أحمد قبودان البكري من موظفي بوغاز الإسكندرية ليشكرنا على إنقاذ الوطن من ظلم الظالمين وجور المستبدين، ويعرض علينا أنه مستعد لأن يقود حركتنا الوطنية بصائب رأيه إذا دعوناه إلى رئاسة الحكومة واعتمدنا عليه وسلمنا أمورنا إليه، فعجبنا لذلك، وأجبناه بأن مبدأنا هو أن تكون مصر للمصريين، وللنزلاء عندنا حسن الضيافة ومزيد الإكرام. وإنا لا نجهل الأدوار التي لعبها نوبار باشا في مسألة تغيير قواعد فرمان الوراثة الخديوية، وفي مسألة تشكيل المجالس المختلطة في مصر، تلك المجالس التي صرف عليها 12 مليونا من الجنيهات من أموال المصريين المساكين على يده وبسعيه، وكان هو أكبر مساعد للمستبدين وله الحظ الأوفر من تلك الغنائم.»
ويذكر كذلك عن البارودي أمرا خطيرا قال: «وفي أوائل شهر يناير سنة 1881 خلوت بالمغفور له محمود باشا سامي ناظر الجهادية، فأطنب في الثناء علي لقيامي بنشر راية الحرية في مصر وملحقاتها من بعد مضي خمسة آلاف سنة على المصريين وهم يرسفون في قيود الاستبداد والاستبعاد، ثم أقسم أنه مستعد لأن يضحي حياته ويجود بآخر نقطة من دمه في تنفيذ رغبتي، ويجرد حسامه وينادي باسمي خديويا لمصر إذا رغبت في ذلك، فقلت له: مه يا محمود باشا فإني لا أريد إلا تحرير بلادي، ولا أرى سبيلا لنوالنا ذلك إلى بالمحافظة على الخديو كما صرحت بذلك مرارا وتكرارا، وليس لي مطمع أصلا في الاستئثار بالمنافع الشخصية، ولا أريد انتقال الأريكة الخديوية إلى عائلة أخرى لما في ذلك من الضرر.»
ولقد كان عرابي كبير النفس كبير الآمال، فكان المنصب عنده وسيلة من وسائل الجهاد، وبابا من أبوابه، فما يعيبه أن يقبل الحكم، وإنما يعيبه أن يعرض عن الحكم وبخاصة في مثل تلك الشدة التي ساق فيها الطامعون البلاد على غير إرادتها، والذي يعد قبول الحكم فيها تأهبا للذود عن ثورة الحق على الباطل ... •••
Halaman tidak diketahui