الإهداء
مقدمة
الصبي القروي
في صفوف الجيش
يقظة ونهوض
الجندي الثائر
الفلاح الزعيم
الوطنيون والعسكريون
دسائس ومخاوف
يوم عابدين
رجل أمة
توفيق والثورة
بين عرابي وبلنت
الثعالب وبنات آوى
غضبة جديدة
عرابي الوزير
وطنية لا نزق
أماني الصلح
مراوغة وتربص
إعنات وإحراج
بغي وعدوان
عرابي ملاذ البلاد
بين عرابي والسلطان
مأساة الإسكندرية
العدوان الفاجر
عرابي بطل الجهاد
نصرك الله يا عرابي
كفر الدوار
التل الكبير
أودت الخيانة بعرابي
بعد وترلو
توفيق يدخل العاصمة
ثواب وعقاب
البطل السجين
مهزلة المحاكمة
إلى المنفى
الحياة في سرنديب
العائد الذي نسي
غريب في الوطن
قضى الزعيم نحبه
الإهداء
مقدمة
الصبي القروي
في صفوف الجيش
يقظة ونهوض
الجندي الثائر
الفلاح الزعيم
الوطنيون والعسكريون
دسائس ومخاوف
يوم عابدين
رجل أمة
توفيق والثورة
بين عرابي وبلنت
الثعالب وبنات آوى
غضبة جديدة
عرابي الوزير
وطنية لا نزق
أماني الصلح
مراوغة وتربص
إعنات وإحراج
بغي وعدوان
عرابي ملاذ البلاد
بين عرابي والسلطان
مأساة الإسكندرية
العدوان الفاجر
عرابي بطل الجهاد
نصرك الله يا عرابي
كفر الدوار
التل الكبير
أودت الخيانة بعرابي
بعد وترلو
توفيق يدخل العاصمة
ثواب وعقاب
البطل السجين
مهزلة المحاكمة
إلى المنفى
الحياة في سرنديب
العائد الذي نسي
غريب في الوطن
قضى الزعيم نحبه
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
تأليف
محمود الخفيف
الإهداء
إلى الأشبال النواهض الميامين من شباب هذا الجيل، في وادينا المبارك، وفي الأقطار العربية الشقيقة أهدي سيرة هذا الزعيم المصري الفلاح، الذي جاهد في سبيل الحق ومات على دين الحق، والذي آن أن ينصفه التاريخ وأن يحدد له مكانه بين قواد حركتنا القومية.
محمود الخفيف
مقدمة
كان المصريون إلى عهد قريب يذكرون اسم عرابي فلا يبتعث هذا الاسم - وا أسفاه - في أذهانهم إلا صور العنف والنزق، وتراهم - وإن لم يقصدوا - يقرنون اسم عرابي بمعاني الهزيمة والاحتلال والمذلة، كأن هذه المعاني من مرادفاته.
وما أذكر مجلسا تطرق الحديث فيه إلى عرابي إلا وسرت في الوجوه كآبة، وتسابقت الألسن إلى الهزء به وتعديد مساوئه وإبراز مثالبه، اللهم إلا قلة لا يعجبهم هذا الكلام، ولكنهم لا يعرفون كيف يدفعون عنه هذا الظلم ...
وكنت أبدا أحد المخالفين الذين يحسون في قرارة أنفسهم أن الرجل مظلوم وأنه مفترى عليه، وكنت أسأل نفسي دائما: أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلا ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي فيما افتري عليه من سيئات، كذلك قل أن نجد في رجالنا رجلا كرهه أكثر بني قومه مضللين، واستنكروا أعماله جاهلين، بقدر ما كره هؤلاء عرابيا، واستنكروا ما فعل وما أسند إليه من الأعمال زورا وإفكا، وفي ذلك دليل قوي على أن التاريخ قد يظلم عامدا كما قد يخطئ غير عامد، وفيه كذلك دليل على أن الأمور كثيرا ما تجري فيه كما يشاء الحظ لا كما يكون العدل والقسطاس، فيكون نصيب بعض الرجال من التعظيم والتوقير بقدر ما يتوافى لهم من حظ لا ندري كيف اتفق لهم دون غيرهم، بينما يجني على كثير من ذوي النفوس الصحيحة والعظمة الصادقة ما يلحق بهم من سوء الطالع وما يحيط بهم من نحس الأيام ...
وما كان عرابي فيما أعتقد إلا طالب حق يلحق به في طلب الحق الخطأ والصواب كما يلحق بغيره، ولعلي استطعت أن أجلو ذلك في سيرته بقدر ما وصلت إليه من الأدلة في تلك السيرة التي بالغ كثير من ذوي الأغراض في تشويهها والحط من قدر صاحبها.
ومهما يكن من الأمر فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصا فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة نجم من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية من القضايا الوطنية الكبرى، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في ظرف هام من ظروف نهوضها علما على الجهاد ورمزا للمقاومة ومثلا للقومية حتى شاءت الأقدار فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها الفلاحين يذود عن أراضيها ويقف غير طامع ولا هازل في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها.
بهذه الروح كتبت عن عرابي، وعلى هذا الأساس بينت سيرته. فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم بل هو - فيما أرى - أصح المقاييس وأهمها. أما الصواب والخطأ وما إليهما فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء ...
وإني إذ كنت أكتب سيرة عرابي، كانت تقوم في ذهني المفتريات التي افتريت عليه، ولكن ذلك لم يضعف قط إحساسي بأنه كان شديد الإخلاص لقضيته، متوقد الحمية في وطنيته، شديد الأنفة في قوميته. وليس بضائره بعد ذلك ما يرميه به المبطلون أو المغرضون، ولو قد واتاه الحظ الأعمى كما واتى الآلاف غيره من الزعماء والقواد فانتصر في معركة التل الكبير، أو لو أنه لم يحط به من الخيانة في أصرح صورها وأقبحها ما أحاط به وأبلى في تلك المعركة بعض البلاء أو قتل في غمرتها لرأينا اليوم له التماثيل في عواصمنا، ولزخرت الكتب بالثناء عليه.
وعندي أنه من أكبر الظلم أن تنسى حسناته وهي لعمر الحق كثيرة ولا تذكر إلا أخطاؤه ما اقترفه وما افتري عليه منها، لتساق أدلة على ما يشاء بعض المؤرخين نعته به ...
ولقد كان هذا الظلم الذي لقيه الرجل على أيدي فريق من بني قومه هو حافزي للكتابة، فأخذت أنشر سيرته تباعا في مجلة الرسالة الغراء، وما إن رأى بعض أبنائه المقال الرابع حتى تفضلوا بزيارتي بدار المجلة معبرين لي عن شكرانهم، ثم وضعوا بين يدي مذكراته المخطوطة وبعض الكتب التي كانت ترد إليه في منفاه وغيرها من الوثائق والصور العظيمة القيمة، مما أثنى عليهم من أجله أعظم الثناء ...
ومما طبت له نفسا ما أفضى إلي به أحدهم ومؤداه أن والده رحمه الله تنبأ بأن الذي سيدافع عنه هو شاب من شباب الجيل القادم الذي لم يفسده الاحتلال ...
وما زادتني هذه النبوءة إلا اهتماما بدراسة سيرته لعلي أكون هذا الشاب الذي يحسن أن يدافع عن عرابي. ولقد كنت قبل هذا - كما ذكرت - أحس أنه مظلوم وأن أعداءه بالغوا في الكيد له والزراية عليه، وآلمني من هذا الظلم فضلا عما يلحق عرابيا منه أنه ينال كذلك من حركة مصر القومية على يديه، تلك الحركة الجليلة التي حاول المبطلون تشويهها. •••
وبعد فهذا كتابي أقدمه للقراء، فإن كنت وفقت إلى ما أحببت فحسبي جزاء على ما بذلت من جهد أني أنصفت مظلوما قضى نحبه ولم ينصفه أحد، وأني بسطت سيرة الحركة القومية ولعل في هذا البسط عبرة وذكرى لهذا الجيل الذي يتوثب ويتطلع إلى المجد، وإن كنت قصرت عما أردت فعذري أن هذا جهد ما استطعت، ولتكن هذه خطوة متواضعة يسرني أن أشهد بعدها خطوات يخطوها غيري من الكرام الكاتبين في سبيل هذا الوطن الذي نخلص له الحب والولاء.
وفقنا الله للعمل لمصر، وهيأ لمصر المكان المرجو من العزة والسؤدد والحرية.
محمود الخفيف
الصبي القروي
يجد كتاب التراجم الذين يتناولون سير العظماء، طائفة من الأنباء التي تجلو حياة هؤلاء إبان طفولتهم فيستعرضونها مستخرجين منها ما يعدونه من أمارات النجابة ومن بشائر النبوغ والتبريز، أو ما يرون أنه من الشواهد على قوة الشخصية وبعد الهمة ومضاء العزيمة وما إليها مما تقوم عليه العظمة.
ونحن إذ نتكلم عن أحمد عرابي تعوزنا المصادر التي يمكن أن نعلم منها الكثير عن سيرته وخلاله في طفولته، وقصارانا أن نقول إنه ولد في شهر مارس سنة 1841 في هرية رزنة، وهي قرية بالشرقية تقع غير بعيد من مدينة الزقازيق ...
ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيرا أو قليلا في قرية عنه في أخرى من هاتيك القرى التي نبتت منذ الأزل على ماء النيل.
نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يجري اسمه يوما ما على كل لسان في مصر، والذي صارت حياته فيما بعد فصلا من تاريخ وطنه، والذي تداولت اسمه ألسن الساسة في إنجلترا وفرنسا دهرا طويلا، والذي أجبر الخديو على النزول إليه حيث وقف على رأس الجيش يوم عابدين ليسمعه كلمة الأمة، والذي يحتل جهاده أبرز مكان في كل كتاب تناول ما تعارف المؤرخون على تسميته المسألة المصرية ...
ودرج الصبي القروي بين لداته في هرية رزنة عرضة للأوبئة المختلفة، يحيط به في قريته الجهل والفقر والمرض أينما اتجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده من ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقى العلم في مدرسة منظمة.
وكان أبوه محمد عرابي شيخ هرية رزنة، أو على الأصح أحد «مشايخها» على حد الاصطلاح الإداري، فكانت تقسم القرى في تلك الأيام أقساما يسمى الواحد منها «حصة»، ويعين على كل حصة شيخ يختار لبروز شخصيته إما بالثراء أو بالقوة أو بالاستنارة بشيء من التعليم أو بها جميعا، ولم تكن وظيفة العمدة على النحو القائم في القرى الآن قد عرفت بعد.
ويذكر عرابي عن أبيه في مذكراته
1
أنه كان «شيخا جليلا رئيسا على عشيرته عالما ورعا تقيا نقيا موصوفا بالعفة والأمانة»، ونراه عند ذكر نسبه يعدد آباءه حتى يصل إلى السيد صالح البلاسي، فيذكر أنه ينسب إلى بلاس، وهي كما يقول قرية صغيرة ببطائح العراق، كما يذكر أنه أول من هبط مصر من أجداده، وأنه تزوج بالسيدة صفية شقيقة السيد أحمد الرفاعي الصيادي، وما يزال عرابي يرتقي بنسبه إذ يذكر آباءه بعد البلاسي هذا حتى يصله بالإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي الزاهر زين العابدين بن الإمام الحسين (رضي الله عنه).
ويذكر عرابي كذلك فيما يذكره من أنباء والده قوله: «وكان قد أمر والدي بترتيب درس فقه في المسجد الذي جدده للعامة بعد عصر كل يوم وبعد صلاة العشاء فتفقه عامة أهل البلد في دينهم، وصحت عبادتهم، وحسن حالهم بفضل قيام المرحوم والدي على تعليم قومه وأهل بلده.»
وأدخله أبوه مكتب القرية وهو كما يقول من منشآته فيها، وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم، فحفظ شيئا من القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة ... •••
ويمكننا أن نتصور حال هذا الصبي في أول عهده بالتعليم قياسا على ما نعرف من حال أمثاله من أبناء المكاتب في كل قرية، وهي حال تكاد أن تكون في القرى جميعا واحدة، فلا فرق بين مكتب ومكتب إلا بقدر ما يكون من فرق بين قرية وقرية.
فهذا صبي في جلباب طويل من القطن أو التيل وفوق رأسه قلنسوة، يخطر بين صبية مثله إلى المكتب وتحت إبطه لوح من الصفيح وبيده محبرة فيها الأقلام الغاب خزانة، أو هي محبرة ذات «مقلمة» كما يقول أبناء المكتب. وهو لا يمتاز عن بقية الصبية في شيء إلا بما عسى أن يكون في قدميه من نعل؛ لأنه ابن شيخ البلد، وأكثرهم حفاة، وما يحضر في جيبه من فطائر يأكلها متى جاع، أو يدفعها إلى «الفقيه» على جوعه، في حين لا يوجد في جيوب لداته إلا الخبز اليابس ...
وفي المكتب يجلس الصبي على الأرض بين أقرانه، ولعل العريف يرفعه درجة فيجلسه على حصير أو على دكة من الخشب ثم يكتب له بعض كلمات في لوحه ليكتب مثلها، أو بعض أرقام الحساب ليقلد رسمها، فلا يضع لوحه إلا حين يتلو العريف على الصبية بعض سور القرآن الصغيرة جملة فجملة، فيرددون ما يتلو في نغمة مثل نغمته، ويردد الصبي كما يفعلون، ولكنه أفصح منهم لسانا وأسرع حفظا، فالفصاحة هي أول ما يظهر من صفات ذلك الصبي وبها يتحدث العريف إلى أبيه!
وتعهده صراف القرية كذلك ميخائيل غطاس فعلمه مبادئ الحساب، وكان تعلم الحساب يحدث عادة على يد هؤلاء الصيارفة، وبخاصة لأبناء المشايخ الذين يتصل بهم هؤلاء ويحرصون على مودتهم ورضائهم. •••
ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطا من التعليم في الأزهر، فقد أرسله أخوه الأكبر محمد عرابي إلى هناك عسى أن يكون عالما من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر إلا أربع سنوات تعلم فيها على طريقة الأزهر يومئذ شيئا من الفقه والتفسير والنحو، وحفظ الصبي القرآن بالضرورة كما يفعل من يلتحقون بهذا الجامع العتيد.
وعاد الصبي إلى قريته ولسنا نعلم ما الذي حمله على العودة، أكان ذلك نفورا من التعليم وركونا إلى البطالة، أم كان لرغبة منه في أن يسلك في الحياة سبيلا غير سبيل الأزهر؟ ذلك ما لا نستطيع أن نتبينه على وجه اليقين. وكان من الممكن أن يعيش هذا الصبي القروي بقية عمره في تلك القرية زارعا ثم يموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين.
ولكن الأقدار تخرجه بعد قليل من القرية ليغدو فيما بعد رجلا من رجال مصر، بل ليكون أول مصري فلاح ينطق بحق مصر وتتمثل في حركته الروح القومية لمصر وقد استيقظت من سبات طويل، وأخذت تنفض عنها غبار القرون، أجل أخرجت الأقدار هذا الفلاح من قريته ليقف وجها لوجه تلقاء خديو مصر يعلن إليه في بسالة وفي غير طيش أن «أهل مصر ليسوا عبيدا، وأنهم لن يورثوا بعد اليوم»، ويفتتح بهذه الوقفة وبهذه الكلمة فصلا جديدا في تاريخ هذه البلاد، فيكون فضله فضل الرواد يخطون الخطوة الأولى فيظل لهم الفضل ويظل لهم الحمد وإن اتسعت بعدهم الخطوات وتوالت الوثبات. وما نحسب خطوة عرابي في طريق الحرية والقومية كانت أقل خطرا من وثبة سعد، ذلك الفلاح الذي نهض من بعده والذي غضب مثل غضبته ووثب مثل وثبته واتجه نفس وجهته، ولكنه لم يكن من رجال السيف فلم يشهر إلا القلم سلاحا، ولم يمتط إلا أعواد المنابر مجاهدة وكفاحا. •••
ونحب أن نقف عند أمرين في نشأته كان لهما أثر بعيد في تكوين خلقه وخلق شخصيته؛ أما أولهما فهو أن أباه كان شيخا في القرية، وأما الثاني فهو أنه في التحدث عن نسبه يصل أجداده بالحسين عليه السلام.
كان يجد أبناء الحكام في القرى حتى وإن لم يكن حظ آبائهم من الثراء كبيرا أنهم في موضع يصغر دونه موضع أبناء الزراع ، ففيهم على لداتهم شيء من الترفع وفي نفوسهم شيء من الكبر على من حولهم من الناس، إذ يجد الصبي منهم أباه محاطا بالتوقير مخوف الجانب يتقدم الناس إذا سار ويفسح له صدر المجلس إذا جلس، وتبدو عليه إذا كان ذا مال آثار النعمة في مظهره وملبسه كما تبدو تلك الآثار في مسكنه وفيما يقتني من دواب وفيما يقوم على خدمته من خدم أو يلوذ به من أتباع أو يحيط به من بطانة، لذلك كان إذا خرج هؤلاء الأبناء من القرية إلى مجال أوسع منها خرجوا وفي أنفسهم ذلك الاعتزاز الذي ألفوه في بيئتهم الأولى فما يحبون أن يسمعوا كلمة نابية، بل إنهم ليكرهون أن يجدوا عدم الاكتراث لهم بله التطاول عليهم. ولقد يوحي إلى الصبي منهم ما غرس في نفسه منذ صغره أن يثور على الوضع الجديد إما بإظهار القوة البدنية على من كانوا في مثل سنه، أو بالتفاخر عليهم بالمال والنسب، وإما بالعناد والشغب على من لهم عليه حق الطاعة من المربين والرؤساء. ولقد يسرف هؤلاء فيتوهمون المذلة فيما ليس فيه مذلة، أو يفسرون بالإهانة ما لم يقصد به أية إهانة فيبدون لذلك كثيرا من الإباء ويغالون فيه حتى ينقلب إباؤهم شراسة أو حتى يحسبه الناس شراسة. •••
ونحس من سيرة عرابي أنه كان أحد هؤلاء، فلما قدر له أن يخالط قوما كانوا ينظرون إلى المصريين جميعا نظرة الاحتقار، ويجعلون نعتهم بالفلاحين مسبة لهم، ثارت في نفسه الحمية، ثم عصفت في رأسه النخوة، فكان صوته أول صوت مصري مثل القومية المصرية، وإن كان بذلك يفصح عن شعور غيره ممن أحسوا مثل إحساسه ولكن لم يكن لهم مثل جرأته وقوة شخصيته.
وزاد الحمية تسعرا في نفس عرابي ثاني الأمرين اللذين أشرنا إليهما، وذلك وصله أجداده بالحسين بن علي رضي الله عنهما، فسواء أصحت هذه الصلة أم لم تصح فقد كان بها مؤمنا، وكان إيمانه بها كفيلا أن يملأه أنفة وعزة، فمن كان مثله كما يزعم شريفا عربيا ينتمي إلى الحسين عز عليه أن يستذل، وبخاصة بأيدي قوم يرى أنهم مهما علوا فهم دونه علوا وشرفا، وإنك لتلمح اعتزازه بنسبه في تمثله ببيت الفرزدق «أولئك آبائي.» في خاتمة كلامه عن نسبه في مذكراته.
بقي الصبي في قريته لا يعلم ماذا يكون من أمره في غده، ولا يخالط إلا الفلاحين من أبناء القرية. أما الشراكسة المترفعون الذين يمقتون الفلاحين فلم يك يعلم من أمرهم شيئا، ولا كان يسمع يومئذ بوجودهم، وأنى له ذلك في قريته، ولكن الأقدار عما قريب سترمي به إلى حيث يجد نفسه - كما يجد بني قومه - موضع ازدراء هؤلاء، فلا يطيق هذا الفلاح المصري ترفعهم وكبرياءهم والتمتع بأكبر المناصب في الجيش، وإذ ذاك يناضل عن قوميته ويغضب لكرامته، ويكون في هذه الدائرة الضيقة - وإن لم يقصد - ممثلا مصر كلها التي كرهت الأجانب يومئذ وقد استيقظت فيها روح القومية، تلك الروح التي تتمثل فيما امتلأت به نفس ذلك الفتى القروي القادم من قرية مصرية.
في صفوف الجيش
لم يطل بالصبي المقام بالأزهر، ولم يطل به كذلك المقام في قريته؛ فإن القدر الذي لم يشأ له أن يكون شيخا من أشياخ الأزهر، ولا فلاحا من فلاحي القرية، قد شاء له أن يكون جنديا في صفوف الجيش.
أراد سعيد باشا أن ينهض بالجيش المصري، فأمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان، كيلا يحتقر الجندي في نظر الناس، إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء يحشدون ويساقون إلى الجيش ليكونوا عسكره، أما ضباطه وقواده فكان أكثرهم من الشركس.
وكان بين من ألحق بالجيش من أبناء الأعيان هذا الفتى الأزهري القروي، وكان يومئذ في الرابعة عشرة من عمره، وبالتحاقه بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه، ومن ذلك ترى أن كل ما ناله هذا الفتى من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر حتى سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته فيما بعد، وهي أمر لا نستطيع تحديده ...
انتظم عرابي في سلك الجيش جنديا صغيرا، ولكن حظه من القراءة والكتابة على قلته، وإلمامه بشيء من علم الحساب قد أجدى عليه من أول الأمر؛ فعين في عمل من أعمال الكتابة بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول.
1
وما لبث أن رقي عرابي بعد سنتين إلى رتبة ملازم ثان، ثم إلى رتبة ملازم أول، فيوزباشي في نفس السنة، وكان يومئذ في السابعة عشرة، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام، وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته.
وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في أقل من أربع سنوات، وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القدر من العلم الذي أشرنا إليه، فبه تمكن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز بها الامتحان متفوقا، ويدلنا ذلك على ندرة المتعلمين في ذلك الجيش، ولا شك في أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس الفتى القروي كثيرا من الطموح والإقدام ...
على أنه كان طموحا بطبعه، جريئا في عصر كثيرا ما كانت تعد الجرأة فيه ضربا من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه، ولسوف نرى من مواقفه في ذلك العصر ما يزيد معنى بسالته وضوحا، ويظهرها مضاعفة.
وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الشركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبا وكراهية لهؤلاء الأجانب ...
أليست هذه النزعة فيه هي نزعته الوطنية في الجيش يوم تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانبا من الوطنية ونحس معنى من معانيها؟
ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل لقد يسرف بعضهم فيرمونه بالتبجح قائلين: ما لهذا الفلاح وعليا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في الحق ليمتدحونه بذلك من حيث لا يشعرون، ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحا، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجح عرابي هذا، فما أجدره بالإعجاب والثناء !
وكيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعا؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصريا؟ وهل كان يعتز إلا بمصريته إذ اعتز بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الإنسان إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدم غيره عليه في غير حق، حتى ولو كان ذلك الغير أجنبيا؟
كره عرابي الأجانب في الجيش كرها شديدا، وبخاصة هؤلاء الشراكسة المتعصبون لأنفسهم المترفعون على المصريين، واستقر هذا الكره في أعماق نفسه، ولسوف يجر عليه عنتا كثيرا وضيقا، ولكنه لن يأبه لذلك، ولسوف يظل على عناده وإصراره حتى يصبح الأمر أمر الوطنيين جميعا في الجيش لا أمر أحمد عرابي فحسب.
وظل عرابي في مرحلته الأولى في الجندية ساخطا على هؤلاء الأتراك والشركس لا يفتر سخطه ولا ينقطع عليهم شغبه، يكيدون له ويكيد لهم، وإنا لنلمس في هذا سببا قويا من أسباب زعامته للحركة العسكرية فيما بعد، فلسوف يلتقي في دار هذا المتبرم الساخط رؤوس الساخطين الحانقين من رجال الجندية يوم يزمعون أن يشتكوا إلى الحكومة في أوائل عهد توفيق مما يلحق بهم من أذى من جراء سياسة وزير الجهادية الشركسي عثمان رفقي ...
ويذكر عرابي في مذكراته ما كان بينه وبين سعيد باشا من حسن الصلة حتى لقد اختاره ياورا له في زيارته المدينة المنورة، فكان على مقربة منه أثناء هذه الرحلة، وقد أهدى إليه هذا الوالي كما يذكر تاريخ نابليون مترجما إلى العربية، ولقد قرأ عرابي هذا التاريخ كله في ليلة، كما قال في مذكراته عن نفسه التي كتبها لمستر بلنت والتي أثبتها هذا في آخر كتابه، وقد ذكر فيها عرابي أن سعيدا ألقى بالكتاب مغضبا على الأرض إذ رأى أن نابليون استطاع أن يفتح مصر بثلاثين ألف جندي، وتناول عرابي الكتاب فلم ينم حتى أتمه، وجاء إلى سعيد ينبئه أن نابليون استطاع ذلك بالجيش المدرب، وأن سعيدا يستطيع أن يجعل لمصر جيشا مدربا على نمط جيش نابليون، ولست أستطيع أن أتبين على وجه اليقين ما تركته قراءة مثل هذا التاريخ من أثر في نفسه، فلم يعلق هو على ذلك إلا بقوله: «ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سببا لمطالعتي كثيرا من التواريخ العربية.»
2
ولست أدري كيف توحي قراءة تاريخ نابليون بحاجة مصر إلى حكومة شورية دستورية؟ على أن قراءة سيرة ذلك الجندي المغامر الفذ الذي وصل إلى قمة المجد الحربي، وبلغ أوج الشهرة والجاه، توحي إلى كل من يقرؤها معاني الإقدام والبطولة، وتملأ النفس تطلعا وحماسة، وعلى هذا فلا يصعب أن نتصور ما عسى تلقيه تلك السيرة من المعاني في نفس كنفس عرابي الجندي المتطلع المتوثب ...
ويشير عرابي في مذكراته إلى أن سعيدا كان يميل إلى المصريين في الجيش، ويريد أن يرفع عنهم ما لحقهم من غبن على يد الشركس، كما يشير إلى أنه كانت لسعيد نزعة وطنية تتجلى في محبته لمصر وللمصريين، وفي رغبته أن ينالوا قسطهم الحق من الترقي في الجيش.
وما يعنينا من ذكر هذه العلاقة بين سعيد وعرابي إلا ما فيها من إقبال عرابي على كل من يحب المصريين، فهذا الإقبال دليل على أن النزعة الوطنية القومية كانت منبعثة من أعماق نفسه، وعلى أن شغبه على الشركس والترك لم يك بدافع الأثرة كما يحلو لبعض الناس أن يرموه ...
ويقول عرابي: إن ميول سعيد الوطنية قد تبينت في خطبة ألقاها في حفل جمع كثيرا من علية القوم، وقد أثبت عرابي في مذكراته بضعة أسطر تحت عنوان: خطبة المرحوم سعيد باشا، وبدأها بقوله: قال مرتجلا.
فهل أثبت عرابي خطبة الباشا وهو يلقيها؟ إذا صح ذلك كان لكلام سعيد الذي يورده عرابي أهميته في الدلالة على اتجاه هذا الوالي يومئذ، وإذا كان عرابي يذكر ما وعته ذاكرته فحسب، فإن في هذا الذي يذكره عن سعيد ما هو كاف لأن يكشف عن نزعته. وقد جاء في هذه الخطبة قول سعيد حسبما أثبت عرابي: «وحيث إني أعتبر نفسي مصريا فوجب علي أن أربي أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبا حتى أجعله صالحا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد وطدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.»
يقول عرابي: «فلما انتهت الخطبة خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حانقين مدهوشين مما سمعوا، وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلل فرحا واستبشارا. وأما أنا فاعتبرت هذه الخطبة أول حجر في أساس نظام مصر للمصريين. وعلى هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضع أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة.»
ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال مثلا في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سانت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على أنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبر.
ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون، حتى المغرضون منهم، لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسه من أن عرابيا قد اتجه منذ نشأته اتجاها وطنيا قوميا، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية، ففي هذه النزعة القومية نرى عرابيا الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرخين والمدافعين عن الاحتلال من كتاب الإنجليز فما أبعده عن هذا! وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلوا حركة عرابي أقبح استغلال إلا أن يصوروه أقبح صورة، فلا يكون عندهم إلا جنديا جاهلا مغرورا، واتته الظروف فراح يخبط في حماقته لا يلوي على شيء، وما زال في جنونه يلوح بسيفه حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يسلمه صاغرا إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي ...
ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة كما يتصور البعض، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية - وهي لا تخلو من الصفة الوطنية - بالحركة الوطنية العامة، ولقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تحاك الدسائس وتوقد نار الفتنة تنفيذا لسياسة مرسومة سوف نميط اللثام عنها بكل ما وسعنا من حجة.
هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا، وما نشير إليها الآن هذه الإشارة في غير موضعها من سيرته إلا لنبين هنا أنها نزعة أصيلة فيه جاشت بها نفسه منذ شب، وكانت الثورة التي نشير إليها هي مظهرها فيما بعد. كتب في ذلك مستر بلنت، وكان من أصدقاء عرابي، يقول في علاقة عرابي بسعيد: «وقد حظى عرابي، وكان شابا حسن الطلعة، بعطفه، حتى لقد اختاره أركان حرب له ورافقه إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته، وقد كون عرابي آراءه السياسية الأولى أثناء هذه الصلة القريبة بسعيد، وهذه الآراء هي المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترام باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية، وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة بين مصلحي ذلك العصر. فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز، بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قوامها الجنسية، وهذا جعلها أوضح في معنى القومية ومن ثم قدر لها أن تكون أكثر شهرة وذيوعا.»
ولقد كان لصلة عرابي بسعيد على هذا النحو أثرها في حنق عرابي على إسماعيل، فلم يكن في قلب هذا الوالي شيء مما كان في قلب سلفه من الميل إلى المصريين، بل لعل ميله كان إلى الشراكسة، وقد أدى ذلك منه إلى ازدياد كراهية عرابي لهؤلاء واضطغانه عليهم، إذ يرى أن كل حظوة لهم عند الوالي إنما هي على حساب الوطنيين.
وقويت في نفسه النزعة الوطنية، وزادها قوة اتصاله بتلك الحركة الوليدة التي أخذت تدب في جسم الأمة وقد كرثتها الكوارث من وراء سياسة إسماعيل وديون إسماعيل.
وازدادت كذلك في نفسه نزعة التمرد والسخط، وتجلت في مواقف له كان من أهمها ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له ويسعى بالوشاية به عند أولي الأمر حتى رفت من الجندية.
وكان خسرو هذا شركسيا، وقد رقي حتى أصبح في مرتبة اللواء، وصار رئيسا لعرابي الذي كان يومئذ قائمقاما للآلاي السادس. ويذكر عرابي أنه رقي «لا بعلمه ومعارفه، بل لكونه شركسيا ومن الخارجين على الدولة العلية مع إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في تلك الفتنة الدهماء التي دكدكت سياج الإسلام وكسرت شوكة الدولة العلية الحامية لجميع الموحدين».
ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهما إياه بأنه «صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية»، ثم يقول عرابي معقبا على ذلك: «وما بي والله من شراسة، ولكني جبلت على حب العدل والإنصاف وبغض الظلم والإجحاف.»
ويذكر عرابي سببين للخلاف بينه وبين خسرو، أولهما أنه لم يشايعه فيما ذهب إليه من رغبة في ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية، بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطا آخر يستحقها، وأوعز خسرو إلى أحد الضباط فدبر مكيدة لعرابي، فاتهم بإساءة استعمال سلطته، وحكم عليه بالحبس واحدا وعشرين يوما، ولكنه رفع ظلامة إلى المجلس العسكري الأعلى فقضى ببراءته.
أما السبب الثاني، ولعله فيما أحس أقوى السببين، فهو أن خسرو سعى سعيه حتى حرم عرابي من أرض أنعم عليه بها الخديو إسماعيل فيمن أنعم عليهم من رجال الجيش، وذلك عقب حفلة سر فيها الخديو من حسن نظام الجند.
وما زال خسرو يكيد له حتى رفت من الجندية كما أسلفنا، ولنا أن نتصور مبلغ ما وقع في نفسه من السخط والثورة على خسرو وعلى الشراكسة جميعا في شخص خسرو.
والذي يعنينا مما كان بينه وبين خسرو أنه يصور لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف.
كذلك يكشف لنا ما علق به عرابي على هذه القصة عن ناحية من نواحي عقله، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من مصائب معددا أسماءهم مبينا ما لحق بكل منهم، موردا ذلك على أنه انتقام له من الله ... وفي هذا نوع من السذاجة في رأي من ينظرون إلى مثل هذه العقائد نظرة يقولون: إنها حرة، ونوع من الإيمان في نظر آخرين لا يعرفون هذه النظرة التي يصفها أصحابها هذا الوصف، كما أن فيه دليلا على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه.
على أن خصومه قد استغلوا هذه الناحية الدينية من حياته استغلالا مرذولا؛ إذ يحاولون أن يسوقوها دليلا على أنه كان رجلا لا يختلف كثيرا عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، وليتهم يشعرون أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم، وأنهم يسيئون إلى أنفسهم ولا يسيئون إليه.
كان للدين سلطان على عرابي ما في ذلك شك، ولكن تلك كانت نزعة العصر، على أننا نسأل: ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يساق هذا على أنه من مساوئه وخليق به أن يعد من حسناته؟ وهل عاب أحد هذا العيب على كرمول، وهو جندي مثله، في تزمته وتقشفه وصرامته في دينه؟ وهب أن عرابيا كان يغلو أحيانا فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصل بالسياسة، فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على أنه اتخذ يوما من الدين سلاحا في غير موضعه؟ أو أنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مبعدا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو بعد أن ظلت ظلامته لديه هذه السنوات الثلاث مهملة لغير سبب ظاهر، ولقد تأصل في نفسه كره الاستبداد في كافة صوره كما استقر في قلبه حب الانتقام من هؤلاء الشراكسة الذين يراهم أذى ونقمة على العنصر الوطني.
وطلب عرابي أن يحال على الأعمال المدنية ليبعد عن دسائس أعدائه كما يقول في مذكراته، وإنه ليذكر أنه بذل في تلك الأعمال جهدا عظيما ووفر في أحدها للخزانة مبلغا كبيرا كان - لولا نشاطه - ذاهبا لا محالة إلى خزانة إحدى الشركات الأجنبية، ولكنه رأى غيره يكافأ مكافآت مالية. أما هو فكان جزاؤه كما يقول: «وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيالله ما أمر وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة!»
على أن بلنت يذكر في كتابه أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سببا من أسباب نقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمرين.
ولم يلبث عرابي أن أعيد إلى صفوف الجيش، وكانت الحكومة تستعد للحملة الحبشية فرقت بعض رجال الجيش إلى مناصب أعلى مما كانوا فيها، ولم يرق عرابي، وكان قد جعل على ديوان الحربية في ذلك الوقت الأمير حسين كامل بن إسماعيل باشا. ويقول عرابي في مذكراته: «وبعد اختيار المختارين للفرقة الثانية من الذين ترقوا بحضرة الأمير المشار إليه قال للذين تأخروا عن الترقي: اجتهدوا أيها الضباط في التعليم والتمرين حتى تدركوا ما وصل إليه إخوانكم الذين ترقوا، والله يشهد وفطاحل الجهادية أن المتأخرين في الترقي هم أساتذة الذين ترقوا في العلوم الحربية وهم أرقى أخلاقا وأدبا ... ولكن الغرض يعمي ويصم ... ثم التفت الأمير إلي وقال بلهجة الأسف: إني طلبت من أفندينا ترقيتك إلى رتبة الميرالاي، فقال: إنك من بتوع سعيد باشا، فقاطعته الكلام، وقلت: إني لست بتاع أحد، بل خادم الحكومة والوطن وبلدي هرية رزنة بمديرية الشرقية، ولكن بتاع سعيد باشا هو راتب باشا لأنه ملكه، فقال: لا تفتر همتك في تأدية واجباتك وإني سأبذل جهدي في ترقيتك عند ترتيب الفرقة الثالثة، فشكرت له وخرجت وأنا شاعر بأني لا أنال خيرا في عهد والده لأني متحقق من أن خسرو باشا، وراتب باشا ورؤساء الشراكسة يعارضون في ترقيتي بكل ما في قدرتهم. وقد سمعت من أحد أمرائهم وهو رجل معتدل غير متعصب لبني جنسه على ما فيه من غلظة أنه حضر مجلسا لأولئك الشراكسة حيث تذاكروا في اختيار الذين يريدون ترقيتهم إلى الفرقة الثالثة فعرض عليهم ترقيتي إلى رتبة الأميرالاي مراعاة للحق والإنصاف فأبوا عليه ذلك، فقال لهم: ربما ترقى قهرا عنكم يوما ما إذا لم يرتق برضائكم واختياركم وأنتم تعلمون أنه أقدم القائمقامات وأعلمهم، وفيكم من كان تحت إمرته، فالأولى بكم ألا تعرضوا أنفسكم للانتقاد، ولكنهم لم يزدادوا إلا عتوا ونفورا، ولما ترتبت الفرقة الثانية والثالثة وتم ترقي الضباط، لم يقدر ناظر الجهادية الأمير حسين كامل باشا على الوفاء بوعده لإصرار السردار راتب باشا على رفض ترقيتي، ومن الغريب أن الآلاي الذي تحت إدارتي ظل خاليا من ضابط من رتبة الأميرالاي مدة ثمانية أعوام، وكنت أنا القائم بوظفية الأميرالاي بأحسن نظام وأكمل تربية وأدق تعليم وأحسن هيئة عسكرية، فما أوضح هذا الظلم المبين!»
هذا كلام عرابي، ومهما يكن من أمره فإن حرمانه من الترقية سواء أكان مرده إلى دسائس الشراكسة أم إلى أي سبب آخر كان خليقا أن يحمله على الثورة والسخط، وأن يميل به إلى اعتناق مبادئ الحركة الوطنية التي أخذت تشيع في نفوس الساخطين على حكم إسماعيل.
وألحق عرابي بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب، فقد كان يعمل في منصب «مأمور مهمات» بمصوع، ولقد حنق عرابي على تلك الحملة، فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل فيها بالجيش من كوارث في غير موجب، وقد اتهم لورنج القائد الأمريكي الجنس فيها بالخيانة، إذ كان يتصل عن طريق أحد القساوسة بالأحباش ويطلعهم على كل شيء ... •••
ويقول بلنت في كتابه: «إنه قد عاد من الحملة ساخطا كما سخط العائدون على ما كان فيها من الفوضى، وإليها يرجع اتجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد بغضه وغضبه، ذلك الغضب الذي كان في ذلك الحين متجها أكثر ما يتجه إلى الخديو.»
وفي شهر فبراير عام 1878 وقعت مظاهرة الضباط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها بوادر الثورة العسكرية، ويتلخص هذا الحادث في أن عددا من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم قد توجهوا إلى وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فلما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما وأشبعوا نوبار لطما ولكما، وراحوا يجرونه من شاربيه، وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو بنفسه في فرقة من حرسه حينما نمى إليه ذلك النبأ، وأمر الخديو بإطلاق النار إرهابا، فأطلقت رصاصات في الهواء وفر المتظاهرون.
ولكن تهمة القيام بهذه المظاهرة وتدبيرها قد وجهت إلى عرابي واثنين آخرين من الضباط، وعقد لهم مجلس عسكري يحاكمهم، وأصدر المجلس حكمه بتوبيخهم وفصل كل منهم عن آلايه إلى جهة بعيدة، وكان الإسكندرية من نصيب عرابي، وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين.
ويدفع عرابي التهمة عن نفسه مقررا أنه لم يكن له بد فيها قط، إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث، ذكر ذلك في مذكراته، وذكره كذلك في التاريخ الذي كتبه لمستر بلنت بناء على طلبه عام 1903 بعد عودته من منفاه. ولقد أطلع مستر بلنت الشيخ محمد عبده على ما كتب عرابي، فوافق على براءته من هذا الحادث. •••
ولقد أدى اتهام عرابي على هذا النحو إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل، ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع التي توجهه إلى الاتصال بالوطنيين بغية معاونتهم والاستعانة بهم على تنفيذ ما كانوا يأملونه من وجوه الإصلاح. قال عرابي في ذلك التاريخ الذي كتبه لصديقه بلنت، والذي أثبته هذا في آخر كتابه: «ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا فاقترحت أن نتحد ونخلع إسماعيل، ولو أننا فعلنا ذلك لكان خير حل للقضية؛ لأنه كان يسر القناصل أن يتخلصوا من إسماعيل على أية صورة، ثم إنه كان يوفر على البلاد ما حدث بعد ذلك من تعقد في الأمور، كما كان يوفر تلك الملايين الخمسة عشر التي حملها إسماعيل معه عندما خلع، ولكنه لم يكن هناك يومئذ من يقود هذه الحركة، ولذلك فإن مقترحي لم ينفذ وإن حاز القبول، وقد ألقى خلع إسماعيل بعد ذلك عبئا ثقيلا عن كواهلنا وعم الفرح، ولكن لو أنا فعلنا ذلك بأنفسنا لكان أفضل؛ إذ إننا كنا نستطيع أن نتخلص من أسرة محمد علي كلها، فإنه لم يكن فيها حاكم صالح إلا سعيد، وكنا نستطيع أن نعلن إقامة جمهورية، وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل عند كوبري قصر النيل ووافقه محمد عبده على ذلك.» •••
ومن هذا الذي ذكره عرابي يتبين مبلغ حنقه على إسماعيل، ولولا أن سعيدا كان يعطف على المصريين حقا وأن إسماعيل لم يكن يبدو منه ما كان يبدو من سعيد من مظاهر هذا العطف، لجاز أن يتهم عرابي بأنه يحب سعيدا ويبغض إسماعيل متأثرا بدوافع شخصية.
أما عن اتهام عرابي وزميليه في هذا الحادث، فإن عرابيا يورد له سببا، فهو يتهم إسماعيل بأنه كان المحرض على هذه الفتنة ليتخلص من الوزارة الأوروبية، ولكي ينفي عن نفسه الشبهة، فإنه اتهم هؤلاء الضباط الثلاثة بأنهم مدبرو الحركة.
يقظة ونهوض
أخذت إنجلترا وفرنسا تتنافسان في بسط نفوذهما في مصر منذ حملة بونابرت على هذه البلاد، ولكنهما وجدتا في محمد علي رجلا يمد سلطانه ولا يفقد ذلك السلطان، فاكتفت أولاهما بالعمل على تحطيمه، وفرحت الثانية بمصادقته ...
وساقت الأقدار ولاية العهد لإسماعيل قبل موت سعيد، فاستبشر الناس وارتقبوا الخير في عهد هذا الأمير الذي ذاع من صفاته فيهم ما حببه إليهم، وكانوا قد علموا أنه من ذوي النباهة والحزم، وبخاصة في شؤون المال، ولم يطل ترقب الناس فقد آل إليه الأمر عام 1863.
وراحت مصر تستقبل طورا من أطوار تاريخها. نحار أشد الحيرة ماذا نسميه وبأي الصفات ننعته ... طورا كان غريبا حقا، تترك غرابته العقول في دهشة، وتكلف من يريد الإنصاف في درسه عسرا شديدا.
ما برحت فرنسا وإنجلترا تراقبان سير الحوادث في وادي النيل، أما فرنسا فكانت لا تني تعمل على أن تزيد نفوذها في مصر، ذلك النفوذ الذي وضعت أساسه حملتها على هذه البلاد، والذي ما فتئ يعظم ويتزايد في عهد محمد علي، وها هو ذا في عهد إسماعيل قد بلغ مبلغا عظيما حينما اتصل البحران واستطاع دي لسبس أن يجري بينهما القناة التي سوف تغير مجرى تاريخ هذا الوادي ... وأما إنجلترا فكانت دائبة على سياستها تحول دون ظهور قوة في مصر، وقد استراحت من محمد علي، وراحت اليوم تقف في وجه حفيده، وتحرص على أن يظل خاضعا للخليفة، ولما التقى البحران أصبح همها متجها إلى السيطرة على مصر لتسيطر على القناة.
ونصبت كل من الدولتين شباكها وعولت كل منهما على أن تتدخل في شؤون مصر من طريق المال أولا ثم من طريق السياسة بعد ذلك.
شهدت مصر في هذا العهد جلائل الأعمال ومظاهر الاستقلال، كما شهدت عوامل البلى وعناصر الانحلال، شهدت يد التعمير تبعث الحياة والنشاط والقوة في العاصمة وعلى صفحة الوادي، وشهدت يد التخريب تهوي بمعولها في غير رحمة أو هوادة فتزلزل البنيان وتقوض الأركان، شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين، شهدت دوافع الحرية وشهدت نوازع الاستبداد، شهدت مواقف البطولة والصدق وشهدت مخازي الدس والبهتان ... شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه ما تشهده الفريسة تجمعت عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد ...
أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا ولا أن تكون جزءا من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطم الأصفاد وتطرح من عنقها نير الاستعباد ...
ولم يمض من عهد هذا الأسير الفذ اثنا عشر عاما حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقي ما لم يكن يتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي ... ففي تلك الفترة القصيرة وصل بين البحرين، وشقت الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النيل وغرينه ما يدرأ عنه رمال الصحراء، ومدت سكك الحديد وأسلاك البرق، ونظم البريد ومهدت السبل، وأقيمت الجسور، وأصلحت الموانئ، وشيدت المنائر، وبنيت المصانع، وافتتحت دور العلم للبنين والبنات على نحو يذكر بالحمد والإعجاب.
وفي تلك الفترة تقلص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو ونظمت ولاية العهد، وسمح للوالي بمنح الألقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيرا من الإصلاح ...
وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهرا بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوربا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصة «بالمونة والأحجار» تلك التي كانت هوية الخديو ومسرة فؤاده ...
ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجد ما زاد على خمسين مليونا من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر، ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لتكون ملكا لأوربا! فمن أوربا استدانت تلك الملايين، ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لهذا الدين!
ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلا سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتنكر لمصر وتتربص بها الدوائر، وكان لابد للمسألة المالية أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من تغلغل الإنجليز والفرنسيين في صميم شؤون مصر.
على أن هذا التدخل لم يك شرا كله كما اعتاد المؤرخون أن يصوروه، وحسبنا مما انطوى عليه من عناصر الخير أن قد استيقظت على صخبه وضجيجه مصر، فانبعثت القومية المصرية ومضت مصر تنفض عن كاهلها غبار القرون على صورة أروع وأقوى مما بدا في ثورتها على نابليون ثم على كليبر، ومما ظهر من آمالها وروحها ومشيئتها يوم ذهب أبناؤها وعلى رأسهم عمر مكرم والشرقاوي يلبسون محمد علي الكرك والقفطان دون أن يرجعوا في ذلك إلى السلطان ...
وتراكمت الديون على مصر حتى إنها لم تك تقل عن تسعين ألف ألف من الجنيهات في عام 1875، فمن ديون سائرة كانت في ذاتها أبلغ ما نال الخديو من معاني الغبن، إلى ديون ثابتة فيها أوضح معاني الشره وأقبحها من جانب الدائنين، إلى قروض داخلية لجأ إليها «المفتش»، ذلك الذي قام على شؤون مصر المالية، فكان في ذاته عبئا فوق ما أثقلها من عبء، ومن تلك القروض الدالة على الارتباك والخلل دينا المقابلة والرزنامة ...
عندئذ تحركت إنجلترا نحو هدفها، وكانت أولى حركاتها في هذا المضمار شراء نصيب مصر من أسهم القناة، اشتراه دزرائيلي رئيس وزرائها يومئذ بثمن بخس، ولم يرده عن ذلك عطلة البرلمان في تلك الأثناء، وكيف يفوت ذلك الداهية أمر كهذا الأمر يجعل مقام بلاده في القناة كمقام فرنسا أو أعظم، ويصحح خطأ وقعت فيه إنجلترا ألا وهو استهانتها بالمشروع أول الأمر ظنا منها أنه لن يتم، ثم تراخيها في شراء الأسهم بعد ذلك رغبة في إحباطه؟
ولكن مصر بعد بيع أسهمها لا تزال في حاجة إلى المال لتدفع به بعض ما جره عليها المال من وبال، وأنى لها المال بعد هذا كله؟ وأية دولة تمد إليها يدها؟ إذا فلتفكر مصر في الإصلاح، ولتفكر إنجلترا في اصطياد الفريسة.
طلب الخديو موظفا إنجليزيا يدرس لمصر شؤون مالها، ويصلح ما يراه من أوجه الخلل، فتلكأت إنجلترا أول الأمر لأنها عن دهاء وجشع تحب أن تتدخل ولكنها لا تحب أن تفتح أعين غيرها ...
وجاء الموظف ولكنه كان مزودا من قبل حكومته بأوامر، فعليه أن يدرس وعليه فوق ذلك أن يحقق ويدقق ثم يرفع إلى حكومته تقريرا عما رأى! وما لهذا أراده إسماعيل، فما كان يريد والي مصر إلا أن يكون هذا الموظف معينا له على إصلاح مالية البلاد.
ورفع «كيف» التقرير إلى حكومته! وجاد دور دزرائيلي فأعلن في البرلمان الإنجليزي في غير تردد ولا استحياء أنه يرغب عن نشر التقرير لأن الخديو رجا منه ألا يفعل، ولعمر الحق ما رجا الخديو منه شيئا ولا أشار إلى ذلك من قريب ولا من بعيد ...
ذعر الدائنون، وهبطت قيمة أسهم مصر كما يقول رجال المال، وتلقى الخديو الصدمة العنيفة ممن أمل على أيديهم الإصلاح، وقال في مرارة وغيظ: «لقد احتفروا لي قبري.» وهي كلمة موجعة جامعة، فبعد هذا التصريح من جانب دزرائيلي سيكون الطوفان ...
وما كان في تقرير «كيف» إلا أن مصر «تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض، منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير، وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب، والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعا وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ»، بل لقد ذكر «كيف» في عبارة صريحة: «أن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد»، ولكن للسياسة مطامعها وأغراضها، ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيرا ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخلق والاستقامة.
لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها، فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم، وأقيم في مصر «صندوق الدين العام»، فكان حكومة صغيرة من الأجانب داخل حكومتها، ثم وافق الخديو مكرها على تعيين مراقبين أجنبيين: أحدهما إنجليزي للدخل، والآخر فرنسي للصرف، وعين لهذين موظفين من الأجانب بأجور ضخمة، وعني الخديو حقا بإصلاح الحال يومئذ، ولكن يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك.
وقبل الخديو فيما قبل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سميت «لجنة التحقيق العامة» جعل على راسها دي لسبس، ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها، برجل من رجال مصر كان يتحفز ويتحين الفرصة ليثب، وكان هذا الرجل هو محمد شريف باشا ...
استدعت اللجنة شريفا ليمثل أمامها لتستفهمه فتعاظمه الأمر فأبى، فأصرت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضا على كرامته وكرامة منصبه فأصر كما أصرت ... أيمثل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولم لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذن فليطلق شريف المنصب غير آسف، وقد كان ما أراد فاستقال، وهزت البلاد استقالته بما تنطوي عليه يومئذ من المعاني؛ فلقد كانت وثبة منه في حينها كأنما جاءت على قدر من الأيام، ففي مصر يتوثب مثله رجال وتخفق بالوطنية قلوب وتضيق من تدخل الأجانب صدور، وقدر لشريف أن يكون في تاريخ وطنه من أولئك الأماثل الذين توحي مواقفهم البطولة وتخلق الأبطال!
كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب، وإلا لما كان له ما كان يومئذ من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معا أمام لجنة من الأجانب تريد أن تظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشد الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان هذا الغضب ثورة، وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت للأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل أول رجالها ورأس أبطالها.
ورب قائل يقول: وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الاعتزال رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ نفوذ الأجانب ومبلغ ما مني به المصريون يومئذ من خور وما عرف عنهم إذ ذاك من الحرص على المناصب والألقاب يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية، هذا إلى ما سبق استقالته من تحد منه للجنة وسلطانها، ولو أن الخديو آزر شريفا لما ترك منصبه وكان بذلك يدع اللجنة في أحرج المواقف كما أمعن في عصيانه وترفعه ... ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة فيما يشبه الرجاء أن تكتفي من شريف بأن يرد على أسئلتها كتابة، ولما رفضت اللجنة ذلك لم يرد الخديو عليها بعمل أو قول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهرا من مظاهر الاحتجاج على تدخل الأجانب في شئون البلاد، فكان ذلك المظهر أول إنذار بالثورة.
أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة، ولقد جعلت اللجنة هدفها بالضرورة العمل لصالح الدائنين، ولذلك لم تأل جهدا في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جره جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غدر وبهتان وزور واختلاس.
تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلاحون يومئذ من شقاء، ولم تراع في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيرا ما يفرون من أراضيهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيل جارف لم يكن أقل هولا عليهم من طالبي الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم الربويون والأمراض معا، وباتوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه!
وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون بها من الجمارك ثم لا يدفعون عنها شيئا داخل البلاد في ظل تلك الامتيازات المشؤومة التي كانت من أكبر المساوئ في مصر، والتي قل أن يجد المؤرخ مثيلا لما كانت تنطوي عليه من جور، وما كانت تقوم عليه من باطل وبهتان، وكذلك تغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين تزايد عددهم في الحكومة المصرية، والذين كانوا يتقاضون الأجور العالية جزاء على ما اتصفوا به من الكسل وقلة المروءة وجمود العاطفة، بينما كانت مرتبات الوطنيين لا تدفع لهم إلا في مشقة وعناء، وهي من القلة بحيث كانت تؤدي بالكثيرين إلى الاختلاس والتهاون في العمل ...
واقترحت اللجنة في قرار تمهيدي أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة إلى وزراء يسألون عن أعمالهم، أي أن تكون عليهم تبعة ما يعملون، وأن ينزل عن أملاكه نظير مبلغ معين، وكذلك تنزل أسرته عن أملاكها، كل ذلك دون أن تفكر اللجنة في أن يتنازل الدائنون عن شيء من ديونهم، وهي تعلم كيف تراكمت تلك الديون وكيف تزايدت أرباحها حتى بلغت ما بلغته.
وقبل الخديو تأليف الوزارة المسئولة، فاستدعى نوبار من أوربا وعهد إليه تأليف وزارة يتضامن أعضاؤها في التبعة وتقوم بالحكم في البلاد، ونظر المصريون فإذا وزارة المالية تسند إلى رجل إنجليزي، وإذا وزارة الأشغال تسند إلى رجل فرنسي، وهكذا يسيطر الأجانب على مصر سيطرة تامة!
ومن غريب أمر هذه الوزارة أنها كانت لا تعبأ بشيء إلا بما يرى الأجانب، فلم يك لمجلس شورى النواب حق إسقاطها، بل لم يك له حق محاسبتها، ولم يك للخديو نفسه في الواقع سلطان عليها، فكانت الوزارة بهذه الصورة سخرية من سخريات الأجانب هي في ذاتها من أبلغ نكاياتهم يومئذ بالبلاد وأهل البلاد ...
على أنه سرعان ما دب الخلاف بين الخديو ووزرائه، أو على الأصح بينه وبين نوبار والوزيرين الأجنبيين، فلقد كان في الوزارة رجال غير شريف يدينون بالولاء لحاكم البلاد الأعلى، ومن هؤلاء علي مبارك ورياض ... وتزايد هذا الخلاف حتى أصبح إسماعيل ولا هم له إلا أن يتخلص من هذه الوزارة التي لم تدع له من السلطة إلا اسمها.
وسنحت له الفرصة في حادث مظاهرة الضباط الذي أشرنا إليه، فأعلن إسماعيل على أثر الحادث أنه غير مسؤول عن الأمن في البلاد ما دام محروما من السلطان، ومن ثم رأى نوبار أن لا قبل له بمواجهة الحال بعد ذلك فرفع إلى الخديو استقالته، وبذلك تخلص الخديو وتخلصت البلاد من تلك الوزارة التي اعتاد الناس أن يسموها الوزارة الأوربية.
وكانت تولد بالبلاد يومئذ حركة وطنية قوية، كان باعثها الأول هذا البلاء الذي كانت تعانيه، ولسوف تلتقي هذه الحركة فيما بعد بالحركة العسكرية التي هي في جوهرها غضبة قومية على أجانب من جنس آخر هم الشراكسة، وتتألف من التيارين تلك الثورة التي كان بطلها أحمد عرابي، والتي تعمد كثير من المؤرخين تشويهها، والتي أخطأ فهمها عدد منهم ليس بالقليل من جراء ما هوش وافترى كتاب الاحتلال ...
وكان لهذه الحركة الوليدة مركزان: أولهما المركز الرسمي وهو مجلس شورى النواب، وثانيهما المركز الأهلي وهو بيت السيد البكري نقيب الأشراف، حيث كان يلتقي الأحرار من العلماء والنواب والأعيان وضباط الجيش الناقمين.
وكان قد هبط مصر السيد جمال الدين الأفغاني يبث فيها مبادئه ويحمل إليها قبسه، وكان جمال، ذلك الرجل الذي أطلعه الشرق ليضيفه إلى كواكبه الزهر، يرى أن علة العلل في هذا الشرق المغلوب على أمره أن شعوبه سليبة الإرادة، تحكم على رغمها وتسخر لحساب الحاكمين، ولا مخرج لها إلا أن تعود حرة كما كانت من قبل حرة، ولن يكون هذا إلا أن تقوم الشورى مكان الاستبداد، وأن ينسخ نور العلم ما تراكم في الشرق من ظلمات بعضها فوق بعض.
وكانت التربة في مصر صالحة لبذوره، فنمت نموا سريعا يحمل على الدهشة، فما أسرع أن ظهرت في البلاد حركة حرة كأعظم وأجمل ما تكون الحركات الحرة، وراح تلاميذ جمال الدين يذيعون في البلاد مبادئه، يقول في ذلك الشيخ محمد عبده أنبغ تلاميذه وأحبهم إليه: «وكان طلبة العلم، طلبة جمال الدين، ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد، وبخاصة في القاهرة.» •••
وظهرت في تلك الأيام الصحافة العربية، وراح الناس يقرأون فيها نفثات الوطنية، وأخذت تهب عليهم من بين سطورها نسمات الحرية، فانتعشت أرواحهم، وهفت إلى الانطلاق من الأسر قلوبهم.
وأدى اتصال المصريين بالأجانب، وقد كثر مجيئهم إلى مصر، إلى تتبع الأنباء العالمية في الحرب والسياسة، فزادت معرفتهم بأحوال العالم، وقارنوا بين حال الشعوب الحرة وبين حالهم، وراحوا يستنبطون أسباب ما بانوا فيه من شقاء وذلة.
وبهذه العوامل مجتمعة قام في مصر رأي عام يعد شيئا جديدا حقا في تاريخها الحديث، فقد اشتد الوعي القومي، وكان من أكبر بواعثه، ذلك العدوان الذي أسرف فيه الأجانب على مصر في غير حياء أو مبالاة.
أخذت تشتد الروح الوطنية وتتغلغل في النفوس، وكان شريف باشا يرقب حركة الأحرار الذين كانوا يجتمعون في بيت البكري، وكان لا يفتأ ينصح لهم ويشير عليهم بما يعملون، وكان يتمنى أن يتخذ منهم قوة يناوئ بها الأجانب ويحد من سلطان الخديو، ولن يتم ذلك فيما يرى إلا أن يكون الوزراء مسئولين أمام نواب الأمة كما هو الحال في المجالس الأوربية التي تسير وفق القواعد الدستورية ...
وسقطت الوزارة الأوربية، ولكنها ألفت ثانية برئاسة الأمير توفيق، فلقد رفض قنصلا إنجلترا وفرنسا أن يرأس إسماعيل نفسه الوزارة كما طلب، ولقد أرادت الدولتان على لسان قنصليهما أن يدخل نوبار الوزارة الجديدة فرفض الخديو وصمم على الرفض، ورأت الدولتان مبلغ حرص إسماعيل على إبعاد نوبار، فاشترطتا لقبول ذلك أن يعطى العضوان الأوربيان في الوزارة حق «الفيتو» على قرارات مجلس الوزراء، ورضي إسماعيل بذلك، فصار للعضوين الأوربيين حق إيقاف أي قرار لمجلس الوزراء لا يوافقان عليه، ومعنى ذلك أنهما يحكمان البلاد حكما لا يدع للخديو في مصر سلطة أو ظلها ...
وآن لمجلس شورى النواب أن يخطو خطوة ما كان أعظمها من خطوة، نمى إلى المجلس فيما نمى إليه من أنباء الوزارة الأوربية أنها تأتمر بالمجلس وتنوي التخلص منه، فصمم الأعضاء ألا يتفرقوا وأن يظلوا في أماكنهم للنظر في شئون البلاد في تلك الآونة العصيبة ... ألسنا نرى في ذلك صورة مما حدث في فرنسا في مستهل عهد ملكها لويس السادس عشر، حين اشتدت الضائقة المالية ورأى نواب الشعب وجوب العمل على وضع حد لسوء الحال؟ ولسوف تؤدي الظروف إلى أن يصبح ذلك المجلس الذي لم يكن له حول ولا قوة، هيئة تحاسب الوزراء على أعمالهم، وتملك إقصاءهم عن مناصبهم إذا تهاونوا في حقوق البلاد. ولقد كان لشريف باشا الفضل كل الفضل فيما ناله المجلس من حقوق، حتى ليعد شريف بذلك مؤسس الحركة الدستورية في مصر.
وكان المجلس في وزارة نوبار قد أرسل إلى السير ريفرز وزير المالية بدعوة ليحضر أمامه ليسأله عن بعض الأمور فسوف وماطل، ثم لم يحضر أو يرسل إلى المجلس شيئا مما طلب المجلس أن يطلع عليه من المشروعات، وضاق المجلس بما فعل وزير المالية، وفسر عمله بأنه إهانة موجهة إلى الأمة المصرية في أشخاص نوابها ...
وفي وزارة الأمير توفيق استصدر وزير الداخلية وهو يومئذ رياض باشا أمرا من الخديو إلى النواب بأن مدة مجلسهم قد انتهت فعليهم أن ينفضوا، وذهب رياض يتلو على النواب هذا الأمر، وهنا وقف النواب وقفة جديرة بأن تفخر بها مصر فيما تفخر به من مواقف البطولة، فلقد رفضوا أن يذعنوا، وهددوا رياضا بما عسى أن يقع من الحوادث في البلاد بسبب سياسة الوزارة، وجعلوا تبعة ذلك عليها، ولكم نرى من أوجه الشبه بين موقف هذا المجلس ومجلس طبقات الأمة في فرنسا، حين وقف فيه نواب الشعب الفرنسي يتحدون قرار الملك على أثر صيحة ميرابو المدوية التي نقلت تاريخ فرنسا من فصل إلى فصل.
ولكن النواب هنا لم يكونوا في الحقيقة يتحدون الخديو، فقد كانوا يعلمون أنه يعطف على حركتهم ليتخلص بهم من تدخل الأجانب في شئون مصر، ذلك التدخل الذي حرمه كل سلطة، وإنما كان النواب يتحدون الوزارة الأوربية ويريدون أن يأخذوا السبيل عليها ...
وكانت مطالب المجلس يومئذ تنحصر في المسألتين الدستورية والمالية، أما أولاهما فتتلخص في أن تكون الوزارة مسئولة أمام المجلس بحيث يصبح هيئة لها مكانها الفعلي في حكومة البلاد، وأما الثانية فمؤداها أن يبحث المجلس المسألة المالية دون الأجانب، وأن يقرر في أمر الدين والضرائب ما تمليه عليه مصلحة البلاد.
وأصر النواب على ما طلبوا فكانت حركتهم هذه حركة قومية إلى أقصى ما يتسع له معنى هذه الكلمة، وكان يظاهر النواب أحرار البلاد من العلماء والأعيان والتجار، الذين لم تنقطع اجتماعاتهم في بيت البكري، وأخيرا اتفقت كلمتهم جميعا على أن يتوجهوا إلى الخديو بما عرف باسم اللائحة الوطنية، وفيها يعترض النواب على اقتراحات ريفرز ولسن التي كانت ترمي إلى إعلان إفلاس مصر، ويقررون أن إيراد مصر يفي بدفع ديونها، ويطلبون إلى الخديو تقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام المجلس، وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام هذه الوزارة الأوربية التي ضاقت بسياستها البلاد.
ولقد وضعت هذه اللائحة لجنة من النواب تحت إشراف شريف، فكانت هذه اللائحة الخطيرة كبرى حسناته إلى هذه البلاد، كما كانت أهم خطواته السياسية وأبعدها أثرا في مجرى الحوادث، ووقع على اللائحة ستون من أعضاء المجلس، ومثلهم من العلماء، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر، كما وقع البطريرك والحاخام، وكذلك وقع عليها عدد كبير من الأعيان والتجار والموظفين والضباط، ودفعت بعد ذلك إلى الخديو فرأى أن قد حان الوقت ليوجه إلى النفوذ الأجنبي ضربة قوية، فالبلاد من ورائه تشد أزره، ولذلك لم يتردد في الموافقة على اللائحة، وسرعان ما هزت البلاد فعلته هزة قوية، هي هزة الفرح بانتصار الحركة الوطنية والأمل في مستقبل تحطم فيه البلاد أغلالها وتنعم بالراحة والرخاء.
واستقالت وزارة توفيق، فاتجهت الأبصار إلى شريف، واتفقت عليه القلوب والأهواء، وما لبث أن تضاعف سرور البلاد بأن أسندت إليه رئاسة الوزارة الوطنية، وأصبح شريف زعيم الحركة الوطنية ورئيس وزارة الأمة.
وراح الخديو يكيد للأجانب كيدا شديدا، وظهر كمن يريد أن يثأر لنفسه؛ فلم يكتف بإجابة الوطنيين إلى ما طلبوا، بل لقد ذهب إلى حد مشاركتهم مظاهر ابتهاجهم بالعهد الجديد حتى لقد حضر بنفسه حفلا أقامه في داره السيد علي البكري ودعا إليه كبار رجال الحركة الوطنية، فكان موقف الخديو في ذلك موقف الزعيم.
وتلقى الأجانب الضربة ولكنهم لم يطيشوا أو يذهلوا عما يجب عليهم أن يعملوا إزاء موقف الخديو. ومن أجل ذلك لقيت وزارة شريف منهم عنتا بالغا، فتبددت في ضوضائهم كل دعوة إلى الحكمة، وضرب الحقد على آذانهم، وجعل الغضب على أبصارهم غشاوة ...
ولكن شريفا ظهر يومئذ بمظهر جدير بالإعجاب حقا، فلا هو خشي جانب الأجانب فتخاذل عما بسبيله، ولا هو مال كل الميل فانقلبت سياسته شططا، وبذلك جمع شريف بين حمية الوطني الثائر وكياسة السياسي الماهر وروية المجرب البصير ...
احتج الأجانب على إبعاد الوزيرين الأوربيين، واستقال كثير منهم من مناصبهم، وراحت إنجلترا وفرنسا تتهددان الخديو وحكومته وتنددان بهما، وتوجه الدائنون إلى المحاكم المختلطة فرفعوا أمامها القضايا.
وأعلنت لجنة التحقيق أن الحكومة مفلسة منذ أكثر من عامين، ولما عرض شريف على هؤلاء الأجانب الصاخبين استعداده لإعادة المراقبة الثنائية وفق ما كانت تقضي به تعهدات الخديو في حالة ما إذا أخرج الوزيران الأجنبيان أو أحدهما، رفضوا ذلك الحل مبالغة منهم في الكيد، ورغبة في زيادة الأمور حرجا وتعقيدا؟ ...
ولكن شريفا لم يلوه حرج الموقف عن وجهته، وما كانت وجهته إلا أن يجعل مرد الأمور إلى الأمة، ولئن كان يمقت تدخل الأجانب فإنه كان كذلك يكره استبداد الخديو بالأمر أشد الكراهية، لذلك جعل محور سياسته أن يكون الوزراء مسئولين أمام مجلس شورى النواب، وتم له ما أراد؛ فجاء في كتاب الخديو إليه بتأليف الوزارة عبارات لا تقبل تأويلا فيما يذكر الخديو أنه يرجع بالأمور إلى الأمة ويوافق على مسئولية الوزارة أمام مجلسها. •••
بهذا كان شريف كما ذكرنا أبا الدستور في مصر؛ فإن ذلك المجلس الذي تعهده برعايته منذ نشأته سنة 1866 قد تمت له السلطة على يديه سنة 1879؛ فصار الحكم في مصر دستوريا لا تشوبه شائبة مهما يقل القائلون في طريقة الانتخاب يومئذ وجهل سواد الناس بأصول الحكم.
أجل، إن العهد الدستوري في مصر يرجع إلى سنة 1879، وهذا الدستور إنما نالته مصر بجهاد بنيها، وما كان دستور سنة 1923 إلا الدستور الثاني للبلاد أو بعبارة أخرى ما كان إلا توقدا لتلك الجمرة التي ظلت مطمورة تحت رماد الاحتلال حتى جاء سعد فخلف عرابيا في قيادة الحركة القومية فأزاح ذلك الرماد ونفخ في تلك الجمرة فأوقد نارها.
لم تكد البلاد، وا أسفاه تفرغ من مظاهر فرحها حتى جاءت الأنباء بعزل عاهلها؛ إذ ما زالت إنجلترا وفرنسا بالسلطان حتى استطاعتا إقناعه بعزل إسماعيل؛ فخلفه على أريكة مصر ابنه توفيق، وبخروج إسماعيل من مصر فقدت البلاد الرجل الذي كان يمكن الاعتماد عليه في مناهضة نفوذ الأجانب.
ورفع شريف استقالته إلى الخديو الجديد كما تقضي التقاليد الدستورية، فطلب إليه الخديو إعادة تأليفها، وأشار توفيق صراحة في أمره وخطابه أمام مجلس الشورى ميله إلى العطف على الأماني القومية كما تظهر في الحركة الدستورية الوطنية، وسار شريف على نهجه الدستوري يدعم ما بنت يداه ويجهتد في توطيد أسسه.
ولكن توفيقا ما لبث حين وصل إليه فرمان توليته أن تنكر للحركة الوطنية، فما كان في موقفه الأول إلا مدعيا يكتسب الوقت، فلما اطمأن إلى منصبه بدأ سياسته الجديدة بأن رفض أن يجيب رئيس وزرائه إلى ما طلبه بشأن توسيع مجلس الشورى، ووضع نظام الحكم على أساس دستوري ثابت، ورأى شريف في هذا نية إقصائه عن الحكم فاستقال، وجاءت استقالته هذه المرة كذلك عاملا قويا من عوامل إذكاء الروح الوطنية وإشعال جذوتها.
وما كان أحوج الخديو يومئذ إلى شريف دون غيره من الرجال، أجل ما كان أحوجه إلى ذلك الرجل الذي كانت تجتمع فيه الرجال، وتلتقي في سياسته الآمال.
وما أشبه توفيقا بملك فرنسا لويس السادس عشر، ذلك الملك المسكين الذي قال عنه بعض المؤرخين إنه ورث عن أسلافه الثورة والعرش معا، فلقد تجمعت عوامل الثورة الفرنسية قبل عهده، وما زالت تنمو وتتزايد، وما زالت تلك الأقلام الجبارة أقلام فلتير، وروسو، وأضرابهما تحدوها وتمهد الطريق لها حتى جاء عهد ذلك الملك؛ فانفجر البركان وكانت الراجفة التي زلزلت فرنسا زلزالا شديدا.
وأرى توفيقا قد ورث عن سلفه كذلك العرش والثورة؛ فلقد تجمعت عوامل الثورة العرابية في عهد ذلك الخديو المخلوع، ثم راحت تحدوها وتمهد لها أقلام جمال الدين وتلاميذه حتى جاء عهد توفيق فرجفت الراجفة.
وما كانت الثورة العرابية حركة عسكرية فحسب كما يحلو لكثير من المؤرخين أن يصوروها عن عمد، أو عن غفلة، وأن الذين يفعلون ذلك منهم ليأتون من ضروب الخطأ ما نعجب كيف يحملون على قبوله أنفسهم وعقولهم، وإنما كانت الثورة العرابية إذا أردنا وصفها في جملة هي التقاء الحركتين الوطنية، والعسكرية، واندماجهما، فلما ذهب عرابي إلى الخديو على رأس جنده في اليوم التاسع من سبتمبر سنة 1881 ذهب يحمل إليه مطالب الجيش ومطالب الأمة معا، ومن ذلك الوقت صار سلاح الثورة السيف وقد كان سلاحها القلم، أو بعبارة أخرى حارت قيادتها بين السيف والقلم.
ما لبث المصريون كما أسلفنا أن فجعوا في آمالهم بتدخل الدولتين تدخلا جريئا في شئونهم أدى إلى عزل الخديو وتركهم ذاهلين تتنازع أفئدتهم عوامل الحنق والخوف والتشاؤم من المستقبل .
وتولى قيادة السفينة توفيق، فما كادت تسير حتى اكتنفتها الرياح الهوج، وقامت أمامها العقبات من كل جانب، فها هم أولاء المصريون تتأجج نيران الحقد في قلوبهم على الأجانب، ولن يطيقوا بعد اليوم أي جنوح إليهم، وها هي ذي إنجلترا تتحفز وتتربص، ثم ها هي ذي فرنسا تتحين الفرص لتتغلب على منافستها، وهناك تركيا جاءت آخر الأمر تطلب أن تعيد سلطانها في مصر سيرته الأولى فتردها الدولتان المتنافستان على عقبيها.
والربان غير عليم بالسياسة وأنوائها، ولكنه على الرغم من ذلك يستغني عن أعلم رجاله بها، فتخلص من شريف وهو أحوج ما يكون إليه، وتنكر للحركة الوطنية وكان حقيقا أن يعطف عليها عسى أن يحبه الوطنيون وعسى أن يحملهم هذا الحب على تناسي ما لحق بمنصب الخديوية من هوان صغر به في أعينهم، ولكن توفيقا غفل عن هذا أو تغافل عنه لما رآه من إقصاء أبيه عن منصبه على ما كان له فيه من جاه وقوة.
وحل رياض محل شريف؛ فآلم ذلك دعاة الحركة الوطنية، وأزعجهم أن يروا رياضا يجاري الخديو في استكثاره الدستور على المصريين، فيقنع بما لا يقنع به وطني مكتفيا بمبدأ مسئولية الوزارة عن أعمالها، مستغنيا عن مجلس شورى النواب الذي يحرص عليه الوطنيون كل الحرص.
وجاء قانون التصفية في عهد رياض؛ فازداد به الوطنيون آلاما على آلامهم، ورأوا ما فيه من غبن شديد يتجلى في إلغاء دين المقايلة، وقد أخذ من جيوبهم، كما رأوا فيه ما هو أكثر من الغبن؛ ألا وهو عدم تنازل الأجانب عن شيء من الدين وهم يعلمون كيف كانت تقترض الأموال ومبلغ ما كان يصل مصر منها، وهم يعلمون كذلك ما كان من مجازفة الأجانب بأموالهم مما يلقي عليهم كثيرا من التبعة، هذا إلى أنهم رأوا مرتبات الموظفين الأجانب في الحكومة المصرية تبقى على حالها من الارتفاع، فلم يدر بخلد من وضعوا تلك التصفية أن يراعوا ذلك في قرارهم فينزلوا بها إلى الحد اللائق ...
تلك هي الحركة الوطنية، أو تلك هي نذر الراجفة، وما كانت الحركة العسكرية التي بدأت في عهد إسماعيل واستفحل أمرها في عهد توفيق إلا بعض هذه الحركة الوطنية العامة، حتى قدر أن يكون لها القيادة آخر الأمر، وأن تسمى بالثورة العرابية نسبة إلى الجندي الوطني الثائر أحمد عرابي.
الجندي الثائر
بدأت الثورة العسكرية كما أسلفنا في عهد إسماعيل، وكان أول مظهر لها ذلك الحادث الذي اعتدى فيه فريق من الضباط على نوبار أمام وزارة المالية، وكان ما دفع الضباط إلى ذلك الحادث في الواقع أو ما جعل التحريض أيا كان مصدره، يحدث أثره فيهم، ما لحقهم من الضيق بسبب الاستغناء عن عدد كبير منهم، ومن تأخر مرتباتهم عنهم، بينما كان لا يلحق بالشراكسة في الجيش شيء من هذا ...
ويذكر بلنت في كتابه «التاريخ السري» حركة لنفر من الضباط المصريين في شهر مايو سنة 1880، وكان من بينهم أحمد عرابي. وخلاصة هذه الحركة - كما يصفها بلنت - أن هؤلاء الضباط قدموا شكوى إلى وزارة الجهادية من تأخر مرتباتهم، ونظرت الوزارة في الأمر، وكان قنصلا إنجلترا وفرنسا قد تدخلا فيه وألفت لجنة لتحقيق المسألة، وقد أقرت هذه اللجنة مطالب الضباط، ولكن رياضا ووزيره رأيا في ذلك العمل القانوني حركة جريئة، وخروجا على النظام.
ويقول بلنت: إن قنصل فرنسا البارون دي رنج أبدى كثيرا من العطف على هؤلاء الضباط، وأصبح محبوبا لديهم، وكان بين هذا القنصل وبين رياض كثير من الحزازات ...
وكان لعرابي - كما يذكر بلنت - نشاط ملحوظ في هذه الحركة، ولكنه كان معتدلا حتى لقد اكتسب باعتداله ثناء القناصل عليه.
ويتهم بلنت الخديو بأنه وجد في هذه الحركة فرصة للدس والكيد لوزيره رياض، فاتصل بالضباط وكان رسوله إليهم علي فهمي رئيس الآلاي الأول لحرس الخديو، وكان علي فهمي صديقا لعرابي وإن لم يكن له ضلع في هذه الحركة ولا وجهة معينة في السياسة ...
ويذهب بلنت إلى القول بأن توفيقا أخبر الضباط على لسان علي فهمي بأن رياضا ووزير الجهادية يبيتان لهم الكيد، وأنهم إن لم يعملوا على إقصائهما عن منصبيهما حاق بهم السوء، ولن يبخل الخديو بمعاونتهم لأنه يعطف على مطالبهم ...
ولو صح هذا الذي يرويه بلنت لكشف لنا عن جانب من ضعف توفيق، ذلك الذي يستعين بالضباط على وزيره؛ لأن يده كانت مغلولة عنه بسلطة الأجانب.
ولكن هذا الذي يذكره بلنت لم يرد ذكره فيما كتبه عرابي في مذكراته، ولا في ذلك الموجز الذي كتبه لبلنت فأثبته في آخر كتابه، وما كان عرابي ليسهو عن أمر كهذا لا يخفى ما له من أهمية.
وكذلك لم أقع على ذكر هذا الذي ينسب إلى الخديو فيما تناولته من الكتب التي عنيت بتفاصيل الحركة العسكرية، ولعل بلنت ينفرد بهذه الرواية.
على أن مسلك الخديو لو صحت الواقعة أمر لا يستغرب، فقد استعان إسماعيل نفسه بالضباط على نوبار وزميليه من قبل، إذ عجز عن مناوأتهم مناوءة علنية خوفا من الأجانب ...
استغني عن عدد كبير من الجند الوطنيين في أوائل عهد توفيق حتى نزل عدد الجيش المصري عما اتفق عليه في بداية هذا العهد، وولي وزارة الجهادية في حكومة رياض عثمان رفقي الشركسي، وكأنما جعل هذا الوزير أساس سياسته الكيد للمصريين ما وسعه الكيد، فلقد راح يذيقهم من كيده ونكاله بقدر ما راح يفيض على الشراكسة من عطفه وإحسانه، ولم يكن ذلك عجيبا من جانبه، ففي دمه ما في دم بني جنسه من بغض قديم للمصريين الذين كانوا في رأيهم فلاحين لا يصلحون إلا ليكونوا عبيدا ...
وكان طبيعيا أن يجعل هذا الوزير الشركسي أكثر الترقيات في الجيش للشراكسة، وأخذ عثمان رفقي يعد مشروع قانون يمنع به ترقية الجند من نحت السلاح لكي يبقى الشراكسة في الجيش هم العنصر الذي يسود.
أما عن كبار الضباط فقد بدأ يعزلهم أو يقصيهم عن مواضعهم، كما حدث في أمر أحمد عبد الغفار قائمقام السواري، إذ عزله رفقي وعين مكانه أحد الشراكسة وهو شاكر طمازة، وكما حدث في نقل عبد العال حلمي إلى عمل في ديوان الوزارة ووضع شركسي مكانه طاعن في السن لا كفاءة له؛ وهو خورشيد نعمان.
وأما عن الجند فقد كانت الحكومة تسخرهم في أعمال لا تمت بصلة إلى الجندية كحفر الترع والزراعة في أرض الخديو وغير ذلك، ومما هو جدير بالذكر هنا أن عرابيا عارض معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي، وهذا بلا شك موقف من مواقف شجاعته، تلك الشجاعة التي يأبى خصومه أبدا إلا أن يروها تهورا، والتي نراها في أكثر الأحوال على خير ما تكون شجاعة أولي الحمية والإخلاص من الرجال، وأي مأرب كان لعرابي في مثل هذا الموقف وفيم تكون معارضته في أن يسخر جنده في مثل تلك الأعمال إذا لم يكن مبعثها الإنصاف والغيرة؟ وما يكون إنصافه وغيرته في موقف كهذا إلا بسالة وإقداما.
وكان رجال الجيش بوجه عام يحسون قلة عناية الوزارة بالأمور العسكرية، بل كانوا يلمسون إهمالها هذه الأمور في الوقت الذي أولت فيه شيئا من عنايتها غيرها من المسائل ...
ولو أن الوزارة عالجت هذه الحال بما يقتضيه العدل والإنصاف لما قدر للحركتين: الوطنية، والعسكرية أن تمتزجا فيكون منهما تلك الثورة التي اقترنت باسم عرابي ... لكن كان دون علاجها عقبات، فهناك تعصب رفقي وغطرسته، وجهل رياض بالشئون الحربية وترفعه عن هؤلاء الفلاحين من الجند، لأنه كان يترفع عن الفلاحين جميعا، ثم هناك دسائس الشراكسة في الجيش وكيدهم للمصريين، ذلك الكيد الذي لم يكن يفتر ...
علم عرابي بما أراده عثمان رفقي بكل من أحمد عبد الغفار وعبد العال حلمي قبل أن ينشر، إذ كان مدعوا إلى وليمة بدار أحد الباشوات، وقد أنبأه هناك أحد أصدقائه بما اعتزمه رفقي فقال عرابي غاضبا: «إن هذه لقمة كبيرة لا يقوى عثمان رفقي على هضمها.» كما جاء في مذكراته، ويقول عرابي في تلك المذكرات: «وبعد تناول الطعام جاءني ضابط وأخبرني بأن كثيرا من الضباط ينتظرونني بمنزلي فتوجهت إليهم في الحال فوجدت من ضمنهم الأميرالاي عبد العال بك حلمي حكمدار الآلاي السوداني الكائن مركزه في طره، والبكباشي خضر أفندي من الآلاي المذكور أيضا، وعلي بك فهمي أميرلاي الحرس الخديوي بقشلاق عابدين والبكباشي محمد أفندي عبيد من الآلاي المذكور، والبكباشي ألفي أفندي يوسف من الآلاي الرابع البيادة حكمداريتي، والقائمقام أحمد بك عبد الغفار من الآلاي السواري وغيرهم. وكانوا جميعا في هياج عظيم؛ إذ بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم، فلما رأوني أفضوا إلي بما سمعته من نجيب بك وإسماعيل باشا كامل من قبل، فقلت لهم: قد سمعت هذا من غيركم فماذا تريدون؟ قالوا: وليس الأمر كذلك فقط، بل إنه قد كثر اجتماع العنصر الشركسي في منزل خسرو باشا الفريق، وهم يتذاكرون في تاريخ دولة المماليك في كل ليلة بحضور عثمان باشا رفقي ويلعنون خيري بك لتسليمه وإذعانه للسلطان سليم، ويقولون إنه قد حان الوقت لرد بضاعتهم إليهم، وإنهم لا يغلبون من قلة، وظنوا أنهم يملكون مصر ويستبدون بها كما فعل أولئك المماليك من قبل، ثم عقب الضباط بأنهم قد تحققوا صدق تلك الأنباء ممن يوثق بخبره، فقلت: وماذا تريدون إذن؟ فقالوا: إنما جئناك لنرى رأيك؟ فقلت: رأيي أن تطيبوا نفوسكم وتهدئوا روعكم وتعتمدوا على رؤسائكم وتفوضوا إليهم النظر في مصالحكم، وهم يتخذون من بينهم رئيسا لهم يثقون به كل الثقة ويسمعون قوله ويطيعون أمره، ويحفظونه بمعاضدتكم إذا أرادت الحكومة به شرا، فقالوا كلهم: إنا فوضنا إليك هذا الأمر، فليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك. فقلت: كلا، بل انظروا غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي، فقالوا: إنا لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك، فأبنت لهم أن الأمر عصيب ولا يسع الحكومة إلا قتل من يتصدى له، فقالوا: نحن نفديك ونفدي الوطن العزيز بأرواحنا. فقلت لهم: أقسموا لي إذن على ذلك فأقسموا. وفي الحال كتبت عريضة إلى رئيس النظار مصطفى رياض باشا مقتضاها الشكوى من تعصب عثمان رفقي باشا لجنسه وإجحافه بحقوق الوطنيين، وطلبت فيها أولا: عزل ناظر الجهادية المذكور وتعيين غيره من أبناء الوطن عملا بالقوانين التي بأيدينا، ثانيا: تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة تنفيذا للأمر الخديوي الصادر عقب ارتقائه مسند الخديوية، ثالثا: إبلاغ الجيش العامل إلى 18000 تطبيقا للفرمان السلطاني، رابعا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للعدل والمساواة بين جميع الموظفين بصرف النظر عن اختلاف الأجناس والمذاهب.
ثم تلوت العريضة المذكورة على مسامع الحاضرين فوافقوا عليها، وأمضيتها بختمي وختم علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي، وبعد ذلك صار ترتيب ما يلزم لحفظ الخديو والعائلة الخديوية والوزراء إذا حدث أي حادث من الضباط الشراكسة مع ترتيب ما يلزم لحفظ البنوك وبيوت التجار الأجانب والوطنيين من مطامع الرعاع، وكذلك ما يلزم لحفظنا من بطش الحكومة إذا أرادت الإيقاع بنا، وانتهى الاجتماع على ذلك.»
ويتضح من اجتماع الضباط بمنزل عرابي على هذه الصورة وفيهم من لم ينلهم في أنفسهم شيء من الأذى أن السخط على رفقي كان من كل قلب، وأن المسألة في حقيقتها كانت شعورا قوميا تجاه تعصب هؤلاء الشراكسة وعلى رأسهم كبيرهم الذي يمكن لهم على حساب المصريين أو الفلاحين كما كانوا يسمونهم، وفي هذا أبلغ رد على الذين تشاء لهم أهواؤهم أو يدفعهم جهلهم إلى تشويه ما كان يدفع عرابيا إلى التمرد من نبيل الشعور، وذلك بقولهم: إنه كانت تحركه دوافع شخصية.
ويجدر أن نبين هنا لماذا انضم إليهم رجل مثل علي فهمي وقد كان في حرس الخديو، والواقع أنه فعل ذلك نتيجة لسياسة رفقي كذلك، فقد وشى به رفقي عند الخديو حتى غيره عليه، وأحس فهمي أن مكانته عند توفيق لم تعد كما كانت، فانطوت نفسه على الضغن، وصمم على أن ينتقم من رفقي متى سنحت الفرصة، وما لبث أن أحس مثل ما كان يحسه عرابي من كراهية هؤلاء الشراكسة جميعا، والتعصب للقومية المصرية، وهو بلا ريب نتيجة لتأثره بشخص عرابي بعد مصاحبته وتفطنه إلى ميوله وأفكاره.
يذكر عرابي في مذكراته هذه أنه قد جاء في الشكوى تشكيل مجلس نواب وزيادة عدد الجيش، ويذكر ذلك أيضا في التاريخ الموجز الذي كتبه عن نفسه وأثبته بلنت في آخر كتابه، ولكني لم أقع في مصدر آخر على أن العريضة احتوت المطالبة بتشكيل مجلس نيابي وزيادة عدد الجيش ، ولقد علق بلنت على ذلك قائلا: «أظن أن عرابيا قد وقع هنا في خطأ فخلط بين ما احتوته العريضة وبين هذين المطلبين اللذين جاءا فيما بعد يوم 9 سبتمبر، ولكن عرابيا أصر على أن المطالب الثلاثة جاءت أول ما جاءت في فبراير، وأنها كتبت يومذاك.» وقد عرض بلنت ما كتبه عرابي عن تاريخ حياته على الشيخ محمد عبده سنة 1903 في منزله بعين شمس، فأقر أكثره ولكنه وضع ملاحظاته على بعضه، ومنه محتويات تلك الشكوى. ويؤكد الشيخ محمد عبده أنه لم يكن في تلك الشكوى أية إشارة إلى تشكيل مجلس نواب أو إلى زيادة عدد الجيش.
ويقول كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: «لقد جاء في العريضة أن وزير الحرب عثمان باشا رفقي عامل الضباط المصريين في الجيش معاملة غير عادلة فيما يتصل بالترقية، وقد سلك في ذلك مسلكا كما لو كان هؤلاء أعداءه، أو كما لو أن الله قد أرسله ليصب غضبه على المصريين. وقد طرد الضباط من فرقهم بغير تحقيق قانوني، وعلى ذلك فقد طلب الشاكون مطلبين: أولهما أنه يجب إقصاء وزير الحرب لأنه غير كفؤ لهذا المنصب العالي، وثانيهما أنه يجب أن يجري تحقيق يتناول مبلغ كفاءة الذين ظفروا بالرقي.»
هذا ما ذكره كرومر عن محتويات الشكوى، ولو أنه كانت بها إشارة إلى ذينك المطلبين اللذين أشار إليهما عرابي ما أغفلهما كرومر لما يكون لمثلهما من خطر في ذلك التاريخ الذي يكتبه ...
ويقول الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية»: «ويلوح لنا أن ورود هذه المطالب كلها في عريضة الضباط أمر مبالغ فيه ومشكوك في صحته، فالمستر بلنت - وقد قص له عرابي واقعة قصر النيل - يقول: إن العريضة كانت مقصورة على عزل عثمان باشا رفقي من منصبه، والشيخ محمد عبده ينفي رواية عرابي ويقول إن العريضة تتضمن الشكوى من الحيف الذي وقع بالضباط من عثمان رفقي وطلب عزله، وإنه لم يرد بها أية إشارة إلى الدستور أو إلى زيادة الجيش إلى 18000 جندي. وقال علي باشا فهمي في استجوابه إن العريضة مقصورة على طلب عزل عثمان رفقي. وذكر البارون دي رنج قنصل فرنسا العام في مصر في رسالته عن واقعة قصر النيل أن العريضة مقصورة على إعادة قائمقام الفرسان.» ويرى الأستاذ الرافعي أن عرابيا «حين كتب مذكراته بعد وقوع حوادثها بسنين خلط بين مطالب الضباط في واقعة قصر النيل ومطالبهم بعد انتصارهم فيها».
وأنا أميل إلى ما ذهب إليه الرافعي، وأحس أن عرابيا لم يعن بالدقة في بعض تفاصيل هذا الحادث ومنها ما احتوته العريضة، فقد ذكر في ذلك التاريخ الموجز الذي كتبه لبلنت بناء على طلبه أنه علم في بيت نجم الدين باشا أن عثمان رفقي كان ينوي عزله وعزل عبد العال، وهذا يخالف ما جاء في مذكراته، وكذلك جاء في ذلك الموجز أن عبد العال اقترح عليه حينما وافاه ومن معه في منزله الذهاب إلى بيت عثمان رفقي والقبض عليه أو قتله، وأنه رد على عبد العال قائلا: «كلا، بل نشتكي إلى رئيس الوزراء، فإن لم يقبل فإلى الخديو.»، وهذا أيضا يخالف ما جاء في المذكرات، ومنه يحس المرء أن عرابيا كان يكتب من ذاكرته أحيانا، ولذلك كان يختلط عليه الأمر في بعض المسائل.
ومهما يكن من أمر محتويات العريضة، فالذي تكاد تتفق عليه الروايات أن الضباط طالبوا بعزل عثمان رفقي من منصبه، وليس هذا بالأمر الهين، بل إنه لجرأة عظيمة في عهد كذلك العهد ...
يذكر عرابي في مذكراته أنه بين للضابطين خطورة الحركة، ولكنهما أصرا عليها فطلب إليهما أن يقسما أمامه أن يخلصا له النية، ولنا أن نتساءل هنا: لم اختير عرابي قائدا لهذه الحركة دون غيره، وقد كان فهمي في حرس السراي وله صلات برجال الحاشية، ولم يكن عبد العال دون عرابي مرتبة وخبرة؟ لم عقد الضباط اجتماعهم في داره وأرسلوا يطلبونه وقد نمى إليهم مما يدبر رفقي ما نمى؟
إن اختيار رجل من الرجال دون غيره لقيادة حركة من الحركات أمر ينطوي لا ريب على معنى، فما ولدت الزعامة في الغالب إلا على هذه الصورة ، ففي ذلك الرجل توجد صفات يتميز بها من سواه فتجتمع عليه القلوب والأهواء في لحظة لا يكون للتنافس الشخصي فيها مجال، وهذا في رأيي من أفضل مقاييس الزعامة، وبخاصة إذا كان من يختار معروفا من قبل لمن يختارونه، فلا يكون إقبالهم عليه إعجابا وقتيا لا يلبث أن يتبين خطأهم فيه.
ولن يشذ عرابي عن هذه القاعدة، فإنما اختاره الضباط لما عرفوا فيه من صفات الجرأة والحماسة والإخلاص، ولما عهدوا ما عليه من الصدق وحسن الطوية، هذا إلى أنه كان يفوقهم من ناحية لا غنى عنها لزعيم من الزعماء ألا وهي فصاحة اللسان، فلقد كان هذا الرجل الذي جعل الجهل في مقدمة عيوبه أفصح الضباط لسانا، ولقد كانت الخطابة إحدى مواهبه حتى ليعد من أخطب رجال ذلك العهد، لا في الجيش فحسب، بل بين المواطنين جميعا ...
وامتاز أحمد عرابي بشيء آخر لعله خير ما امتاز به، وذلك أنه كان أكثر المصريين في الجيش سخطا على الشراكسة وأشدهم نفورا منهم، وأعظمهم اعتزازا وشعورا بقوميته، وهذا لعمري ما سوف يظل التاريخ يذكره عن هذا الرجل الذي جهله أكثر بني قومه زمنا طويلا، وما ستظل الأجيال تزداد منه وثوقا حتى يغدو هذا المصري الفلاح من أحب زعماء مصر إلى قلوب أهل مصر ...
وما كان اضطغان عرابي على الشراكسة لدافع شخصي، فهو مصري قبل كل اعتبار، وما يلحقه من أذى أو احتقار على أيدي هؤلاء إنما يناله رجلا ويناله مصريا في وقت واحد، ولم يقف سوء معاملاتهم عنده حتى يقال إنه غضب لما لحقه، وإنما كانت سياسة الشراكسة تعصبا لجنسهم على حساب المصريين، فكان هذا الضابط المصري أكثر أقرانه من المصريين نخوة وأعزهم نفسا، وفضلا عن هذا كله فقد حظي عرابي نفسه في أوائل عهد توفيق بالرقي إلى مرتبة أميرالاي، وكان ذلك كفيلا أن يزيل ما عسى أن يكون قد بقي في نفسه مما لحقه من أذى في عهد إسماعيل.
أعد الضباط عريضة بمطالبهم، ووقع عليها عرابي وزميلاه، وذهب ثلاثتهم فرفعوها إلى رياض باشا في منتصف يناير سنة 1881، وإنهم ليعلمون ما كان ينطوي عليه هذا العمل من جرأة في ذلك الوقت، وكان عرابي هو الذي يتكلم باسم زميليه وباسم الضباط جميعا، كما كان سعد يتكلم حينما ذهب مع زميلين له كذلك في مستهل الثورة الثانية إلى مقر المعتمد البريطاني يرفع مطالب مصر عقب الهدنة التي ختمت بها الحرب العالمية الأولى ...
وكان رياض يكره تقديم العرائض مهما كان من عدالة ما تحتوي من المطالب، وكان يلقي في السجن أو يحكم بالنفي على من يخطون مثل هذه الخطوة، كما حدث للسيد حسن موسى العقاد؛ فقد نفي إلى السودان لأنه انتقد إلغاء قانون المقابلة في الصورة التي جاءت بها لجنة التصفية، وكما حدث لكثيرين غيره ممن أخرجوا من مصر بسبب آرائهم الحرة.
وقابل رياض الضباط مغيظا محنقا، وخاطبهم في كبرياء وغلظة كما يقول عرابي، فقال لهم فيما قال: «إن أمر هذه العريضة مهلك، وهو أشد خطرا من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان.»
وكان هذا الفتى قد نفي كذلك لأنه طلب المساواة في المعاملة بغيره من موظفي الديوان محتجا على ما كان يجري من صور المحسوبية، وقد قضى في منفاه نحبه.
يقول عرابي: «فأجبته بأننا لم نطلب إلا حقا وعدلا، وليس في طلب الحق من خطر؛ وإنا لنعتبرك أبا للمصريين، فما هذا التلويح والتخويف؟ فقال: ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوا في مجلس النواب، فقلت له: إنك مصري وباقي النظار مصريون والخديو أيضا مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم عقمت؟ كلا فإن فيها العلماء والحكماء والنبهاء، وعلى فرض أن ليس فيها من يليق لأن يكون عضوا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم ويكون كمدرسة ابتدائية تخرج لنا بعد خمسة أعوام رجالا يخدمون الوطن بصائب فكرهم، ويعضدون الحكومة في مشروعاتهم الوطنية؟ فانبهر وكأنما كبر لديه ما سمعه منا، ثم قال: سننظر بدقة في طلباتكم هذه، فانصرفنا على ذلك.»
ويتضمن كلام عرابي هذا أنه طالب بمجلس للنواب، ولكن بلنت يورد الحادث في كتابه على صورة أخرى قائلا إنه يورده كما علمه من عرابي، قال عرابي في رواية بلنت ما ترجمته: «ذهبنا بعريضتنا إلى وزارة الداخلية، وطلبنا أن نقابل رياضا فأدخلنا حجرة خارجية ودخلنا ننتظر حتى قرأ الوزير العريضة في حجرة داخلية، ثم ما لبث أن جاء إلينا يقول: إن عريضتكم مهلكة، ماذا تطلبون؟ أتطلبون تغيير الوزارة؟ وماذا تضعون مكانها، ومن تقترحون ليدير شئون الحكومة؟ وأجبته قائلا: يا سعادة الباشا، هل مصر امرأة ولدت ثمانية أبناء ثم عقمت، وقد أردته بهذا والوزراء السبعة تحت إمرته.»
واشتد غضب رياض لمطالبة الثائرين بعزل عثمان رفقي؛ فقد رأى في هذا الطلب نوعا من التمرد الجريء؛ إذ ما دخل الجيش في سياسة الحكومة حتى يطالب بعزل وزير من الوزراء، وكانت الحكومة لا ريب محقة في هذا الغضب، ولكنها لم تسلك إزاء هذه الحركة ما كانت تقتضيه السياسة الرشيدة، فكان عليها أن تنظر في مطالب الجيش فتجيب منها ما يزيل أسباب الشكوى، ثم تقنعهم بعد ذلك بأن ليس من حقهم المطالبة بعزل رفقي.
سكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط بسحب العريضة ولكنهم يصرون عليها، وغضب الخديو أشد الغضب وأشار عليه بعض المحيطين به باتباع العنف نحو الضباط، ثم نمى إلى رياض أن سكوته قد يفسر بأنه ممالأة للجيش وعدم موالاة للخديو، ويقول بلنت في كتابه: إن الخديو من ناحيته أراد أن ينتهز هذا الحادث للانتقام من رياض فيوقع العداوة والشحناء بينه وبين رجال الجيش، وكان من رأي رياض ألا يجعل من المسألة قضية تتجه إليها أذهان الناس، كما أن رفقيا كان يخشى أن تظهر المحاكمة سوء سياسته.
ولما فطن رياض إلى ما قد يفسر به سكوته وافق على محاكمة الضباط، ووقع الخديو على أمر بمحاكمتهم، ودعى وزير الجهادية الضباط الثلاثة إلى ديوان الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات، فأخذتهم من الدعوة ريبة؛ إذ لم تجر العادة بمثل هذا، وأخذوا للأمر ما يجب من حيطة، فاتفقوا مع فرقهم أن تذهب إليهم إذا تأخرت عودتهم عن ساعتين، ثم ذهبوا إلى حيث طلب إليهم أن يحضروا ...
وكان الضباط في الواقع على علم بما دبر لهم، فلم يكن من العسير عليهم في مثل ذلك الموقف أن يدركوا ما عسى أن تبيته لهم الحكومة من كيد، ولقد قيل إن قنصل فرنسا كان على اتصال بهم فأخبرهم بما عقدت الحكومة النية عليه.
وما كاد ثلاثتهم يدخلون وزارة الجهادية، وكان ذلك أول فبراير سنة 1881 حتى ألفوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الشراكسة فقبض عليهم وانتزعت منهم سيوفهم وأودعوا السجن وهم يسمعون عبارات السب والشماتة يقذفهم بها هؤلاء الشراكسة الأجلاف، وكانت كلمة «فلاح» أكثر ما أطلق به ألسنتهم هؤلاء السفهاء من الشراكسة، وقد ساء وقعها في نفوس الضباط الثلاثة، وفي نفس كل من علم بها من المصريين. وكان دخولهم السجن توطئة لمحاكمتهم؛ فقد انعقد لهم مجلس عسكري يحاكمهم برئاسة رفقي نفسه.
وعين رفقي ثلاثة غيرهم على آلاياتهم؛ فأحل محمود طاهر محل عرابي، وخورشيد نعمان محل عبد العال حلمي، وخورشيد بسمي محل علي فهمي، وعمل رفقي على تنفيذ هذا الأمر ساعة صدوره ... •••
شاع الخبر في الجند الوطنيين فثارت ثائرتهم، وكان أكثرهم جرأة وإقداما ووفاء الضابط الباسل محمد عبيد بطل التل الكبير فيما بعد، وكان في آلاي علي فهمي بقشلاق الحرس بعابدين، فنادى جنده نداءه العسكري فاحتشدوا، فأمرهم بالسير إلى قصر النيل، فاعترضه خورشيد بسمي ذلك الذي حل محل فهمي؛ فلم يستمع محمد عبيد إليه، بل لقد اعتقله في إحدى حجرات القشلاق، وشهد الخديو تأهب الجند للمسير؛ فأرسل إليهم الفريق راشد باشا حسني سير ياوره ليصدهم عن سبيلهم فيما استمعوا له، وأرسل توفيق يستدعي عبيدا وبعض إخوانه فرفضوا أن يذهبوا إليه ...
وأحكم عبيد الهجوم على قصر النيل، ولاذ رفقي بالهرب من إحدى النوافذ في صورة مخزية، وهرب أعضاء محكمته، واعتدى الجند على أفلاطون باشا وستون باشا وبعض من صادفهم من الضباط الأجانب، وما زال عبيد يبحث عن الضباط الثلاثة هو وجنوده، وراحوا يحطمون الأبواب والنوافذ حتى عثروا عليهم؛ ففك عبيد قيودهم وأطلق سراحهم ...
وتحرك آلاي طرة قاصدا قصر النيل، واستمر رجاله في سيرهم على الرغم من أنهم علموا أن الضباط الثلاثة قد أخلي سبيلهم، وعلى الرغم من أن الخديو أرسل لقائدهم خضر أفندي خضر ينهاه عن الحضور، وتوجه خضر إلى عابدين وقد علم أن عرابيا وصاحبيه قد ساروا إلى هناك.
ولم يتخلف إلا آلاي العباسية وهو آلاي عرابي نفسه، وقد ندموا بعد ذلك على قعودهم، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، ثم جاءوا عشاء إلى عابدين؛ فألقوا معاذيرهم بين يدي عرابي، وأكدوا له الولاء.
ويحسن أن نورد هنا ما وصف به عرابي موقفه هو وزميليه بعد أن دخلوا السجن قال: «ولما أقفل علينا باب الغرفة تأوه رفيقي علي بك فهمي وقال: لا نجاة لنا من الموت وأولادنا صغار، ثم اشتد جزعه حتى كاد يرمي بنفسه في النيل من نافذة الغرفة؛ فشجعته متمثلا بقول الإمام الشافعي (رضي الله عنه):
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكان يظنها لا تفرج
وتمثل عرابي بأبيات أخرى نسبها إلى السيدة زينب رضي الله عنها إلى أن قال: «فلا والله ما كانت إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاي الحرس الخديوي وأحدق رجالهما بديوان الجهادية وأسرع بعض الضباط والعساكر فأخرجونا من السجن، ففر ناظر الجهادية ورجال المجلس وغيرهم من المجتمعين، وقصدوا جميعا إلى سراي عابدين ...»
وإنما نورد هنا ما ذكره عرابي لأنه من جهة يصور لنا جانبا من شخصيته وناحية من ثقافته، ويرينا نزعة اتكاله على الله، تلك النزعة التي سوف لا تنخلع عنه حتى بعد أن تنخلع عنه عزيمته عند انصراف أنصاره عنه عقب مأساة التل الكبير، ثم لأن كلامه من جهة أخرى متفق مع ما يقول الرواة، فلا ضير أن نورد القصة على لسانه. •••
ذهب الضباط الثلاثة ومن ورائهم من أخرجوهم من الأسر إلى الخديو يسمعونه شكواهم، وكان بعض أعوان الخديو يشيرون عليه بأخذهم بالشدة ومعاملتهم معاملة الثائرين ولو أدى الأمر إلى إطلاق النار عليهم، وقال البعض إنه من العبث أن تلجأ الحكومة إلى البطش وليس لديها وسائله، فالفرق جميعا تؤيد عرابيا ومن معه. والرأي أن يسلك الخديو معهم جانب اللين فيطفئ بذلك نار الفتنة، وكان ممن أشاروا بهذا الرأي محمود سامي البارودي الذي سوف يغدو من زعماء العرابيين ...
وتغلبت الحكمة على الطيش، ووضع اللين في موضع البطش، فأوفد الخديو إلى الضباط الثلاثة ومن ظاهرهم من الجند تحت نوافذ قصره يخبرهم بإجابته مطلبهم الأول فقد عزل رفقي، وطلب إليهم أن يختاروا من يحل محله حتى لا يعودوا إلى الشكوى؛ فوقع اختيارهم على البارودي، ووعدهم الخديو أن ينظر في بقية مطالبهم، وأن يعمل على إنصافهم بعد أن أعادهم إلى مناصبهم والتمس الضباط الإذن على الخديو، فلما مثلوا بين يديه أعربوا له عن امتنانهم وصادق ولائهم لشخصه وعظيم إخلاصهم لعرشه، ثم انصرفوا وانصرف الجند فرحين مستبشرين.
ولقد كان على الخديو أن يتدبر في الأمر منذ بدايته وينظر ما إذا كان لديه قوة يقمع بها الحركة إن كان لابد من وضع العنف موضع العدل، فإن عدم القوة كان أمامه أن يلجأ إلى اللين غير مكره ولا مغلوب على أمره، ولكنه تصرف على نحو ما رأينا فأفضى به تصرفه إلى نتائج خطرة وسوف تؤثر أثرها في مجرى الحوادث، فظفر الجند بمطالبهم في عنف. وعجز الحكومة عن مقاومتهم وسلوكها ذلك المسلك الشائن قد وضع الخديو وحكومته في موضع الضعف، وأحل عرابيا وحزبه محل التوثب والتطلع، وجعلهم مناط الأمل والرجاء، هذا إلى ما تركه هذا الحادث من سخيمة في نفس الخديو يصعب بعدها كل تفاهم، ويسهل أن يلبس فيها كل حق بالباطل، وما بثه من حذر وريبة في نفوس الجند بحيث يرون في كل حركة من حركات الحكومة شبح الغدر ويلبسان كل عمل من أعمالها ثوب الرياء ...
الفلاح الزعيم
أدى حادث قصر النيل وانتصار عرابي وزميليه على هذه الصورة التي وصفنا إلى ذيوع صيت عرابي على نحو لم يسبق لفلاح قبله في مصر منذ قرون، فما يذكر تاريخ مصر منذ أن منيت بالفتح والقهر أن قام من بنيها رجل من أعماق القرى فتمرد على ما يعتقد أنه ظلم يحيق به وببني جنسه، كما تمرد واجترأ هذا الفلاح فأبعد من الوزارة شركسيا قوي الشوكة، وأملى رغبته على رئيس الحكومة بل وعلى الخديو إملاء ونال بغيته غلابا، ولم يك بالذي يغفل عما كان عسيا أن يؤدي إليه صنيعه هذا من هلاك ...
والحق أن هذا العمل يومذاك كان بالغ الجرأة، فقد كان المصريون يدينون بالطاعة للخديو ويهابون سلطانه وجاهه، ويرون فيه سيدا وضعه الخليفة حيث كان ليطاع ولتعنو له الوجوه، وما كان يتصور أحد أن يذهب إلى مقر سلطانه رجل نشأ في قرية ومن ورائه جند فلاحون مثله فيقولون له: نحن نريد ونحن نطلب ثم يظفرون بما أرادوا وينقلبون لم يمسسهم العذاب الأليم.
وسرعان ما دار اسم ذلك الفلاح الثائر الظافر على كل لسان في القاهرة، وسمع بذلك الاسم من لم يسمع به من قبل من الأجانب ومن لم يكن يعرفه من المصريين ...
ولم يقف الأمر عند القاهرة، فقد رن هذا الاسم في القرى وتغلغل في أعماقها؛ فأفاق على رنينه أولئك الأعيان والشيوخ الذين تعودوا منذ القدم أن يخضعوا خضوعا مطلقا للأتراك والشراكسة الذين كانوا ينظرون إلى الفلاحين جميعا مهما يكن من ثراء بعضهم نظرتهم إلى دوابهم، والذين كرههم الفلاحون بقدر ما خافوهم، ولكنهم لم يجدوا من الإذعان لهم من بد ...
عجب أولئك الفلاحون أن يجرؤ رجل منهم على تحدي الخديو والرؤساء الشراكسة، فتعلقوا بهذا الرجل ولم يروه، ورغب الكثيرون منهم في رؤيته، فقدموا إلى القاهرة يحملون إليه الهدايا ويعربون له عن محبتهم إياه وإعجابهم بمبادئه التي كان قوامها إنصاف الفلاحين في الجيش، وراح عرابي يخطبهم شاكرا إياهم باثا فيهم روح الحرية والإباء.
وليت شعري ماذا تكون الزعامة إذا لم تكن هذه زعامة؟ ألسنا نرى الآن في عرابي شخصيتين: شخصية الجندي الذي يسير بمطالب الجند على رأس الجند، ثم شخصية الفلاح الزعيم الذي بدأ الفلاحون به يرفعون رؤوسهم وقد خفضوها أجيالا طويلة؟ ألا إني لألمس في تلك الصحوة فجر عصر جديد للقومية المصرية، كان عرابي أول مؤذن به، ألمس ذلك الفجر الذي سوف ينبلج صباحه بعد قليل على صيحة أخرى كانت صدى لهذه الصيحة هتف بها فلاح آخر برز من القرى كما برز عرابي، وذلك هو سعد ابن مصر العظيم وأحد أبطالها ومفخرة رجالها ...
ولئن كان جمال قد أيقظ الغافين في المدن، فإن عرابيا قد بعث بإقدامه أهل القرى من مراقدهم، فإن عمله هذا أوحى إليهم أنه من الممكن أن يخرج من بينهم من يشمخ بأنفه على أولئك الذين طالما استذلوا في مصر الرقاب ...
ولقي عرابي - وقد أصبح في رأي الناس حامي الأمة من المظالم - تأييدا من العلماء الذين أعجبوا بجرأته وحميته.
ولم يبلغ عرابي هذه المكانة في نفوس الناس بعلم اشتهر به أو فلسفة عمل على تمكينها في النفوس، أو آراء في الإصلاح والنهوض عمل على إذاعتها في الناس كما فعل جمال الدين وكما فعل من بعده تلميذه محمد عبده، وإنما بلغ عرابي ما بلغه من الصيت بحميته وغيرته، ثم بصلابة عوده وجرأته، وكانت تلك الخلال هي أخص ما يطلب يومذاك، حيث كان يحيط بالناس البطش والتخويف، ويقعد بهم الذل والخوف.
وعلى الذين ينكرون أقدار الرجال أن يتدبروا في موقف عرابي هذا، ثم لينظروا بعد ذلك هل كان صنعه ضئيلا كما يزعمون، ولكنا لا نوجه القول إلى هؤلاء وأمثالهم ممن يكتمون الحق وهم يعلمون ...
وهل ذاع صيت ميرابو واغتدى في قومه زعيما بفلسته وثقافته وهو المفكر الواسع الأفق، أم كان ذلك بصيحة منه تحدى بها القوة فملأت أسماع قومه ونفذت إلى كل قلب في فرنسا يؤمن بالحرية، يوم كانت فرنسا في مفترق الطرق إما إلى الحرية، وإما إلى العبودية؟
ولو أن جاندارك كتبت ألف كتاب أو خطبت الناس ألف خطبة، أكان ذلك يساوي لبسها الدرع واعتلاءها صهوة جواد وسيرها تقود الرجال مؤمنة إما إلى القبر وإما إلى النصر؟
إن الخطوة الأولى في كل حركة تتطلب إقداما وبسالة كانت - وما تزال - هي التي تنقل التاريخ من صفحة إلى صفحة ، وما يغفل عن قيمة الإقدام وخطره وبعد أثره إلا مكابر جحد به واستيقنته نفسه ...
وما ندعي أن عرابيا قد اتفقت له صفات الزعامة كلها أو أكثرها، ولكنا منه تلقاء صفة لن تقوم بدونها زعامة، تلك هي الشجاعة التي يأبى معها الرجل أن يذل، ويزيد في جلال هذه الشجاعة بروزها في وقت كذلك الوقت الذي نتحدث عنه، ذلك الوقت الذي لم يكن يجد فيه الشجاع إلا قليلا ممن يتأسى بهم أو يسير على نهجهم، والذي ألف فيه الذل حتى نسي الناس أنهم في ذل، والذي لم يكن فيه لذي النخوة عاصم من قانون أو دستور أو رأي عام، أو ما إليها مما يستعصم به الناس اليوم من جور الطاغين ومكر المستبدين. •••
يقول بلنت في كتابه: «كان تاريخ هذه القلاقل العسكرية في قصر النيل هو أول فبراير سنة 1881، وقد حدث وكنت لا أزال في مصر ولكن بعد أن غادرت القاهرة، ولست أتذكر أني سمعت اسم عرابي يذكر قبل حدوثها، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وسرعان ما صار اسمه على كل لسان، اسم رجل نجح في تحدي الحكومة والظهور عليها وإحداث تغيير في الوزراء، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر أو على الأقل أصبح يعزى إليه القوة، وصارت تتقاطر عليه - كما هي العادة في مصر - الظلامات من أناس عانوا الظلم ويطلبون معونته للوصول إلى العدالة. ولقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره في ثورته بمظهر الذي يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتصل به كثيرون من الأعيان ومشايخ البلاد، وكان يرد على كل بما يسعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر في الناس تأثيرا حسنا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذابة وفصاحته في الحوار، ولقد اتفق كل الاتفاق لعرابي في مظهره الشخصي من المواهب ما يهيئه إلى ما ندب له من دور يلعبه في تاريخ مصر ممثلا طبقته، فهو فلاح كأدق ما تكون صورة الفلاح ، طويل القامة، ثقيل الساقين، بطيء الحركة إلى حد ما، وبهذه الصفات تتمثل لنا فيه قوة البدن الممتلئ التي هي من خصائص الفلاح العامل في دلتا النيل، ولم يكن له شيء من خفة الجندي، وكان في ملامحه شيء من ذلك السكون الذي أكسبه الوقار والذي يلمحه المرء في وجوه مشايخ القرى، وكانت ملامحه مظلمة في حال سكونه، وكانت لعينيه نظرة جامدة كنظرة الحالم، وليس يفطن المرء إلا حين يبتسم أو يتكلم إلى ما بنفسه من ذكاء عظيم وعطف، فعندئذ يشرق وجهه كما يشرق المنظر المظلم بنور الشمس ... ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر كله لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى أن يصبح داعية إصلاح أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقا إلى الثورة.» •••
والحق أن مجرد غضبة مصري في مثل ذلك الوقت لمصريته ودفاعه عن قوميته كان يعد من ضروب الشجاعة التي تبلغ - لما أحاط بها من ملابسات - حد البطولة، ولن ينكر على عرابي المصري الفلاح ما في غضبته من معاني الزعامة والبطولة إلا مغرض أو جاهل، وهو لم يغضب فحسب ولم يعلن غضبه حتى رأى الخوف فنكص، وإنما طالب رئيس الوزراء بما اعتقد أنه الحق غير هياب ولا متلعثم، وأخذ يعد العدة بعدها لما عسى أن يدبر له من كيد، ولم يرض من الغنيمة بنجاته مما وقع فيه، وإنما ذهب على رأس جنده وحمل الخديو على إجابة ما يريده الجيش، فأبعد من منصبه ذلك الوزير الشركسي الذي كان يبعد المصريين من مناصبهم لا لشيء سوى أنهم مصريون ...
بهذا الذي فعله ذلك الفلاح الثائر حقت له الزعامة على الفلاحين من بني قومه، ولكن الأمر لم يقتصر على الفلاحين، فقد بات يخطب وده رجال الحزب الوطني كما سنبينه في موضعه ... •••
وأصبح بيت عرابي مقصد الكثيرين من الأحرار كما كان موئل رجال الجيش، ولم يجعل منه الوطنيون أداة لتنفيذ أغراضهم كما زين البغي أو الجهل لبعض المؤرخين أن يقولوا، فلقد كان مؤمنا بمبدأ الشورى كإيمانهم به، كما كان يكره المستبدين من الشراكسة ومن المصريين أكثر مما كان الوطنيون يكرهونهم، ولقد تجلى من قبل ميله إلى كل من يعطف على المصريين في علاقته بسعيد باشا وشدة ولائه له ...
وهكذا أصبح عرابي الفلاح ملتقى الآمال، يحرص على الصلة به الوطنيون والجند والفلاحون، ولقد بلغ من ذيوع صيته أن أصبح توفيق يغار منه حتى ما يستطيع أن يخفي تلك الغيرة.
ومما ذكره بلنت في هذا الصدد قوله: «وكان توفيق كما رأينا رجلا متقلب الأهواء، فبينما كان لا يزال ينوي أن يعتمد على الجيش للتخلص من رياض، كانت تساوره نوبات من الحقد على عرابي لما يرى من سرعة ذيوع صيته، وكان هذا الصيت جد ملحوظ طيلة أشهر الصيف، وقد أدى إلى اتصاله بعدد كبير من شيوخ القرى وأعيانها، أولئك الذين كانت دعوة تحرير الفلاح - تلك الدعوة التي تولى قيادها - شيئا تتوق إليه نفوسهم، وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم: «الوحيد». وقد استحق هذه التسمية حقا؛ فإنه كان في مدى عدة قرون الرجل الوحيد من صميم عنصر الفلاحين الخالص الذي استطاع أن يقاوم بنجاح طغيان رجال الطبقة الحاكمة من الأتراك والشراكسة.» •••
آن لمصر بعد طول المذلة أن تجد الرجل الذي يترجم عن آمالها ويدافع عن حقوقها وينطق باسمها، فاتجهت كما اتجه الجيش إلى هذا الفلاح الزعيم.
وعندي أن الحركة التي تعد مكملة لثورة عرابي أو بعثا لها هي ثورة مصر الثانية سنة 1919، وأن الزعيم الذي يلحق جهاده بجهاد أحمد عرابي وتضاف مبادئه إلى المبادئ التي دعا إليها أحمد عرابي هو سعد زغلول الفلاح الزعيم الثاني، ولكن في صورة غير صورة سابقه، وفي ظروف غير ظروفه ومجال أوسع من مجاله وإن اتفقا في روح مبادئهما وقومية بواعثهما وأغراضهما، كل من الثورة التي حمل لواءها ...
وما ننسى أن سعدا قد أعطى هذا الزعيم الأول حقه؛ إذ كان يستعرض ذات مرة أطوار الوطنية المصرية فذكر له ما لا يمكن أن ينسى له من فضل.
الوطنيون والعسكريون
بينا مبلغ ما أصيب به الأحرار في آمالهم منذ أن عزل إسماعيل وعين توفيق، ورأينا ما صدم النفوس من خيبة إذ استكثر توفيق الدستور على مصر، الأمر الذي أغضب شريفا فاستقال، وحل محله رياض ...
لم يكن لرياض مثل ما كان لشريف في قلوب الوطنيين من محبة، فقد كان على الرغم مما اشتهر به من براعة واستقامة متكبرا محافظا يسيء الظن بالوطنيين وحركاتهم ويوجس خوفا منها، كما كان في خلقه شيء من الغموض والتحفظ؛ فلم يكن له مثل صراحة شريف ولا مثل شجاعته الأدبية وإقدامه ونزعته الدستورية الحرة ...
وقد استطاع رياض أن يجعل من نفسه الحاكم المطلق الفعلي للبلاد، وذلك بضمانه رضاء توفيق، بأن جعل له حق رئاسة مجلس الوزراء متى أراد، وقد حرص في الوقت نفسه على السير في إدارة شئون البلاد وفقا لمبدأ مسئولية الوزارة عن أعمالها، ذلك المبدأ الذي قرره إسماعيل في أغسطس سنة 1878، والذي بمقتضاه لا يتنصل وزير من مسئولية عمله برده إلى مشيئة الخديو كما كان الحال قبل تقرير هذا المبدأ ...
وكانت تطغى على الرأي العام المصري روح الاستياء العام، فكان عهد وزارة رياض كجميع العهود التي تتهيأ فيها الأمم للثورات، فتكون في نفس كل امرئ ثورة وإن لم تدر على وجه التحديد ما بواعثها.
والحق أن استياء النفوس هو وليد ما بينا من أسباب تعصب المصريين وسخطهم أثناء حكم إسماعيل باشا، وجاءت وزارة رياض عقب استقالة شريف من أجل تمسكه بالدستور، فلم يبق مجال للأمل وخيم اليأس على النفوس، حتى لم يعد هناك بد من متنفس لهذا الشعور المكبوت.
ولو أن رياضا فطن إلى تلك الحال النفسية لأمكنه أن يعمل على تجنب عواقبها، ولكن رياضا على حد تعبير الشيخ محمد عبده كان «لا يخالج فكره ريبة في سكون المصريين إلى إطاعة كل ما يؤمرون به حملا لهم على سوابقهم وسالف عهدهم، فكان في غاية الطمأنينة من ناحيتهم ولم ير أنه يجب أن ينظر فيما عساه أن يثيرهم من جهة المقابلة في تنفيذ السلطة أو من ناحية الساخطين عليه من الوطنيين والأجانب».
أو كما قال عنه أنه كان «صادق النية مخلص السريرة في خدمة البلاد، ولكن لا يبالي في تأدية ما يراه واجبا عليه بما يجرح القلوب ويؤلم النفوس، ويظن أن من الواجب على كل أحد أن يعلم حسن نيته، وإن لم يبينها هو، وأن يرضى بعمله وإن لم تظهر الغاية الصالحة منه».
وزاد الناس نفورا من العهد كله، ضعف شخصية توفيق في ذاته وما لحق منصب الخديو من مهانة بسبب خلع إسماعيل، فقد ألقى في روع الناس وبخاصة حين رفض الدستور قاعدة للحكم أن مثله لا يرجى خير على يديه، وأنه بات صنيعة للأجانب يأتمر بأمرهم من وراء ستار بعد ما رآه من عزل أبيه، وأن رفضه الدستور لم يكن إلا مشايعة للأجانب في نظرتهم إلى المصريين ...
ولم تكن في مصر طبقة راضية عن وزارة رياض أو عن الحال القائمة يومذاك بوجه عام، سواء نسبت إلى رياض أم لم تنسب إليه، فخاصة المصريين، الذين كانوا يدركون حال بلادهم حق الإدراك، والذين أثرت فيهم آراء جمال الدين، كانوا منذ عهد إسماعيل ساخطين على تغلغل نفوذ الأجانب في مصر، وعلى السياسة التي جرت على مصر العسر والدين، ومن هؤلاء سوف يتكون الحزب الوطني في عهد رياض كما سنبينه في هذا الفصل.
وكان أعيان البلاد ينقمون على رياض إلغاء دين المقابلة، ويرون أن هذا أقبح الغبن إذ تلغي وزارة مصرية دينا أخذ من المصريين ولا تجرؤ على إلغاء شيء من أموال الأجانب، تلك الأموال التي شعر الناس جميعا بمبلغ ما كان فيها من مغالطة وسرقة.
وكان رجال الجيش ينقمون على رفقي تعصبه لجنسه، ويشركون رياضا معه في هذا الإثم بالضرورة لأنه أقره ولم يكن يشكو الجند من تعصب رفقي فحسب، بل كان يؤلمهم سوء ما يعاملون به مما يدل على الرغبة في امتهانهم وإذلالهم، فكان يكتفي بمجرد التهمة ليفصل الجندي من الخدمة، أو تنزع منه درجته أو ينفى إلى مكان سحيق في السودان ولو لم يثبت شيء عليه . وكان ذلك خليقا أن يملأ النفوس بالحفيظة ويدفعها إلى الرغبة في الانتقام، فليس الأمر أمر ظلم فحسب، ولكنه بتحيز الحكومة للشراكسة الذين يحتقرون المصريين كان ظلما على ظلم ...
وزاد السخط في نفوس العسكريين إنقاص وزارة رياض عدد الجيش إلى اثني عشر ألفا، أي إلى أقل مما يقضي به الفرمان الذي أرسله السلطان إلى توفيق، والذي يقضي بجعل الجيش ثمانية عشر ألفا. وقد أدى هذا إلى صرف عدد من الضباط والجند إلى مواطنهم؛ فأصابهم العسر، وكانوا من الساخطين، كل ذلك والشراكسة لا يمسهم شيء، بل لا يجدون إلا التقلب في النعمة والتمتع بالرقي.
وكان الناس بوجه عام، ومنهم الفلاحون، يشعرون أن لا عدالة ولا قانون يحمي المظلومين من تجبر الظالمين، الحكام منهم وذوي الجاه والثراء، فالكرباج والسخرة والنفي إلى السودان وأمثالها من العقوبات تقع على الناس في غير رحمة، بل في غير حق، وظل التعذيب والسخرة والإذلال أمورا شائعة في القرى على أيدي المديرين والأغنياء على الرغم من إصدار رياض أوامره بالكف عنها، ولقد كان نهيه عنها مما يحمد له، ولكن قعوده عن إبطالها كان مما يؤخذ عليه لا ريب. ولقد بلغ عدد الذين تقدموا إلى شريف باشا يلتمسون منه رفع الظلم عنهم حين ألف وزارته بعد يوم عابدين نيفا وتسعمائة كان تقرر إبعادهم إلى السودان!
وكان مما يتألم منه الفلاحون اندساس كثيرين من المرابين الأجانب بينهم، والعمل بكافة الحيل على إيقاعهم في الشرك والاستيلاء على أكثر ما يستطيعون الاستيلاء عليه من أموالهم.
كانت الحكمة تقضي أن يأخذ رياض الأمور بالرفق عله يتجنب انبعاث العاصفة، ولكنه عمل بسياسته على ثورانها، ولعل مرد ذلك إلى جهله بحقيقة ما كان يحيط به، واستبعاده الثورة على المصريين ...
ولعله كذلك خيل إليه أنه قادر بالقمع والعنف على أن يحكم البلاد، ولذلك رصد عيونه يتعقب الساخطين من الخاصة، وكان يشتبه في كل حركة ويخاف من أقل بادرة ...
وأنزل العقاب الشديد بمن يعارض سياسته، ومن ذلك ما حل بالسيد حسن موسى العقاد، الذي كان كل ذنبه أن دعا الناس إلى التوقيع على مظلمة ترفع لولاة الأمر مما وقع على الناس من غبن بإلغاء دين المقابلة، وكان جزاؤه على ذلك النفي إلى فازوغلي بالسودان، ومنه أيضا ما لحق الفريق شاهين باشا كنج الوزير السابق؛ فقد جرد من رتبه وألقابه لمجرد اتهامه أنه يتصل بالوطنيين الناقمين ... •••
وتعقب رياض الصحف بالتعطيل الوقتي والإنذار والإلغاء، بتهمة إثارة الرأي العام، ومنها جريدتا: «مصر، والتجارة»، وقد جاء في قرار الوزارة بإلغائهما قولها: «حيث سبق صدور الإنذارات مرارا عديدة وتنبيهات شفاهية من إدارة المطبوعات إلى أصحاب الجرائد الأهلية عموما، وإلى صاحب امتياز جريدتي «مصر، والتجارة» خصوصا بعدم خروجهم عن حدود وظائفهم ولا ينشرون ما يوجد تشويش الأفكار، صدر له آخر إنذار بأنه إذا رجع لمثل ذلك، فتلغى جريدتاه بالكلية، وحيث إنه بعد هذا الإنذار لم يترك مسلكه الأول لما نشره في جريدة التجارة نمرة 123 الصريح في أنه لا يرجع عما هو عليه، وحيث ما اعتادت على نشره هاتان الجريدتان ضرره أكثر من نفعه، اقتضى الحال صدور الحكم بإلغائهما مؤبدا.»
وتناول بطش رياض غير هاتين من الصحف فلم تنج في عهده صحيفة من التعطيل أو الإلغاء أو الإنذار.
أدت هذه السياسة التي جرى عليها رياض، إلى أن ينشط الناقمون في العمل على مقاومته والتخلص من حكمه، وكان هؤلاء الناقمون هم قادة الحركة الوطنية الذين كانوا يجتمعون منذ أواخر عهد إسماعيل أي قبل ذلك بنحو أربعة أعوام في بيت نقيب الأشراف السيد البكري، ونظرا لما بثه رياض من عيون تحصي عليهم حركاتهم فقد تركوا القاهرة وجعلوا اجتماعاتهم سرا في حلوان، ومن ثم تألف حزب أطلق عليه أول الأمر جمعية حلوان ثم صار يعرف بالحزب الوطني ... وكان من أشهر رجال هذا الحزب محمد سلطان وسليمان أباظة وحسن الشريعي ومحمد شريف وإسماعيل راغب وعمر لطفي، وقد نشروا في أواخر سنة 1879 أول بيان سياسي لهم وطبعوا منه آلاف النسخ وأذاعوها بين الناس. ولقد حنق رياض أشد الحنق على ناشري البيان، وبذل جهدا كبيرا ليعرف أسماءهم كي يرسلهم إلى السودان ، فلم يهتد إلى أحد ...
وأوفد الحزب أديب إسحق إلى أوربا ليدافع عن مبادئ الوطنيين فأنشأ في باريس جريدة القاهرة، وكان من أشد الساخطين على رياض لأنه عطل له جريدتيه: «مصر، والتجارة»، ثم إن أديبا كان من تلاميذ جمال الدين، وكان من المؤمنين بالدستور والمبادئ الحرة. ولقد حمل حملة شديدة على رياض في جريدته الجديدة ندد باستبداده وقسوته، ونسب إليه الظلم والجهل والحمق، وعاب عليه ما رماه به من الخضوع للأجانب والركون إليهم على حساب أمته، ولم يدع عيبا يستطيع أن يرميه به إلا بالغ فيه وأعاده وكرره، ولم يترك غميزة في خلقه أو فعله إلا أبرزها وراح ينوشه بأوجع الهجاء، وكان رجال الحزب الوطني يحصلون سرا على نسخ من هذه الجريدة ويوزعونها في البلاد، وكان من بينهم اثنان من المديرين هما: سليمان باشا أباظة مدير الشرقية، وحسن باشا الشريعي مدير المنيا ...
وكان رجال الحزب الوطني، يطالبون بالدستور قاعدة للحكم، ويعملون على منع الأجانب من التدخل في شئون البلاد لا من ناحية السياسة فحسب، ولكن من ناحية المال كذلك، وقد أيقنوا أن الحكم الدستوري الذي يرد فيه كل أمر إلى الأمة هو وحده العلاج الشافي من كل الأدواء القائمة ...
ولكن رجال هذا الحزب كانوا لا يزالون في المرحلة السرية من جهادهم خوفا من بطش رياض ومن ورائه توفيق، وخوفا من تفرد الأجانب ودسائسهم، وحسب المرء أن يذكر أن الحكم كان يومئذ وفق العرف ليدرك مبلغ ما كان يتمتع به رياض من سلطة ومبلغ ما كان يخشاه الوطنيون من نكال ...
وفي نفس ذلك الوقت الذي كان فيه يتشاور الوطنيون فيما يعملون، كان السخط قد بلغ أشده في صفوف الجيش، على رفقي وسياسته، ومن ثم على رياض ووزارته،وكان سخط الجند بلا ريب ناحية من ذلك الاستياء العام الذي شمل مصر كلها، ولذلك فإن من ينظر إلى الحركة العسكرية يومئذ على أنها حركة منفصلة إنما يخطئ خطأ كبيرا، وبخاصة إذا تذكر أن مبعث سخط العسكريين في جوهره كان تحيز رفقي لبني جنسه الشراكسة على حساب هؤلاء المصريين الذين كانوا ينعتون بالفلاحين.
إذن فقد كان عرابي يمثل ناحية من الحركة الوطنية القومية حين ذهب إلى رياض يشكو إليه رفقي، وما كان الجند مدفوعين بمصالحهم وحدها، وإنما كان يغضبهم الجور ويدفعهم إلى الشكوى، ولو لم يكن هناك شراكسة يظفرون دونهم بالرقي والنعمة لما كان لحركتهم هذا الطابع القومي الذي نعجب كيف يماري فيه المارون! ولن ننسى في هذا الصدد أن نشير مرة أخرى - وقد رأينا مبلغ خوف الناس جميعا من سطوة رياض - إلى ما كان في موقف عرابي من جرأة وشجاعة وعزة لن يجحدها إلا الظالمون ... •••
وكان مما يقضي به منطق الحوادث أن يلتقي الوطنيون والعسكريون، فهم أبناء أمة واحدة يجمعهم على كره رياض والاستياء من العهد كله ما كان يحيق بهم جميعا من المظالم، وما كانوا يستشعرونه جميعا في أنفسهم من أن مرد ذلك إلى الحكم المطلق الذي يسير عليه توفيق ووزيره ومن ورائهما تدخل الأجانب.
ولذلك ما كاد عرابي يخطو خطوته حتى حقت له الزعامة كما بينا، فقد اتجهت إليه القلوب، إذ هزت الناس جرأته وحميته، وأحس الناس في دخيلة نفوسهم أن الثورة قد هيئ لها الرجل الذي يقودها.
ولئن زين لبعض الناس أن يقولوا إنه ما كان ليستطيع أن يفعل هذا لو لم يكن يستند إلى الجيش فإنا نقول لهم ولم لم يضطلع بالقضية رجل غيره من رجال الجيش، ولم يكن أعلاهم مرتبة؟ ولقد كان معه زميلان حين وثب وثبته فلم لم تنسب الحركة إلا إليه، ولم لم يجر على الألسنة اسم غير اسمه؟ ومن أدراه أن الجيش لن يخذله إذا جد الجد؟ وهل قعد به تفكيره في ذلك وهو ما دار بخلده بالضرورة حين أقدم على هذا الأمر الخطير عن أن يخطو خطوته؟ وهل كان يغنيه ما أخذه على زملائه من المواثيق والأيمان إذا خاف الجند جانب الحكومة فقعدوا كما قعد آلايه هو عن التحرك من العباسية إلا بعد العشاء؟ ألا إنها الحمية التي تقوم عليها كل زعامة من الزعامات ...
وندع للشيخ محمد عبده أن يبين لنا كيف اتجهت النفوس إلى عرابي، قال في مذكراته عن الثورة العرابية: «شاع هذا الخبر بين الناس على حسب العوائد في مصر، وعلم الكثير من الأعيان والعلماء والموظفين بإصرار الضباط على طلب ماس بالوزارة، وأحسوا بخلاف بين الخديو ورئيس نظاره، فهب عند ذلك جميع الراغبين في تغيير الحال من علماء وأعيان وذوات كرام ومقربين من الجناب العالي، واتحدت وجهتهم في الغاية وإن اختلفت الدواعي والبواعث، فطلاب مجلس النواب يؤملون في التغيير أن ينالوا تشكيله، والمتضجرون من استبداد بعض المأمورين، والخائفون من أن يؤخذوا بالشبه يرجون بالتبديل كشفا لكربتهم وأمنا على أنفسهم، والواجدون على السلطة الأجنبية يرجون شفاء شيء من وجدهم، والذوات الكرام الطامعون في رجوع سلطتهم على أبدان الرعية وأموالها يطمعون في إرضاء شرههم، والأجانب الربويون يتطلعون إلى انقلاب تزيد به الشدة المالية حتى تتسع لهم طرق الكسب الماضية، وقنصل فرنسا البارون درنج يسعى في الانتقام من رياض باشا ويحب أن يأتي خلف له يمكنه مجاراته في مطالبه، والجناب الخديو لا يكره أن يتخلى رياض باشا عن رئاسة النظار، بل تلك أمنية من أمانيه.
فأخذت هذه العوامل جميعها تشتغل لتقوية جانب الضباط وتشجيعهم على الإلحاح في الطلب، وكل من وصل إليهم من أولئك بنفسه أو أمكنه أن يبعث إليهم من يعبر عن أفكاره يؤيد لهم عدالة الطلب، وموافاته للرغائب الوطنية، وأن ما يأتيه ناظر الحربية لا يمكن الصبر عليه ثم كانت تأتيهم الأخبار بأن الجناب الخديو لا يأبى إجابة طلبهم، بل يحب أن يمكن لهم أمنيتهم، وإنما رياض باشا هو الذي لا يريد ذلك. والله أعلم من أين كانت تأتيهم هذه الأخبار، مع أن رياض باشا كان يريد تحقيق الأمر حسب ما طلبوا في تقريرهم كما قدمنا.»
رأى الوطنيون ما أصاب رجال الجيش من ظفر سريع، بينما قد لحقهم هم الفشل، واستطاع توفيق أو استطاع في واقع الأمر رياض أن يأخذ عليهم مسالك القول والعمل، فسرعان ما اهتدوا إلى الطريق الذي يوصلهم إلى أغراضهم فتقربوا من عرابي وتوددوا إليه، فأخذ شريف يراسله ويعقد بينه وبينه أواصر المودة، وحذا حذو شريف زعماء حركة الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا ذلك الذي كان يمثل الأعيان كذلك لأنه منهم، واتضح لهؤلاء أنه يجب عليهم أن يستعينوا بهذه القوة الجديدة لإقصاء رياض عن موضعه، وبعث الدستور الموؤود وتحقيق الإصلاح المنشود.
ويقول بلنت عن ذلك في كتابه: «وفضلا عن أن عرابيا قد رأى أعيان الفلاحين يسعون إليه، فإنه قد رأى المطالبين بالدستور كذلك يجعلون منه حليفا لهم، وقد كان الكثيرون منهم أعضاء في الطبقة الحاكمة، وكانوا في قرارة أنفسهم يقاومون حرية الفلاح كما يقاومها رياض نفسه ... وكان شريف رئيس هؤلاء الدستوريين، وقد أدى به مجرى الحوادث في الصيف إلى أن يجد نفسه ذا صلة وثيقة بعرابي وإن لم تكن صلة مباشرة، وذلك كوسيلة لبعث الدستور الذي هو وسيلته لاستئناف سلطته، ولما كان عرابي على الدوام ميالا إلى مبدأ الدستور منعطفا إليه فقد لبى مرحبا بالفكرة، وزاده إقبالا عليها أن سلطان باشا نفسه - أقوى أعيان الفلاحين يومئذ - كان من أشد أنصار الدستور، وقد اتخذ دور الوسيط في الصلة بينه وبين شريف.»
والآن نقول: إن الثورة العرابية في حقيقة أمرها هي التقاء الوطنيين والعسكريين على هذه الصورة التي بيناها، ولسنا بحاجة بعد ذلك فيما نعتقد إلى كثير ولا إلى قليل من القول لنرد على الذين يزعمون أن الثورة العرابية لم تكن إلا حركة عسكرية بعثتها دوافع شخصية، فأما الذين يزعمون هذا الزعم عن جهل فما نرتاب في أنهم يرجعون عن زعمهم بعد هذا، وأما الذين ساءت نيتهم فزعموا هذا الزعم مغرضين فما لنا إلى إقناعهم وسيلة ...
إن تجريد الثورة العرابية من صفتها القومية الدستورية هو من صنع كتاب الاحتلال، ومن ذهب مذهبهم من المخدوعين ومن المبطلين، وماذا كان يصنع الاحتلال غير هذا ليبرر وجوده؟ لقد شوه القضية وحصرها في فتنة عسكرية حمقاء هوجاء، وبذل غاية جهده واستعان بجاهه ليصرف الأذهان عن أي معنى من المعاني السامية في ثورة عرابي الذي ألقي به وبالأبطال من زملائه في منفى بعيد بدعوى أنهم من العصاة المفسدين في الأرض، ثم دأب كتاب الاحتلال وصنائعه على تضليل أبناء الجيل الذي أعقب الثورة، وجاراهم في ذلك من الكتاب المصريين - وا أسفاه! - الجهلاء الذين انخدعوا بما عمل الاحتلال على إقراره في الأذهان، والضعفاء الذين راعوا جانب توفيق ثم جانب ابنه من بعده. ذلك الذي ما كان يستطيع أحد أن يجهر بالثناء على عرابي في عهده، وملئت كتب المدارس بالأغاليط والأباطيل، حتى ما يذكر الذاكرون اسم عرابي وثورته إلا قرنوها بمعاني الطيش والسفه والاحتلال ...
ولكن الحق إن أخفي عن الناس ردحا من الزمن، لا يستطاع إخفاؤه عنهم إلى الأبد، وإلا ما كان حقا، فجوهر الحق في أنه لابد منتصر مهما طال عليه الأمد ومهما استعدى عليه الباطل من ألوان الخداع والبهتان.
وإن مصر اليوم لتعطف على عرابي وثورة عرابي، وقد آن لها أن تنصف هذا المصري الفلاح وأن تحدد له مكانه بين قواد حركتها القومية ...
وليس بعجيب أن يموه كتاب الاحتلال وصنائعهم وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموا الحق وهم يعلمون، نقول ليس ذلك بعجيب ونحن نجد - وا أسفاه! - رجلا من خيرة رجالنا ومن مفاخر أبطالنا يكتب عن عرابي صاحبه في الجهاد وزميله فيما كان يطمح إليه من آمال، فينكر عليه زعامته ويقدح فيه قدحا كم تألمنا لصدوره عن بالذات، وله في نفوسنا ما له من الإجلال والإكبار، ذلك هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ...
وإنا إذ نحرك القلم لننقل هنا ما كتبه ذلك الشيخ الجليل عن عرابي لنحس بكثير من الخجل والأسف، فما كنا نحب إلا أن يتنزه الإمام الكبير عما وقع فيه غيره وما نريد بنقل ما كتبه الأستاذ الإمام عن عرابي وبيان ما أحاط به من ملابسات أن نسيء إلى ذلك الشيخ؛ فتوقيرنا إياه وإجلالنا له فوق كل شك، وإنما قصدنا أن نبين كيف تبعد أحيانا بالمرء على رغمه عوامل وظروف عما يجب من إنصاف، ويهمنا بوجه خاص حدوث ذلك من الشيخ محمد عبده بالذات، فقد هان بعده كل اتهام يوجه إلى عرابي، وصغر كل ادعاء من ادعاءات المغرضين، وإذا كان الشيخ محمد عبده يكتب عن عرابي هذا الذي نورده وهو العليم به الخبير بأحداث عصره، وهو فوق ذلك الإمام الزعيم، فكيف بالظالمين الغاصبين من أنصار الاحتلال وأبواقه؟
وكأني بالقارئ يقول في نفسه: ولم لا يكون حقا ما قاله الأستاذ الإمام عن عرابي، وللقارئ أن يتساءل هذا التساؤل، ولكنه لن يلبث حتى يعلم اليقين ...
كتب الأستاذ الإمام محمد عبده مذكراته عن عرابي بطلب من الخديو عباس حلمي، وهذه دعوى لا تحتاج إلى دليل؛ فقد جاء في مقدمتها قوله: «هذا مقام الذاكر لنعمتك، العارف بقدر منتك، العاجز عن الإيفاء بحق شكرك، التالي في سره وجهره لآيات حمدك، طوقتني إحسانا لم أكن أتأمله، إذ أمرتني أمرا ما كنت أتخيله، أمرت أن أكتب ما شهدت وما سمعت وما علمت وما اعتقدت في الحوادث العرابية من عهد نشأتها إلى نهايتها.» إلى أن يقول: «مولاي: أرفع إلى سدتك السنية ما وقفت عليه بنفسي غير ناظر في كتاب ولا راجع إلى مقال سبقني به غيري، اللهم إلا بعض الأوامر الرسمية أو شيء من المخابرات السياسية التي تضطرني في بيان الواقع إلى الإشارة إليها إذ لا غنى للقارئ عن الاطلاع عليها.» إذا كان هذا شأن هذه المذكرات فليس مما يتوقعه المرء أن يمتدح محمد عبده عرابيا ويظهره على حقيقته زعيما وطنيا مجاهدا مطالبا بالدستور الذي أنكره توفيق، فيسيء بذلك إلى عباس بن توفيق ...
ولقد كانت صلة الإمام بالخديو أول الأمر طيبة، فلما دب بينهما دبيب الخلاف فيما بعد أمسك الأستاذ عن إتمام تاريخ الثورة العرابية، ولو أن محمدا عبده كتب هذا التاريخ بغير طلب الخديو، أو لو أنه كتبه بعد الخلاف بينه وبينه لما ذكر عن عرابي ما ذكره مما سيأتي بيانه، ولقد كان محمد عبده فيما كتبه عن توفيق مترفقا به كل الترفق، يلتمس له المعاذير في كل أمر، وفي هذا وحده ما يكفي لبيان ما كان يحيط به من عوامل بعدت به عن الإنصاف.
يضاف إلى ما تقدم أن الأستاذ الإمام، وإن كان من دعاة الشورى والحكم الدستوري كأستاذه جمال الدين إلا أنه كان يرى أن مصر لم تكن تهيأت يومئذ لهذا الحكم، وكان يميل إلى حكم رياض، ويحسب أنه يجد فيه المستبد العادل الذي ينهض به الشرق، ولذلك نقم الأستاذ على عرابي ونفرت نفسه من الحركة العسكرية، نجد الدليل على ذلك في قول الشيخ رشيد رضا تلميذه وكاتب تاريخ حياته: «إن الأستاذ كان مؤيدا لوزارة رياض باشا الإصلاحية، ويرى أنها صورة حسنة للمستبد العادل الذي يرجى أن ينهض بالأمة في مدى خمس عشرة سنة كما بين ذلك في مقالة اجتماعية عامة وجيزة يراها القارئ في الجزء الثاني من هذا التاريخ، وكان يفضلها على إنشاء حكومة نيابية قبل استعداد الأمة لها.»
نورد بعد ذلك ما كتبه الأستاذ عن عرابي، فنقول إنه استبعد أن يكون عرابي من طلاب الدستور لذاته، فكأنه ما طالب بالدستور إلا محافظة على نفسه بعدما كان من فعلته التي أدت إلى حادث قصر النيل. يقول الأستاذ: «هذه أحاديث عقل ينبو عن فهمها ذهن شخص مثل عرابي تمثلت له جنايته في صور أغوال فاغرة الأفواه محددة الأنياب، ولزمه خيالها في يقظته ومنامه، فهو في فزع دائم يخيل له العزل والموت في كل شيء يراه، يلتفت يمينا وشمالا فلا يرى إلا سيوفا مسلولة أو حبالا منصوبة، ولا يسمع من هواجس نفسه إلا صيحة واحدة: الخلاص، الخلاص، الهرب، الهرب، ولم يتمثل في مخيلته مهرب أوفى له من طلب تشكيل مجلس النواب على الصورة التي قدرها له في نفسه.»
وقال في موضع آخر: «استحثه الحرص على إدراك المطلب أن يفضي به إلى ضباط الجيش وأن يثير في أحلامهم الضعيفة تماثيل الأماني من العزة والسلطان والصعود إلى أعلا مراقي الرتب والمناصب، وإن كل ذلك لا ينال إلا بمجلس النواب.»
وقال في موضع ثالث: «أما عرابي فلم يكن يخطر بباله ولا يهتف به في منامه أن يطلب إصلاح حكومة أو تغيير رئيسها، فذلك مما كان يكبر على وهمه أن يتعالى إليه، وإنما الذي أحاط بفكره وملك جميع مقاصده هو الخوف على مركزه مع شدة البغضاء لمن كان معه من أمراء الشراكسة والمنافرة من عثمان باشا.»
هذه آراء أقل ما يقال فيها بعد ما أشرنا إليه من ملابسات كتابتها أنه كتبها «غير ناظر في كتاب ولا راجع إلى مقال سبقه به غيره» كما ذكر في مقدمة مذكراته التي كتبها للخديو عباس، أعني أنها آراء يعوزها الدليل من الحوادث أو الشواهد، على أننا إذا أخذناها على علاتها فماذا نخرج به منها إلا أن عرابيا رأى الظلم محيطا به فأراد أن يعتصم بالعدل في صورة مجلس نيابي؟ ولم لا تكون مصر كلها ممثلة في شخص عرابي، فكانت تحيط بها المظالم وتخشى الطغيان، ولم يكن لها من عاصم إلا حكم الدستور؟ ولقد بينا مبلغ ما كانت تعانيه مصر منذ حكم إسماعيل، وإذا دفع الإنسان الخوف من الظلم إلى مقاومة الظلم فهل يكون ذلك دليلا على جبنه ورغبته في الهرب أم يكون دليلا على شجاعته وتحديه المخاوف؟
إن الذي يعنيني من هذا الذي ذكره الأستاذ الإمام هو أن أبين ما لحق عرابيا من الظلم، حتى من أقرب الناس إليه، عسى أن يحذر القارئ مما قد يجده من غير الإمام من هذا القبيل، وعسى أن يطرح من ذهنه ما قد يكون قد علق به، وما أحسب أن في تاريخ الزعماء من تجمعت عليه المظالم كما تجمعت على عرابي في حياته وبعد موته، كذلك لست أذكر حركة جردت من معانيها السامية حتى تركت فارغة شوهاء تنكرها النفوس كهذه الحركة القومية التي بخسها المبطلون حقها هذا البخس الشنيع.
كانت الثورة العرابية ثورة قومية جمعت بين المدنيين والعسكريين من أبناء أمة واحدة أيقظتها المظالم، وإذا كان العسكريون أو زعيمهم عرابي قد طالبوا بالدستور خوفا على أنفسهم كما يذكر الشيخ محمد عبده، فلماذا طلبه المدنيون؟ إن كانوا طلبوه خوفا على أنفسهم كذلك من مغبة معارضتهم الخديو ووزيره، وكان ذلك معناه عند الشيخ الجبن فإنه لا قومية ولا وطنية هناك، ويكون شأن الوطنيين في هذا ومنهم الشيخ محمد عبده شأن عرابي وأعوانه ...
إن الوطنيين والعسكريين قد أحاطت بهم المخاوف من كل جانب، فطلبوا الدستور وطلبه عرابي فيمن طلبوا، وقد استعان به الوطنيون، ولست أفهم لماذا يفرق الشيخ محمد عبده بين الباعث لعرابي على طلبه وبين باعث الوطنيين؟ لقد كان يجوز أن تعلق بكلامه بعض الوجاهة لو لم يثبت أن الوطنيين اتصلوا بعرابي وطلبوا عونه، أي لو أن عرابي وحده قد التجأ إلى الاعتصام بطلب الدستور كفكرة طارئة أملاها عليه الخوف وليس في البلد حركة دستورية، أما أن تكون المطالبة بالدستور حركة عامة سابقة لشكوى عرابي وزميليه ويكون هو قد شايعها بوجدانه متضامنا مع زعمائها لإيمانه بمبدأ الشورى ولما كان ينصب على الجميع من مظالم بيناها في موضعها، ثم يصور لنا طلبه كما صوره الإمام فذلك ما لا نستطيع أن نحمل عقلنا على قبوله، ولو أن عرابيا كان من طبعه الخوف والهرب لما أثار تلك الحرب على الشراكسة، ولما أقدم على رفع الشكوى إلى رياض ولا على تدبير حادث قصر النيل ولا على الذهاب إلى عابدين بعد إخراجه من السجن، أجل ما كان ليفعل شيئا من هذا جبان خائف، فهي أفعال لن ينهض بها إلا مقدام. قال الشيخ محمد عبده فيما علق به سنة 1903 على ما كتبه عرابي من تاريخه لبلنت حين أطلعه عليه:
1 «كانت الأشهر السبعة بين حادث قصر النيل ومظاهرة 9 سبتمبر أشهر نشاط سياسي عظيم شمل جميع الطبقات، وأكسبت عرابيا فعلته كثيرا من ذيوع الصيت، ووصلت بينه وبين المدنيين من أعضاء الحزب الوطني، مثل سلطان باشا، وسليمان أباظة، وحسن الشريعي، وشخصي، وكنا نحن الذين أبرزنا فكرة تجديد المطالبة بالدستور، وكانت وجهة نظره يومئذ أن ذلك يهيئ له ما يعصمه ويعصم زملاءه العسكريين من انتقام الخديو ووزرائه، وقد أخبرني بذلك مرارا أثناء الصيف، وبناء على ذلك أعددنا ملتمسات للمطالبة بالدستور، وشفعنا ذلك بحملة في الصحف، وقد لقي عرابي سلطانا في الصيف مرات كثيرة وقد اهتم به سلطان - وقد كان عظيم الثراء - اهتماما شديدا وأرسل إليه كثيرا من الهدايا كالمنتجات الزراعية والخيل وما إليها، وذلك كي يثير حماسته، ولكي يظفر بمعونته في الحركة الدستورية، ولقد دبرت مظاهرة عابدين بالاتفاق مع سلطان.»
وخلاصة ما يستخرج من هذه الفقرة أن الوطنيين والعسكريين اتفقوا على المطالبة بالدستور، وأن الوطنيين أرادوا أن يستعينوا بقوة العسكريين، وأن الباعث للعسكريين كان رغبتهم في إيجاد ما يعصمهم من انتقام الخديو، وأي عيب في هذا الباعث؟ وهل كان غيره منذ نشأت الحركات الدستورية باعثا للأمم على المطالبة بالحكم الدستوري؟ إن كل منصف لا يسعه إلا أن يرى فيما وصف به الشيخ محمد عبده عرابيا من صفات الفزع والخوف والهرب تزيدا لا مبرر له ولا ينهض من الحوادث دليل عليه، بل إن الحوادث جميعا تنقضه، فالأمر هين بين ينحصر في أن عرابيا وإخوانه رأوا في الحكم الدستوري عاصما لهم من الجور كما رأى ذلك الوطنيون، ومنهم الشيخ محمد عبده ... •••
التقى الوطنيون والعسكريون فكان من التقائهما واتجاههما وجهة واحدة، حركة قومية غايتها الدستور والحرية. ولقد نجحت تلك الحركة نجاحا باهرا يدعو إلى أكبر الإعجاب، وبلغت غايتها دون أقل مكدر يوم عابدين، ولولا ما كان من موقف توفيق بعد ذلك ومن كانوا يتربصون بالبلاد من الثعالب وبنات آوى لسارت مصر قدما في طريق الحرية والنهوض ...
وما يشين هذه الحركة مشاركة العسكريين فيها، فليست في ذلك بدعا من الحركات، فما خلت حركة قومية من عنصر الجند إما متطوعين أو من الجيش القائم، وهل يعيب حركة استقلال المستعمرات الأمريكية مثلا أن وشنطون الجندي كان زعيمها؟ وهل يشين الثائرين من الأحرار على استبداد الملك شارل الأول في إنجلترا استعانتهم بكرمول وجنوده؟ وهل كان في انضمام الجيش في فرنسا إلى أكثر الحركات الثورية ما يذهب بجلال هذه الثورات؟ ذلك ما لا يقوله منصف ...
حق لمصر أن تفخر بأنها ثارت ثورة قومية حرة في القرن التاسع عشر؛ عصر القوميات والثورات، وتلك هي الثورة العرابية التي مهدت لها عوامل وأسباب تجعلها أشبه ما تكون بأجل الحركات القومية في أوربا ...
وسيخنق الاحتلال هذه الحركة القومية، ويطفئ شعلتها، ولكن جمرتها تبقى تحت الرماد إلى أن ينفخ فيها سعد من روحه فتشتعل وتتوهج حتى ما يستطيع مستبد ولا طاغية بعد ذلك أن يخمد نارها أو يطفئ نورها ...
دسائس ومخاوف
كانت سياسة توفيق - إن كان ثمة له من سياسة - عقب حادث قصر النيل أهم العوامل في تطور الحوادث على النحو الذي سوف نراه، فلقد أجاب الضباط إلى مطالبهم وفي نيته أن يغدر بهم متى حانت الفرصة ...
وأدرك الضباط لا ريب أنه أجابهم إلى ما طلبوا لأنه لم يكن له من ذلك بد، ولذلك أحسوا أنه لابد متربص بهم فتربصوا هم كذلك به ...
وكان توفيق من ناحية أخرى يكره رياضا ويعمل على التخلص منه، لذلك وضع نفسه في موضع عجيب حقا، فبينما هو يسخط على الضباط ويمقت حركتهم إذا به يتخذ منهم كما سنرى أداة للكيد لوزيره بغية إقصائه عن منصبه.
وهكذا تشاء الظروف النكدة أن يكون رجل كتوفيق هو الذي يحرك دفة الأمور في مثل ذلك الزمن العاصف.
لم يكن أمام توفيق كما أسلفنا إلا أن يتخذ سبيله إلى قلوب الوطنيين، فيجعل من نواب الأمة سندا له كما فعل أبوه في أواخر أيامه ...
ولكن توفيقا لم يلجأ إلى ذلك الحل، وما نشك في أنه كان يفطن إليه، ولكنه كان يقتضيه أن ينزل عن سلطانه إلى نواب الأمة، وهو ما نشك كل الشك في أنه كان يستطيع أن يحمل نفسه عليه، ومن هنا أحدقت به وبمصر الأخطار، في وقت نشطت فيه دسائس الأجانب الذين أحكموا شباكهم لاقتناص الفريسة الغالية في تلك الأيام الكدرة.
وقع حادث قصر النيل في فبراير سنة 1881، وفي أعقاب الحادث مرت على مصر بضعة أشهر ما نظن أنه مر على البلاد فترة مثلها في كثرة ما حيك فيها من الدسائس على قصر أمدها ...
أمر الخديو فأقيم حفل بعد حادث قصر النيل دعي إليه كبار رجال الجيش، وخطب الخديو فأعلن عفوه عما حدث وأنه لا يضمر لأحد سوءا، وحث الجند على الطاعة والنظام، وأكد لهم أن الحكومة تهتم بأمرهم كل الاهتمام.
وقابل الضباط خطاب الخديو بالابتهاج والشكر، وهتفوا به معبرين عن ولائهم له معلنين بين يديه أنه لن يرى منهم إلا الطاعة والولاء.
ونظر البارودي وزير الجهادية الجديد في مطالب الجيش فأجابهم إلى أكثرها، وكانت تدور حول زيادة المرتبات، وإصلاح قانون الترقية وقانون الإجازات، والعناية بمأكل الجيش وملبسه، كما طلب الضباط إعادة أحمد بك عبد الغفار قائمقام السواري إلى الخدمة، وتم لهم ما أرادوا، فعاد هذا الضابط إلى حيث كان قبل أن يعزله رفقي.
وأقام البارودي حفلا للضباط بعد إصلاح حالهم، شهده الوزراء، وخطب البارودي كما خطب رياض، وأثنى رياض على الجند، وحثهم على النظام، وسألهم أن يقابلوا ما لقوا من إصلاح بالطاعة وأداء الواجب، وخطب عرابي فأثنى على الخديو، وأعرب عن ولاء الجيش لسموه.
سمع الضباط أول ما سمعوا أن أعوان الخديو يغرون بالمال والمناصب بعض رجال الآلايات ليكونوا في الوقت الموعود إلى جانب الخديو، ونمى إليهم فيما نمى أن رياضا يفكر في طرق إجرامية للفتك بهم، ومن ذلك ما علموه من أنه كان يدبر مشاجرة في أحد الشوارع يندس فيها من يقتل عرابيا أو من يحضر من زميليه ...
وحدث في آلاي طره وهو الآلاي السوداني الذي كان يرأسه عبد العال حلمي، أن كتب ثمانية من صف الضباط السودانيين يتنصلون من حادث قصر النيل، ويعلنون ولاءهم للخديو، ويبدون اعتذارهم، ويتهمون رؤساءهم، وأمر عبد العال بإجراء تحقيق ثبت منه أن باشجاويشا شركسيا هو الذي حرضهم على ذلك، وأن الذي حرض هذا الباشجاويش هو يوسف كمال باشا ناظر دائرة الخديو الذي دفع لكل من هؤلاء الثمانية، جنيهات ثمانية. وغضب عبد العال واشتكى إلى رياض، ورفع رياض الأمر إلى الخديو، ونصح بعزل يوسف كمال باشا تهدئة للخواطر وقتلا للفتنة في مهدها، وأجابه الخديو إلى ما طلب، وعاقب عبد العال ذلك الشركسي المحرض بالحبس ستة أشهر ... وكشف عبد العال دسيسة أخرى كان يدبرها سوداني في الاستيداع هو الأميرالاي فرج بك الزيني، وكان مسكنه على مقربة من مقر آلاي طره، وأثبت التحقيق أنه كان على صلة بيوسف كمال باشا، وقد ضبطه عبد العال بنفسه في حقل قمح يحرض بعض الجند على كتابة المطاعن في رؤسائهم، وقد أبعد الزيني إلى السودان، ويقول عرابي في مذكراته: «إن دسيسة فرج بك الزيني كانت أيضا من يوسف كمال باشا، وإن الخديو أراد أن يعوضه عما فاته في مصر من رعايته، فلما نفي إلى السودان أرسل إلى رؤوف باشا حكمدار السودان وقتئذ ليلحقه بخدمة الحكومة السودانية ومنحه رتبة لواء، فصار يعرف بفرج باشا الزيني.»
واتهم تسعة عشر ضابطا أحد رؤسائهم بأمور نسبوها إليه أثبت التحقيق بطلانها، فأبعدتهم الوزارة عن مناصبهم، فبادر الخديو بإعادتهم، الأمر الذي حنق له زعماء الجيش، إذ رأوا فيه أن الخديو إنما يعضد حركة التمرد في صفوف صغار الضباط ويستميلهم إليه ضد رؤسائهم.
وكذلك سمع الضباط أن الحكومة تنوي أن ترسل الآلاي السوداني بقيادة عبد العال بك إلى السودان، بحجة أن القوة الموجودة هناك غير كافية لحفظ النظام، فأحس الضباط من ذلك أن النية متجهة إلى تشتيتهم للقضاء عليهم متفرقين ...
وترامى إليهم أن الخديو يمرن حرسه في الإسكندرية على إطلاق النار، وأنه يشهد ذلك بنفسه وينثر الذهب على الجند متظاهرا بمكافأة المجيدين في إصابة المرمى، ولا يفسر مثل هذا العمل في ظروف كهذه إلا بأنه استعداد من جانب الخديو لما كان مقبلا عليه من قمع وبطش ...
وأرادت الحكومة أن تسخر الجند في حفر الرياح التوفيقي، وكان عليهم أن يسلموا أسلحتهم إلى مخازن الجهادية قبل ذهابهم إلى ذلك العمل، ورفض عرابي أن يوافق على ذلك وأيده في رفضه البارودي ...
وحدث في الإسكندرية أن دهمت عربة أحد التجار وكان سائقها أجنبيا أحد الجنود فنقل إلى المستشفى حيث قضى نحبه، واستشاط تسعة من الجند غضبا، وأملت عليهم سذاجتهم أن يحملوا زميلهم القتيل إلى سراي رأس التين فيقتحموا أبوابها على الرغم من مقاومة الحرس، ويتصايحوا داخل السراي شاكين من الأجانب، راجين أن يتدخل الخديو بنفسه لمعاقبة هذا السائق الأجنبي. وسمع الخديو هذا الصخب فنهر الجند بنفسه وصرفهم من حديقة قصره، ويدل هذا الحادث فضلا عن سذاجة الجند على مبلغ ما كان يتصوره الناس من عظم نفوذ الأجانب، فما يجرؤ أن ينالهم بالعقاب أحد إلا الخديو نفسه، ولهؤلاء الجند بعض العذر فيما تخيلوا وإن كان ذلك لا يبرر اقتحامهم القصر على هذه الصورة ...
ولكن العقاب الذي عوقبوا به على فعلتهم كان بالغ الصرامة والقسوة. فقد عوقب الجندي الذي حرضهم على ذلك بالحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة، وعوقب الثمانية الباقون بالحبس في ليمان الخرطوم ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة كذلك ...
ولما ذاع النبأ في الجيش استاء الضباط والجنود أعظم الاستياء من فداحة الحكم، وكتب عبد العال تقريرا للبارودي يتظلم منه ويقارن بين هذا الحكم وبين ما عومل به الضباط التسعة عشر المتمردون، وأظهر البارودي ميلا إلى قول عبد العال، ونمى ذلك إلى الخديو فغضب أشد الغضب على البارودي، وقد كان يكرهه ويظهر السخط منه منذ أن أشار بأخذ الجند بالرفق وإجابة ملتمسهم عقب حادث قصر النيل، ومنذ أن اختاره الجند وزيرا للجهادية، فقد داخل توفيقا الشك فيه، ثم أصبح يعتقد أنه من رؤوس الفتنة، وأنه هو الذي يثير الجند لأغراض يسعى لتحقيقها ...
واستدعى الخديو وزراءه إلى الإسكندرية، وصارحهم بأن وجود البارودي في الوزارة هو سبب ما في الجيش من فوضى، ولم يسع البارودي إلا الاستقالة، وقد كان الخلاف كذلك شديدا بينه وبين رياض، ثم أبلغ البارودي أن عليه أن يرحل فورا فيقيم بضيعة من ضياعه كيلا يتصل بأحد من الجند أو يتصل به أحد.
وعين داود يكن باشا صهر الخديو وزيرا للجهادية، وهو شركسي لا يقل فظاظة وحمقا عن عثمان رفقي، وعزل الخديو محافظ القاهرة أحمد باشا الدرمللي لاتهامه بالعطف على الجند، وأحل محله عبد القادر حلمي باشا.
ولقد كان البارودي في الوزارة على صلة برجال الجيش فعلا، وكان ينبئهم بكل ما تريد الحكومة بهم، وقد اتفق معه أن يكون خروجه من الوزارة علامة اقتراب الخطر.
وما لبث أن اتبع داود يكن منتهى الصرامة في معاملة رجال الجيش، فحظر عليهم الاجتماع بالمنازل أو ترك مراكزهم ليلا أو نهارا، أو التحدث في السياسة، وأنذرهم بأشد العقاب إن هم خالفوا أمره، ومع أن عرابيا وأنصاره قد هنأوه بمنصبه وطلبوا إليه أن يعمل على إجابة مطالب الجيش التي كان يسعى البارودي في إجابتها، فإنه اكتفى بالوعود ولم يفعل شيئا ... قال عرابي معلقا على أمر وزير الجهادية الجديد: «ولما كانت تلك الأوامر مخالفة للقوانين العسكرية. ومهينة للشرف العسكري، فقد ردت إليه من طرف أمراء الآلايات.»
ولا يقل رد هذه الأوامر إلى الوزير مغزى عن حادث قصر النيل، إن لم يكن أشد منه خطرا، فمعنى ذلك أن الجند يعصون ما يلقى إليهم من أمر لا يقرونه، وفي ذلك الثورة أبلغ ما تكون الثورة ...
وبث حكمدار القاهرة الجديد عيونه وأرصاده على الضباط، وكان داود يكن يطوف بنفسه على مراكزهم ليوقع الخوف في نفوسهم.
وأحيط بيت عرابي وعبد العال بالجواسيس، وجرت الشائعات بالنذر فملأ القاهرة نبأ عجيب مؤداه أن الخديو قد استصدر فتوى سرية من شيخ الإسلام بقتل عرابي، وكانت الظروف يومئذ تساعد على تصديق هذا النبأ الكاذب أكبر المساعدة. •••
وطلب مجهول الإذن على عرابي في منزله فلم يؤذن له، وشوهد أنه عاد عقب ذلك إلى أحد مخافر الشرطة، وذهب عرابي إلى منزل زميله عبد العال فعلم أنه حدث هناك مثل ما حدث عنده، فأيقنا أن حياتهما يتهددها الخطر، ومما يذكره عرابي في مذكراته أن أحد الغلمان الشراكسة في منزل عبد العال، وهو ابن زوج حرمه المتوفى قد دس له السم في اللبن بإيعاز غلام آخر شركسي من غلمان الخديو، ولولا أن تنبهت الخادم لذهب عبد العال ضحية هذا الغدر الأثيم ...
وكان للخديو في تلك الظروف مسلك عجيب، لولا أن قام عليه الدليل ما استطاع المرء أن يصدقه، وذلك هو محاولة الاتصال بعرابي وزملائه ليستعين بهم على إخراج البارودي من الوزارة، وكان رسوله إلى عرابي هو علي فهمي ثالث الثلاثة في حادث قصر النيل، ولقد أظهر له الخديو مودته منذ أن عاد إلى آلاي حرسه لكي يستعين به إذا لزم الأمر في تحقيق مآربه ...
أرسل الخديو من الإسكندرية قبل استقالة البارودي - أو إقالته على الأصح - علي فهمي بك رئيس الحرس إلى زميليه في القاهرة، كما يقول عرابي في مذكراته، ليقول لهما إن الخديو يرغب في عزل البارودي لما رأى من ذبذبته وسوء سياسته، وأن الخديو يعطف على مطالبهم «فهم ثلاثة وهو رابعهم»، وإن سموه يطلب ألا يعلم أحد بإيفاد علي بك إليهم ...
وترجع صلة الخديو بالضباط إلى ما قبل ذلك، فإنه كان يريد الاستناد إليهم ليحرج رياضا الذي كان يستند إلى الأجانب. وقد ذكر عرابي أمر هذه الصلة سنة 1904 بعد عودته من المنفى لبلنت في حوار بينهما؛ إذ سأله بلنت عن مبدأ صلة الخديو بهم، فقرر أنها بدأت قبل حادث قصر النيل. وقد ظن عرابي يومذاك أن علي فهمي يتجسس عليه، ولم يطمئن إلى إخلاصه إلا حين انضم إليه في الشكوى إلى رياض، وقد سأل بلنت الشيخ محمد عبده عن ذلك فأيده. قال الشيخ محمد عبده: «إن ما ذكره عرابي عن رسالة الخديو التي ذكر للضباط أنهم ثلاثة وهو رابعهم صحيح، وهو يصور أدق تصوير الحال بينه وبينهم يومئذ.»
ولا يخفى ما في مسلك الخديو من خطورة؛ فأقل ما يوصف به أنه جعل الضباط يشعرون أن الجو كله جو دسائس ومخاوف، وأنه لا يمكن بأية حال الاطمئنان إلى موقف الخديو تجاه أحد. •••
هذه هي الحال في الأشهر السبعة التي أعقبت حادث قصر النيل؛ دسائس ومخاوف تحيط برجال الجيش، وتوقع للانتقام في كل وقت ...
أما عن الوطنيين فقد أسلفنا القول إن صلتهم بعرابي لم تنقطع طول الصيف، وكان أكثرهم نشاطا في الاتصال به سلطان باشا، وكذلك كان يعمل شريف على توثيق أواصر المودة بينه وبينه، وأيقن الجميع وطنيين وعسكريين أن لا منجاة لمصر من سوء الحال إلا بإزاحة رياض عدو الدستور عن الحكم، وإجبار توفيق على أن يسلم بالحكم الدستوري الذي أظهر استعداده لقبوله عند توليته ثم ما لبث أن تنكر له ...
ولا سبيل لإزاحة رياض وإجبار توفيق إلا الاستعانة بالجيش أو بعبارة أخرى بزعماء الجيش، وما كان زعماء الجيش إلا نفرا من المصريين يحسون ما يحسه أبناء مصر جميعا من مبادئ العهد. يقول عرابي في مذكراته: «ولما كثرت دسائس الحكومة وبان ختلها وعزمها على اغتيالنا، أخذنا حذرنا منها، وسهرنا على إحباط تلك الدسائس المنكرة، وكان السير مالت قنصل إنجلترا بمصر كثير التردد على الخديو ليلا ونهارا دون غيره من وكلاء الدول الأوربية، فأوجسنا من ذلك خيفة على مصير بلادنا، وخشينا من مطامع إنجلترا التي كانت ترمي إلى التهام وادي النيل أسوة بما فعلته فرنسا بتونس؛ حتى يتم التوازن الذي تدعيه أوربا، فعرضنا مخاوفنا على جلالة أمير المؤمنين ليحيط علما بما كان جاريا في مصر، ولكيلا يتورط في تصديق ما قد يصل إليه من دسائس أعداء البلاد، وذيلنا العريضة المذكورة بإمضائي وإمضاءات إخواني علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي وأحمد بك عبد الغفار بالنيابة عن الجيش، وأحمد بك أبو مصطفى، وأحمد بك الصباحي، وعثمان باشا فوزي، وغيرهم من وجهاء الأمة بالنيابة عن جميع المصريين.» •••
ونقل مؤلف كتاب المسألة المصرية عن كتاب بلنت العبارة الآتية
1 «ثم إن الأمة بأسرها، وبعبارة أدق إن طبقاتها المستنيرة الدستورية النزعة قد تبينت فجأة أنها ليست من الضعف بحيث ظنت نفسها، وأن لها في الجيش قوة كبيرة متجمعة لا يستهان بها، فإذا ما استطاعت أن تضمه إلى جانبها في قضية الإصلاح الدستوري فإنه لابد قاض على ما حاق بالأمة من شدة وهوان طال عهدهما، وسرعان ما أصبح عرابي وأصحابه بجرأتهم وحركتهم الناجحة معقد آمال الأمة وموضع إعجابها، واستحال في نظر الوطنيين ما كان يقصد به أن يكون مجرد احتجاج عسكري إلى فعلة مدنية وطنية، وأصبح عرابي رجل مصر المشار إليه بالبنان، ولقب بالرجل الوحيد، وما هو إلا قليل من الزمن حتى توثقت العلاقات بينه وبين أكثر الزعماء السياسيين في ذلك الزمن.»
وقال مؤلف ذلك الكتاب أيضا: «كان في وسع كل إنسان إذ ذاك أن يخبر بأن الجيش إن سنحت - أو عندما تسنح - له فرصة للظهور في ميدان العمل مرة أخرى فإن ذلك لن يكون من أجل مصالح أفراده أو وظيفته، ولكن من أجل مصالح الأمة السياسية العامة.» •••
أعد أحمد عرابي بيانا أرسله إلى أعيان البلاد، يبين فيه أخطاء الحكومة واستبدادها، ويدعو الناس إلى معاونته لانتشال البلاد مما هي فيه، وقد جاء في مذكراته وصف استعداده لهذا العمل. قال: «ثم أخذت في نشر أفكاري بين علماء الأمة وأعيانها وعمد البلاد ومشايخ العربان طالبا منهم مساعدتي في حفظ الأمن والراحة العمومية، حتى نتفرغ للنظر في مصالح البلاد ونتوفر على انتشالها من وهدة الاضمحلال ...» إلى أن قال: «وسيلي ذلك إسقاط الوزارة الحاضرة التي لا تريد بالبلاد خيرا، وتشكيل مجلس نواب يعهد إليه في الوصول بنا إلى الحرية المنشودة، وختمت المنشور بطلب مساعدة أبناء البلاد وتأييدهم، وبناء على ذلك وفدت علينا الوفود من جميع أنحاء القطر، وسلمت عرائض النيابة عنها، وفوضت إلينا العمل لما فيه سعي البلاد وخلاصها من براثن رجال الاستبداد، معلنة تضامنها معنا في كل ما نقوم به من أعمال الإصلاح وما ينتج عنه من النتائج.»
هذا ما أعده عرابي لوثبته الثانية في سبيل حرية وطنه، أو هذا ما يعتزمه من إقدام الرجل الذي وصفه خصومه فيما وصفوه به بالجبن والخوف والرغبة في الخلاص والهرب ... ألا ليت كل شجاعة تكون كهذا الجبن الذي يصفون، وليت كل شجاع مستطيع أن ينهض لما نهض له أحمد عرابي ...
يوم عابدين
هذا هو اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة 1881، أعظم يوم في تاريخ القومية المصرية، ذلك التاريخ الذي افتتح في شهر مايو سنة 1805 حين سار السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي على رأس جمهور المصريين إلى منزل محمد علي فألبسوه شارة الحكم دون أن يستأذنوا السلطان ...
وأخلق بهذا اليوم المشهود أن يكون له في نفوس المصريين مثل ما لليوم الرابع عشر من شهر يوليو في نفوس الفرنسيين ... وعلى الذين يعنون بتاريخ الحركة القومية في مصر أن يعلموا أبناء هذا الشعب أن اليوم الذي نتحدث عنه هو بدء حياتهم أمة لها كرامة ...
أخذ عرابي للأمر عدته على خير ما يستعد الرجل اليقظ إلى عواقب الأمور، فكتب إلى وزير الحربية يطلب إليه أن يبلغ الخديو بأن آليات الجيش جميعا ستحضر إلى ساحة عابدين في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة 9 سبتمبر «لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها».
وأرسل عرابي إلى قناصل الدول يقطع عليهم سبيل الدس والنقول، فأنبأهم أن لا خوف على أحد من الأجانب فإنها سوف تكون مظاهرة سلمية تقتصر على أحوال البلد الداخلية ...
قال بلنت: «كان للمظاهرة كل ما يرجح أنها كانت سلمية، فلكي يقلل عرابي من خطر ما قد يكون من سوء الفهم، كتب إلى الخديو ينبئه بما اعتزم هو وزملاؤه من خطة، ويقولون إن الدليل على أنهم لا يبغون بها عداء لشخصه أنهم لم يذهبوا إليه في قصره بحي الإسماعيلية، وأنهم قصدوا مقره الرسمي في عابدين، وتوسلوا إليه أن يلقاهم هناك ليستمع إلى شكواهم.»
ذعر الخديو وذعر رياض وقد دعاه إليه كما دعا ستون باشا رئيس أركان حرب الجيش وأحمد خيري باشا رئيس ديوانه ليشاورهم في الأمر.
ورأوا أن يحاولوا إقناع عرابي بالإقلاع عن هذه المظاهرة، فأوفد الخديو إليه ياوره طه باشا لطفي، ورفض عرابي أن يعدل عما صمم عليه، وأخبره بأنه لا يريد أكثر من «أن يعمل مظاهرة عادلة لابد منها لضمان حرية الأمة وسعادتها».
وفي هذا الذي صنع الخديو ومن معه أبلغ دليل على ما وصلوا إليه من ضعف وقلة حيلة.
وكان الخديو في قصر الإسماعيلية فأرسل يستدعي السير أوكلند كلفن المراقب المالي الإنجليزي، ولما حضر سأله ماذا عسى أن يفعل في هذا الموقف؟ قال كلفن يشير إلى ذلك: «فنصحت إليه أن يقاوم؟
1
فقد أخبرني رياض باشا أن في القاهرة فرقتين مواليتين، لذلك أثرت على الخديو أن يدعوهما إلى عابدين مع ما يمكن الاعتماد عليه من الحرس الحربي، وأن يضع نفسه على رأسهما. فإذا ما وصل عرابي قبض عليه بشخصه . فأجابني أن لدى عرابي بك المدفعية والفرسان، وربما أطلقوا النار، فأجبت أنهم لن يجرؤوا على ذلك، ومتى توفرت له الشجاعة للمقاومة وعرض نفسه شخصيا، فإنه يتسنى له أن يقضي على المتمردين، وإلا فإنه ضائع.»
2
هذا ما أشار به كلفن وما نراه يحمل كما يقول كرومر: «قسطا من تلك الروح التي تحيي جنسه الإمبراطوري» إلا على المعنى الذي نفهمه نحن، وذلك أنه يلقي الزيت والحطب على النار حتى لا تبقي ولا تذر، وبعدها تقتنص الفريسة، مصر المسكينة، بدعوى إنقاذ البلاد من نار الفتنة. وما أظن ذلك القول محتاجا إلى دليل، فهذا الذي يدعو إليه كلفن لو وقع فلن يكون إلا حربا أهلية شرها مستطير وهولها خطير ...
توجه الخديو إلى عابدين قبل حضور الفرق بزمن ليس بالقصير، ومعه كلفن ورياض وستون، فاستدعى علي بك فهمي رئيس الحرس، وأشار عليه بالدخول إلى القصر بفرقته والتحصن بالنوافذ العليا، وقد نصح للجند بقوله: «أنتم أولادي وحرسي الخصوصي فلا تتبعوا التعصب الذميم، ولا تقتدوا بأعمال الآليات الأخرى.»
فأطاع الجند وأخذوا يتأهبون ...
وسار الخديو بعد ذلك إلى القلعة يحاول أن يثني آلايها بنفسه عما اعتزم، ولكنه لم يجد منه شيئا مما وجد من حرسه من ولاء، فسار إلى العباسية حيث كان آلاي عرابي، ولكنه علم هناك أن عرابيا سار منذ ساعة على رأس جنده ومعهم المدافع بطريق الحسينية إلى عابدين فقفل أدراجه إليها ...
وفي عصر ذلك اليوم المشهود التاسع من سبتمبر سنة 1881 تحرك الجيش يقصد عابدين، فخطت الثورة الوليدة أجرأ خطواتها وأبعدها أثرا في تطور حوادث ذلك العهد ...
وتلاقى عرابي في ميدان عابدين بالآلايات الأخرى بقيادة أحمد بك عبد الغفار وعبد العال بك حلمي وإبراهيم بك فوزي وفوده أفندي حسن وغيرهم من أنصاره. وكان عدد الجند المحتشدين نحو أربعة آلاف ومعهم المدفعية، وأرسل عرابي يستدعي علي بك فهمي من داخل القصر فعاتبه، فرد بقوله: «إن السياسة خداع.» ثم ذهب فعاد بفرقته، وانضم إلى الجيش فأصبح القصر خاليا من كل عناصر المقاومة، وكان فيما صنع علي بك فهمي كثير من الخير لأنه الجهة الوحيدة التي كان يخشى منها خطر الحرب الأهلية ...
وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة الذين أخذتهم الدهشة لهذا المنظر لا ريب، واشرأبت أعناق الشعب التي طالما ألفت الذلة، وتطلع من فوق أكتاف الجند، ومن خلال صفوف الفرسان لينظر ماذا يكون في هذا الموقف الرهيب، واسم عرابي يجري على الألسن في حين تدور الأبصار باحثة عن موضعه وهو على ظهر جواده أمام جنده يتأهب لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي ألبس جده بالأمس الكرك والقفطان شارتي الحكم دون رجوع إلى السلطان، وما أعظم كلمة مصر ينطق بها فلاح من أعماق الوادي نبت ونما على ثراه ...
ووصل الخديو إلى عابدين بعد أن فشلت سياسة طوافه على الآلايات، تلك السياسة التي تدل في ذاتها على منتهى الضعف، والتي لا يشفع له في اتباعها سوى أنها كانت آخر سهم في جعبته إن كان هذا شفيعا. والحق أن الخديو قد لاقى في ذلك الطواف ما تنخلع منه أفئدة أقوى من فؤاده. وحسبك أن فرقة القلعة ثارت في وجهه حينما أمسك بنفسه بتلابيب قائدها فودة حسن حتى لقد وضع العساكر الأسنة في بنادقهم بأمر من هذا القائد، وتجمهروا حول الخديو حتى صاح بالقائد: «أفسح لنا الطريق يا بكباشي.»
ودخل الخديو السراي من الباب الخلفي، باب باربز، ويقول كلفن إنه قفز من العربة وأشار على الخديو أن يسير من فوره إلى الميدان ففعل توفيق ذلك، وسار إلى حيث اجتمع الجند، ووراءه ستون باشا وأربعة أو خمسة من الضباط الوطنيين وواحد أو اثنان من الضباط الأوربيين، ويذكر عرابي أنه كان معه كذلك كوكسن قنصل إنجلترا بالإسكندرية والجنرال جولد سمث مراقب الدائرة السنية.
وتقدم الخديو ثابت الخطى، فأشار عليه كلفن أن يأمر عرابيا بتسليم سيفه متى دنا منه، وأن يأمره بالانصراف ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر.
وسار عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو، صاح به الخديو قائلا: «انزل» فوثب عرابي من فوق جواده، ومشى نحو الخديو ومن حوله نحو خمسين ضابطا، فأدى التحية العسكرية، وأشار الخديو إشارة ذات معنى إلى سيفه فأسرع عرابي بإغماده.
الموقف رهيب بالغ الرهبة! ففي هذا الجانب حيث يقف الجند نرى مصر التي أيقظتها المحن والفواجع تتمثل في هذا الجندي الفلاح تجري على لسانه كلمتها في غير التواء أو تلعثم، وفي الجانب الآخر صاحب السلطان الموروث تغضبه هذه اليقظة وتذهله، مع أنه رآها منذ بدايتها، ورأى أباه على جلالة قدره يوسع له صدره ويخفض لها جناحه فيزداد بذلك رفعة ...
هنا الحرية الوليدة والديموقراطية الجديدة، وهناك التقاليد العتيدة والأوتوقراطية العنيدة، ومن وراء ذلك الثعالب وبنات آوى تتمسكن لتتمكن، ونتربص لتنقض!
والتاريخ شاهد يثبت للقومية المصرية موقفا من أروع مواقفها، ومظهرا من أجل مظاهرها، ويضيف بذلك إلى صفحات الحرية في سجل الأمم صفحة جديدة لن تبلي الأيام جدتها، أو تبخس أغراض المبطلين قيمتها.
همس كلفن في أذن الخديو: «هذه هي ساعتك.» فأجاب الخديو: «نحن بين أربع نيران» فقال كلفن: «كن شجاعا.»، فتهامس الخديو وأحد الضباط الوطنيين ثم التفت إلى كلفن قائلا: «ماذا عسى أن أفعل؟ نحن بين أربع نيران ... إنهم يقتلوننا.»
3
ويحسن أن نورد ما حدث بعد ذلك على لسان عرابي وهو لا يخرج عن روايات هذا الحادث على كثرتها. قال: «ثم صاح بمن خلفي من الضباط أن أغمدوا سيوفكم وعودوا إلى مكانكم، فلم يفعلوا وظلوا وقوفا خلفي ودم الوطنية يغلي في مراجل قلوبهم والغضب ملء جوارحهم. ولما وقفت بين يديه مشيرا بالسلام خاطبني بقوله: «ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟» فأجبته بقولي: «جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة، كلها طلبات عادلة... فقال: «وما هي هذه الطلبات؟» فقلت: «هي إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوربي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها.» فقال: «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.» فقلت: «لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا وعقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم.»
4
تلفت الخديو بعد ذلك إلى كلفن قائلا: «أسمعت ما يقول؟» فأشار عليه هذا بالعودة إلى القصر إذ لا يجمل أن يزيد الأمر بينه وبين عرابي عن هذا الحد، فانصرف الخديو وبقي الجيش في مكانه لا يتزحزح.
وأقبل كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية، وكان ينوب عن القنصل العام السير إدوارد مالت لغيابه، أقبل هذا ومعه ترجمان يناقش عرابيا في غلظة مقصودة، وكان هذا الإنجليزي كرجال الاستعمار جميعا من بني جلدته ممن يحسنون دس أنوفهم في كل شيء، ومما وجهه إلى عرابي قوله أن لا حق له في أن يطالب بالمجلس النيابي وإسقاط الوزارة، فذلك من شأن الأمة، أما عن زيادة الجيش فمالية البلاد لا تساعد على ذلك ...
وأجاب عرابي بقوله: إن الأمة أنابت الجيش عنها، ثم وجه نظر محدثه إلى الجموع المتراصة خلف الجند قائلا: هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها، ويحسن أن نورد عبارته بنصها. قال: «اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهالي لم أعمد إليها إلا لأنهم أقاموني نائبا عنهم في تنفيذها بوساطة هؤلاء العساكر الذين هم عبارة عن إخوانهم وأولادهم، فهم القوة التي تنفذ بها كل ما يعود على الوطن بالخير والمنفعة، وانظر إلى هؤلاء المحتشدين خلف العساكر، فهم الأهالي الذين أنابونا عنهم في طلب حقوقهم، واعلم علم اليقين أننا لا نتنازل عن طلباتنا، ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.»
قال القنصل: «علمت من كلامك أنك ترغب في تنفيذ اقتراحاتك بالقوة، وهذا أمر ينشأ عنه ضياع بلادكم وتلاشيها ...»
قال عرابي: «كيف يكون ذلك؟ ومن ذا الذي يعارضنا في أحوال داخليتنا؟ فاعلم أننا سنقاوم من يتصدى لمعارضتنا أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا ...»
قال القنصل: «وأين هي قوتكم التي ستدافع بها؟»
قال عرابي: «عند الاقتضاء يمكن أن نحشد مليونا من العساكر يدافعون عن بلادهم ويسمعون قولي ويلبون إشارتي.»
وسأل كوكسن عرابيا بعد هذا سؤالا يتجلى فيه خبثه وقد ظن أنه أحكم الرمية فقال: «وماذا تفعل إذا لم تجب إلى ما تطلب؟»
فانظر إلى رد هذا الجندي في هذا الموقف الذي تخف في مثله أحلام الرجال، والذي تزدهي القوة فيه القلوب فتسلب ذوي العقول اتزان عقولهم، انظر إلى عرابي في موقف الثورة يقول له: «أقول كلمة أخرى.» فقال القنصل: «وما هي؟» قال عرابي «لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط!»
وأخذ كوكسن يروح ويغدو بين عرابي والخديو، حتى جاءه آخر الأمر ينبئه بقبول الخديو إسقاط الوزارة القائمة، وأن سموه سينظر في بقية المطالب؛ فلابد في بعضها من مشاورة السلطان. وعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرئاسة الوزارة القادمة ولكنهم رفضوه، وجرى على الألسن اسم شريف بطل الدستور ونصيره، فعاد كوكسن بعد حين يعلن إلى عرابي قبول الخديو تعيين شريف؛ فقوبل ذلك بالهتاف بحياة الخديو، والتمس عرابي ونفر من زملائه الإذن على الخديو، فلما مثلوا بين يديه أخذ عرابي يعبر له عن ولائه وولاء الجيش. وذكر له الخديو: «أنه وافق على تلك الطلبات بنية صافية»، ثم انصرف الجيش بعد ذلك في هدوء كل فرقة إلى مقرها ... •••
هذا هو يوم عابدين الذي عده خصوم عرابي من أكبر سيئاته، والذي نعده في غير مغالاة أكبر حسناته، وكيف يستطيع هؤلاء مهما بلغ من اضطغانهم على عرابي ورغبتهم في الإساءة إليه أن ينكروا ما ينطوي عليه هذا الموقف من معان؟! ألا أنهم ليتغافلون ليطعنوا الرجل في أجمل مواقفه وأعظم خطواته، وهم إنما ينسالون بذلك من أنفسهم دون أن ينالوا منه شيئا ...
طالب عرابي بالدستور فكان في طلبه هذا زعيم ثورة تقوم على أجل المبادئ التي شاعت في أوربا في القرن التاسع عشر والتي عدها المؤرخون والناس من أعظم خطوات البشرية صوب الرقي والكمال، فكيف يكون مع ذلك داعية فوضى واضطراب؟ ولقد كثرت في أوربا المواقف التي يشبهها في معناها ومرماها هذا الموقف فسجلتها الشعوب في ثبت مفاخرها، وعدتها من أيامها المشهودة التي تمجد كل عام ذكراها.
وتم لعرابي وأنصاره ما أرادوا ، في غير عنف يشوه حركتهم أو ينقص من جلالها كما يحدث في أشباهها من الحركات ...
لقد كان القصر أمام الجيش خلوا من أية قوة، فروعيت حرمته أحسن مراعاة، وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه هذا الجندي الثائر عن طوره، بل لقد تمالك نفسه فترجل وأدي التحية العسكرية وأغمد سيفه، ثم ذهب بعد ذلك فأعرب له عن ولائه وشكره باسم الأمة إذ أجابها إلى ما طلبت على لسانه ...
ألا إنا لنعجب بذلك ونفخر به إذ نكتبه، وما نجد من الأدلة التي نسوقها على رجولة عرابي وشهامته وبعده عما يرميه به خصومه أقوى أو أجمل من هذا الذي نشير إليه ... •••
فإذا أضفت إلى ذلك ما كان يدبر في خبث من الدسائس في ذلك الموقف الرهيب، وذكرت كيف أحبطها عرابي بمزيج من الصبر والبسالة يدعو إلى الإعجاب حقا، ازددت لا ريب إكبارا لموقفه في ذلك اليوم، ولقد كانت أية كلمة نابية أو أية إشارة يساء فهمها كفيلة بأن تسيل الدماء في تلك الساحة، قال عرابي: «لو حاول الخديو قتلي لأطلقت النار عليه.»
5
وينبغي ألا ننسى ما اتخذه عرابي من الحيطة قبل ذهابه، وذلك باتصاله بالقناصل وبالخديو، فقد كان بذلك حكيما موفقا، لا يدع مسلكه محلا لغميزة أو يهيئ سببا لملامة ...
نجحت حركة عرابي أتم نجاح وأجمله، وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهدا يسود فيه الإصلاح والنظام، فلقد كان قبول الخديو مطالب عرابي التي أشرنا إليها ينطوي على معنى عظيم، ألا وهو موافقة حاكم البلاد على التخلص من الحكم الاستبدادي الرجعي، والعودة إلى حكم الحرية الدستورية الذي سبق أن وافق عليه يوم تبوأ عرشه ثم عاد فتنكر له حين اطمأن في مصر إلى كرسيه.
وراحت مصر تستقبل في تاريخها حقبة من أسعد الحقب، فلقد نالت أمانيها دون أن تراق نقطة دم، وخرجت سالمة آمنة من ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب أهم الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية، ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب ثورة سنة 1688 في إنجلترا وإلى جانب الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية الكبرى ... •••
ولولا ما كتبه عنها المغرضون المبطلون من الأجانب. وما ضربه الاحتلال على الآذان والقلوب فحال بين المصريين وبين تاريخ قوميتهم الحقيقي لكان لتاريخ هذه الثورة شأن غير هذا الشأن في هذا البلد المسكين ...
وصف بلنت تلك الأيام السعيدة بقوله:
6 «إن ثلاثة الشهور التي أعقبت هذا الحادث لهي من الوجهة السياسية أسعد الأيام التي شهدتها مصر، ولقد ساعدني الحظ بمشاهدة ما جرى فيها بعيني رأسي، فلم أتلق معلوماتي عنها بطريق السماع، ولو كان ذلك لشككت في حقيقتها. إني لم أر في حياتي ما يشبه هذه الحوادث، وأخشى ألا أرى مثلها في المستقبل. إن كل الأحزاب الوطنية وكل أهالي القاهرة قد اتفقت كلمتهم هنيهة من الزمن على تحقيق هذه الغاية الوطنية الكبرى، لا فرق في ذلك كما يظهر بين الخديو والأمة، وسرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها على ضفاف النيل منذ قرون، فكان الناس في شوارع القاهرة حتى الغرباء منهم يستوقف بعضهم البعض يتعانقون وهم جذلون مستبشرون بعهد الحرية العظيم الذي طلع عليهم على حين غفلة طلوع الفجر إثر ليلة مخيفة حالكة الظلام.» ...
ولم يقتصر أمر هذه الفرحة الوطنية على القاهرة، وإنما حملتها الصحف إلى المستنيرين في الأقاليم تبشر الناس بعهد جديد يشرق على البلاد فجره، تجد ذلك في قول بلنت: «وقد أذاعت الصحف هذه الأنباء في سرعة، وقد تحررت من كثير من قيودها تحت رقابة الشيخ محمد عبده المستنيرة تحررا لم يصل إلى مثله من قبل، واستطاع الناس آخر الأمر أن يلتقوا ويتحادثوا غير خائفين في كل جهة من جهات الأقاليم لا يخشون من الجواسيس ولا من تدخل الشرطة، وسرت هذه الروح السعيدة إلى كل الطبقات من المسلمين والمسيحيين واليهود، وشملت رجالا من كل دين ومن كل جنس، ومن هؤلاء عدد غير قليل من الأوربيين الذين اشتدت صلتهم بالحياة المصرية، حتى القناصل أنفسهم لم يسعهم إلا أن يعترفوا أن العهد الجديد كان خيرا من القديم، وأن رياضا ارتكب أخطاء، وأن عرابيا إن لم يكن مصيبا في كل شيء فهو على الأقل لم يكن مخطئا في كل شيء.»
رجل أمة
اغتدى اسم عرابي على كل لسان في مصر، فعلى يديه تم الانقلاب المنشود، وإليه نسب كل فضل، وأصبح الناس في القاهرة وفي القرى يتحدثون في إعجاب عظيم عن الفلاح ابن الفلاح الذي أسمع الخديو كلمة مصر في إباء وعزة، وأجبره على أن يجيب الأمة إلى ما طلبت ...
ومن السهل على المرء أن يتصور وقع هذه الأنباء في الناس في عصر كذلك العصر، فقد تناقل الناس كلمات عرابي للخديو وهم لا يكادون يصدقونها، ومن السهل كذلك أن يدرك المرء كيف اغتدى بحق عرابي في مصر رجل أمة، فقد اجتمع فيه رجالها، وأضحت تتفاخر به لأنه من صميم فلاحيها، ولأنها باتت تحتمي به وتحس إحساسا واضحا أن الرجل الذي كانت تتطلع إلى ظهوره كما تتطلع كل أمة في مثل موقفها، قد تهيأ لها في شخصه آخر الأمر ...
ولقد نبه اسم عرابي وحقت له الزعامة عقب حادث قصر النيل، فلما كان يوم عابدين، وثق الناس من بطولته وركنوا إلى زعامته، واستمدوا حميتهم من حميته، وباتوا يربطون مصيرهم بما يفعل أو يقول ...
عارض شريف أول الأمر في قبول الوزارة، وكانت حجته في ذلك أنه بقبوله الحكم من غير قيد ولا شرط إنما يضع نفسه تحت سلطة الحزب العسكري، الأمر الذي لا يطيق أن يحمل نفسه على قبوله، ولذلك دارت بينه وبين عرابي وزملائه مفاوضات استمرت بضعة أيام تحرجت الأمور فيها حتى أوشك شريف أن يتنحى عن قبول الوزارة ...
ولكن بوارق الأمل ما لبثت أن لاحت، وكان جميلا أن تلوح من جانب ذلك الرجل الذي لا يزال نفر من المصريين حتى وقتنا هذا يرمونه بالفوضى، ويردون أسباب ما لحق مصر من ويلات إليه، فيقيمون الدليل بذلك على أنفسهم أنهم إما ذوو أغراض أو أولو جهل بحقائق الأمور معيب ...
كان جميلا أن يبرق الأمل من جانب عرابي فيخفض جناحه لشريف ويذعن لما اشترط من شروط في صدق إخلاص وعن طيب خاطر ...
دعا عرابي رجال الحزب الوطني وأعضاء مجلس شورى النواب المعطل، وعرض عليهم الأمر، وكان على رأسهم سلطان باشا، وذهب وفد من هؤلاء إلى شريف يرجون منه قبول الحكم، فعرفوا أنه يشترط ألا يتدخل الجند في شيء، وأن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكانين يختاران لهما، وأن يترك حرا في اختيار وزرائه؛ لأن عرابيا كان يطلب إليه إعادة البارودي وإدخال مصطفى فهمي باشا في الوزارة، وكان شريف يرفض ذلك لأنهما لم يثبتا على عهدهما فدخلا وزارة رياض عقب إقالة وزارته ...
وتعهد سلطان ووفده أنهم يضمنون لشريف خضوع عرابي والحزب العسكري، وكان بين الوفد نفر من ذوي المنزلة في البلاد كأباظة والشريعي والمنشاوي والمويلحي والشمسي والوكيل، وهم أهل نفوذ وجاه يعرف شريف قيمة انضمامهم إليه ...
تسمع عرابي ما عرضه سلطان ومن معه فذهب بنفسه إلى شريف يستحثه على سرعة تأليف الوزارة ويظهر له ما يخشاه من الإبطاء، قال عرابي: «وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1881 قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة فأصر على الرفض فقلت له: إن لم تؤلف الوزارة اليوم فسنطلب غيرك ولا تظن أن ليس بالبلاد سواك ففيها بعون الله العلماء والحكماء، ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز ... فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جوابا، ثم خرجنا من عنده وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور وكيل زراعته وقال: إن الباشا قبل ما عرضته عليه.»
وألف شريف وزارته الثالثة، وكانت هذه أولى ثمار الثورة، وقد قبل الوزيرين اللذين أشار بهما عرابي، كما قبل رجاء الحزب العسكري وهو النظر في القوانين الخاصة بالجيش، وذلك في مقابل أن يخضعوا لحكمه ويبتعدوا عن كل تدخل في شئونه.
ودعا وزير الحربية عرابيا، فأفهمه رغبة الحكومة في أن يسافر بفرقته إلى رأس الوادي، وأن يسافر عبد العال إلى دمياط، فقبل عرابي ذلك، ولكنه اشترط أن يصدر أمر الخديو بالانتخاب لمجلس شورى النواب قبل السفر، ولا ريب أن هذا الشرط من جانب عرابي خروج منه على ما أخذه على نفسه من عدم التدخل في شئون الحكومة، وهو أمر لا يسعنا إلا أن نحسبه عليه، بل نلومه عليه مهما كان ما ينطوي عليه طلبه من خير للبلاد، ومهما كان في هذا الطلب من معاني حرصه على الدستور والحياة النيابية، وبخاصة لأن على رأس الحكومة رجلا مثل شريف ...
أما عن امتثاله لأمر الحكومة بقبول السفر، فهو في ذاته على الرغم مما أحيط به من اشتراط يعد من محامد عرابي، إذ يدل على مرونة وكياسة ورغبة في التفاهم شتان بينها وبين ما يعزوه إليه خصومه وجاهلو أمره من حماقة ونزق وعنف في كل ما يطوف بهم من سيرته، كما أنه يقدم بطاعته دليلا على نبل غرضه وحسن طويته فيما سعى إليه ...
وخرج عرابي في اليوم الثامن من شهر أكتوبر بقصد السفر بفرقته إلى رأس الوادي، وذلك بعد مرور أربعة أيام على موافقة الخديو على دعوة مجلس شورى النواب، وكان قد سبقه عبد العال في السفر إلى دمياط ...
سار عرابي بطريق الحسينية حتى بلغ مسجد الحسين رضوان الله عليه «فوقف الآلاي مقابلا للمسجد تعظيما وإجلالا لسبط الرسول عليه الصلاة والسلام»، ودخل عرابي المقام الحسيني مع الضباط، «وأمر بيرق الآلاي على الضريح الشريف» ...
وسار بعد ذلك إلى المحطة فما كاد يتوسط المدينة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ، ويلقون في طريقه الزهر والرياحين.
وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري وجمهورا عظيما من الأعيان وذوي المكانة وعددا هائلا من عامة الناس فاحتفوا بمقدمه، وكانت توزع الحلوى وتنشر الزهور في فناء المحطة، وكان يتسابق الخطباء والشعراء في تمجيد ذلك الذي جرى اسمه على كل لسان في مصر، ووقف عرابي في هذا الجمع خطيبا فقال: «سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد، وقطعنا غرس الاستبداد، ولا ننثني عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادا ولا تدميرا، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستعباد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة، وقد ساعدتنا العناية الإلهية ومنحنا مولانا وأميرنا الخديو ما طلبناه من سقوط وزارة المستبد علينا السائر بنا في غير طريق الوطنية، وتمتعنا بمجلس الشورى لتنظر الأمة في شئونها وتعرف حقوقها كباقي الأمم المتمدنة في العالم، ومن قرأ التاريخ يعلم أن الدول الأوربية ما نالت الحرية إلا بالثورة وإراقة الدماء وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم أو نخيف قلبا، أو نضيع حقا أو نخدش شرفا، وما وصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا بالاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد.» وهتف عرابي بحياة الخديو واهب الحرية، وحياة الجيش، وحياة الحرية، ثم امتدح الوزارة ورئيسها، ووصف البارودي بقوله: «رئيسنا الوطني الحر القائم بخدمة الوطن وأهله.» وحذر إخوانه في الجهادية من الوشاة والحساد، وحثهم على الاتحاد قائلا: «البلاد محتاجة إلينا، وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه.»
ولنا إلى هذه الفقرة من خطبته عودة كما أن لنا عودة إلى فقرة غيرها نكتفي الآن بالإشارة إليها وهي قوله: «وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة ويجانب حدوث ما يكدر الراحة.»
واختتم خطابه بعبارات ذات مغزى مثل قوله: «إن الطمأنينة عادت كما كانت، وعدنا إلى ما نشأنا عليه من طاعة مولانا الخديو وخضوعنا له ولوزرائه الفخام، فلا تأخذكم الأراجيف وإشاعات أعداء الوطن، وثقوا بسعي أميرنا ورجاله.» ومثل قوله: «إن قيامنا كان لطلب الحقوق لا للعقوق.» وقوله: «وبيننا من الأعداء من يسعى في تفريق كلمتنا وإضرام نار الفتنة بيننا.» •••
واستقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار، وكان يخطب الناس مرافقه في الرحلة السيد عبد الله نديم كما حدث في الزقازيق حيث كان على رأس مستقبليه فيها أمين بك الشمسي، ووقف عرابي يخطب الناس هناك فكان مما قاله: «أنا أخوكم في الوطنية واسمي أحمد عرابي، ولدت في بلدة هرية رزنة من بلاد الشرقية هذه، فمن عرفني منكم فقد عرفني، ومن لم يعرفني عرفته بنفسي، وها أنذا واقف بين الأهل والخلان، وقد بلغكم ما طلبناه من قطع عرق الاستبداد وتحرير البلاد وأهلها، وبعناية الله سبحانه منحنا مولانا الخديو هذه الأمنية، فنحن لم نخرج من العاصمة عصيانا ولا تظاهرا بعدوان، وإنما سرت بالجيش ووقفت بين يدي الخديو وقفة الطالب الراجي كرم مولاه، فلا تعولوا على الأراجيف وإشاعات أهل الفساد، واعلموا أن البلاد محتاجة إلى الخدمة بالقوة والفكر والعمل، فأما القوة فنحن رجالها، ولا ننثني عن عزمنا وفي الجسم نفس، وأما الفكر فهو منوط بأميرنا العظيم ووزرائه الكرام، وأما العمل فهو منوط بكم فإن القوة والفكر يعطلان بفقد ثروة تربتنا الطيبة المباركة، وقد طلبنا لكم مجلس الشورى لتكون الأمور منوطة بأهلها، والحقوق محفوظة لذويها.»
وقال عرابي في خطبة أخرى بالزقازيق ألقاها في وليمة أعدها له أمين بك الشمسي رئيس تجار الزقازيق: «سادتي وإخواني الأعزاء، أحلي أسماعكم باسم مولانا أميرنا الخديو الساعي في عمار الوطن وقطع عروق الاستبداد منه، وأذكركم بمدة حجبت عنا فيها أنوار الحرية واستعبدتنا فيها الظلمة حتى صرنا نتألم ولا يرحمنا أحد، وأصبحت أموالنا وأرزاقنا معرضة للنهب والسلب تتخطفها أيدي المستبدين قد تمكنت القسوة من قلوبهم، وألفوا الظلم وكرهوا العدل والإنصاف حتى كانت عاقبة أمرهم أن أصبح الناس قيد الفقر وذل الفاقة، والقطر معرضا للأخطار مهيأ لامتداد أيدي الطامعين إليه فعز على إخوانكم وأولادكم الجهادية حماة البلاد، وتحركت فينا الحمية العربية الوطنية، فتعاهدنا على حفظ البلاد ووقاية أميرنا من كل سوء، وسرت بهذا الجيش ووقفت بساحة عابدين أمام مولانا الخديو، حفظه الله، وقد اشتدت شوكة جيش البغي وقويت معارضته ... وأنقذناكم من يد من لم يعرف لكم حرمة ولا يعترف بحق، ولا يرى أنكم مثله من نوع الإنسان، وشكرنا مولانا وأميرنا الخديو على حسن عنايته بنا وبالأمة وعلى ما تفضل به من مجلس الشورى، أنتم الآن مهيئون للانتخاب؛ فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم ويدفعون المظالم عنكم، ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا.» •••
وفي الزقازيق دعى عرابي لوضع أساس المدرسة الأميرية فذهب ووضع الحجر الأساسي باسم الخديو. قال: وتلوت على الحاضرين خطبة ذكرت لهم فيها فوائد التعليم ومنافعه وفضل العالم على الجاهل والبصير على الأعمى، وحرضتهم على الاهتمام بأمر تعليم أولادهم ليكونوا مستعدين لخدمة بلادهم في المستقبل.»
وأولمت لعرابي عدة ولائم في دور بعض وجهاء مديرية الشرقية، سافر بعدها إلى رأس الوادي. وليس يخفي ما ينطوي عليه من معان تكريم هذا الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء؛ ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية الوليدة في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زمنا طويلا لمظاهر السيادة والأرستوقراطية.
توفيق والثورة
لندع عرابيا في رأس الوادي، ولننظر ماذا كان من أمر شريف ووزارة شريف. وهنا نبادر إلى القول بأن هذه المرحلة من تاريخ مصر الحديث كانت أهم المراحل جميعا منذ الحملة الفرنسية، وأدقها وأبعدها أثرا فيما هي مقبلة عليه بعد من مراحل ...
ظن الناس أن قد انجلت الغاشية على نحو ما صور بلنت ولكنهم لم يكونوا يعلمون، أو لم يكن يعلم إلا القليلون منهم أن وراء هذا الصفو كدرا، وأن سماء السياسة كانت يومئذ كسماء الطبيعة تصفو هنيهة لتتلبد بعدها بالسحب المركومة، ولتتلاقى في جوانبها أبابيل سود من الغربان الناعبة فتكون حلكتها بعد الصفو أقبح ما تكون منظرا، وأشد ما تكون إيلاما للنفوس وإزعاجا للخواطر.
وكيف كان يرجى دوام الصفاء وقد كانت الشباك منصوبة، وقد أخذ الصائدون يدفعون الفريسة إليها دفعا بعد أن أعياهم الأمر فلم يستطيعوا أن يأخذوها بالحيلة، أو أن يعصبوا عينيها كما كانوا من قبل يفعلون؟!
كيف كان يرجى الصفاء، وقد كان الخديو يضمر عكس ما يظهر كأن لم يكفه ما أصاب البلاد من جراء سياسته وتنكره للحركة الوطنية، وإيجاده بما فعل الثغرة التي كانت تنفذ منها الثعالب وبنات آوى إلى صميم حركتها وقلب نهضتها؟!
وما أشبه توفيقا في ذلك الموقف بل في أكثر مواقفه كما أسلفنا بملك فرنسا لويس السادس عشر، ذلك الملك الذي كان يدفع الثورة في بلاده دفعا، والذي يعزى إلى سياسته الملتوية المذبذبة أن تنكبت تلك الثورة منهاجها السلمي العاقل، واندفعت في سبيل جرت فيها الدماء، وتجمعت على جانبيها الأشلاء.
ظهر ذلك الملك للنواب أول الأمر في جلد الأسد، ثم ما لبث أن استخزى بعد وثبة ميرابو، ولكن الشائعات طافت بأهل باريس أن الملك أخذ يستعد ويجمع حوله الجند، فما لبث أن جرت الدماء في باريس ودك الناس الباستيل رمز العبودية والجبروت، ثم رأى أهل باريس بين الدهشة من الملك والزراية عليه والتهزؤ به أنه يركب في جماعة من النواب كان في مقدمتهم ميرابو فيزور باريس ويطوف بأنحائها، ويمر بخرائب الباستيل مظهرا عطفه على الثورة والثوار، ولكنه يعود بعد ذلك فيأتي من معاني التحدي والنزق ما يجعل الشعب يذهب فيقتحم عليه غرف قصره في فرساي ويعود به إلى باريس ليكون رهينة فيها، ويتم الدستور فيرفع إليه فيوافق عليه. ولكن ريثما يعد العدة للهرب، ثم يضبط المسكين وفد أوشك أن يجتاز الحدود فيقضي عليه هذا العمل، وتمضي الثورة في طريقها مجنونة لا تلوي على شيء حتى تأكل آخر الأمر نفسها.
ولقد كان توفيق يسلك تجاه الثورة العرابية مسلك لويس تجاه الثورة الفرنسية مع فارق واحد، وهو أن الخديو، كان من ورائه الإنجليز، فلما لجأ إليهم توفيق كما هرب لويس لم يقض هذا العمل عليه، وإنما قضى على مصر ...
تخلص توفيق من رياض وقد كان يسعى إلى التخلص منه. فكيف كان يريد أن يسلك مع شريف مسلكه مع رياض ولقد كان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الديمقراطية والاستبداد؟!
عادت الظروف من جديد تبين للخديو بأجلى وضوح أن الطريق الوحيد هو الانضمام إلى الحركة الوطنية ومشايعتها في صدق وإخلاص، ففي ذلك منجاته من تطرف هذه الحركة وجموحها، وفي ذلك منجاة البلاد من تدخل الأجانب باسم المحافظة على عرش الخديو، ثم من احتلال البلاد باسم القضاء على الفتن والقلاقل ...
ولكن الخديو تنكب هذا الطريق فدفع تيار الثورة بمسلكه هذا ليعج عجاجه، وليس في نفسه الآن إلا أن يتخلص من هذه الحركة الوطنية التي وضعت السلطة موضعها الطبيعي في يد الأمة ...
ومن أعجب الأمور، بل من أقبح المظالم أنه لما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه فيما بعد من عنف وجموح حمل زعماؤها كل أوزارها وخرج عرابي المسكين بالنصيب الأوفى من هذه الأوزار، وهي لو عرضت على حقيقتها، وردت فيها الأمور إلى أصولها لرد ما يعزى إلى عرابي أو أكثره إلى الخديو دون أن يكون في ذلك أقل تجن على هذا ولا أدنى تحيز لذاك ...
لقد ألقى الخديو بنفسه في أحضان الإنجليز منذ استعان بكلفن يوم عابدين ومنذ أن جعل كوكسن رسوله إلى عرابي وهو على رأس جنده أمام القصر، فلقد ظهر هذان بمظهر من يعطف على توفيق ومن يستنكر على عرابي ما فعل، وقر في نفس توفيق أنهما ولياه وأن بني مصر أعداؤه ...
منذ ذلك الحين صار الإنجليز في ظاهر الأمر أسناد الخديو وفي حقيقته ثعالب تحتال على اصطياد الفريسة. وسيظل هذا شأن توفيق حتى يدخل عاصمة مصر بعد هزيمة الجيش المصري، في حراسة الإنجليز وحمايتهم، فيصطف عساكرهم، من المحطة إلى قصره وتحيط بعربته كتيبة منهم وتستقبله على أبواب القصر كتيبة بالنشيد الملكي البريطاني ... بل إننا نستطيع أن نقول إن ركون توفيق إلى الإنجليز يرجع إلى يوم خلع أبيه، فقد رأى أباه يخلع بنفوذ هؤلاء الإنجليز لدى السلطان، فآثر أن يركن إلى الأقوياء علهم يرضون عنه! ونكرر القول إن منجاته ومنجاة مصر كانت في ركونه إلى الحركة الوطنية، ولكن كيف كان يركن إلى من ينتزعون منه السلطة ليردوها إلى الأمة صاحبتها الحقيقية، ولا يركن إلى من يتظاهرون لديه أنهم يظاهرونه ليزيدوا سلطاته ويقضوا على مناوئيه؟
سار شريف على نهج حكيم فأرضى الأجانب أو عمل على إرضائهم بقبوله المراقبة الثنائية، وأرضى الوطنيين بتحقيق الآمال الوطنية، ولكنه ما لبث أن رأى هؤلاء الأجانب لا يدعون وسيلة لضم الخديو إليهم إلا اتبعوها، حتى لقد ترك شريف بعد أمد قصير يعمل وحده، وكأنما وضع الخديو نفسه بنفسه في عزلة ...
ولو أنها كانت عزلة عن الوطنيين دون اتصال الأجانب، وبخاصة الإنجليز، لهان أمرها، ولكن توفيقا سوف يخلق أول الأمر بعزلته ريبة ومخاوف في قلوب المصريين، ثم تنقلب الحال إلى كراهة وتؤدي الكراهة إلى المقاومة من جديد، ولقد كان أمام توفيق في الواقع هيئتان: الوطنيون بزعامة شريف، والعسكريون بزعامة عرابي، وكان يستطيع بشيء من حسن السياسة ألا يدع مجالا لتدخل العسكريين من جديد، ولقد رأى بنفسه ما كان من أمر هذا التدخل بالأمس القريب ...
افتتح مجلس شورى النواب في اليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1881، وقد جاء في خطاب توفيق في حفلة الافتتاح ما يأتي: «أبدي لحضرات النواب مسروريتي من اجتماعهم لأجل أن ينوبوا عن الأهالي في الأمور العائدة عليهم بالنفع، وفي علم الجميع أني من وقت ما استلمت زمام الحكومة عزمت بنية خالصة على فتح مجلس النواب، ولكن تأخر للآن بسبب المشكلات التي كانت محيطة بالحكومة، فأما الآن فنحمد الله تعالى على ما يسر لنا من دفع المشكلات المالية بمساعدة الدول المتحابة ومن تخفيف أحمال الأهالي على قدر الإمكان، فلم يبق مانع من المبادرة إلى ما أنا متشوق لحصوله، وهو مجلس النواب الذي أنا فاتحه في هذا اليوم باجتماعكم.» •••
هذا هو كلام الخديو فهل كانت هذه نياته؟ تلك هي المسألة ... ونرى أن خير ما نجيب به هو أن ننظر في الحوادث التي تلت ذلك، ومنها يستبين إلى أي حد كان الخديو ينوي أن يعمل كما يقول.
دأب الذين كانوا يعملون من وراء ستار، أو دأبت الثعالب وبنات آوى على تخويف الخديو من ناحيتين: ناحية الحركة الوطنية، وناحية تركيا، موحين إليه في الأولى أن حكم الدستور معناه ضياع سلطة الخديو، وفي الثانية أن تركيا لا ترتاح إلى توفيق وأنها تبيت له ما لا يحب، وغرض هؤلاء الذين يعملون في الظلام واضح، وهو أن يركن الخديو إليهم ليخلص من هذا كله.
أما عن حكم الدستور فكان ذلك يقتضي حقا أن يتنازل الخديو عن جانب كبير من السلطان المطلق إلى نواب الأمة، وتلك هي المشكلة، وما كانت مشكلة مصر وحدها، بل لقد كان لها مثيلات في جميع ما شهد العالم من حركات دستورية، فما نجم الخلاف بين الملكية والشعب في فرنسا إبان ثورتها الكبرى إلا من هذه الناحية، وما استمرت القلاقل قرونا بين الملكية والشعب في إنجلترا إلا بسبب ذلك، وما استقرت الأمور في الدولتين إلا حينما أثبت الشعبان قوتهما.
وإذن فكان لابد أن يتفاقم الخلاف بين الشعب والخديو في مصر حتى يثبت الشعب قوته أو يتنازل الخديو عن مبدأ الحكم المطلق، ومن هذا الخلاف أتيحت الفرصة للثعالب ... •••
وأما عن تركيا فقد كان توفيق يستريب ويخاف من سياستها ... فكر السلطان أولا أن يرسل جيش احتلال إلى مصر ليعيد فيها نفوذ الخلافة سيرته الأولى قبل عهد محمد علي، ولكن إنجلترا وفرنسا ما زالتا به حتى استطاعتا بالسياسة حينا وبالتهديد بعد ذلك حينا حتى أقلع عن هذه الفكرة، ولقد أفادتا من ذلك فائدتين: بقاء الوضع في مصر على ما هو عليه بحيث يسمح لهما بالتدخل في شئونها، والتأثير على الخديو أنهما هما الملاذ والسند ...
ولقد كان الأمير عبد الحليم بن محمد علي في الآستانة يدس الدسائس ويسعى سعيا متصلا لخلع توفيق وتولي حكم مصر بدلا منه، وكانت سيرة ذلك النشاط تزعج توفيقا وتقلق مضجعه ...
وأخيرا أوفد السلطان وفدا إلى مصر برئاسة علي نظامي باشا، وقد فعل السلطان ذلك دون علم الدول الأوربية، ولم تعلم بذلك الحكومة المصرية إلا عند قيام الوفد ...
وكان عرابي قد كتب إلى السلطان قبل يوم عابدين، ولعل السلطان أوجس خيفة من الحركة القائمة في مصر، وظن أنها حركة تنطوي فيما تنطوي عليه على فكرة انفصالية ترمي إلى خلع سيادة الأتراك ...
وكان عبد الحميد يومئذ يقاوم الحرية في بلاده ويبطش بالداعين إليها، ومكث الوفد أياما بمصر، ثم رحل فقرر عند السلطان نيابة عن الخديو أن البلاد هادئة ليس فيها ما يخيف، وجاء على لسان رئيس الوفد أن رجال العسكرية والزعماء جميعا يؤكدون ولاءهم للسلطان، وأنه لذلك يثني عليهم ولا يخالجه شك في حركتهم ... •••
وقامت إنجلترا وفرنسا بمظاهرة بحرية في مياه الإسكندرية إذ أحضرت كل منهما بارجة إلى الميناء، فلما سألتهما الحكومة المصرية عن سبب ذلك أجابتا أن سفينتيهما تغادران الإسكندرية في اليوم الذي يسافر فيه الوفد العثماني عائدا إلى الأستانة، وقد تم ذلك فعلا حينما غادر الوفد البلاد، ومعنى ذلك أن الدولتين لن تسمحا للسلطان حتى بمجرد النظر في أحوال مصر، ومعنى ذلك أيضا أن يلقيا في روع الخديو أن يلجأ إليهما إذا لزم الحال حتى ضد السلطان نفسه ...
ورب قائل يقول: إن في مسلك تركيا ودسائس عبد الحليم ما يدع للخديو العذر في الاعتماد على الدولتين، ولكن هذا زعم باطل، فرجال مصر جميعا وإن لم يكونوا في تلك الأيام يفكرون في الخروج على السلطان، إلا أنهم كانوا لا يسمحون له أن يتعدى الفرمانات المقررة، وهب أن للخديو العذر في أن يخاف جانب السلطان، فهل كانت الدولتان تحميانه إلا لغرض؟ وهل كان هذا الغرض إلا رغبة كل منهما أن تحل محل السلطان؟
إن الحوادث جميعا كانت تشير للخديو إلى الطريق الوحيد الذي كان عليه أن يسلكه، ولكنه اختار الانحياز إلى إنجلترا منذ حادث عابدين كما أسلفنا القول مع تظاهره بأنه يعطف على أماني البلاد، وفي ذلك الخطر كل الخطر، وفيه مسئولية الخديو عن اتجاه الحوادث بعد ذلك إلى تلك السبيل التي أفضت بالبلاد إلى كارثة الاحتلال، ومع هذا فإن بعض المصريين كانوا إلى عهد قريب ولعل منهم من لا يزال حتى اليوم يقرن الاحتلال باسم عرابي كلما ذكر هذا الاسم، فإذا قلت لهم: إن عرابيا هو الذي جرد سيفه وقاد جيشا من المصريين ليصد الاحتلال، وبذل من الجهود وحمل من الأعباء ما لا يبذل أو يحمل مثله إلا أولو العزم من الرجال، وأنه لولا ما أحاط به من خيانة لم يحط مثلها بقائد قبله لكان النصر حليفه لا محالة، حملوا كلامك هذا على المبالغة، وصعب عليهم أن يصدقوه، وقد أضلهم كتاب الاحتلال وصنائع الاحتلال ...
بين عرابي وبلنت
نعود إلى عرابي، فنقول: إن الحكومة استدعته من مقره في رأس الوادي وأسندت إليه منصب وكيل وزارة الحربية، وصدر الأمر العالي بذلك في اليوم الرابع من شهر يناير سنة 1882 وهو يعزو ذلك إلى ما بلغ الحكومة على ألسنة جواسيسها أنه يجول في بلاد مديرية الشرقية فيتصل بالوجهاء وشيوخ العرب محرضا داعيا إلى مبادئه وأغراضه ...
ويذكر عرابي أنه فوتح في أن ينعم عليه يومئذ برتبة اللواء فيصبح أحمد عرابي باشا، ولكنه رفضها مخافة أن يتهم أنه يعمل لشخصه، ولئن صح هذا - وهو ما لا نستبعده - لكان لنا فيه حسنة نضيفها إلى كبريات حسنات هذا الرجل، فإن التهافت على الرتب والألقاب لم يزل حتى اليوم في بلادنا المسكينة داء عياء يتغلغل في نفوس سادتنا وكبرائنا ...
ونقول: لئن صح ذلك لأن الخبر من جانب عرابي فهو في مرتبة الدعوى ... ونقول: إنا لا نستبعده، مستندين في ذلك إلى شاهد قوي، فهذا الرجل كان بطل الانقلاب، وعلى يده وصلت إلى ما وصلت إليه، ولكنه لم يصب مغنما ما، ولو كانت في نفسه أطماع وقتئذ لرأيناه يصل إلى مرتبة الوزير، فقد كان في موقف تحكم فيه في الخديو وفرض عليه الشخص الذي يؤلف الوزارة، وهو موقف يوحي إلى النفس بالغرور، فلو خالج نفس عرابي يومئذ طمع في جاه أو منصب لما وقف دونه إلى ما يبتغي حائل ...
وأقام عرابي بالقاهرة في منصبه الجديد، وكانت داره تمتلئ كل يوم بالناس من كل نمط: الوطنيين، والأوربيين، ورجال الصحافة من الأجانب والمصريين، ورجال السياسة الذين كانوا يسألونه عن مرمى حركته، وعما يطمح إليه، ويستكتبونه البيانات عن آماله، فازدادت شخصيته بذلك خطرا وذاع في الأوربيين صيته، وكانت زعامته تزداد رسوخا في قلوب مواطنيه، حتى لقبوا بيته باسم «بيت الأمة»
1
وبات يقصده كل متظلم يطلب معونته حتى في أتفه الأمور ...
وكان ممن اتصلوا بعرابي يومئذ مستر بلنت فتعارفا، وجرى بينهما حديث أثبته كل منهما في مذكراته، وفيه أشار عرابي إلى ارتياحه لتخلص مصر من مساوئ حكم إسماعيل ومن دسائس الشراكسة، ولكنه أبدى مخاوفه من سياسة إنجلترا وفرنسا نحو مصر، وعبر في كياسة عن أمله في أن تعطف إنجلترا على حركة الحرية في مصر وهي الدولة التي تعلن دائما أنها نصيرة الحرية والديمقراطية. وذكر عرابي أنه يتوقع العطف من إنجلترا أكثر مما يتوقعه من فرنسا، ولاسيما من جانب جلادستون الذي اشتهر بعطفه على الحرية في كل مكان ...
وليت شعري ماذا يطلب الذين يرمون عرابيا بالطمع والجهل والنزق أكثر من هذه البراهين التي نسوقها على أنه كان بريئا من هذا كله؟ ألم يأن لهؤلاء أن يقرءوا سيرة هذا الرجل في غير تحامل عليه حتى يعرفوا لهذا المصري المجاهد قدره وأثره في نهضتهم القومية؟ وهل يوجد في المعايب القومية عيب أشد قبحا من جهل قوم برجالهم في الوقت الذي يرون فيه غيرهم من الأمم يمجدون ذكرى الرجال؛ فيوحون إلى الأجيال القادمة معاني البطولة بما يقدمون لهم من الأمثلة؟
لقد أعجب بلنت بعرابي ووقعت عباراته من نفسه موقعا حسنا، قال بلنت يصف كيف تعرف إلى عرابي وكيف كان وقع لقائه في نفسه: «كان عرابي يومذاك في قمة صيته، يتحدث عنه الناس في طول مصر وعرضها بقولهم «الوحيد»، أعني أنه الرجل الوحيد، وكان القوم من جميع أنحاء القاهرة يتزاحمون على داره حيث يدعون ظلاماتهم بين يديه، وكانت حجرته الخارجية تمتلئ كل يوم بالمتوسلين وكذلك كان مدخل داره من الشارع ...
وكان قد سمع عني أني ممن يعطفون على قضية عنصر الفلاحين وأني من أصدقائهم، ولقيني بكل ما في وسعه من حفاوة، وبخاصة، كما قال لي: لما نمى إلى علمه من صلة أسرتي ببيرون ذلك الذي كانت له في نفسه مكانة عالية وإن لم يعرف شيئا عن شعره، لما كان من عمله من أجل حرية اليونان ... وهذا أمر جدير بالملاحظة لما فيه من دلالة خاصة على منحى عرابي بالنسبة للإنسانية كلها بغير تفرقة من جنس أو عقيدة. فلم يكن فيه شيء من التعصب إذا كان التعصب معناه الكراهية الدينية، وكان على أهبة أبدا لأن يتعاون من أجل قضية الحرية مع اليهود والنصارى أو مع الكفرة على الرغم من تقواه التي لا التواء فيها بأية حال ...
ولقد كلمته طويلا وفي غير تحفظ، ودار الحديث حول المسائل التي كانت تشغل الأذهان يومئذ، ووجدته يصارحني كما أصارحه ويتكلم في يسر، وقد عبر عن ولائه التام للخديو طالما أنه يحافظ على وعوده ولا تظهر أية محاولة من جانبه ليسلب المصريين حريتهم الموعودة، ولكن كان من الأمور البينة أنه كان لايثق فيه كل الثقة، وعد من واجبه أن يراقبه في حذر مخافة أن يتنكب الطريق ...
وفي كتاب أرسلته إلى جلادستون بعد ذلك بقليل أي في 20 ديسمبر بعد أن تمت مقابلات ومناقشات أخرى بيني وبين عرابي، قلت عن عرابي: إن الآراء التي يفصح عنها ليست تكرارا للعبارات المتداولة في أوربا الحديثة، ولكنها تقوم على أساس من معرفته بالتاريخ والتقاليد الحرة للفكر العربي، تلك التقاليد الموروثة من عهد حرية الإسلام، وهو ينكر كما أعتقد كل مطمع شخصي، وليس هناك شك في إخلاص الجيش والأمة له ... وقد تحدث عن مكانه في تواضع قائلا: إني أمثل الجيش لأن الظروف جعلت الجيش يثق بي، ولكن الجيش نفسه إن هو إلا ممثل الشعب وحاميه حتى يأتي الوقت الذي لا يحتاج فيه إليه، ونحن في الوقت الحاضر القوة القومية الوحيدة التي تقوم بين مصر وبين حكامها الأتراك، الذين لا يتورعون في أية لحظة إذا أخلي سبيلهم أن يجددوا مساوئ عهد إسماعيل.
وتحول المراقبة الأوربية دون ذلك، ولكن في صورة جزئية فحسب، ولا تتخذ شيئا من الحيطة بتعليم الشعب حكم نفسه ارتقابا لليوم الذي تتخلى فيه عن مهمتها المالية، وهذا أمر علينا أن ننظر فيه، لقد كسبنا للشعب حق التكلم في مجلس يضم الأعيان، وإنا لنعمل على ألا يطردوا أو يخوفوا فيخرجوا منه، وإنا في هذا لا نعمل لأنفسنا بل لأعقابنا وللذين وضعوا ثقتهم فينا ... ونحن الجند الآن في وضع كالذي كان فيه أولئك العرب الذين أجابوا الخليفة عمر حين سألهم في شيخوخته عما إذا كانوا راضين عن حكمه وعما إذا كان فيه قد استقام على طريق العدالة، قالوا: يا ابن الخطاب، إنك استقمت على الطريق حقا ولهذا أحببناك، ولكنك لست تعلم أننا كنا قريبين منك وكنا على أهبة لو أنك سلكت سبيلا معوجة لنردك إلى الطريق السوي بسيوفنا ... وإني على ثقة من أنه لن تكون بنا حاجة إلى العنف، فنحن - معشر المصريين - لا نحب الدماء، ونأمل ألا نسفك شيئا منها، ومتى تعلم برلماننا الكلام فسينتهي واجبنا، ولكنا نعتزم إلى أن نصل إلى ذلك الوقت أن ندافع عن حقوق الشعب مهما كلفنا ذلك من ثمن، ولن نخاف بمعونة الله أن نثبت أهليتنا لرعاية تلك الحقوق إذا لزم الأمر ضد كل من يعمل على إسكاتها ...
وقد أثر في تأثيرا جد عميق هذا النمط من الكلام الذي يختلف كثيرا عما يستعمله السياسيون الشرقيون في أحاديثهم مع الأوربيين، وقد كشفت لي عن فارق عقلي كبير بين عرابي وبين زعيم آخر من زعماء الحرية قابلته في دمشق وحادثته، وهو مدحت باشا، فلم يكن في حديث عرابي شيء من ذلك اللغو حول السكك الحديدية والترع والترام كمشروعات للإصلاح يعمر بها الشرق، ولكن كان فيه كلمات تنفذ إلى أعماق الأشياء، وتحدد تبعة الحكومة الصالحة بحيث تلقيها على الكواهل التي تستطيع وحدها أن تحملها، وأحسست أن مثل هذه الكلمات خليقة بأن يصغى إليها في مجلس العموم إذا قدر لها أن تسمع هناك ...
وأما عن السلطان وعلاقة مصر بتركيا، فقد كان كلام عرابي كذلك مبينا، لقد أخبرني أنه لا يحب الأتراك الذين أساءوا حكم مصر عدة قرون، ولا يحب أن يسمع عن تدخل من القسطنطينية في شئون مصر الداخلية، ولكنه يجعل فرقا بين الحكومة العثمانية وبين السلطة الدينية للسلطان، وذلك أنه كأمير للمؤمنين تحت طاعته والإجلال له إذا عدل، وكذلك يوحي إليه عمل فرنسا في تونس بعد أن انتزعتها من الإمبراطورية واستولت عليها، ضرورة المحافظة على الصلة برأس العالم الإسلامي، قال عرابي: نحن جميعا أبناء السلطان ونعيش معا كما تعيش أسرة في بيت، ولكن كما هو الحال في الأسر لكل منا نحن أهالي الأقطار الإسلامية، حجرة مستقلة يترك لنا أمر تنظيمها حسب إرادتنا، ولا يسمح حتى للسلطان نفسه بالتدخل في ذلك. ولقد اكتسبت مصر هذا الوضع بمقتضى ما منحته الفرمانات، وسنحرص على أن نحتفظ به، ونحن إذا طالبنا بأكثر من ذلك فإنا نركب متن الشطط، وربما فقدنا حريتنا فقدانا تاما ...
وسألته في شيء من الثقل عما إذا كان ذا صلة شخصية بالقسطنطينية كما تؤكد الإشاعات، ولاحظت عليه شيئا من التحفظ في الإجابة، فمما لا شك فيه أن حديثه مع أحمد راتب ذلك الحديث الذي لم يكن لي به علم وقتذاك، كان يجول بخاطره وسبب هذا التردد، ولكنه لم يشر إليه ...
وأخيرا تكلمنا عن علاقة مصر بالمراقبة الثنائية، مراقبة إنجلترا وفرنسا، فأقر عرابي ما تم من خير في عهدهما كتحرير البلاد من إسماعيل، وتنظيم الشئون المالية، ولكنهما يجدر بهما ألا يقفا في سبيل الحركة القومية بتعضيدهما سلطة الخديو المطلقة ومن حوله من الباشوات الشراكسة، وقال إنه ينظر إلى إنجلترا أكثر مما ينظر إلى فرنسا لنصرة الحرية الوليدة في مصر، وبخاصة جلادستون الذي هو من أنصار الحرية، وشكا من مالت وتصرفاته، وعملت على أن أدخل الطمأنينة عليه من هذه الناحية بقدر ما استطعت، ثم افترقنا.
وقد أثر في نفسي أثرا حسنا هذا اللقاء الأول مع هذا القائمقام الفلاح، حتى لقد ذهبت من فوري إلى صديقي الشيخ محمد عبده لأعبر له عن تأثري، واقترحت عليه أن يكتب برنامج الحركة الوطنية بالمعنى الذي ذكره عرابي كي أرسله إلى جلادستون، فإني أعتقد أن برنامجا كهذا لو أبلغ إليه من جهة يثق فيها جدير بأن يحدث في نفسه أثرا طيبا لصالحهم، وحدثت مالت كذلك بهذا الاقتراح فذكر أنه يعتقد أنه يحدث ذلك الأثر الطيب، وعلى ذلك وضعت بالاشتراك مع الشيخ محمد عبده وبعض زعماء الوطنيين، وكان يعاوننا سابونجي، برنامجا يتضمن آراء الحزب الوطني، وعرضنا ذلك على البارودي فأقره، وعرضناه كذلك على عرابي، وبعد أن تم ذلك أرسلته إلى جلادستون قائلا: إنه وضع على علم من مالت، وبإقرار منه لما جاء فيه، وشرحت له الموقف كله، ورجوت منه أن يعطف على حركة هي قريبة من المبادئ التي يعتنقها.»
هذا هو كلام بلنت عن عرابي نقلناه عن كتابه، فماذا يرى فيه خصوم عرابي ممن جهلوا حقيقة أمره، ومن المتقولين عليه؟
أيبقون على إصرارهم فلا يرون فيه إلا جاهلا غرا لا دراية له بالسياسة وشؤونها؟ ألا يزال ينكر هؤلاء أنه كان مؤمنا برسالة يطمع أن يؤديها إلى بني وطنه، رسالة الحرية والكرامة القومية؟
حسب المرء أن يذكر مبلغ ذلك العصر من العلم ومن اليقظة القومية، ومبلغ ما كان فيه من الرجال إذا قورن بالعصر الذي نحن فيه، ليرى كيف بلغ عرابي بحميته وإخلاصه وصادق حبه لوطنه مبلغا من الزعامة خليقا بأن يسلكه في عداد الأفذاذ من رجالنا في تاريخنا كله.
وإن الذي يخطو الخطوة الأولى في كل ما يتطلب جرأة ليعظم فضله ويعلو اسمه على كل من يخلفه حتى ولو كان في هؤلاء الخلف من هو أكثر جرأة وأجل أثرا وأعظم خطرا وأكبر عقلا، وذلك لأن الفضل للبادئ. ولن يوجد في الخلف من يكون أعظم فضلا ولا أخلد مجدا.
وإن الرجل الذي يقتدي بمن سبقه من الأبطال من بني قومه، أو الذي يلقي معاني البطولة في نفسه كثرة الأبطال من حوله ليحمد على بطولته، فكيف بمن ينشأ على غير سابقة وينهض مدفوعا بما في فطرته من معاني الإباء والأنفة كهذا الفلاح الذي كبر عليه أول الأمر أن يستذله ويستذل إخوانه المصريين رفقي، وما زال به حتى عزله، والذي تفتحت نفسه للدستور فوضع يده في أيدي الوطنيين وما استبعد الشقة أو قعد به ملل حتى ظفر لوطنه بالدستور، وأبعد رياضا وأحل محله شريفا، والذي يحرص بعد ذلك على القومية المصرية، ويخشى أن يعصف بها كيد الكائدين فيتربص كما يتربصون، ويتأهب كما يتأهبون ...
لقد أعجب بشخصه وبآماله بلنت، وحق له أن يعجب به. ولقد قارن بينه وبين مدحت باشا فرجحت كفته على كفة مدحت، وذهب من فوره يعلن للشيخ محمد عبده مبلغ تأثره بهذا الجندي الفلاح أو في الواقع بهذا الزعيم المصري الذي أنجبته مصر ...
الثعالب وبنات آوى
قدر على شريف أن يلاقي عنتا شديدا من مسلك الخديو من أول الأمر ... وأخذت وزارته تشق طريقها في حذر شديد بين تلك الصعاب القائمة، وكان أعظمها دسائس الأجانب وتوثبهم في ذلك الوقت، ولقد هال هؤلاء الأجانب انبعاث الروح الوطنية؛ إذ رأوا فيها بوادر القضاء على ما كانوا يمنون به أنفسهم في مصر ...
وسارت سفينة الحكم بين هذه التيارات المختلفة، تنكر الخديو لقضية الدستور، ونشاط المدافعين عن هذه القضية، وتربص الدولتين بالحركة جميعا ...
كان طبيعيا أن تفيق البلاد على صيحة عرابي، وأن تنطلق النفوس من عقالها، فلقد أتيح للناس قدر من الحرية وهم إليها عطاش تتحرق نفوسهم، فبدأ الوطنيون يعبرون عما احتبس في صدورهم منذ عزل إسماعيل، وعادت الصحف تعبر عن مساوئ التدخل الأوربي، وتندد بأساليب الدخلاء في مصر، أولئك الذين سلبوها أقواتها بالحيلة، وحالوا بينها وبين أمانيها زمنا بالإرهاب والبطش، والذين كان يحتل الكثيرون منهم المناصب المصرية الخطيرة ويؤجرون على أعمالهم فيها - إن كان ثمة لهم فيها من أعمال - أجورا غالية من خزانة مصر الفقيرة ...
وأخذت جريدة «الطيف»، وكان يصدرها عبد الله نديم تقاوم البهرج الزائف الذي أخذ يلتمع في مصر، فيخطف سرابه أبصار الجاهلين، والذي سماه الأوربيون مدنية ليكون لهم منه سلاح من طراز خاص يضيفونه إلى أسلحة الدس والكيد التي سلطوها على البلاد، وحمل الكرام الكاتبون على المراقص وحانات الخمور ودور المجون ومواخير الدعارة وغيرها من عباءات الفسوق التي كان يذيعها في مصر أولئك الذين جعلوا من مبررات تدخلهم في شئون البلاد رغبتهم في هداية أهلها إلى المدنية! ...
وأخذ صيت عرابي يطغى على صيت جميع الرجال من حوله حتى البارودي وشريف، وكان لهما الحكم والجاه، والحق أن القلوب قد تعلقت بعرابي تعلقا يستحيل معه أن يعتزل السياسة أو تعتزله السياسة، بعد أن خطا في تاريخ قومه تلك الخطوة الجريئة التي كان النجاح حليفها ...
أخذنا على عرابي أنه حينما طلب إليه أن يخرج من القاهرة بفرقته اشترط أن يكون ذلك بعد صدور أمر الخديو بدعوة مجلس شورى النواب، فهل نأخذ عليه أنه تدخل في الأساس الذي يجتمع عليه المجلس؟ فقد كان يرى شريف أن يكون ذلك وفق لائحة سنة 1866، أي أول لائحة للمجلس وقد وضعت في السنة التي أنشئ فيها، على أن يضع بالتعاون مع مجلس الوزراء لائحة جديدة تجعل منه مجلسا نيابيا يلائم حال البلاد، وبعد معارضة شديدة وافق عرابي على ذلك ...
وتدخل عرابي في مسألة أخرى وهي الميزانية المخصصة لإبلاغ الجيش ثمانية عشر ألفا من الجند، ولقد أبدت المراقبة المالية عدم موافقتها على المبلغ اللازم كله، وبعد أخذ ورد وافق عرابي على ما تيسر دفعه من هذا المبلغ على أن يوفر الباقي من وجوه أخرى.
لقد قطع عرابي على نفسه عهدا كما أسلفنا ألا يتدخل في شئون الحكومة القائمة، وعلى هذا الأساس قبل شريف رئاسة الوزارة، لذلك نرى أن تدخل عرابي في الأمور التي ذكرناها يوجب ملامته، ولن يشفع له أنه كان يطلب الخير، ولن يخفف من اللوم عليه أنه رضي آخر الأمر ولم يسبب للحكومة عنتا، فهذه الأمور من اختصاص الحكومة، وهي لا تمس جوهر قضية البلاد.
ووجه اللوم على عرابي أنه هيأ لأعداء الحركة القومية في مصر أن يمعنوا في تصويرها صورة عسكرية بحتة سببها تدخل الجند في شئون الدولة.
لم ين أعداء هذه الحركة الوليدة عن مناوأتها في مصر وفي خارج مصر، وإلى هذه المناوأة يرجع سبب جموح هذه الحركة والتوائها على شريف ثم خروجها آخر الأمر من يده، ولو أنه قدر لمصر في تلك الأيام العصيبة أن سلك الخديو غير ما اختار لنفسه من مسلك فآزر كبير وزرائه ضد ما كان يحاك للبلاد من دسائس لأمكن أن يسير شريف بالسفينة إلى شاطئ السلامة، لكن الخديو - وا أسفاه - لم يكتف بعدم المؤازرة، بل لقد التجأ إلى الأجانب، فكان عمله هذا أقوى مساعد على نجاح سياستهم ...
وكان كلفن العضو الإنجليزي في لجنة المراقبة المالية وإدوارد مالت قنصل إنجلترا في مصر هما اللذان يحكمان الشباك حول الخديو، وكانت لهما سياسة ماهرة غادرة تقوم على أسس أحكم وضعها أولهما وفق ما تعلم في الهند، فهما يظهران الولاء للخديو فيدسان له بذلك السم في الملق، ثم هما يخوفانه أبدا من تركيا والعرابيين جميعا فيذران قلبه هواء، وهما بعد ذلك يضللان الرأي العام في بلادهما ويرسلان التقارير السرية عما يجب أن يتبع إلى وزير الخارجية الإنجليزية ...
وكانت وسيلتهما في تضليل ذلك الرأي العام السيطرة على الصحف بالسيطرة على مراسليها، وكان كلفن نفسه مراسلا لإحدى الصحف، وكان مراسل التيمس يستقي منه المعلومات، أما شركتا روتر وهافاس فقد كان يعطى لكل منهما ألف جنيه في العام من خزائن مصر! وقل أن نصادف في تاريخ السياسة عملا أشبه فجورا من أن تحارب قضية شعب بنقود من خزانته.
وكانت الحركة الوطنية تلاقي أشنع الكيد خارج مصر من جانب الصحافة أول الأمر، إلى أن منيت بعد هذه المقدمة بالتدخل الرسمي الفاجر الذي لم يدع في تاريخ العالم عرفا إلا خرج عليه ولا قاعدة إلا سخر منها وحطمها تحطيما ...
أخذ محررو الصحف في إنجلترا وفرنسا ينددون بثورة مصر ويسخرون من نهضة مصر، ولو أنهم كانوا يحترمون المبادئ التي نادت بها بلادهم حقا لمنعهم ذلك مما فعلوه ...
وماذا جنت مصر يومئذ حتى تستقبل أوربا حركتها بأسوأ ما تستقبل به الحركات؟ ألم تجر في أوربا الدماء أنهارا في سبيل أمثال تلك المبادئ التي كان ينادي بها المصريون؟ وكيف تكون نغماتها عذبة مشتهاة إذا تغنت بها أوربا ثم تكون ممجوجة مملولة إذا هتف بها الشرقيون؟!
هذا شعب ينفض عنه غبار القرون، ويخطو نحو الحرية كما خطت أوربا، ثم هو يذب الأجانب عن قوميته وقد ثقلوا عليها بامتيازاتهم الأثيمة الظالمة ثقل الحشرات والهوام، فماذا كانت ترى أوربا في هذا من معاني الفوضى والهمجية ولم يصحب حركة المصريين عدوان على أولئك الأجانب على ما كانوا يلاقونه منهم من عنت وإفساد؟ إلا أنها السياسة والأطماع الاستعمارية تقلب عرف الناس نكرا وتجعل المبادئ التي ينادي بها دعاة الإنسانية في نظر الساسة أحلاما لا تجد لها مستقرا إلا في رؤوس الحمقى من الفلاسفة ورؤوس الأغرار من مصدقيهم ... أما الساسة فقد كانوا لا يتوانون عن الكيد، ولا يفتر لهم سعي في تلمس السبيل التي يستولون بها على الفريسة، وكان موقف إنجلترا وفرنسا من مصر ينطوي على كثير مما يبعث الألم والضحك معا. وكم من المآسي ما تضحك منه النفوس ضحكات لن يبلغ الدمع مبلغها!
كان موقف الدولتين كموقف رجلين يطمعان في استلاب شيء، وكلاهما يريده لنفسه دون الآخر، ولكنه يموه على صاحبه، ويفهم كلاهما حق الفهم أن أن الآخر يدرك حقيقة موقفه منه، ولكنهما على الرغم من ذلك يتغابيان ويضللان!
هذا هو موقف الدولتين على مسرح السياسة في تلك الأيام، ولكم شهد المتفرجون يومئذ من الأساليب الميكيافيلية وأوضاعها، ولكم شهدوا من أساليب غيرها لو قورنت هذه بها لكانت منها كالحسنات، ثم يسدل الستار والمتفرجون من أهل مصر لا يملكون أن ينطقوا بكلمة استهجان لما رأوا، بل لقد فرض الاحتلال عليهم أن ينظموا أناشيد المدح وإلا عد سكوتهم جحودا وعنادا. وأي شيء أنكى وأوجع من أن يرغم شعب على تقبيل الأيدي التي استلبته حقوقه والأغلال التي دارت حول عنقه؟
ويظهر أول شاهد على السياسة الإنجليزية في تقرير كتبه كلفن بعد يوم عابدين بعشرة أيام جاء فيه: «أرى أن ليست الحال الحاضرة بطبيعتها إلا هدنة، وإن ما وصلنا إليه من التسوية ليعطينا مهلة نستجم فيها ونلم فيها بالقوى التي تعمل حولنا ونسعى في الاستفادة منها أو القضاء عليها.»
1
وليس في هذه العبارة أول شاهد على السياسة الإنجليزية فحسب، بل إن فيها خلاصة هذه السياسة، فستتربص إنجلترا بالحركة حتى يحين الوقت وحتى تستطيع أن تعمل بمفردها دون فرنسا ...
وكان شريف يقظا يفطن إلى دقة الموقف، ويدرك مرامي السياسة الإنجليزية وأساليبها، ولذلك كان لا يفتأ يحض أنصار الحركة الوطنية على اتباع الحكمة ومجانبة الشطط؛ حتى لا يكون من أعمالهم وأقوالهم ما تسيء أوربا تأويله فتسوء بذلك العاقبة ...
وأخذ فريق من رجال الحركة الوطنية يعاونون شريفا على تثبيت قواعد سياسته، وكان من أثر ذلك أن تنازل عرابي عن رأيه في الموقفين السالف ذكرهما، وكان من أثر ذلك أن خففت الصحف من لهجتها وكفكفت من غلوائها، ولقد كان للشيخ محمد عبده فضل كبير في توجيه العناصر الوطنية نحو هذا المسلك، فآثرت مصر أن تركن إلى الحكمة وإن نفوس بنيها لتضطرم بالثورة ...
ولكن الأفق ما لبث أن تجمعت في حواشيه الغيوم، وأحست السفينة بوادر عاصفة قوية ما عتمت أن هبت شديدة عاتية نفد لها صبر الربان أو كاد، وتلك هي أزمة الميزانية الشهيرة، وهل كانت الثعالب تعجز عن خلق ما تشتهي من أزمات؟
فرغ شريف من إعداد لائحة المجلس ثم عرضها على النواب، وشد ما كانت دهشتهم أن رأوا شريفا يقرر فيها ألا يكون من اختصاص المجلس عند النظر في الميزانية البحث في جزية الباب العالي والدين العام وكل ما فرضه قانون التصفية على الخزانة من نفقات ...
وهال النواب وأغضبهم أن يكون ذلك باتفاق شريف مع المراقبين، فرفضوا ذلك وأصروا على أن ينظروا الميزانية كاملة، وعدوا ذلك من الحقوق التي لا تقبل مساومة مهما يكن الأمر ...
وأخذ شريف المسألة من الناحية العملية، فلم يشايع النواب في نظرياتهم، وأخذ يطلب إليهم الأناة والحذر، ويريهم عواقب التطرف والتعجل، ولكنهم لم يلتفتوا إليه، وظهرت في الوزارة نفسها بوادر التفكك، فلقد كان البارودي يطمع في الحكم بعد شريف، فكان لذلك يؤيد الوطنيين في موقفهم سرا.
وكان سلطان باشا رئيس المجلس ينقم على شريف أن لم يسلكه في سلك وزارته؛ فوجد في الخلاف القائم فرصة ينال بها من شريف، فسرعان ما اتهم شريف بالاعتدال، ثم حمل اعتداله على الجبن والضعف. ثم بلغ الأمر حد اتهامه بالخيانة ...
ووقف شريف يواجه العاصفة في صبر وجلد، وهو يؤمل أن يجنح النواب إلى السلام والاعتدال، واقترح عليهم تأجيل النظر في هذه المسألة حينا، ونشط الشيخ محمد عبده في معاونة شريف، وكان مما ذكره في هذا الصدد قوله: «لقد ظللنا ننتظر حريتنا مئات السنين أفيصعب علينا أن ننتظرها بضعة شهور أخرى؟»
ثم بدا على الأفق بعد حين ما يبشر بقرب انكشاف الغمة، فلقد أخذ النواب يتدبرون في عاقبة هذا التشدد، وبدأ العقل يتغلب شيئا فشيئا على العاطفة.
وخيل لشريف أن الأزمة بسبيل أن تحل، ولو أنه اطلع على الغيب لعلم أنها كانت تتضاعف ويشتد خطرها لتتخذ في النهاية الوضع الذي سوف يغير تاريخ هذه البلاد!
لمح الصائدون في هذه العاصفة الفرصة المرتقبة! ... وهيهات أن يضيع هؤلاء فرصة طال بهم انتظارها، إن الخلاف قائم بين الوزارة والمجلس فليعملوا على زيادة هذا الخلاف، وليدفعوا بالخديو ليخطو أول خطوة بعد يوم عابدين ضد الحركة الوطنية فيخسر بذلك الوطنيين والعسكريين جميعا، ويفقدوا هم الثقة فيه كل الفقد فيقرب بذلك من الأجانب أو على الأصح يزداد قربا منهم.
ولن يعدم الإنجليز وحلفاؤهم أن يخلقوا ألف مبرر لما يفعلون، ومن أيسر الأمور عليهم أن يعلنوا أن البلاد تشيع فيها الفوضى، وأن الأجانب ومصالحهم تكتنفهم الأخطار من كل صوب، وأن الخديو بات يخشى على عرشه ولا مخرج له مما هو فيه، بل ولا مخرج لمصر مما هي فيه من خلل وارتباك إلا أن يضرب على أيدي الثائرين المفسدين في الأرض ...
ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أنهم بينهم وبين أنفسهم غيرهم بينهم وبين الشعوب الشرقية، فهم لا يقبلون من هذه الشعوب ما يعدونه عندهم من مفاخر الإنسانية، وإنهم ليرمون أهل هذه الشعوب بأشنع التهم وأقساها، فالتألم من المظالم التي تنصب على رؤوسهم تمرد، والسعي إلى الحرية فوضى وهمجية، والدفاع عن البلاد وذب الدخيل عنها وحشية وإجرام! ... على أن هذه سنة الحياة بين القوي والضعيف منذ كان الإنسان يتخذ سلاحه من الحجر وينحت مأواه في الجبل ...
ولقد كانت الدولتان تعملان على الكيد للحركة الوطنية في مصر قبل انعقاد المجلس، وكانت بينهما مراسلات في هذا الصدد، وكانت فرنسا هي المحرضة هذه المرة! فرنسا التي كانت سياستها منذ فشل الحملة الفرنسية تدور على مناوأة النفوذ الإنجليزي في مصر! ...
ولي المسيو ليون جمبتا أمر وزارة الخارجية في فرنسا في شهر ديسمبر سنة 1881، فسرعان ما اتصل بوزير خارجية إنجلترا اللورد جرانفل محدثا إياه في شأن مصر، مبينا له وجوب تضامن الدولتين في العمل إزاء ما يجري هناك من أمور.
وحار جرانفل أول الأمر ماذا يجيب به على هذه الدعوة؟ فهو إن قبلها أصبح مقيدا بالعمل مع فرنسا، وإن هو رفضها قطع على دولته الطريق وجعل لفرنسا المكان الأول في شؤون مصر ...
وتلقى جرانفل من مصر أنباء فاجرة مالت به إلى الطريق التي اختارها ...
كانت مشكلة ميزانية الجيش لا تزال قائمة بين عرابي والمراقبين، فأرجف المرجفون أن عرابيا يعتزم أن يأتي بثورة جديدة لإسقاط وزارة شريف وتنصيب البارودي مكانه ...
وكتب السير إدوارد مالت وهو رجل مسؤول، إلى اللورد جرانفل يشكو من تدخل عرابي، ويتساءل في لهجة ساخطة برمة: كيف يستطيع شريف أن يقوم على رأس الحكومة مع وجود عرابي صاحب النفوذ الفعلي في البلاد؟ وهكذا يسمح هذا الرجل لنفسه أن يكذب فيرمي عرابيا بما هو بريء منه؛ إذ يصوره في صورة المتعسف الذي تدفعه المآرب الشخصية، ولا يستحي بعد ذلك أن يكتب إلى رئيسه ينبئه بخضوع عرابي لرأي المراقبين! ... ولكن جرانفل كان قد خطا نحو فرنسا خطوة لا يمكنه النكوص بعدها ...
وكتب كلفن كذلك إلى جرانفل يقول: «والحقيقة أن الإدارة المصرية شركة ثلاثية، فإذا لم تكن الدول على استعداد لتعديل نصيبها، فعليها أن تحافظ عليه وتقويه في هذا الوقت الذي أصبح فيه المصريون في حال تطور وانتقال.»
2
هذا عدا ما ذكره في تقريره عما يتوقعه من خطر إذا زيدت سلطة المجلس وثبتت قواعد الدستور المصري ...
وكان مستر بلنت قد أرسل برنامج الحركة إلى جريدة التيمس، وفيه أقوى حجة على براءة هذه الحركة من عناصر الثورة أو المساس بحقوق الأجانب المالية، وكان يأمل بلنت وأصدقاؤه من الوطنيين أن يكون لنشر هذا البرنامج أثره الحسن في نفس جرانفل، ولكنه نشر في أول يناير سنة 1882 بعد أن قضي الأمر، فلقد وافقت إنجلترا على وجهة نظر فرنسا في يوم 31 ديسمبر، أي عقب اجتماع المجلس بخمسة أيام ...
وخطا شريف باشا في تلك الأثناء خطوة حكيمة فأعلن بيانا
3
يشير فيه إلى منهاج حكومته، فذكر أنها تقوم على أساس الاعتراف بحقوق السلطان والامتيازات التي حصلت عليها مصر، والاعتراف بالخديو حاكما دستوريا، والتسليم بقاعدة المراقبة الثنائية، ثم إنكار كل اتجاه ثوري، ومنح الحرية الدينية والسياسية لجميع سكان البلاد، والسير على قاعدة الحكومة المسؤولة أمام مجلس نيابي ...
ولم يكن في الإمكان يومئذ السير على منهاج أفضل من هذا المنهاج الحكيم، الذي كان خليقا أن يبعث الطمأنينة في نفوس الساسة من الدولتين، وكذلك لم يكن هناك برهان على حسن نيات الوطنيين أقوى مما نشرته التيمس لمستر بلنت وهو شاهد عدل من الإنجليز للمصريين ...
ولكن المسألة لم تكن مسألة اقتناع، وإنما كانت نية مبيتة، وهيهات أن تجري الأمور في السياسة على الإقناع والاقتناع، فدوافع الأقوياء إلى العمل في ذلك المضمار أطماعهم، وبرهانهم أسلحتهم، وما يكون الكلام إلا تعلة الضعيف، وما أشبه كلام الضعفاء في مثل هذه المواقف بصراخ الفريسة قبل تمزيقها ...
ويذكر بلنت سببا لانحياز إنجلترا إلى فرنسا فيقول: إن إنجلترا كانت تسعى إلى عقد معاهدة تجارية مع فرنسا فيها فائدة كبيرة للتجارة الإنجليزية، ومن أجل ذلك هاودت إنجلترا فرنسا، وطاوعتها فيما تقترح في شؤون مصر، فباعت إنجلترا بذلك مصر إلى فرنسا ...
وما نظن أن إنجلترا كانت من الغفلة بحيث تتنازل عن أغراضها في مصر من أجل مثل هاتيك المعاهدة التجارية، وإنما الذي نفهمه أن إنجلترا كانت تراوغ فرنسا لتفوز بهذه المعاهدة ثم تقف من فرنسا بعد ذلك فيما يتعلق بمصر موقف الاتفاق في الظاهر، بينما تعمل في الباطن وفق ما تمليه عليها أطماعها، ومما يؤيد ما نقول التحفظ الذي أبدته إنجلترا وأقرته فرنسا ومؤداه «أن الحكومة الإنجليزية يجب ألا تعد مقيدة بسبب هذه المذكرة بسلوك خطة خاصة إذا ما بدا لها أن العمل ضروري». ولسوف نرى من سياسة إنجلترا في مصر ما يؤيد ما نقول.
تم الاتفاق بين الدولتين، وكان المجلس في مصر كما تقدم يخالف الوزارة في مسألة الميزانية، وكان بعض الوطنيين يعملون على الخروج من المأزق بالحسنى، ولاحت في أفق السياسة بوادر انكشاف الغمة ...
وما أشد ما نحسه من ألم ومن غيظ أن نذكر أن البلاد ما لبثت أن تلقت من الدولتين في اليوم الثامن من شهر يناير سنة 1882 تلك الصيحة المشؤومة التي سميت بالمذكرة المشتركة، والتي قل أن نجد في التاريخ السياسي ولا فيما يحكى للأطفال من خرافات مثالا أوضح منها لتحكم القوي في الضعيف واستهتاره به في غير حياء أو تحرج ... وحسبك أن تقرأ هذا الكلام الذي بعثت به إنجلترا وفرنسا زعيمتا الحرية والديموقراطية! جاء في المذكرة
4 «إن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تريان أن بقاء سمو الخديو على العرش بالشروط التي قررتها الفرمانات السلطانية واعترفت بها الحكومتان رسميا هو الضمانة الوحيدة في الحاضر والمستقبل لاستتباب النظام في مصر واطراد رخائها، وهما الأمران اللذان تهتم بهما فرنسا وبريطانيا العظمى، وإن الحكومتين اللتين اتفقتا اتفاقا تاما في عزمهما على أن تمنعا كل أسباب الارتباك الداخلية والخارجية التي يمكن أن تهدد النظام القائم بمصر، لا يداخلهما ريب في أن جهرهما بما عزمتا عليه رسميا في هذا الأمر سيحول دون الأخطار التي تتعرض لها حكومة الخديو والتي لابد أن تقاومها فرنسا وإنجلترا معا، وإن الحكومتين لتثقان بأن سموه سيستمد من هذا التأكيد ما يحتاج إليه من الثقة والقوة لتدبير شؤون بلده وشعبه.»
وأي كلام يمكن أن يعبر عما تنطوي عليه هذه المذكرة من لؤم وفجور؟ ما معنى الإشارة إلى بقاء سمو الخديو على العرش؟ وما شأن الدولتين حتى تهتما بهذا الأمر؟ وبأي حق تضطلعان بمنع أسباب الارتباكات الداخلية والخارجية؟ وعلى أي أساس يقوم ادعاؤهما وجود هذه الارتباكات؟ وكيف يجوز أن يعتمد الخديو عليهما، ويستمد الثقة منهما مع وجود السلطان؟
هذه هي المذكرة المشتركة التي أشار إليها بلنت بقوله: «هذه المذكرة المشؤومة التي إليها يرد كل ما وقع من المصاعب أثناء ذلك العام، والتي أفقدت مصر حريتها كما أفقدت جلادستون شرفه، وكما أفقدت فرنسا نفوذها في وادي النيل.»
ولا تسل عما أحدثته هذه المذكرة الحمقاء من سوء الأثر في مصر، لقد بلغ من إثارتها الشعور وإحراجها الصدور أن نقم عليها مالت وكلفن وتمنيا لو لم تكن! وقد كانا يريدان ألا تكون بمثل هذه الصراحة الطائشة.
وكانت النتيجة الطبيعية أن انضم المعتدلون من رجال الحركة الوطنية إلى العسكريين، وهو على خلاف ما كانت تنتظره الدولتان في غباء مضحك أو في غفلة لا ندري كيف وقعا فيها، إلا أن تكونا أرادتا إيقاظ الفتنة، وهو خير ما يفسر هذا الذي نحار فيه.
رأى عنصرا الأمة، الرجعية المسلحة ... بل رأوا الغدر الأثيم يتهدد قضيتهم، وانبعثت الصيحات من كل مكان أن إنجلترا ألقت بنفسها في أحضان فرنسا، وأن فرنسا تريد أن تصنع بمصر ما صنعته بتونس، ولذلك يجب الاتجاه إلى السلطان والمناداة بمبدأ الجامعة الإسلامية لمقاومة هذه الحركة الأثيمة ...
وعظم سخط المصريين جميعا حين علموا أن الخديو قد قبل هذه المذكرة، ولم يكتف بهذا القبول المشين، فكتب إلى القنصلين يشكر حكومتيهما على ما تبديان من عطف نحوه، وفي هذا دليل صريح على أن الخديو آثر الانحياز إلى جانب الدولتين، ونسي موضعه من السلطان، ولم يعبأ بما يجد في مصر من الغضب على مسلكه ...
وضاع كل أمل في تهدئة الخواطر، فأصر مجلس شورى النواب على موقفه في وجوب نظر الميزانية، ورأى شريف في المجلس إجماعا ضده وحماسة ما رأى مثلها من قبل، ولقد رغب جرانفل في ملاينة الأعضاء في هذه المسألة كأنما يريد أن يعالج بعض خطئه، ولكن جمبتا رفض ذلك بحجة أنه يسقط هيبة الحكومتين أمام الوطنيين! وما أعجب أمر هذا الرجل الذي يرى أن الهيبة تكتسب بالحماقة!
على أن جرانفل ما لبث أن شايع جمبتا في حماقته؛ فلقد كتب إليه مالت يقول
5 «إن المجلس باق وسيظل باقيا ما لم يحل بالقوة، وهذا أمر لا يكون إلا بالتدخل الذي هو آخر سهم في كناتنا، والذي لا يسوغه أبدا ما قد يكون من خرق قانون التصفية ... إني أعترف أني أفضل أن يعطى المجلس ما يطلبه من الحق وألا نتدخل حتى يسيء استعمال هذا الحق ... ويجب ألا ننسى أن الأمة المصرية قد أخذت تسلك طريق الحكم النيابي خيرا كان ذلك أو شرا، وأن قانون المجلس الأساسي هو صك حريتها ...»
هذا ما ذكره مالت نفسه، ولكن جرانفل لم يعبأ به، وأرسل إلى جمبتا ينبئه بموافقة الحكومة الإنجليزية على آرائه، ونسي جرانفل أو تناسى أنه كتب إلى مالت قبل ذلك بنحو شهرين يقول له مشيرا إلى حرية المصريين الوليدة: «إن الحكومة الإنجليزية إذا ما رغبت في نقص تلك الحرية أو العبث بتلك النظم التي يرجع وجودها إليها فإنها تتبع سنة تخالف تقاليد تاريخها الوطني ... ليس من شيء يحملنا على سلوك خطة أخرى غير قيام حالة فوضوية في مصر.»
فليت شعري ما الذي حدث في مصر حتى تخالف إنجلترا على هذه الصورة أجمل تقاليد تاريخها الوطني؟ إلا أنها السياسة التي لا تتورع عن شيء ولا تستحي من شيء، وليتدبر في هذا الموقف من لا يزالون في هذا الشرق يتحدثون عن الضمير البريطاني والشرف البريطاني ...
حاول شريف أن يحصل على مذكرة تفسيرية يستعين بها على تسكين الخواطر، فرفض جمبتا حتى هذه المذكرة، وعاد جرانفل فشايعه في هذا مشايعة عمياء على الرغم من نصح الناصحين من الإنجليز والوطنيين ...
ولست أدري كيف كانت ضمائر هؤلاء الساسة تطاوعهم مع هذا على أن ينعتوا رجال مصر بالفوضى، وأن يصوروهم أطفالا في السياسة لا يدرون ما يأخذون وما يدعون؟ ولكن ما لي أعود إلى حديث الضمائر والأمر أمر السياسة وجشع السياسة؟
وضاقت بشريف السبل فلم يدر ماذا يفعل، ووقفت السفينة لا تستطيع حراكا، والريح من حولها عاصفة وليس في الجو بارقة أمل، والنواب لا يفتر إصرارهم ولا تنقطع زمجرتهم ...
وعاد مالت يحذر جرانفل فقال في صراحة: «إن التدخل المسلح سيصبح أمرا محتوما إذا تشبثنا بمنع المجلس من التصويت على الميزانية، ومع ذلك فجميع الحكومات تهتم بمنع ما يوجب هذا التدخل الذي إذا أقدمت عليه الدولتان وحدهما أدى إلى سوء المنقلب في هذا البلد .»
ولينظر في كلام مالت أولئك الذين يعودون باللوم على عرابي إذا ذكر الاحتلال والتدخل المسلح في شؤون مصر، ومتى يعلم هؤلاء أنه لو لم يوجد عرابي لعمل الإنجليز على خلقه؟
على الرغم من تحذير مالت أبلغت الحكومة المصرية رسميا في اليوم العشرين من شهر يناير سنة 1882، أن المجلس لن ينظر في الميزانية إلا إذا أخل بالأوامر العالية التي أنشئت بمقتضاها المراقبة الثنائية ...
وكان المجلس قد جنح إلى الاعتدال على الرغم من أنه يرى تدخل الدولتين عملا لا موجب له، فتساهل تساهلا لا يدع مجالا لاتهامه بالشطط أو التورط، فقبل أن يقتصر نظره في الميزانية على القدر الباقي منها بعد الجزية وقانون تصفية الديون والالتزامات الدولية ...
ولكن الدولتين أبتا عليه حتى هذا، وأكدتا لشريف أنهما لن يقبلاه بحال، وهذا في الحق هو الشطط، بل هذه هي الفتنة، والمسألة لا تحتاج إلى بيان، فما كانت مسألة الميزانية إلا ذريعة للتدخل الفاجر ردا على نجاح الثورة القومية بعد يوم عابدين، فقد كان هذا النجاح مؤذنا كما يبدو لأول وهلة بانقضاء عهد سيطرة الأجانب على البلاد ... ولئن تظاهر مالت وأمثاله من الإنجليز بأنهم لا يريدون التدخل فذلك كلام يسبق كل رغبة في التدخل تأتي من جانب المستعمرين ... والذي يفطن إليه المرء في غير طول نظر أن مالت كان ينصح بعدم التدخل لأنه كان يريد أن يبعد فرنسا فلا يحب أن يكون التدخل مشتركا، وإنما يحب كل الحب أن تكون الفريسة من نصيب إنجلترا وحدها.
قال بلنت يصف لقاءه كلفن وقت اشتداد الأزمة بين شريف والنواب: «كان الخصام بين النواب وشريف في أشد حالاته، فسأله عن رأيه في الموقف فقال: إنه يراه خطيرا جدا. وكان من الأمور الواضحة أن زعماء الحركة القومية قد صمموا على إسقاط شريف، فإذا نجحوا في ذلك فإنه كما قال يقطع صلته بهم، ثم أخبرني بأنه غير آراءه تغييرا تاما فيما يتصل بهؤلاء؛ فإنه ظنهم يجنحون إلى التعقل، ولكنه يرى ألا سبيل إلى تعقلهم، ولذلك سيبذل قصارى جهده للقضاء عليهم إذا وصلوا إلى الحكم، فسألته: كيف يتسنى له أن يقترح ذلك، وكيف يعترض حركة أقرها أخيرا، وقد خرجت عن طوقه وطوق كل شخص غيره؟ كيف يتسنى ذلك إلا بنفس التدخل الذي كنا نحاول جميعا أن نتجنبه؟ فقال: إنه غير رأيه حول التدخل كذلك، وإنه يراه الآن ضروريا، ويرى أنه لا مناص منه، وسوف لا يألو جهدا في العمل عليه، فاعترضته مبينا أن التدخل معناه الحرب والحرب معناها ضم مصر، فقال: إنه يدرك هذا المعنى كل الإدراك ... إن ما يحدث في مصر قد شوهد مثله مرات في الهند، وإن إنجلترا لن تتخلى عما تم لها من النفوذ في مصر، ومن العبث الكلام في حقوق المصريين وأخطائهم، فذلك ما لا يصح اعتباره، ثم كرر ما سلف أن قاله عن تحطيم الحركة القومية والحزب الوطني مضيفا إلى ذلك أنه لم يعد يجعل آراءه هذه سرا من الأسرار.»
وذكر بلنت كذلك كتابين جاءاه من صديقين له في إنجلترا أحدهما من الأحرار، وهو جون مورلي، والآخر من المحافظين، وهو ليتون. وكان قد كتب إليهما يسألهما عطفهما على الحركة القومية في مصر، فأما أولهما فيقول: «إني أشك في أن مشروعاتك تصادف نجاحا في هذا الوقت، إن مصر لسوء حظ أهلها ميدان للتنافس الأوربي، وستمنع تسوية شريفة فيما يهم مصالح أهلها لكي يتمشى ذلك مع ما يلائم فرنسا، وليست لي حيلة في ذلك، فإنها تلك النقمة التي نزلت بالدنيا ألا وهي: السياسة العليا التي ستفسد كل شيء.»
وأما ثانيهما فيقول: «إن هذه الفئة القليلة من الشعب الإنجليزي التي تفكر في الأمور الخارجية، قد امتلأت أذهانها من قبل واضطربت أفكارها بسبب ذلك الوضع الخاطئ الذي ننساق إليه في مصر، ويكادون يخافون أكبر الخوف من الجهر بآرائهم عن الموضوع، ويظهر لي أن آراءهم واهية، وفي رأيي أن هذه أولى ثمار تلك السياسة الخاطئة من أساسها التي أدت بنا إلى أن نفقد التعاون مع ألمانيا والنمسا، ووضعتنا في الواقع تحت رحمة فرنسا، تلك الدولة التي لا يمكننا أن نعقد معها تحالفا على أساس متين يدعو إلى الاطمئنان.»
وما نظننا بحاجة بعد هذا الذي يذكره بلنت إلى الرد على الذين يرون أن تمسك النواب بنظر الميزانية هو سبب ما منيت به البلاد من التدخل الأجنبي ...
ولما وجد النواب شريفا يميل إلى موافقة الدولتين، سار وفد منهم إلى الخديو فطلبوا عزله، وتعيين رئيس للوزارة يستطيع أن يسير مع نواب البلاد في سياستهم.
وسقطت وزارة شريف في اليوم الثاني من فبراير سنة 1882. ويرى بلنت أن من عوامل سقوطها كذلك تهديد كلفن بالتدخل العاجل، وحلت محلها وزارة البارودي بعد ثلاثة أيام، وهي الوزارة التي سوف تعرف باسم وزارة الثورة ...
غضبة جديدة
ذكرنا أنه كان من نتائج تلك المذكرة المشؤومة اتحاد الوطنيين والعسكريين، ونذكر الآن أن عرابيا ما لبث أن اتجهت إليه أنظار الجميع على نحو ما حدث قبل يوم عابدين، ورأى الوطنيون أنه الرجل الذي يجب أن يحرصوا على معونته لا لأن الجيش من ورائه، بل لأن الأمة المصرية لا تذكر غيره ولا تتجه عند الخوف إلى سواه ...
وتأهب عرابي ليخطو في تاريخ هذا البلد خطوة جديدة، وقد تآمرت الثعالب وبنات آوى على اقتناصه هذا التآمر الوضيع ...
ولقد أحس مالت بما كان للمذكرة من أثر في عودة عرابي إلى طليعة الصفوف؛ فأوفد إليه في مكتبه بوزارة الحربية صديقه بلنت، وكان يطمع في أن يكسب عرابيا إلى جانبه أو على الأقل كان يتمنى أن يهدئ خاطره لتفطنه إلى ما يكون لصنيعه هذا من عظيم الأثر في ذلك الموقف العصيب الذي سببته رعونة جمبتا وصاحبه ...
يقول بلنت: «ذهبت بناء على ذلك إلى قصر النيل ظهر يوم 9، وكان نص المذكرة قد وصل يوم 8، ووجدت عرابيا وحده في مكتبه، وكان غاضبا، وهذه هي المرة الأولى والمرة الوحيدة التي رأيته فيها كذلك ... وكان وجهه كالسحابة الراعدة، وتألقت عيناه ببريق خاص، وكان قد اطلع على نص المذكرة وإن لم تكن قد نشرت بعد، فإنها حتى ذلك الوقت كانت أرسلت بالبرق فحسب، وسألته كيف فهمها؟ فأجابني قائلا: بل أخبرني كيف فهمتها أنت ؟» وعندئذ أفضيت إليه برسالتي فقال: «لابد أن السير إدوارد مالت يظن أننا أطفال لا ندرك معنى الكلمات ... إنها قبل كل شيء لغة تهديد فليس في هذه الإدارة كاتب يستعمل هذه العبارات لمثل هذا المعنى.» وألمح إلى تلك الإشارة للأعيان التي جاءت في الفقرة الأولى من المذكرة قائلا: إن هذا تهديد لحريتنا، ومضى يقول: إن إعلان اتحاد إنجلترا وفرنسا في السياسة معناه أن إنجلترا سوف تغزو مصر كما غزت فرنسا تونس ... ألا فلتدعهم يحضرون، إن كل رجل وكل طفل في مصر سوف يحاربهم ... إنه مما يتنافى مع مبادئنا أن نبدأ بالعدوان فنضرب الضربة الأولى، ولكننا نعرف كيف نردها ... ثم قال عما جاء بصدد الدفاع عن العرش: «إن العرش إذا كان ثمة من عرش هو عرش السلطان، وليس الخديو بحاجة إلى حماية أجنبية ... إنك تستطيع أن تخبرني بما تشاء، ولكني أفهم معنى الكلمات خيرا مما يفهم السير إدوارد مالت ...
وفي الحق أن كلام مالت كان هراء، وقد أحسست أني أحمق بين يدي عرابي، وشعرت بالخجل أن سمحت لنفسي أن أكون حامل هذا اللغو إليه، ولكني أكدت له أني أديت الرسالة كما حملنيها إليه السير إدوارد، وقلت له: إنه يطلب إليك أن تصدقها، وأنا أطلب إليك أن تصدقه.
وعند انصرافي عاد إليه شيء من الهدوء، وأمسك بذراعي وهو يشيعني إلى أسفل البناء، وقد دعاني إلى أن أظل على مودته فأزوره في منزله كما كنت أفعل، فقلت: إني سوف أحضر حين تكون لدي أنباء طيبة لك فحسب، وكنت أقصد بذلك القول أن ألمح له إلى ما كنا نرجوه من تفسير للمذكرة، أبرق مالت يستأذن في أن يتقدم به ...
ولما عدت إلى مالت وسألني عما صنعت قلت له: إنه لا يرجى الصلح الآن؛ فإن المذكرة قد ألقت بهم بين ذراعي السلطان.»
هذا كلام بلنت ومنه نتبين مبلغ غضب عرابي من هذه المذكرة، كما أننا نفهم جانبا مما كان يجيش في نفس هذا الزعيم الثائر، فهو لن يجبن، ولكنه لن يبدأ بالعدوان، وهو يلمح نيات إنجلترا في هذه المذكرة، وما كان عرابي مسرفا في تصوير نيات الإنجليز، فلسوف نرى أن جرانفل كان في ذلك الوقت قد وطد العزم على التدخل بالقوة ...
عاد عرابي إلى الميدان، وفي الناس من تبلغ بهم الغفلة إلى حد أن يأخذوا عليه هذه العودة، وفيهم من يذهبون في اتباع أهوائهم إلى أن يجعلوا ذلك من أكبر خطيئاته، قائلين في مثل منطق البلهاء، إن كان ثمة للبلهاء منطق: إنه بعودته هذه قد ساق البلاد إلى ما سيقت إليه من دمار، كأن على كل رجل إذا رأى كرامته تداس وشرفه يهان أن يقف مكتوف اليدين وإلا ساق نفسه إذا غضب إلى الدمار. إلا أن الرجولة خلاف ذلك، فالرجل الذي يجد نفسه في موطن الإهانة لا سبيل له يمسك بها رجولته إلا أن يدافع عن نفسه أنفة وحفاظا ولو أيقن أنه هالك.
ومن المؤلم المثير حقا أن يقول هؤلاء الناس هذا الكلام، دون أن ينظروا في موقف الخديو وموقف الإنجليز على نحو ما بينا، وهم لا يدركون من المسألة كلها إلا أن عرابيا كان رجلا ذا أطماع شخصية لا يدري ماذا يفعل، وكلما هدأت البلاد لا يفتأ يعمل بنزقه على إثارتها ليصل إلى تحقيق أطماعه. إلى آخر هذه النغمة الباردة المرذولة التي ألقى بها الاحتلال في أذهان الأطفال ...
وأحسب الآن بعد الذي رأينا من موقف أعداء البلاد أن هذا الكلام قد أصبح خليقا بأن يخجل منه قائلوه، وإنا لنكاد نقطع منذ الآن أنهم بعد أن نفرغ من سيرة هذا الزعيم المفترى عليه على نحو ما نبين من أوجه الحق لن يعودوا إلى مثل هذا الكلام، فسبيلنا - كما يرون - في إقناعهم الحجة نستخلصها من الحوادث في عدالة يفرضها الحق، وفي عطف يوجبه الإنصاف ... •••
تعهد عرابي ألا يتدخل في شؤون الحكومة، فكان إذعانه لهذا أمرا لابد منه. ولو أنه رفضه لكان في ذلك مخطئا أشد الخطأ، ولكن عرابيا لم يتعهد أن يدع وطنه وشأنه، لا تهزه بعد يوم عابدين نحوه عاطفة أو يحركه لنجدته ما عسى أن يلم بقضيته من الأحداث، ولم يكن ليستطيع عرابي أن يتعهد بمثل هذا، ولن يستطيع ذلك غير عرابي من الناس، ولو أنه فعل ذلك لأجرم في حق هذا الوطن جريمة ما كان ليغفرها له التاريخ ...
وكيف يفعل ذلك عرابي أو أي رجل غيره ولا يكون بذلك مجرما مفرطا في حق وطنه؟ وأي فرق بين مثل هذا التعهد وبين المروق والخيانة والجمود في أوضح صورها وأقبحها؟ ...
إلا إنه للحق كل الحق أن يطلب إلى بني الوطن ألا يتدخلوا في أعمال الحكومة، ولكن على شرط ألا يكون من تلك الأعمال نفسها ما يحفز الناس إلى التدخل أو يوجبه عليهم ... أما أن تفرط الحكومة في حق الوطن، وأما أن توضع العقبات في سبيل قضيته، ثم يطلب إلى الناس بعد ذلك أن يدعوا الحكومة وشأنها، فهذا هو الباطل في أرذل صوره وأشدها فجورا، ومن أطاع ذلك من الناس فقد ضل في حق بلاده ضلالا بعيدا ...
لن يكون لقيام الحكومات من مبرر إلا العمل لخير المحكومين وصلاح أمرهم، على هذا الأساس ولدت الديمقراطية، وبهذا المبدأ اقترنت الحرية، ولكم نادى بذلك القادة ودعاة الإنسانية في الغرب منذ هدموا صروح الظلم وحطموا أغلال الماضي، وفصموا سلاسل الرجعية والعبودية ... •••
وما لنا نستشهد بالغرب وهذه الحكومة الإسلامية الأولى التي ولدت في الصحراء قد جعلت تلك المبادئ أساس قيامها، وما أروع وأجمل أن يقول الخليفة الأول للناس: «أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن صدفت فقوموني.» وأن يقول لهم الخليفة الثاني: «من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه.» فيرد عليه أعرابي من أوزاع الناس بقوله: «لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا.» وأبلغ وأروع من قول أبي بكر وعمر قول الرسول الكريم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده.»
قبل عرابي أن يدع الحكومة وشأنها على أن تجري الأمور وفق ما أقرته الثورة من مبادئ، فكيف لعمر الحق كان يستطيع أن يحمل على السكوت نفسه وقد رأى من الدسائس الأثيمة التي كانت تحاك حول تلك الحرية الوليدة ما أغضب أكثر الناس اعتدالا وأقلهم علاقة بالسياسة وشؤونها؟ ...
إذن فالفرق كبير بين أن يتدخل عرابي في شؤون الحكومة وبين أن يغضب لما حل بقضية وطنه، وفي هذا الغضب دليل وطنيته ووطنية كل غاضب معه ...
لقد كان من أصعب الأمور على هذا الرجل أن يدع هذه القضية وشأنها، بل لقد كان ذلك عليه مستحيلا. وإني لأرجو من الذين خاصموا هذا الرجل في غير حق والذين خاصموه مضللين أن يستمعوا إلى هذا الرأي الذي أسوقه عنه؛ ألا وهو أن الحرية كانت من طبعه، فطر عليها ولم يتكلفها يوما أو توجهه إليها الحوادث وهو يجهل كنهها، كما يقول الذين يريدون ألا يدعوا له محمدة إلا جعلوها بالباطل مذمة ... •••
كانت الحرية من طبع ذلك الجاويش الذي نقم على الشراكسة في الجيش استبدادهم، فأكثر من الشغب عليهم، وكانت الحرية هي التي دفعت هذا الرجل إلى أن يقف موقفه المشهود في ساحة عابدين عصر اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة 1881، ولسوف تكون الحرية هي حافزه إلى ما يثب بعد المذكرة المشؤومة من وثبات.
ولقد استوثق بلنت من ذلك كما أسلفنا حينما اتصلت أسباب المودة بينه وبين كيف ازداد عرابي محبة له إذ علم بالصلة بين أسرته وأسرة اللورد بيرون.
وكيف يمجد هذا الفلاح اللورد بيرون نصير الحرية إلا أن يكون هذا تجاوبا بين نفس حرة وأختها؟ ولقد كان بيرون يدافع عن اليونانيين لا عن المصريين، فلم يكن حب عرابي إياه إذن مشوبا بعاطفة غير عاطفة حب الحرية أينما كانت وكيفما كانت جنسية الداعين إليها وكيفما كان دينهم ...
ولنعد إلى خطبته التي ألقاها في محطة مصر، لقد أفصح فيها وهو يرتجلها عن كثير مما كانت تنطوي عليه نفسه. والخطيب في مثل ذلك الموقف الحماسي ينسى نفسه فلا يملك التكلف والتصنع، بل لقد يكشف الخطيب عما يريد أن يغطيه إذا نسي نفسه في رهبة الموقف وحماسته دون أن يملك لذلك دفعا. قال عرابي: «البلاد محتاجة إلينا، وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات، وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه ...» وقال: «وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة.» •••
وقد مر بنا رأي بلنت عن حبه للحرية، ونورد هنا رأي جون نيليه
1
وهو رجل سويسري حر عاشره وعرفه معرفة خبرة ووثوق كما عرفه بلنت، قال: «كان أحمد عرابي رجلا مستقيما وخادما لوطنه، وشغوفا بالحرية ومؤمنا بالحق، وخطيبا فصيحا، وكانت شهرته تبلغ شأو غاريبلدي.»
وإنا لنرى في هذه الأدلة على حبه للحرية من القوة ما لا تجدي معه مكابرة، وعلى ذلك نتساءل: ألم يأن للناس أن ينصفوا هذا الرجل وقد قضى عليه أعداؤه، ثم قضوا بعد ذلك على تاريخه الحق؟
إننا بلد لا يعد غنيا الغنى المنشود في الرجال، وهذه حقيقة نثبتها والألم يرمض جوانحنا، فكيف نرضى مع ذلك أن نشايع أعداءنا فلا نثبت في سجل رجالنا هذا الرجل الذي يحق لنا أن نفخر به؟
ألم يأن لأبناء هذا الوطن أن ينظروا وهم بصدد قضية استقلاله إلى هذا الرجل نظرتهم إلى زعيم جاهد في الوطن حق جهاده، وأن يكفوا عن تلك النظرة الظالمة التي تصوره رئيس عصابة من الأوزاع والهمج لا يسيرون على نهج ولا يبتغون من وراء سيرهم غاية؟
ألم يأن لأبناء هذا الوطن أن يفطنوا إلى أن الاحتلال هو الذي صور عرابيا هذه الصورة المنكرة ليبرر بذلك وجوده؟ وأنهم بمجاراتهم الاحتلال وصنائعه إلى يومنا هذا فيما ادعى إنما يثبتون على أنفسهم الغفلة ويسيئون إلى رجل ما فكر يوما في الإساءة إلى وطنه؟ رجل إن كثرت أخطاؤه فقد حسنت نياته، وإن فاته النجاح فقد عظم في سبيل النجاح بلاؤه، في حين قد قل في المحنة نصراؤه، وتعدد غداة الروع أعداؤه ... •••
لا جناح على عرابي أن يعود إلى ميدان النضال في سبيل المبادئ التي اعتنقها المصريون ووطدوا العزم على تحقيقها، بل إن ذلك لا غيره ما كان ينتظر منه، وما كان ليقبل منه قعود، ولو أنه وقف في جهاده عند وثبته الجريئة يوم عابدين لحق عليه ما نسبه إليه خصومه من النزق والسير على غير هدى ...
ومن أعجب ما يسمعه المرء من أقوال هؤلاء الخصوم قولهم: لقد أجيبت مطالب الجند على نحو ما كان عرابي نفسه يحب، فما عودته إلى التدخل فيما ليس من شأنه؟ وأي غفلة أشد من هذه الغفلة؟ وإذا كان مثل هؤلاء يجهلون حقيقة الثورة العرابية هذا الجهل المعيب فكيف السبيل إلى إقناعهم؟
وها هم أولاء الوطنيون يسقطون شريفا، ويتمسكون بحق مجلس الشورى بالنظر في الميزانية. وقد رأوا من أعداء البلاد غدرهم الأثيم، فهل نرمي هؤلاء بالفوضى والشطط؟ وإذا كنا نسمي عملهم تحمسا وغيرة وطنية، فلم نستكثر ذلك على عرابي وقد غضب كما غضبوا وتحمس كما تحمسوا؟
سيعود عرابي إلى الجهاد فيقف في وجه الدولتين الطامعتين، وسيسير زعيم الثورة على رأس جيش من أبناء هذا الوادي ليذود عنه في بسالة جريئة وحفاظ مر وفق ما توجبه الوطنية والرجولة، وهذا لعمر الحق ما كان يطلب منه في مثل هاتيك الظروف، أما الفوز فأمر قد يخرج عن تصريفه، وسبيله إليه محدود بحدود طبيعته ومقدرته، ولقد يتوفر للقائد من أسباب الفوز ما يكاد معه يعتقد أنه قبل وقوعه حقيقة لا سبيل إلى الريبة فيها، ثم ينظر فإذا تلك الحقيقة خيال أو دون الخيال، ولئن أخطأ قائد أبلى مثلما أبلى عرابي فلن تحمل أخطاؤه على معنى آخر كما حملت أخطاء عرابي ظلما وعدوانا على معاني الخيانة والمطامع الشخصية ...
حسب عرابي أن يجاهد وأن يقاتل وأن يثبت للدنيا أن في مصر من يذود عنها وعن الحق بالسيف ...
عرابي الوزير
اختير عرابي وزيرا للجهادية في وزارة البارودي، وجلس هذا الفلاح على الكرسي الذي كان يجلس عليه بالأمس القريب رفقي الشركسي، وكان صيت عرابي في البلاد قد بلغ غايته، وكان بيته كما أشرنا وكما ذكر بلنت مفزع المظلومين ومتجه المعجبين المؤمنين بحرية هذا الوطن ...
وكانت سياسة جمبتا قد صبغت بالصبغة الدينية عند المصريين، وقر في أذهان الناس أنه كان مدفوعا في سياسته بكراهيته للمسلمين، وخوفه أن ينهضوا وتقوى بينهم أواصر الإخاء فيكونوا بذلك حائلا بين فرنسا وبين أطماعها في الشرق، ويفسر بلنت نفسه مسلك جمبتا هذا التفسير، ويقول: إن من نتائج المذكرة أن بات الناس يتجهون نحو السلطان كمنقذ لهم، وأصبحوا ينظرون إلى عرابي أنه عضد السلطان في مصر والحصن الذي تحتمي فيه الآمال بعد أن يئسوا كل اليأس من توفيق ...
ويظهر أن عرابيا كان يميل من زمن إلى أن يجعل من خطته الاعتماد على السلطان، ولعل بلنت فهم ذلك من أحاديثه معه، نجد إشارة إلى ذلك في قول بلنت عن أثر المذكرة المشتركة «وجد المصريون أنفسهم لأول مرة مرتبطين كل الارتباط، فإن الشيخ محمد عبده ومن معه من المعتدلين من أنصار الإصلاح الأزهريين ألقوا بأنفسهم في زمرة الحزب الذي سبقهم بخطوات، وشعر الناس جميعا حتى الشراكسة شعور الاشمئزاز من التدخل الأجنبي، ومن ناحية أخرى فإن أشد الناس نفورا من الأتراك من عنصر القوميين ومنهم صديقي الأزهري الشيخ الهجرسي، أصبحوا يرون أن عرابيا كان على حق في اعتماده سرا على السلطان ... وبهذا كسب عرابي كسبا عظيما في ذهاب الصيت والتوقير، ولم أسمع لعدة أيام بعد ذلك من أصدقائي المصريين إلا الكلام عن الجامعة الإسلامية.»
وأنعم على عرابي برتبة الباشوية، وهو يقول إنه قبلها هذه المرة كارها، فلولا أن المنصب كان يقتضي قبولها ما قبلها، وأما عن قبوله المنصب، فما نظن أنه كان يستطيع أن يبقى بمعزل عن الوزارة، وقد صار له في سياسة البلاد هذا الشأن بعد حادث عابدين، وإنا لنعجب أشد العجب للذين يعيرون رجلا لقبوله منصبا من المناصب، ويتخذون ذلك القبول دليلا على أنه يبتغي الخير لنفسه فحسب، فهل كانت المناصب عند الناس جميعا وسيلة إلى إشباع المطامع وجلب المنافع؟ وأي شيء يجعل هذا الأزمة حتمية للمنصب؟ وأي شيء يمنع من أن تكون المناصب عند بعض الناس وسيلة لتحقيق غاية جليلة شريفة هي العمل للصالح العام؟ واي قرينة تمنع أن نسلك عرابيا في سلك هؤلاء الداعين إلى الخير العام ، الذين يتخذون من المنصب أداة لخدمة المجتمع؟ إن أبسط قواعد العدالة تضع المتهم على قدم المساواة مع البريء حتى تثبت إدانته، فأية إدانة يلصقها بعرابي أولئك الذين عابوا عليه دخول الوزارة؟
إنهم إذ يتهمونه بالسعي لصالحه هو لا يعدون بذلك حد التهمة، فله على أسوأ الفروض موضع البريء من العدالة حتى تثبت إدانته، وما أيسر أن تكال التهم لأي فرد من الناس في غير حساب، وما أصعب البينة على الذين يفترون الكذب وهم يعلمون ...
إن الذين يرون في الحكم مغنما لهم، إنما هم أولئك المفرطون في حقوق أوطانهم الموالون للدخلاء فيها، والمستضعفون من الرجال، والذين في قلوبهم مرض، والمغترون بأوهام الحياة والمالئون بطونهم كما تأكل الأنعام، أما أولو النخوة والعزة من الرجال فلن تلهيهم عن دوافع أنفسهم الحياة الدنيا وزينتها، ولن تطفئ الحمية في قلوبهم ما يحلي به الأغرار صدورهم من أوسمة، أو تزدهي نفوسهم الكبيرة الألقاب والرتب، أو يزيغ بريق الذهب أبصارهم عن الحق؛ لأن هذه جميعا عندهم مظاهر وهم يحتقرون كل مظهر إذ يطلبون الجوهر. ومن كان في هذه الدنيا كبيرا بنفسه فما به حاجة إلى أن يتكبر، ومن تكبر وهو بنفسه صغير، فلم يعد أن أضاف إلى حقارة نفسه ما هو أحقر.
ولو كان عرابي من ذوي الأطماع الشخصية لرأيناه يتنكب طريق الجهاد، ولرأينا الضعف يتسرب إلى نفسه فتفتر حميته وتبوخ وطنيته. وما ضعف عرابي وما استكان حتى مني بما مني به من محنة يوم التل الكبير لا بأيدي الآثمين الطامعين من الأجانب فحسب بل بأيدي الخوانين المارقين من بني الوطن، وظل حتى هزيمته الرجل الذي يخشى جانبه وتتقي غضبته. ولقد رأينا كيف أرسل إليه مالت يحاول أن يهدئ خاطره عقب المذكرة المشتركة، ولو أنه كان ممن يشترون بالمال لأمكن شراؤه كما اشتري بعد ذلك سلطان مثلا، الذي كان يتظاهر بأنه من أكبر أنصار الحركة القومية، ولكن عرابيا كان مؤمنا بجهاده مخلصا لقضيته؛ فارتضى أن يخوض غمار الموت، وأن ينفى بعد ذلك من الوطن، وأن يسلب جميع ما ملك.
ورفض عرابي أن يكون وليا لذوي الغايات والأطماع، جاء في مذكراته عن نوبار باشا قوله: «أرسل إلينا أحمد قبودان البكري من موظفي بوغاز الإسكندرية ليشكرنا على إنقاذ الوطن من ظلم الظالمين وجور المستبدين، ويعرض علينا أنه مستعد لأن يقود حركتنا الوطنية بصائب رأيه إذا دعوناه إلى رئاسة الحكومة واعتمدنا عليه وسلمنا أمورنا إليه، فعجبنا لذلك، وأجبناه بأن مبدأنا هو أن تكون مصر للمصريين، وللنزلاء عندنا حسن الضيافة ومزيد الإكرام. وإنا لا نجهل الأدوار التي لعبها نوبار باشا في مسألة تغيير قواعد فرمان الوراثة الخديوية، وفي مسألة تشكيل المجالس المختلطة في مصر، تلك المجالس التي صرف عليها 12 مليونا من الجنيهات من أموال المصريين المساكين على يده وبسعيه، وكان هو أكبر مساعد للمستبدين وله الحظ الأوفر من تلك الغنائم.»
ويذكر كذلك عن البارودي أمرا خطيرا قال: «وفي أوائل شهر يناير سنة 1881 خلوت بالمغفور له محمود باشا سامي ناظر الجهادية، فأطنب في الثناء علي لقيامي بنشر راية الحرية في مصر وملحقاتها من بعد مضي خمسة آلاف سنة على المصريين وهم يرسفون في قيود الاستبداد والاستبعاد، ثم أقسم أنه مستعد لأن يضحي حياته ويجود بآخر نقطة من دمه في تنفيذ رغبتي، ويجرد حسامه وينادي باسمي خديويا لمصر إذا رغبت في ذلك، فقلت له: مه يا محمود باشا فإني لا أريد إلا تحرير بلادي، ولا أرى سبيلا لنوالنا ذلك إلى بالمحافظة على الخديو كما صرحت بذلك مرارا وتكرارا، وليس لي مطمع أصلا في الاستئثار بالمنافع الشخصية، ولا أريد انتقال الأريكة الخديوية إلى عائلة أخرى لما في ذلك من الضرر.»
ولقد كان عرابي كبير النفس كبير الآمال، فكان المنصب عنده وسيلة من وسائل الجهاد، وبابا من أبوابه، فما يعيبه أن يقبل الحكم، وإنما يعيبه أن يعرض عن الحكم وبخاصة في مثل تلك الشدة التي ساق فيها الطامعون البلاد على غير إرادتها، والذي يعد قبول الحكم فيها تأهبا للذود عن ثورة الحق على الباطل ... •••
على أن الناس ما كانوا ينظرون إلى عرابي نظرتهم إلى وزير من الوزراء فحسب، بل لقد كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى الرجل الذي تعلق عليه الآمال فيما كانت البلاد مقبلة عليه، وكانت تقوم نظرتهم إليه على ما بلوا بأنفسهم من إخلاصه، وما شهدوا من بسالته وحميته، وبخاصة في يوم عابدين المشهود، وعلى ذلك فما زاده المنصب في أعين الناس ما يطلبه غيره ليزداد به من مظاهر الجاه، وأي شرف يطمع فيه الرجل أعظم من أن يكون في بني قومه معقد الرجاء وموضع الثقة ...؟
ولقد كان عرابي في الوزارة إذا أردنا الحق أكثر من وزير، فكانت الكلمة كلمته وكان الرأي رأيه أراد ذلك أو لم يرده، ونقول أراده أو لم يرده لأنه بات في الزعماء رجلا ليس لأحدهم مثل ما له في قلوب الناس من مكانة وسحر ... وهل كان سعد في كرسي الرئاسة كغيره من رؤساء الوزارات، ليس لشخصه من تأثير في قلوب الناس إلا ما تبعثه هيبة المنصب ورهبته؟ أم كان سعد في الناس رجلا غير ما ألفوا، تحف به هالة من أمجاده فتخلق له شخصية وسطا بين الملائكة والناس؟ وهل ازداد سعد بالمنصب شيئا في أعين الناس أم أن المنصب هو الذي ازداد به علوا ومهابة؟
على هذا القياس صور لنفسك شخصية عرابي بين قومه يومئذ، فلقد صار له من المكانة بعد يوم عابدين مثل ما صار لسعد من بعد في قومه، فهو الرجل الذي تتمثل في شخصه ثورة أمة ويجتمع فيه تاريخ حركة، لذلك فهو بين الناس أكبر من أن يكون أحدهم، تحيط به هالة من السحر تلقى في روع محدثه أنه تلقاء تاريخ يحدث أثره لا تلقاء رجل يعيش كما يعيش الناس ... •••
أما الفلاحون وأعيان البلاد ممن كانت تقاس أقدار الرجال عندهم بالألقاب والمناصب، فقد كبر عرابي في أعينهم وازداد قدرا في أنفسهم، وأصبح هذا الفلاح الباشا الذي يجلس على كرسي وزارة الجهادية موضع أحاديثهم كما تذاكروا فيما بينهم أحداث البلاد في ذلك الوقت.
ولست أريد بقولي أن الرأي كان رأيه أنه كان يستبد بالأمر، أو كان يأخذ السبيل على البارودي فيما يريد من قول أو عمل، وإنما أريد أن البارودي وغيره من الزعماء ما كانوا يخطون خطوة إلا على بينة مما يكون فيها مما عسى أن يرضي عرابيا أو يغضبه لأنه بينهم، وإن لم تكن له الرئاسة الرسمية، الزعيم الذي تشايعه البلاد، والذي استقر في أذهان أهلها وقلوبهم أنه موضع الأمل ومناط الرجاء ...
وقد بدأ عرابي باشا عمله في الوزارة بإرسال مكتوب إلى جميع وحدات الجيش يعلن إليهم نبأ تعيينه فقال: «حيث إن مسند نظارتي الجهادية والبحرية الجليلتين قد أحيل إلى عهدتنا من طرف الجناب الخديو المعظم، بإرادة سنية موشحة بتاريخ 15 ربيع الأول سنة 1299 نمرة 11 فاعتقادي ووثوقي بمساعدة حضرتكم وعموم حضرات الضباط والصف الضباط والعساكر في القيام بواجبات هذه النظارة مع الاستمرار في سيرها على المحور اللائق، الموافق لنص أحكام القوانين العسكرية، قد جرأني على قبول هذا المسند الجليل حالة كوني عالما بما أنتم عليه من وثوق حضرة الجناب الخديوي بنا، ولهذا لزم تحريره لحضرتكم إخطارا بما ذكر وإعلان كافة الضباط والصف وعساكر الآلاي إدارة حضرتكم. وفقنا الله جميعا لما فيه النجاح والإصلاح ...» •••
وأخذ عرابي يقوم بتنفيذ القوانين الخاصة بإصلاحات العسكرية التي كان يطالب بها رياضا وشريفا من قبل، وتناول بالترقية كثيرا من المصريين في الجيش، وقد حظي بالباشوية كل من علي فهمي وعبد العال حلمي وطلبة عصمت وعلي الروبي وحسن مظهر ويعقوب سامي ...
وقد تألم العنصر الشركسي لهذه الترقيات، وعدها زعماء الشراكسة صورة من صور الفوضى والتعصب في الوزارة، كأن النظام كل النظام أن يرقى الشراكسة، وأما أن يرقى المصريون الفلاحون فذلك هو التعصب المذموم وهو الفوضى الجامحة.
ولن يقتصر هؤلاء الشراكسة على الصخب والعيب، بل سوف يعملون على الانتقام، كأنما كان المصريون يسلبونهم حقا من حقوقهم، ونسي هؤلاء أو تناسوا ما كان يفعل رفقي من قبل ...
واتجه عرابي إلى إصلاح شأن وزارته فبث فيها النشاط والجدة. قال روثستين: «وقد جد عرابي بنوع خاص في إصلاح نظارته التي كانت في منتهى الفوضى والخراب، وذلك ليستعد للطوارئ كلها، فأظهر همة فائقة في إصلاح حصون السواحل، ونظم احتياطي المدفعية ووزعه على تلك الحصون.» •••
وأحسن عرابي في منصبه الجديد الظهور بمظهر الوزير في غير صلف أو ادعاء. وصفه بلنت حين زاره بعد أزمة المذكرة يحمل إليه نبأ وساطته لدى جلادستون قال: «قفلت راجعا إلى القاهرة في سرور وقد تسلحت بما علمته من حسن نية جلادستون، واستطعت أن أخبر عرابيا أنني لم أؤكد له عواطفي نحوه عبثا، وقد وجدته في ديوان وزارة الحربية يحيط به أصدقاؤه، وكان يتحدث مع بطريرك الأقباط، ومع طائفة من أهل الملق من الأوربيين وأجناس شرقي البحر الأبيض المتوسط ممن جاءوا يحيون هذه الشمس المشرقة، وقد ظهر فيهم الوزير الجديد في حسن سمت وسمو كانا به لائقين، فلم يلبث بعد ذلك الجندي قائد الفرقة، ولكنه أضحى رجلا تمتلئ مشاعره بالمسؤولية العامة، وكان لا يزال بعد فلاحا ولا يزال وطنيا ولكن في صورة الرجل السياسي، وقد انتحى بي جانبا فأطلعته على كتاب جلادستون وقلبناه بيننا في سرور وعددناه رسالة ذات فأل طيب ...»
وطنية لا نزق
حل البارودي محل شريف وفي البلاد ما فيها من أثر تلك المذكرة التي جاءت في تلك الظروف التي بينا دليلا على سوء تدبير واضعيها وعلى قصر نظرهم ورعونتهم، ولكن لما لنا نشير إلى قصر نظر الدولتين فيما فعلتا ونحن لا يتداخلنا شك في أنهما كانتا تريان عاقبة فعلهما، وأنهما إنما أرادتا إثارة الخواطر وزيادة أسباب الخلاف بين الخديو وزعماء البلاد المدنيين منهم والعسكريين، فبهذا يتيسر لهما الوصول إلى الغرض المرسوم ...
وكان طبيعيا أن يسير البارودي على نهج غير الذي سار عليه شريف، فهو بحكم مركزه بين الزعماء العسكريين، وبحكم الظروف التي أدت إلى استقالة شريف، لم يكن ليستطيع أن يحمل نفسه على الهوادة والملاينة، وإلا ففيم كان إحراج شريف ثم إخراجه من الحكم؟ ... والأمر قبل كل شيء أمر كرامة الوطن تلقاء تحدي الأجانب وتحرشهم السخيف الآثم بحريته ...
ومن ذلك يتبين لنا أن البارودي لم يكن له منتدح عن السياسة التي جرى عليها ، وأن مردها في الحق إلى مسلك الدولتين، وعلى ذلك فمن الظلم أن نرجع باللوم كله على تلك الوزارة فيما أبدت من تطرف، فإن جانبا كبيرا من اللوم، بل لعل اللوم كله، يقع على الذين دفعوا الوزارة بقبح تدبيرهم وسوء نيتهم في تلك الطريق التي ما لبثت أن رأت نفسها فيه تخرج من أزمة لتدخل في أزمة غيرها ...
وهكذا تدفع الدولتان البلاد في طريق الثورة دفعا، ثم تتهمانها مع ذلك بالفوضى، وتجعلان من مبررات تدخلهما القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية وإنها لمن صنعهما ... ولن يكون في صور الظلم أبلغ وأوجع من أن يضرب مضعوف فوق رأسه فإذا تأوه ونفر من ألم الضرب عد تأوهه جموحا ونفوره ثورة!
كان على وزارة البارودي من بادئ الأمر أن تواجه أزمة الميزانية، وقد نجمت هذه الأزمة كما رأينا من تجني الدولتين على البلاد ومن غضب نواب الشعب لكرامة بلادهم واستمساكهم بحقهم تلقاء باطل أعدائهم، وكان من الطبيعي أن تعمل وزارة البارودي، أحد الزعماء العسكريين، والتي كان عرابي نفسه أحد وزرائها، على تحقيق آمال البلاد، بل لقد كان أمرا حتميا على هذه الوزارة أن تفعل ما كانت مقدمة على فعله، فعلى هذا الأساس كان قيامها بالحكم ...
وما أسخف كلام المبطلين وأرذله تلقاء هذه الحقيقة التي تنهض الحوادث دليلا عليها! أجل ما أرذل أن ترمى وزارة البارودي بالنزق والعناد والرغبة في إثارة الفتنة، كالذي يأخذ على شخص طريقه في غير مبرر فإذا طلب إليه أن يخلي سبيله انتهره وتوعده، فإذا خطا خطوة ليتقدم رماه بالشطط والجنون وخوفه عاقبة أمره!
لقد قامت وزارة البارودي على إرادة الأمة، لا مراء في ذلك، فإن النواب حينما أظهروا لشريف أسفهم أن يكون المجيب لمطالبهم رجلا غيره، وحينما ذهبوا إلى الخديو يشكون إليه حالهم كانوا معبرين في ذلك عن مشيئة الأمة، وآية ذلك أن الخديو لما سألهم بأي حق يطلبون إقالة شريف قالوا: هذه إرادة الأمة.
ولم يسع الخديو إلا أن يذعن، ولكن على طريقته في الإذعان ريثما تسنح الفرصة، فدعا شريفا والقنصلين الأجنبيين وعرض عليهما الأمر، فلم يكن أمام شريف غير الاستقالة، ثم إن الخديو سأل زعماء النواب عمن يرضون لرئاسة الوزارة، فبعد أن بينوا له أن ذلك من حقه اختاروا البارودي واشترطوا أن يكون قيام وزارته على أساس إجابة مطالب النواب.
1
ولقد أضاف الخديو إلى أخطائه خطأ جديدا بقبوله هذا الوضع، فمن حقه وحده اختيار رئيس وزرائه، ولكنه خطا حتى هذه الخطوة بإشارة القنصلين، فلقد أوهماه أن في هذا خيرا له، فبه يخلو من التبعة ويلقيها على عاتق النواب والزعماء ... ولكنهما كانا في الواقع يريدان أن يوسعا مسافة الخلاف بين الخديو ونواب البلاد، ومن السهل عليهما أن يوحيا إليه على لسان أعوانهما بعد ذلك أنه أصبح وليس له من الأمر شيء.
على أن مالت وكلفن وأشياعهما ما لبثوا أن راحوا يذيعون المفتريات في مصر وفي أوربا عن الوزارة، ويرمونها بكل أباطيل الاتهام، فهي وزارة عسكرية لا تعرف سياسة أو تنظر في عاقبة أمر من الأمور، وإنما قوام أعمالها العنف والثورة، وهي وزارة لا تحسب لأي سلطة غيرها حسابا، فليس للخديو وجود فعلي بإزائها، وليس للأجانب على ما لهم من ديون في مصر حق أو شبه حق إلى غير ذلك من اللغو والإفك ...
أما عن عرابي فقد خرج بأوفر نصيب من التهم الباطلة، ومن هذه التهم ما نسبته إليه جريدة التيمس من أنه تهدد شريفا، وأنه شهر سيفه في وجه سلطان وهدده بتيتيم أطفاله في صدد الخلاف على مسألة لائحة المجلس، ولقد كان مالت من مروجي هذه الإشاعة ومن المتمسكين بها، بل لقد ذهب مالت إلى أكثر من هذا فأثبت في يومياته كذلك أن الخديو ما قبل استقالة شريف إلا تحت تأثير تهديد لا يقل عن هذا ...
ويذكر بلنت أنه يرجح أن الخديو هو مصدر هذه الفرية لما كان يبدو منه يومئذ من بالغ الحقد على الوزارة، وقد أصبح لهذه الفرية خطرها حين أرسل مراسل روتر إلى أوربا يزعم ضغط العسكريين على شريف.
قال بلنت: «ومع ما يبدو من سخف هذه القصة فقد غضب منها سلطان غضبا شديدا، ولما كنت يومئذ معروفا لدى النواب بأني صديقهم طلب إلي سلطان لقاءه، وسألني أن أحمل إلى مالت إنكاره القصة كلها إنكارا تاما، وعلى ذلك توجهت إلى بيت سلطان باشا حيث جمع عددا كبيرا من النواب ومن علية القوم ومن بين هؤلاء المفتي الأكبر العباسي وعبد السلام المويلحي بك وأحمد السيوفي بك وأحمد محمود أفندي وهمام حمادي أفندي وشديد بطرس أحد كبار نواب الأقباط. وقد أنكر هؤلاء جميعا مع سلطان أنهم عملوا تحت أي إكراه، وتكلم سلطان في غضب عن سخف القصة فيما يتصل به قائلا: إن أحمد عرابي بمثابة ابن لي، وهو يعرف ما هو من حقي وما هو من حقه، فمكاني في البرلمان ومكانه في وزارة الحربية. وجدير به أن يطلب نصحي لا أن يجرؤ على أن ينصحني فيما يعنيني من الأمور، وأما عن شهره السيف في حضوري فإنه لا يفعل ذلك إلا تلقاء عدو يهاجمني، وهذه قصص لا يصدقها من يعرفنا كلينا، وإنها لباطلة كل البطلان، وتستطيع أن تأخذ على اليقين أن أقل عضو هنا ممن يمثلون الشعب أحسن حكما على مطالبه من أكبر جندي. إننا نحترم عرابيا لأننا نعرفه وطنيا ورجلا ذا فطنة سياسية لا لأنه جندي.
وقد أثبت كلمات سلطان باشا هذه في حينها، وقد اشتكى إلي هذا الشيخ من سياسة مالت وتعضيده مخترعي الأباطيل، وطلب مني أن أطلعه على الحقائق وأن أبرقها إلى جلادستون وأذيعها في الصحف الأوروبية، وقد فعلت ذلك على خير ما يدخل في وسعي، فأرسلت نصا كاملا منها إلى «التيمس»، ومع ذلك فإنها على ما أذكر لم تنشره لسبب ما، وكذلك أرسلت تلغرافا بالمعنى نفسه إلى مستر جلادستون، ثم كتبت إليه كتابا مطولا أشرح فيه الموقف كله.
وذهبت من فوري إلى مالت وناقشته في شدة، ولكنه أصر على صدق قصته التي استقاها كما أخبرني أول الأمر من سلطان نفسه، والتي عاد يقول إنه استمدها ممن يمكن الاعتماد عليه، ولما ألححت عليه أن أعرف من هو المصدر غضب وقال إنه ليس لي من حق أن أستجوبه على هذه الصورة.»
هذا هو كلام بلنت عن هذه الفرية، وما أجمل ما وصف به سلطان عرابيا فهو لا يحترمه لأنه جندي، ولكنه يوقره لوطنيته ولمقدرته السياسية، ومثل هذا الكلام لا يصدر عن مثل سلطان عن خوف أو تملق، فقد كان أكبر من أن يخاف أو يتملق، وهو بطبعه شديد الكبر كثير المباهاة بجاهه والاعتزاز بثروته، بل إن صدور هذا الكلام عن رجل هذه صفاته إنما يزيد في قيمته، ويجعل منه وثيقة خطيرة ندعو الذين يجهلون حقيقة عرابي إلى قراءتها في روية وحسن طوية ...
ويذكر بلنت أن التيمس لم تنشر تكذيبه لسبب ما، والأمر واضح لا يحتاج إلى طويل شرح، فالتيمس وأمثالها من الصحف الإنجليزية تخدم قضية الاستعمار أبدا، وهي خير من يدرك نيات الساسة في بلدها، وأول من يطلع على حقائق الأمور، فلم تكن تجهل يومئذ ما كانت تبيته إنجلترا لقضية الأحرار في مصر، بل وما كانت تنتويه السياسة الإنجليزية العليا من الاستيلاء على مصر قبل أن تستولي عليها، ولذلك فما كانت لتنشر رأيا مثل هذا الرأي يأتي على لسان رجل مثل بلنت، فيكون به من الإنجليز شاهدا من أنفسهم عليهم ... •••
في مثل هذا الجو الذي كدرته دسائس الماكرين والطامعين، راحت وزارة البارودي تعالج ما كانت تشكو منه البلاد، ومن ورائها نواب الأمة يشدون أزرها، وإنهم ليعلمون ما كان يحيط بوطنهم من الكيد والإعنات.
وأحس البارودي من أول الأمر بتزايد الجفاء بينه وبين الخديو، فما كان ليسيغ توفيق أن يصبح الأمر بينه وبين الوزارة قائما على غير ما ألف من مبادئ السيطرة ونوازع الاستبداد، ولكن الوزارة استعاضت عن معونة الخديو بمؤازرة البلاد ...
وكان أول ما واجهته الوزارة تلك المشكلة التي خلقها الكائدون، وهي مسألة الميزانية، أو بعبارة أخرى لائحة المجلس التي استقال بسببها شريف أو أجبر في الحق على الاستقالة ...
ويجمل بنا أن نأتي بالحديث على سرده في هذه المسألة لنتبين إلى أي مدى كان افتيات الدولتين على البلاد ، وليرى الذين رموا حركتها الوطنية ورجلها بمختلف التهم مبلغ ما في مزاعمهم من جهل أو عدوان ...
جاء في خطاب شريف باشا الذي تقدم به إلى المجلس بعد انعقاده قوله: «فإنه لم يحجر عليكم في شيء ما، ولم يخرج أمر مهم عن حد نظركم ومراقبتكم، إنما لا يخفاكم الحالة المالية التي كانت عليها مصر مما أوجب عدم ثقة الحكومات الأجنبية بها، ونشأ عن ذلك تكليفها بترتيب مصالح، وتعهدها بالتزامات ليست خافية عليكم، بعضها بعقود خصوصية، والبعض بقانون التصفية، فهل يتيسر للحكومة أن تجعل هذه الأمور موضعا لنظرها أو نظر النواب؟ حاشا لأنه يجب علينا قبل كل شيء القيام بتعهداتنا وعدم خدشها بشيء ما، حتى نصلح خللنا، وتزداد ثقة العموم بنا، ونكتسب أمنية الحكومات الأجنبية، ومتى رأت منا تلك الحكومات الكفاءة لتنفيذ تعهداتنا بحسن إخلاص بدون مساعدتها فنتخلص شيئا فشيئا مما نحن فيه!»
بهذه الكلمة مهد شريف لخطته فيما يتعلق بلائحة المجلس، أو ما نسميه دستوره، وبخاصة فيما يتصل بالميزانية، ثم جاءت اللائحة تحرم على المجلس النظر في الميزانية ...
ولقد كان المجلس يطمع في أن ينظر في الميزانية ما دام هو القيم على حقوق البلاد، ولكن الحكمة قضت عليه أن يتواضع فيقبل كما أسلفنا النظر في نحو نصف الميزانية وهو القدر الباقي بعد الجزية وما يقتضيه قانون التصفية، ففعل ذلك، ولكنه لم يفد وا أسفاه من حكمته شيئا، فقد كبر على الدولتين أن ينظر المجلس حتى في هذا القدر؛ فرمتاه بالمذكرة المشئومة التي كان من نتائجها ما رأينا من تطرف المعتدلين وثورة المتطرفين والتقائهما جميعا، وتمسكهم بالنظر في الميزانية مهما يكن من العواقب، الأمر الذي أطاح بوزارة شريف وأحل محلها وزارة البارودي ...
وجاءت وزارة البارودي، فلم يكن أمامها إلا طريق واحد، هو السير وفق رغبة النواب والرأي الوطني العام في البلاد، فخطت هذه الخطوة معتمدة على حقها مستندة إلى مؤازرة الأمة إياها، فكان ما قررته في مسألة الميزانية ما يأتي: «لا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للآستانة أو الدين العمومي أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية.» «وترسل الميزانية إلى مجلس النواب فينظرها ويبحث فيها، بمراعاة البند السابق، ويعين لها لجنة من أعضائه مساوية بالعدد والرأي لأعضاء مجلس النظار ورئيسه، لينظروا جميعا في الميزانية ويقرروها بالاتفاق أو بالأكثرية.»
ووافق المجلس على اللائحة الجديدة التي تقدمت بها إليه وزارة البارودي، وكان هذا الرأي الأخير، أعني تكوين لجنة من أعضاء المجلس مساوية في العدد لأعضاء مجلس النظار قد عرض كحل من الحلول على وزارة شريف، فأبت الدولتان قبوله، فلما قضت وزارة البارودي في الأمر حسب مشيئة النواب، ثارت ثائرة الدولتين اللتين جاءتا لنشر روح المدنية والحرية في الشرق ...
ولقد جعلت الوزارة الأمر للأمة فيما إذا وقع خلاف بين المجلس والوزارة، فنص في دستور المجلس أو لائحته الأساسية ما يأتي: «إذا حدث خلاف بين مجلس النواب ومجلس النظار، وأصر كل على رأيه بعد تكرار المخابرة وبيان الأسباب ولم تستعف النظارة فللحضرة الخديوية أن تأمر بفض مجلس النواب وتجديد الانتخاب على شرط ألا تتجاوز الفترة ثلاثة أشهر من تاريخ يوم الانفضاض إلى يوم الاجتماع، ويجوز لأرباب الانتخاب أن ينتخبوا نفس النواب السالفين أو بعضهم.» «وإذا صدق المجلس الثاني على رأي المجلس الأول الذي ترتب الخلاف عليه ينفذ الرأي المذكور قطعيا.»
وقد فرح النواب، وفرح الناس جميعا من وطنيين وعسكريين لصدور اللائحة أو الدستور، وأخذت مصر تستقبل عهدا دستوريا كان يعد بداية طيبة جدا للديمقراطية في مصر، بل وفي الشرق كله ...
ويتجلى فرح مصر في تلك الحفلات التي أقيمت غداة صدور الدستور، ومنها حفلة جمعية المقاصد الخيرية، وكانت بالغة الروعة والجلال. وقد شهدها البارودي، وعرابي، وجمهور كبير من العلماء والأعيان، ورجال الجيش، وتبارى الخطباء وفي مقدمتهم السيد عبد الله نديم في بيان مزايا الدستور وإعلان ابتهاج النفوس به، والشيخ محمد عبده الذي دعا إلى نشر التعليم ليقوم الدستور على أساس سليم قوي.
ومن تلك الحفلات حفلتا نائبي البحيرة الشيخ أحمد محمود وإبراهيم أفندي الوكيل، ثم حفلة أحمد بك أباظة وحفلة أحمد بك يكن وغيرهم، وتدل هذه الحفلات دلالة بينه على أن روح الحرية والدستور كانت متغلغلة في نفوس مثقفي الأمة، وأن البلاد كانت تنهض فيها حركة قومية حرة لو أنها حدثت في بلد غير مصر لم يرزأ بالاحتلال لكان لها في سجل الحركات القومية العالمية شأن جليل، وما يضيرنا اليوم ما فعل الاحتلال بتاريخنا القومي، وقد خطونا خطوات لن يكون بعدها نكوص ...
رأينا الحل الذي عالجت به وزارة البارودي مشكلة الميزانية، ذلك الحل الذي من أجله حقت عليها لعنة الدولتين، وحق عليها عقابهما، مع أنه لا يمكن أن يكون هناك تساهل في مثل هذا الأمر وفي مثل هاتيك الظروف أكثر من هذا التساهل الذي جرت عليه الوزارة ...
هؤلاء نواب شعب يجتمعون باسمه للنظر في صالحه، فكيف يتسنى لهم ذلك إن لم يكونوا قوامين على ماليته وهي أساس كل شيء ودعامة كل إصلاح؟ وكيف يكون الحكم قائما على أساس ديمقراطي إذا حيل بين نواب الأمة وبين النظر في الأموال التي تجبى من أفرادها؟
وإذا كانت لمصر ظروف خاصة ناشئة من ديونها التي لم يكن لأهلها يد فيها، فأي شيء كان يطمع فيه من نوابها أكثر من أن يتركوا ما يتعلق بالدين دون تدخل فيه؟
ولكن الدولتين كانتا تحاربان المجلس فحسب مهما بلغ من اعتداله وحكمته، كانتا تحاربانه فتحاربان فيه الوطنية المصرية؛ لأنها إن ازدادت قوة ضاعت الفرصة وخرجت مصر سالمة مما كان يدبر لها. انظر إلى الاحتجاج الذي كتبه المراقبان الأجنبيان في 12 يناير سنة 1882 عندما علما بنية النواب في وزارة شريف قالا:
2 «يظهر أن مجلس شورى النواب يتهيأ لأن يطلب حق تقرير الميزانية، ولهذا نرى من واجبنا أن نقول: إن إعطاء النواب هذا الحق ولو اقتصر على الإدارات والمصالح التي تخصص إيراداتها للدين يفسد الضمانات المعطاة للدائنين؛ لأنه سيكون من نتائجه الضرورية أن تنتقل إدارة البلاد من يد مجلس النظار إلى يد مجلس النواب.»
ولا تسل عن مبلغ غضب هؤلاء الطامعين الكائدين لمصر على وزارة البارودي حينما حلت المشكلة على النحو المتواضع الذي بيناه، فلقد انطلقت ألسنة الساسة منهم مع ألسن السفهاء من مراسلي الصحف بكل فاحشة وجارحة في الوزارة والنواب جميعا على نحو خليق بأن تخجل منه الإنسانية، فهذا نظام موضوع بأسره تحت سيطرة جيش ثائر كما صوره كلفن في تقريره، وهذه وزارة جامحة تسوق مصر إلى الخراب، وهؤلاء نواب لا يعرفون من معاني الوطنية إلا التعصب الأعمى فضلا عن جهلهم وضيق عقولهم ...
كتب مالت يصف النواب قائلا:
3 «إن ما يتظاهرون به من طموح إلى العدل والحرية قد انتهى بأن حلت سلطة الجيش الغاشمة محل كل سلطة مشروعة.»
وقال كوكسن يصف قانون الانتخاب الذي وضعته الوزارة السامية: «إن الغرض منه في هذا البلد أن تكون كل المزايا الانتخابية لمن رشحتهم السلطة الحاكمة الآن وهي سلطة الجيش.»
وليس بعجيب أن يبلغ حنق هؤلاء على الحركة الوطنية القومية هذا المبلغ، ذكر الشيخ محمد عبده في مذكرات متتابعة مرقمة أثبتها في ورقة لعله كان يجمع فيها عناصر فصل يكتبه وأوردها بنصها مترجمة الشيخ رشيد رضا
4 ... قال الأستاذ الإمام: «مجلس النواب قرر تعيين لجنتين للتحقيق في بعض الشكاوى التي رفعت على مصلحة المساحة وعلى إدارة الجمارك، وظهرت وجوه الخلل في أعمال الموظفين الأوربيين، وتحقق ما كان يخشاه المراقبون من مقاصد المجلس، وقد رفض مسيو كاليار مدير الجمارك أن يحضر جلسات التحقيق وعارض في أعماله ...» «وقف المجلس على تقرير قدم للمراقبين من أحد موظفي الدومين المسمى «روفسل» يطلب فيه مراقبة المجلس حيث أعطى الفلاحين آمالا في أن يصلوا بالطفرة إلى ما يقال من حريتهم، واشتكى من أن المدير لا يحبس في الحال من يطلب منه حبسهم لتوقفهم عن العمل، ومن أن كل شخص يحبس بغير أمر قضائي يرسل بالتلغراف إلى نائبه، وعلى ذلك يسأل المدير عن السبب في الحبس، وهذا تظاهر من الأهالي بالأحوال الجديدة التي يبنون عليها حريتهم وخلاصهم ...»
وأوعز مالت إلى وكلائه في الأقاليم أن يكتبوا تقارير عن مبلغ ما وصلت إليه الحال من سوء في البلاد، وأرسل هذه التقارير إلى حكومته، وبلغ من الجرأة على الحق، بل بلغ من صفاقة أحد هؤلاء الطامعين أن كتب يندد بإلغاء الكرباج فقال: «وما أعجب وما أسخف ما قال:
5 «إن الحاكم الشرقي إذا حرم كرباجه، وحظر عليه أن يسجن من يشاء عجز عن سياسة قوم اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكومة فردية قوية، إن الطريق الذي سارت فيه الحركة منذ عام، جعل الفلاح يعتقد أنه يستطيع الوصول طفرة إلى ما يسمونه له حرية. في حين أن ما اكتسبته هذه الحركة من قوة جديدة بإسلام أزمة الأمور إلى طائفة من الخياليين النظريين. جعل أثرها في السلطة على وجه العموم أثر الماء تصبه على قطعة من السكر.»
هذا ما قاله ذلك الإنجليزي الذي تفتخر دولته بأنها سبقت الدول إلى الحرية، والتي ما فتئت منذ عهد كرومر في مصر تفاخر بأن معتمدها هو الذي أبطل الكرباج في هذه البلاد!
وإنا لنسأل الذين يقرأون هذه المفتريات وأشباهها، والذين تتبعوا أساليب إنجلترا وفرنسا في الكيد لمصر، نسأل هؤلاء السادة الذين يعلمون هذا، ومع ذلك يعيبون على عرابي وزملائه تطرفهم، أكانوا يفعلون غير ما فعل عرابي وأصحابه إذا كانوا يحبون أوطانهم حقا، وكانوا يعيشون في مصر في تلك الأيام؟
أما الذين كانوا يجهلون هذه الدسائس التي تبثها إنجلترا في مصر، وحملوا لجهلهم بها على عرابي ما حملوا مجاراة منهم لما أشيع عنه، فحسبنا أن نريهم حقيقة الأمر ونكل المسألة بعد هذا إلى فطنتهم وضمائرهم.
وما ندافع عن عرابي إلا لأننا نعتقد أنه ظلم، وأن الذين ظلموه هم أعداء البلاد الذين استباحوا ذمارها وألحقوا بها الذل والهوان ...
وما يجدر بمصري وبلاده فقيرة فقرها هذا في الإبطال أن يشايع الذين حاولوا أن يطمسوا بالباطل تاريخ رجل كانت البطولة في مقدمة صفاته، فيصفون وطنيته ووطنية أصحابه بأنها نزق وفوضى ...
ولقد جعل الكائدون لمصر الجيش هدفهم فيما راحوا يشيعونه من مفتريات، انظر إلى قول مالت في تقرير له عن «تزايد اختلال الأمن في البلاد لقلة اكتراث الأهالي بأولياء الأمور الملكيين، ويعزى ذلك إلى سلوك رجال الحزب العسكري الذين لا يعاملون زملاءهم الملكيين بالاحترام الضروري لإدارة البلاد، وقد أخذت الرشوة تعود إلى سابق عهدها بين الموظفين، ومما يساعد على انتشارها كثرة التغيير والتبديل في كبار الموظفين.»
ثم يقول في وصف ما زعمه من ضيق وقع فيه الفلاحون في سبيل الحصول على المال «ويعزو الملاك قلة رؤوس الأموال وما هم فيه من الضيق إلى سياسة الحكومة الحاضرة التي لا تبعث على الثقة بها، ويجهرون بأنهم إذا عجزوا عن دفع الضرائب فالتبعة واقعة على الوزارة.»
وليس بعجيب أن يسلك كلفن ومالت وأشياعهما هذا المسلك في الطعن على الوزارة، وقد أدركا ما كانت تنويه حكومتهما من العمل على تمهيد السبيل للتدخل المسلح بعد هذا التدخل السياسي ...
ولقد كانت تلك المذكرة المشئومة خطوة واسعة نحو هذا الغرض المرسوم، فكان لابد أن تتفاقم الحوادث بسببها لتصل بالبلاد إلى كارثة الاحتلال ...
كتب قنصل فرنسا إلى حكومته يوم 29 يناير يقول: «إن الرغبة البادية على مجلس النواب من جانب، في أن يصير برلمانا، والخطة القوية التي رأت الدولتان من جانب آخر، أن تختاراها، والتي كانت مذكرة 7 يناير تعبيرا عنها هما السببان الجوهريان اللذان اصطدم كل منهما بالآخر فأوجدا الموقف الحالي.»
وكتب كذلك يقول: «يمكن أن يقال إن الانقلاب الذي أحدثه مجلس النواب المصري هو جواب منه على مذكرة 7 يناير، فلقد أعلنا في هذه المذكرة أننا نحتفظ بالنظام الحالي ضد الجميع، فأجاب المجلس على ذلك بأن غير هذا النظام تغييرا جوهريا، وبذلك وضعنا أنفسنا في موضع صارت الضرورة قاضية علينا فيه بأن نتدخل أو نعدل سياستنا.»
وهذا الذي ذكره ذلك القنصل يصور الحال تصويرا صادقا، وما كان موقف الدولتين يخفى على أحد من الوطنيين، وعلى ذلك يقضي الإنصاف على الذين يحكمون على أعمال رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي أن يضعوا في أذهانهم قبل كل شيء أطماع هؤلاء الساسة، وأن يصوروا تلك الأعمال على هذا الأساس ... •••
مضت الوزارة في سبيلها غير عابئة بصراخ أعدائها لا تتخاذل من دون غايتها، ولا تستبعد الشقة، وذلك على الرغم من أنها كانت لا تجاوز عقبة إلا قامت في سبيلها عقبات.
ولقد قبع الخديو في زوايا العزلة، وجعل الخوانون الغدارون بينه وبين وزرائه حجابا من الأباطيل التي أحكموا نسجها ...
والواقع أن الخديو لم يكن على شيء مما كان يجب أن يتصف به من يضطلع بأعباء الحكم في مثل هاتيك الظروف، فلقد كان مستطار القلب حائر اللب مما يجري حوله، فهو لا يسيغ الحركة الوطنية ولا يستطيع أن يصالح عليها طبعه، وهو مستريب في نيات الحكومة العثمانية نحوه ونحو عرشه، وهو فزع مما يشاع من دسائس الأمير عبد الحليم، بل ودسائس أبيه ومساعيه في مصر والآستانة على يد أعوانه، ثم هو فضلا عن هذا كله قد بات تحت سيطرة الأجانب، وبخاصة الإنجليز منهم، فما يقطع أمرا حتى يوافقوا عليه، بل لا يخطو خطوة حتى يرى رأيهم فيها ...
ومن كان هذا شأنه في موقف كهذا الموقف الدقيق الذي كانت تقفه مصر من أعدائها يومئذ كان مثله مثل الراعي أحاطت الضواري بقطيعه فما يرجو أكثر من أن ينجو هو بنفسه ولو هلك القطيع جميعا ...
وكانت الدولتان كما سلف القول تراوغ كلتاهما الأخرى، وتغافلها بغية الظفر بالفريسة وحدها، وهذه هي حقيقة السياسة الخارجية التي لا تفهم تلك السياسة على وجهها الحق دون الانتباه إليها.
وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد ما كتبه ريناخ أحد أصدقاء جمبتا عن سياسة الدولتين قال:
6 «إن الرأي العام في إنجلترا قد وقع تحت تأثير بعض رجال حزب الشورى الذين اعتقدوا أن خير ما يعمل هو استعجال الحوادث جهد الطاقة أملا في إيجاد فرصة لدخول وادي النيل دون فرنسا.»
حسبنا تلك العبارة التي حاول كرومر أن يفندها، فلم يستطع أن يأتي بدليل أو شبه دليل على صحة رأيه، وما ملك غير أن ينفي، وما كان مجرد النفي مما ينهض دليلا يؤخذ به في أمر من الأمور ...
وكان جمبتا من أشد أعداء مصر، بل من أشد أعداء الإسلام قاطبة، وكان هذا اليهودي على صلة برجال المال من الدائنين، وكان يحيط به في باريس ريفرز ولسون ونوبار يوحيان إليه بما يريان، وكان بطبعه ممن يميلون إلى اللجوء إلى القوة في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين.
وكان هذا الوزير كما بينا يحاول أن يدفع إنجلترا لتأخذ بسياسته، ولكن جرانفل راح يراوغه مظهرا له أن خيرهما في أن يتفقا، وفي الوقت نفسه كان يحذره عاقبة التدخل المسلح في شؤون مصر، سواء أكان ذلك من جانب إحدى الدولتين أم من جانبيهما معا؛ لأن ذلك العمل كان من شأنه أن يجر في أعقابه كثيرا من المشاكل.
ولقد رأينا مبلغ تشدده في وجوب إرسال المذكرة المشتركة، ثم إصراره بعد ذلك على عدم تخفيف وقعها بأي وجه من الوجوه، ولقد كانت كل من الدولتين تحرص على ألا تنفرد فتنكشف، لذلك كانت تجاري إحداهما الأخرى وإنها لمستكرهة أشد الاستكراه وأقبحه. وكانت إنجلترا تأخذ نفسها بالصبر حتى تحين الفرصة فتقتنصها.
على أن جمبتا لم يلبث في الحكم طويلا فسقطت وزارته في أول فبراير سنة 1882، أي قبل تأليف وزارة البارودي بخمسة أيام، وحل محله في الوزارة دي فريسنيه، وكان هذا من أول الأمر يرى في المسألة المصرية ما لا يتفق وسياسة جمبتا ...
ولكن الأمور كانت قد تحرجت في مصر بما فعل جمبتا، وفقدت العناصر الوطنية في البلاد كل ثقة في الدولتين جميعا، حتى أصبح من أصعب الأمور التفاهم على السياسة العامة ... •••
لقد ارتخص هؤلاء الساسة من دعاة المدنية الناقمين على أهل الشرق ما كانوا فيه من تأخر كل كرامة ابتغاء الوصول إلى أغراضهم، وانقلبت عندهم الأوضاع التي تعارف الناس عليها، فلقد عز على هؤلاء السادة الذين راحوا يدلون بمدنيتهم ويتطاولون بما فعلوا في سبيل حرية الإنسان أن يروا أهل مصر ينزعون حقا إلى الحرية، ويعملون على الرقي بوطنهم جادين غير متوانين، يتعاونون على الحق ويتناسون ما بينهم من دواعي الخلاف ويطرحون الأثرة ويحرمون على أنفسهم الطيبات ليتم لهم ما أرادوا ...
وذعر هؤلاء الكائدون لمصر الطامعون فيها أن أفاق أهلها على هذا النحو، وقد كانوا يظنونهم أمواتا أو كالأموات، وهالهم أن يروا فريقا من هؤلاء الفلاحين يستلبون سلطة الخديو شيئا فشيئا، ويحاولون أن يضعوا أنفسهم بحيث تكون الأمة وهم نائبون عنها مصدر كل سلطان ...
وأدركوا أن هذا البعث الذي أفاقت عليه مصر من نومها الطويل هو الصبح الذي يهتك أسدالهم ويبدد آمالهم، فما ونوا يوما كما بينا عن محاربة مصر وزعماء مصر ورميهم بكل فاحشة، وفي مقدمة هؤلاء جميعا ذلك الرجل الذي خطا نحو الحرية الخطوة الأولى، وصرخ في وجه الظلم الصرخة الأولى ...
ولم ير هؤلاء لوزارة البارودي حسنة واحدة، ولكن هذه الوزارة كانت لا تعبأ بما يرجف المبطلون، فمشت إلى غايتها على الشوك، وقد عقد أعضاؤها النية على إنقاذ بلادهم من طمع الطامعين وكيد الكائدين، وعلى تعهدها بضروب الإصلاح في شتى مرافقها حتى تقوى فتعز على كل باغ ظلوم من خصومها ...
وما كان في الوزارة من عوامل الضعف سوى جهل رئيسها وأعضائها باللغات الأوربية، إلا وزير الخارجية مصطفى فهمي باشا، وقد ضم إلى الوزارة ليكون لسانها في الصلة بالأوربيين، ولكنه كان من رجال العهد القديم على حد قول مؤرخي الثورة الفرنسية، فلم يكن ينظر إلى الوطنيين نظرة الاحترام والتوقير، وإنما كان يرى فيهم فريقا من الفلاحين يتطلعون إلى ما ليسوا أهلا له، شأنه في ذلك شأن الشراكسة وأشباههم من سادات مصر وكبرائها في ذلك العهد ... وعلى ذلك فقد كان وجود هذا الرجل في وزارة الخارجية عبئا يضاف إلى أعباء الوزارة، وذلك أمر لم تفطن إليه إلا بعد فوات الوقت ...
وفيما عدا ذلك كانت وزارة البارودي وزارة وطنية حقا تعمل صادقة مؤمنة على تحقيق آمال البلاد والنهوض بها على الرغم مما كان يحيط بها من دسائس وما كان يملأ أسماع رجالها من نباح وعواء.
انتهى دور انعقاد مجلس النواب في السادس والعشرين من شهر مارس سنة 1882 فقضى بذلك في العمل نحو ثلاثة أشهر، وهي مدة قصيرة كان يشغل الأعضاء فيها ترتيب أعمالهم، ولكن المجلس على الرغم من ذلك قد قسم أعضاءه إلى لجان مختلفة أخذت تتصل بالوزارات وتبحث معها ما يهم البلاد من الشؤون العامة ...
جد المجلس في دراسة نصوص المعاهدات والتعاقدات العامة والخاصة المبرمة بين الحكومة المصرية والحكومات الأجنبية ورعاياها ...
وأخذت الوزارات تعد مشروعات الإصلاح المختلفة لعرضها على المجلس في دور انعقاده القادم، فكانت تنظر فيما يتطلبه النهوض بالتعليم، وتفكر في إنشاء مصرف زراعي ينتشل الفلاحين من وهدتهم، وتعمل على إصلاح المحاكم المختلطة واختصاصاتها، كما تناولت قانون الانتخاب بالدراسة لتعد قانونا جديدا يجعل للمحكومين الرقابة الفعلية على الحاكمين ... وقد أشرنا إلى ما أبدى عرابي من همة في إصلاح شؤون وزارته وبث روح النهوض فيها ...
ولكن الوزارة كانت كلما تقدمت خطوة في إصلاحها ازدادت لهجة الصحف الأوربية في العيب عليها والطعن فيها، واشتدت وطأة الساسة في نقد أعمالها، ونشطت دسائسهم من حولها، وكان على رأس هؤلاء كلفن ومالت اللذان أدركا الآن - أو على الأصح وجها - إلى أن مهمتهما في مصر أصبحت استعجال الحوادث تمهيدا للتدخل العسكري ... •••
والحقيقة التي لا يماري فيها إلا المغرضون المبطلون أن البلاد كانت تشيع فيها روح الوطنية الصادقة التي تبرهن على صدقها بالأعمال لا بالأقوال، ولو أنه قدر للوزارة السامية أن تسير على هذا النهج لكان أثرها بعيدا في تاريخ مصر، بل وفي تاريخ القرن التاسع عشر كله، فلقد كانت تعد المسألة المصرية من كبريات المسائل في ذلك القرن ...
وليس أبلغ في الدلالة على وجود الوطنية العاملة في مصر مما نهض به أعضاء مجلس الشورى من جليل الأعمال في تلك المدة القصيرة التي عقد فيها جلساته «فإن أعمالهم في المجلس ومناقشاتهم تدل على مستوى ممتاز في الكفاية والغيرة الوطنية، وسداد الرأي، فقد طرقوا في مقترحاتهم ومناقشاتهم كل أبواب الإصلاح الذي تحتاج إليه البلاد في التعليم والقضاء والري والزراعة والمالية والاقتصاد والإدارة والمواصلات، وكانت خطبهم ومناقشاتهم وجيزة واضحة المعنى، بعيدة عن التطويل الممل والعبارات الجوفاء، وكانت لهم نظرات صادقة في كثير من الشئون وآراء صائبة تدل على سلامة المنطق والإلمام بالنظام النيابي وحسن الإحاطة بالشئون الحيوية، اعتبر لهم ذلك في مناقشتهم الخاصة بانتخاب الوكيلين والأغلبية المطلقة والأغلبية النسبية، وبحثهم في علاج الخلل الذي كان موضع شكوى الجمهور في مصلحة المساحة، ومناقشتهم في علاج غلاء الأسعار وتضخم المعاشات واستعجال إصلاح القضاء، ومقترحاتهم في نظام الري. وتأمل في الاقتراح الخاص بمشروع خزان أسوان وملاحظاتهم السديدة على مشروع قانون امتيازات العرب ومناقشاتهم في مشروع تعميم التعليم، تجد أنهم على قصر المدة التي اجتمع فيها المجلس قد بذلوا أقصى ما أمكنهم من الجهد لأداء واجبهم، وبدت منهم رغبة صادقة في أن يتابعوا البحث والدرس في فترة عطلة المجلس، وبرهنوا على أريحيتهم بما تعاهدوا عليه من أن ينشئ كل نائب مدرسة في بلده على نفقته، فبرهنوا على روح طيبة في تقرير العلم والبذل في سبيل الصالح العام.»
7 •••
وكذلك نستدل على وجود الروح الوطنية في مصر يومئذ بهاتين العبارتين اللتين نوردهما وندعو القارئ أن يتدبر فيهما.
أما أولاهما فهي ما كتبه دي فرسنيه في كتابه «المسألة المصرية» حيث يقول معلقا على مجلس النواب واختصاصاته: «إن كتاب ذلك العصر اجتهدوا في أن يسخروا من طلب الذين كانوا يطلبون توسيع اختصاص المجلس، حتى ليخيل إلى الذي يقرأ خطابات بعض الخطباء أن الوطنية المصرية كانت في ذلك الوقت تلفيقا، وأن وادي النيل لم يكن يحتوي إلا على فلاحين تحني العصا ظهورهم. فكل ما نرد به على هؤلاء الكتاب والخطباء، هو أن آباءنا كانوا أقل من هذا امتهانا للوطنية المصرية في عهدهم، وذلك أن نوابنا في سنة 1840 لم يترددوا في أن يتكلموا في خطبهم عن الرعاية الواجبة للوطنية المصرية الناشئة. فقد كانت هناك إذن وطنية مصرية ناشئة تستحق الرعاية في سنة 1840، ولست في هذا مبالغا ولا أنا ممن يحبون المبالغة، ولكن لا ريب في أنه كانت توجد في قلوب المصريين من أربعين سنة مضت مطامح كان من الممكن أن تراعى في حدود معتدلة. تلك حقيقة لا تحتمل جدلا، غير أن الذين كانوا يقبضون على حظ مصر لم يكونوا يرون من المصريين غير قوم مدينين، فلم يكونوا يعرفون في معاملتهم إلا مصلحة واحدة، هي مصلحة الدائنين الأوربيين التي يجب أن تقدم على ما عداها. وبذلك لم ينتبهوا إلى أن مثابرتهم على اعتبار مصر رهنا، وتدخلهم في شؤونها تدخلا أدى بحكومتها إلى أن تصير في أيدي الأجانب كانا قد انتهيا على طول الأيام بأن يجرحا شعور الشعب المصري الذي هو شعب حي مهما يقل القائلون في تعوده الطاعة والخضوع من أجيال.» •••
وأما ثانية العبارتين فهي ما كتبه من باريس سنت هيلير إلى قنصل فرنسا العام في مصر في السابع من أكتوبر سنة 1881 قال: «ليس من السهل علينا أن نقرر من هنا قوة هذه المطامح الشرعية ولا كيف يمكن إرضاؤها، ولكن هذه المطامح حقيقية إلى أعظم حد، ومبررة من بعض الوجوه إلى أعظم حد أيضا، فلا يمكن إهمالها ولا يمكن على الخصوص التفكير في خنقها.»
8
ليتدبر القارئ في هاتين العبارتين، وليتدبر فيهما كذلك من يريد أن يحكم على رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي، وليشفق على أنفسهم الذين يرمون عرابيا ورجاله بالفوضى والجهل والأنانية، ليشفق هؤلاء على أنفسهم فلن يجدر بهم أن يظلوا يجهلون تاريخ هذا الرجل فيحملون الذين يعلمون حقيقة هذا التاريخ على الاستخفاف بهم والزراية عليهم، فليس أدعى إلى الاستخفاف بعقل رجل من أن تراه يجهل أمرا من الأمور ثم إذا هو يدلي فيه برأي قاطع في لهجة يتردد في اتباعها الراسخون في العلم ...
ونضيف إلى هاتين العبارتين قول كرومر: «ليس هناك ريب في أن حركة عرابي كانت من بعض الوجوه حركة قومية. وليس من شك كذلك في أنه لو ترك عرابي وأتباعه في القيام على الشئون من غير مراقبة، فإن حالة من أشد حالات الاضطراب كانت تنشأ في مصر، وإن تدخلا أجنبيا مسلحا من نوع ما كان يصبح ضرورة من الضرورات.» •••
وغني عن البيان ما تكشف عنه عبارته الأخيرة مما يريد به أن يمحو أثر اعترافه بقومية حركة عرابي، فهذا المؤرخ الإنجليزي الذي كان من أكبر أساطين الاحتلال لا يستطيع إلا أن يمحو بشماله ما أثبته بيمينه ...
ما كان عرابي طائشا ولا داعية فوضى، ولكن كان زعيما مخلصا يعمل بوحي من وطنيته ويصيب ويخطئ كما يصيب الزعماء غيره ويخطئون كل على قدر ما اجتمع له من الكفاية والمقدرة!
والخطأ والصواب من خصائص البشر ومردهما إلى العقل وسعته أو ضيقه، أما الصدق والإخلاص وما إليهما من صفات الزعامة والبطولة فلا تسامح فيها ولا تهاون، بل لا يصح أن تكون هذه أمورا يجوز فيها التفاوت إذا عقدت المقارنة بين زعيم وزعيم وبين بطل وبطل! وكيف يجوز في عقل أن يكون هناك صدق ونصف صدق وإخلاص ونصف إخلاص؟ إن هذه أمور جلالها وجمالها بل وجوهرها في أن تكون غير قابلة لزيادة أو نقص. وعلى الذين لا يزالون يخاصمون عرابيا أن يأتوا بدليل واحد على كذبه أو مروقه، أما الخطأ والصواب فليقولوا فيهما ما يشاءون، وليس ما نعنى به خطأ عرابي أو صوابه فليخطئ عرابي أو فليصب، ولكن لو أنه كما زعم خصومه كان مدعيا أو مداجيا ولو في موقف واحد من مواقف حياته السياسية ما استطعنا أن نكتب عنه كلمة واحدة ...
ومع ذلك فبيننا وبين خصوم هذا الرجل حوادث هذه الثورة الوطنية على قدر ما علمنا من أمرها، وهي كفيلة بأن ترينا مبلغ ما في مزاعمهم من خطأ ...
أماني الصلح
لم يكن جهد أحمد عرابي منحصرا في المطالبة بالدستور، بل كانت تنطوي نفسه على كثير من الأماني التي يتوق إلى أن يراها حقائق ماثلة أمامه.
كانت تخالج نفسه منذ صلته بسعيد باشا رغبات في الإصلاح مبعثها تعصبه لقوميته ذلك التعصب المحمود الذي انبعث في نفسه مما كان يراه من حرمان بني قومه في وطنهم من كل ما يشعرهم بالعزة والكرامة، بينما يتمتع بالسيادة أجلاف من الشراكسة، لم يكن لهم من حق في هذه البلاد إلا أنهم بقية هؤلاء المماليك الذين اشتروا أول أمرهم كما تشترى السلع في الأسواق!
وكان يفطن هذا الجندي الثائر أو هذا الوطني الصادق العقيدة إلى أن الإصلاح المنشود، ينبغي أن يأتي من الأعماق فيبدأ بهؤلاء الفلاحين الذين هم عصب القومية المصرية، فمتى صلح حال هؤلاء واستشعروا في وطنهم الكرامة والعزة، قامت القومية المصرية على أساس وطيد، ومضت مصر قدما في طريق الرقي والمجد، وعزت على الطامعين والكائدين ...
وكانت أماني هذا الرجل تظهر في خطبه التي يلقيها في شتى المناسبات، فكان كثير الإشارة إلى القضاء على الاستبداد والعناية بالعلم والمعرفة. ولكن شيئا أشبه بخطة موضوعة يتبين في حديث له مع صديقه الإنجليزي مستر بلنت، ونحب أن يتدبر من يحبون عرابيا، ومن لا يزالون يكرهونه في هذا الحديث، ففيه جانب شخصية هذا الرجل الذي مسخ البهتان والعدوان شخصيته، وما كان الإنجليز - لعمر الحق - يرضون أن يكون عرابي داعية إصلاح وزعيم قومية، ويكونون هم من قضوا عليه تحقيقا لمآربهم الاستعمارية ثم يدعون مع ذلك أنهم جاءوا لإصلاح مصر والقضاء فيها على عوامل الفوضى ... لذلك عملوا على إنكار كل معنى من معاني الجد والنهوض في تاريخه، وتعمدوا أن ينظروا إليه نظرة الرجل المدل بحكمته وتجربته إلى الطفل الذي يدعي لنفسه ما ليس له. ومن أدلة ذلك أن الجهل والغرور في مقدمة الصفات التي ينعته بها كتاب الاحتلال، وإنهم ليعلمون بينهم وبين أنفسهم أن همة هذا الرجل وجرأته وما كان يبتغي لقومه من ضروب الإصلاح جديرة بأن تجعل منه زعيما أنجبته مصر، كما تنجب الأمم الزعماء، وأن تلك الصفات في أحمد عرابي المصري الفلاح لن تختلف في جوهرها عما يعزى من صفات إلى أبطال الوطنية والقومية في غير مصر من أمم الأرض.
قال بلنت بعد كلام طويل جاء في صدد شرائه حديقة الشيخ عبيد بين المرج والمطرية، ولنعد إلى زيارتي التوديعية لعرابي قبل سفري. ففي هذه المناسبة تناولنا بالحديث جميع المسائل التي كانت تدور فيها المناقشات وقتئذ بين رجال الحركة القومية والتي كانت تتضمن خططهم في سبيل الإصلاح وآمالهم ومخاوفهم في الداخل والخارج.
وإن الأسابيع القليلة التي قضاها عرابي في منصبه السامي قد أكسبته نضجا وقوت عزيمته، فتناول معي الأمور بكل ما يمكن من سداد في الفكر ولغة الحوار.
ولقد أكد لي تأكيدا وثيقا أنه وأصحابه الوزراء يتطلعون أكبر التطلع إلى تفاهم ودي مع الحكومة الإنجليزية على كافة المسائل القائمة بينهم وبين وكلائها في القاهرة. على أنه اشتكى في شدة من مالت وكلفن؛ فإن صنعهما الأخير والدور الذي أخذاه في معركة تشويه الحركة الوطنية في الصحف البريطانية يدلان على عداوتهما ... ثم قال عرابي: إنه لن يقوم سلام في القاهرة طالما أنه ليس لدينا غير هذين نتعامل وإياهما لأننا نعلم أنهما يدبران لنا السوء في السر وإن لم يبد ذلك في العلن، وسوف ننأى بجانبنا عنهما كليهما، ولكن ليس معنى ذلك أننا لهذا نريد أن نخاصم إنجلترا، فليرسل إلينا مستر جلادستون من يشاء غيرهما لنتعامل معه ونحن نتلقاه مرحبين بأذرع مبسوطة.
وتكلم عرابي كلاما طويلا عن الإصلاحات التي كان يفكر فيها محمود سامي والوزراء، تلك الإصلاحات التي وضع معظمها في ثبت الحسنات التي أسداها الاحتلال البريطاني إلى مصر والتي ادعاها اللورد كرومر لنفسه. ومن أمثلة تلك الإصلاحات إبطال السخرة التي أنزلها الأغنياء من الباشاوات الترك بالفلاحين وإبطال احتكار هؤلاء الأغنياء مياه الري عند زيادة النيل، ثم حماية الفلاحين من زبانية الربا من اليونانيين الذين وضعوهم بين براثنهم معتمدين على عيوب المحاكم المختلطة، وتناول التفكير في الإصلاح حتى ذلك العلاج الأخير لهذه النكبة الزراعية، ذلك العلاج الذي طالما جعله اللورد كرومر من مفاخره بوجه خاص، ألا وهو إنشاء مصرف زراعي تحت إشراف الحكومة ...
وتكلم عرابي فيما تكلم فيه من المسائل عن إصلاح العدالة التي تطرق إليها الفساد في صورة مخيفة، وعن تعليم الرجال، بل وتعليم النساء كذلك، وعن طريقة الانتخاب التي تنتقى للبرلمان الجديد، وعن مشكلة الرق ...
وقد تكلم طويلا عن هذه المشكلة الأخيرة، وذلك لأن الموظفين الأوربيين في الإدارة المختصة بالقضاء على الرق، قد بدأوا كما بدأ غيرهم من الموظفين الأجانب يبدون مخاوفهم من أن النظام الاقتصادي الجديد للحكومة الوطنية سوف يؤدي إلى إنقاص رواتبهم، ولذلك عمدوا إلى ادعائهم أن نهضة الإسلام سوف تفضي إلى انتعاش تجارة الرقيق، وأظهر لي عرابي مبلغ ما في ذلك الكلام من ضعف الحجة قائلا: إن الذين لا يزالون يمتلكون الرقيق في مصر أو الذين يريدون امتلاك الرقيق إنما هم أمراء الأسرة الخديوية وأغنياء الباشاوات، أولئك الذين توجه ضد مظالمهم حركتنا القائمة، حركة الفلاحين القومية، وإنه حسب مبادئ الحرية الجديدة سوف يكون الناس جميعا منذ الآن سواسية لا فرق بينهم بسبب الجنس أو اللون أو الدين، وإن انتعاش تجارة الرقيق لهو آخر شيء يمكن أن يتمشى مع هذه المبادئ ...
وتناول آخر الأمر ما يتصل بضرورة الاستعداد الحربي لما يتوقع من حرب، ذلك الأمر الذي كان يعنيه بصفة خاصة لأنه جندي ولأنه وزير الحرب. وقد تحدث عن هذا في بساطة ونشاط ...
قال: إن الحكومة القومية سوف لا تضع السلاح أو تغفل عما يجب من الحذر حتى تتوطد دعائم النظام الدستوري وتعترف به أوربا. وأعرب عن أمله ألا يتجاوز المخصصات الحربية التي اتفق عليها مع كلفن، وألا يضطر أن يزيد عدد المجندين عن الثمانية عشر ألفا الذين تسمح بهم الفرمانات، فإذا استمر تهديدهم بالتدخل المسلح فإنهم سوف يتبعون الأسلوب البروسي القائم على فكرة قصر مدة الخدمة، وبهذا يصلون إلى إيجاد قوة كبيرة هي بمثابة جيش احتياطي تحت السلاح.
وسألني عرابي رأيي عن مبلغ إمكان التصادم، فقلت في جلاء إنه كما يتبين لي مما تفاخر به كلفن أمامي من نية العمل على وقوعه، ومن لهجة الصحف التي وجهها لتتمشى مع ذلك، فإن الخطر حقيقي، وإن غرضي من ذهابي إلى إنجلترا هو أن أقضي على حملة الكذب التي بدأت، بكل ما في وسعي. وسيكون ما أدعو إليه هناك هو السلام وخلوص النيات. ولكني من جهة أخرى لست أنصح له إلا بأن يظل على ثباته وعزمه، فإن خير وسائل السلام أن يستعد المرء للدفاع، وإن كبار أعداء مصر ليسوا بين صفوف رجال الحكومات كما هم بين صفوف رجال المال، وإن هؤلاء سوف يترددون طويلا قبل أن يحرضوا على هجوم مسلح إذا عرفوا أن ذلك يعرض مصالحهم في مصر لخطر حرب طويلة الأمد كثيرة النفقات، وإن أمة مسلحة قد عقدت العزم على الدفاع عن حقوقها لأمة يصعب أن يبطش بها. وأذكر أني اقتبست له أبياتا من بيرون تبدأ بقوله: «لا تثق في طلب الحرية بالفرنجة.» وقد وافق على ذلك الكلام موافقة قوية، وأظن أن ذلك كان آخر ما دار بيننا من كلام، وقد وعدته أنه إذا وصلت الأمور إلى أسوأ ما تصل إليه فسوف أعود لآخذ بنصيبي بين صفوفهم في المعركة من أجل الاستقلال.»
وبعد، فإن نظرة في هاتيك الأماني التي كانت تتمثل في خاطر أحمد عرابي ترينا بعد ما بين هذا الرجل في صورته الحقيقية وبينه في صورته التي صورها المغرضون.
ثار هذا الرجل ثورته فأثبت في سجل القومية المصرية يوما لا يمحى هو يوم عابدين المشهود، بل لقد أضاف أحمد عرابي بما صنع في ذلك اليوم فصلا إلى تاريخ الحرية في هذا الوجود ...
وظفر أحمد عرابي بالدستور، ثم التفت بعد الدستور إلى الإصلاح الاجتماعي في ظل هذا الدستور، ثم رأى الإنجليز يتربصون به وبمصر، فأخذ يعد العدة للمقاومة، ولسوف يجد الجد فتجتمع فيه آمال أمة وتتمثل فيه بطولة شعب يطلب الكرامة، ويرى التاريخ لأول مرة مصريين من صميم قرى مصر يخوضون الحرب في سبيل مبادئ سامية.
فماذا كان يطلب منه أكثر من ذلك ليعترف له خصومه بالزعامة والبطولة؟ أكل ذنبه عندهم أنه هزم؟ ألا ما أصدق قول القائل: «ولام المخطئ الهبل.»
على أن الخيانة والخنوع من جانب فريق من المصريين كما سنرى من الحوادث هي التي سوف تودي به وبحركته ...
ولو أن عرابيا انتصر يوم التل الكبير، أو لو أن الخديو كان في صفه وكان المصريون جميعا من ورائه وواتاه الحظ فظفر برد الإنجليز عن مصر، أكان يجد بنو مصر في تاريخهم رجلا قبله يستحق أن يقرنوه به؟
ألا إن خصوم هذا الرجل إنما يخاصمونه لأنهم يجهلونه فليقرأوا تاريخه في غير تحيز وليطرحوا من نفوسهم ما بثه فيها الاحتلال، ومن أضلهم عن الحق الاحتلال ...
مراوغة وتربص
جدير بنا ألا ننسى ما أسلفنا الإشارة إليه في أكثر من موضع، ألا وهو موقف الدولتين إحداهما من الأخرى موقف المراوغة والمداراة، ذلك الذي كان طرفاه أول الأمر جمبتا وجرانفل.
ولقد تغير هذا الموقف تغيرا أساسيا من جهة فرنسا حينما حل دي فرسنيه في الحكم محل جمبتا، وذلك أن هذا الرجل قد انتهج في المسألة المصرية نهجا جديدا ما لبث أن بينه لإنجلترا حين ولي الحكم ...
وقد ألقيت إلى فرسنيه مقاليد الحكم كما ذكرنا قبل أن يخلف البارودي شريفا بخمسة أيام، فكتب إلى الحكومة الإنجليزية أنه لا يميل إلى أي تدخل عسكري في مصر، سواء أكان هذا التدخل من جانب إنجلترا وفرنسا مجتمعين، أم من جانب كل منهما على حدة، وأنه كذلك يرفض كل الرفض أن يقر أي تدخل من جانب الباب العالي.
ولعل جرانفل قد رأى فيه سياسة فرسنيه ما يسهل عليه الوصول إلى غرضه، مع ما قد يبدو لأول وهلة من أنها تؤدي إلى عكس ذلك، وذلك لأنه يستطيع الآن أن يلزم دي فرسنيه بسياسته التي وضعها بنفسه، بينما يلتمس هو الأسباب لتتدخل حكومته بمفردها، ولن يعدم أن يتخذ من الحوادث مبررا لتدخله، فإن لم يجد فما أيسر خلق الحوادث واستغلالها ... حتى إذا سنحت الفرصة أفلت من فرنسا وانقض على الفريسة وحده.
وإذا بدا لتركيا أن تتدخل فلتستتر إنجلترا خلف فرنسا؛ لأن فرنسا هي التي تعلن أنها تمانع في تدخل الباب العالي، وأن إنجلترا لتمانع أكثر مما تمانع فرنسا حتى لا تعود مصر إلى حوزة السلطان فتضيع على إنجلترا كل آمالها، ولكنها تلقي هذه الممانعة في مهارة على عاتق فرنسا فتزداد نياتها خفاء، وتزداد في نفس الوقت قربا من غايتها.
وكان جمبتا يشير أبدا بالالتجاء إلى القوة ضد الوطنيين في مصر، ومن هنا جاءت المذكرة المشتركة، وكان يرى أن تتدخل الدولتان سريعا تدخلا عسكريا في مصر، ولكن جرانفل تباطأ وراح يبين له ما تنطوي عليه هذه السياسة من أخطار، وإنه ليخفي في نفسه ما يخفي. ولقد جاء كلام جرانفل هذا إلى جمبتا في رسالة وصلته قبل سقوط وزارته بيوم واحد، وجاء في خاتمة هذه الرسالة قوله: «إن حكومة جلالة الملكة توافق على أن للدولتين مركزا خاصا في مصر، وذلك بناء على الاتفاقات الدولية وعلى الظروف القائمة، وإنها كذلك تعتقد أنه قد تنجم بعض المتاعب من دعوة عدة دول في مسألة حكومية كهذه، ولكن حكومة جلالة الملكة تكل إلى الحكومة الفرنسية أن تنظر فيما إذا لم يكن الموقف يتطلب الاتصال بالدول الأخرى كخير وسيلة لتناول حالة من الحالات يتبين أنها ذات مساس بالفرمانات السلطانية وعلاقات مصر الدولية.»
وقد كانت السياسة الإنجليزية تدور منذ حملة بونابرت على مقاومة نفوذ فرنسا في وادي النيل، ثم الاستيلاء عليها متى أمكن ذلك، وبخاصة بعد فتح قناة السويس، دون مراعاة أي شيء في سبيل الوصول إلى هذا الغرض ...
واستفهم فرسنيه الحكومة الإنجليزية ماذا أرادته بذلك الاحتياط الذي أبلغته جمبتا بعد موافقتها على المذكرة المشتركة، فكان الجواب أن الحكومة البريطانية تحتفظ لنفسها بتعيين نوع العمل إذا لم يكن من العمل بد، وفي تقرير وجوب العمل أو عدم وجوبه على وجه العموم ...
ثم أراد جرانفل أن يخفف من وقع هذا الكلام في نفس فرسنيه، فذكر أنه ليس في مصر ما يدعو إلى القلق فإن الوزارة الجديدة تجهر برغبتها في المحافظة على تعهدات مصر الدولية، وإذا وقع ما يقتضي التدخل فإن الحكومة الإنجليزية تجعل أساس ذلك تضامن أوربا مع وجوب اشتراك السلطان في كل خطوة وفي كل مفاوضة يؤدي إليها هذا التدخل.
وفي تلك الأثناء كان كلفن ومالت يحكمان دسائسهما في البلاد ويباعدان بين الخديو ووزرائه، ولا يتوانيان في خلق الضرورة التي تقضي بالعمل!
وكانت الحكومة الإنجليزية التي تقف من فرنسا ذلك الموقف الذي أشرنا إليه تفكر في ذلك الوقت في إعداد حملتها على مصر! ففي اليوم الخامس عشر من شهر مارس، أي بعد استلام البارودي أزمة الحكم بأربعين يوما، زار مستر بلنت السير جارنت، ولسلي الذي سوف يكون عما قريب قائد الحملة على مصر، فدار بينهما الكلام عن هذا المشروع، يقول مستر بلنت: «ففي اليوم الخامس عشر من شهر مارس ذهبت لمقابلة سير جارنت ولسلي وجرت بيني وبينه محاورة تستحق أن تذكر في اهتمام، فبعد حديث قصير عن قبرص اتجه الكلام إلى مصر، وما عسى أن يكون لدى القوميين من مقاومة إذا وقع تدخل، وسألني رأيي في ذلك، فقلت إنهم بالضرورة سيحاربون، ولن يقتصر الأمر على الجند، بل سيشاركهم الناس جميعا، وربما لجأوا بعد ذلك إلى وسائل أخرى، فرفض أن يصدق أن الجيش سوف ينهض لحرب ما، فصممت على عكس ذلك وقلت له: إنهم إذا أرسلوه لقهر مصر فيجب عليه أن يسير في ستين ألفا على الأقل، وبهذا قد بالغت في تصوير المسألة بلا ريب لأني أردت أن أجعلها صعبة، بحيث إنه يجب على الحكومة أن تفكر مرتين قبل الإقدام عليها. ثم أخبرني من تلقاء نفسه أنهم شاوروه مرتين أو ثلاثا أثناء الشتاء في احتلال عاجل، وأكد لي مع ذلك أنه لا يحب التدخل، وأن القيام باحتلال مصر عمل لن يقابله الجيش بالاستحسان، وأنه هو نفسه سوف يؤسفه جدا أن يناط به هذا العمل، وأعرب لي أنه خير لمصر كثيرا أن تسرح جيشها وتعتمد على حماية أوربا، ولكني أخبرته بأني لا أستطيع أن أفصح للمصريين بذلك، وأن الأمة التي تنوي الحرب نية صادقة قلما هاجمها عدو، فقال: إنه ليس هناك ما يسمى بالشرف في الحرب، وإنه إذا كانت المسألة مسألة حرب فيجب ألا يثقوا بنا أكثر مما يثقوا بأية أمة أخرى ... ثم تكلم بعد ذلك عن الطرق الحربية المؤدية إلى القاهرة كطريق بونابرت على الضفة اليسرى للنيل، ثم طريق الصحراء بوجه خاص بين ترعة السويس والدلتا، ولقد شعرت أنه إذا ما أنزلت جنود إنجليزية في مصر فعلا فإنها ستسير في الطريق الثاني، ولكني كنت حريصا ألا أدلي إليه بما يكون فيه أقل فائدة له من المعلومات. ولم أبد إلا الضحك عندما سألني بين الجد والمزاح عما إذا كنت أرافقه لأدله على الطريق إذا ما بلغت الأمور حدا ترسل معه حملة.»
ويكفي هذا الحديث وحده للدلالة على ما كانت تبيته إنجلترا لمصر وما كانت تراوغ به فرنسا ...
وبينما كانت تدبر الدسائس لمصر في الداخل والخارج، لم يكن للوزارة المصرية من وسائل الدعاية شيء ما، فكان أعداؤها يتقولون عليها ما شاءوا وما شاءت لهم أطماعهم، حتى لقد صور زعيم الحركة الوطنية في مصر أحمد عرابي صورا بلغت أقصى حدود الغرابة، فهو تارة رئيس عصابة من المتمردين الخارجين على القانون والنظام، وهو طورا داعية إسماعيل اشتراه بالمال ليعمل على إعادته إلى مصر، وهو بالإضافة إلى هذا عند بعض الإنجليز أسباني أو فرنسي في زي مصري، إلى غير ذلك من الأقاويل التي لا ندري أنقابلها بالألم أم السخرية!
وانطلقت الصحف تذيع في الناس الأراجيف في غير حياء أو فتور، وليس لمصر لسان يدافع عنها إلا بلنت، فلقد سافر هذا الرجل الحر كيما يقابل كل من لهم صلة بالمسألة المصرية ليريهم وجه الحق في هذه القضية، وليصحح ما جاز على عقول بعض الساسة من خداع، وليكاشف الذين يدعون أنهم لا يعلمون الحق بما يعلم هو من الحق لعلهم يرجعون إليه.
ولقد قابل جماعة من النواب ومن رجال المال، ثم ما زال يسعى حتى ظفر بمقابلة جرانفل وزير الخارجية فتحدث إليه عما لديه من المعلومات ودافع عن قضية الحرية في مصر بكل ما في طوقه من وسائل الدفاع، ولكن شد ما كانت دهشته وألمه عندما انطلق جرانفل نفسه يخبره أن لديه من المعلومات ما يؤيد عنده أن عرابيا إن هو إلا صنيعة إسماعيل، وأن المسألة من أولها إلى آخرها ما هي إلا سلسلة من الدسائس لإرجاع الخديو السابق إلى عرشه!
وعول بلنت بعد ذلك على مقابلة جلادستون، وقد كانت شهرته قائمة على أساس ميله إلى الحرية، والأخذ بيد الشرقيين جميعا لينهضوا من سباتهم، فلما مثل بلنت بين يديه اندفع يتحدث عن الحركة الوطنية في مصر في حماسة وطلاقة، وظل جلادستون صامتا ينصت إليه كأنه مقبل عليه مؤمن بما يقول يقدره حق قدره، قال بلنت: «ثم سألني عن الجيش المصري، وسبب ظهوره في المسائل الوطنية، فإنه خشي عاقبة ذلك، فأوضحت له تاريخ الحركة كلها، وأكدت له أن ما زعمه البعض عن تدخل الجند أمر مبالغ فيه، وأن ما أذيع من الأنباء عن الجند وتوعدهم النواب ليست إلا مفتريات، وقلت: إنه ليس هناك من سبب لما تبديه مصر من الاستعداد إلا خوفها من الاعتداء والتدخل.»
ولكن ماذا كان ينتظر بلنت من جرانفل وجلادستون، ولم تكن المسألة مسألة إقناع وحجة؟ ماذا كان يأمل بلنت ولم تكن المسألة ماذا يجب أن يعمل، وإنما كانت متى ينفذ ما انعقدت النية عليه؟
وإني لأحس فيما قرأته مما كتبه بلنت عن مقابلته لجرانفل وجلادستون أنهما كانا ينظران إليه نظرتهما إلى غر لا يفهم ما يجب أن يتبعه الإنجليزي في معاملة الشعوب الشرقية، أو إلى ناشئ في السياسة لا يدري أن الكلام شيء والخطط المرسومة شيء آخر ...
ولقد علق كرومر في كتابه «مصر الحديثة» على مساعي بلنت فقال: «ومن هؤلاء الذين عطفوا على القضية نرى أبرزهم مستر ولفرد بلنت، ولقد عاش مستر بلنت زمنا بين المسلمين، وكانت له لذة شديدة في كل شيء يتصل بهم وبدينهم، ويظهر أنه كان يعتقد في إمكان إحياء الإسلام على قواعده الأصلية، وقد تصادف أنه كان في مصر في شتاء سنة 1881، 1882، فألقى بنفسه بكل ما تبعثه الطبيعة الشاعرية من حماسة في جانب القضية العرابية وأصبح مرشدها وفيلسوفها، كما أصبح الصديق لعرابي وأتباعه، ورأى مستر بلنت أنه كان يعنى بحركة هي إلى حد معين حركة قومية بلا نزاع، وفشل في أن يفهم فهما كافيا تلك الحقيقة، وهي أن سيادة الحزب العسكري كان فيها القضاء على العنصر القومي في الحركة. وكان في وقت ما يعمل وسيطا بين السير إدوارد مالت والقوميين.
ولكن هذا الاختيار لم يكن موفقا، لأنه يتبين بأجلى وضوح مما ذكره بلنت في كتابه عن مساعيه أنه فيما عدا بعض المعرفة باللغة العربية لم يكن على شيء من الصفات اللازمة لتحقيق النجاح في مسألة لها ما لهذه المسألة من دقة وصعوبة، ولقد نصح للقوميين أن يعنوا بالجيش وإلا غالتهم أوربا، وكان يعني النصيحة بلا ريب، ولكنها كانت في غير وقتها كما كانت خبيثة، فلئن كان ثمة من خطر من جهة الغزو الأوربي فإن موطن هذا الخطر كان في انضمام الحزبين الوطني والعسكري، أكثر مما كان في انفصالهما، ولقد كان من السهل على السياسي المجرب أن يدرك هذا، ولم يكن للمستر بلنت تجربة سياسية ذات قيمة، وإنما كان رجلا متحمسا يحلم بيوتوبيا عربية.»
هذا ما يراه كرومر في بلنت، وليس عجيبا أن يكون هذا رأي كرومر، وهو من أساطين الاستعمار، في رجل مثل بلنت كان بلا مراء من كبار الأحرار، وإنما نورد رأي كرومر هذا لأنه يكشف عن جانب من أساليب المستعمرين الإنجليز في محاولة طمس الحقائق في سبيل الوصول إلى ما يطمعون فيه من أغراض، وهو من ناحية أخرى يشف عما كان يمكن أن يقابل به مسعى رجل مثل بلنت في دوننج ستريت إبان تلك الظروف التي نتحدث عنها، ظروف مقاومة الوزارة الوطنية في مصر ...
ولم يكن ينتظر أن يصيب بلنت غير الفشل، وقد كانت وزارة جلادستون تتعجل الحوادث لتفلت من فرنسا وتنفرد بوضع يدها على مصر حتى تخلص من الموقف الحرج الذي وضعها فيه فرسنيه، فلقد ذهب هذا الوزير في تجنب العدوان على مصر إلى حد أنه كتب إلى قنصل فرنسا في القاهرة يأمره «أن يلزم خطة التحفظ والحذر، وإن كان ذلك لا يمنعه من أن يحسن صلته بكل حكومة في مصر تحترم الاتفاقات الدولية وتحافظ على النظام».
ولقد زاد فرسنيه على هذا أن استدعى المسيو دي بلنيير العضو الفرنسي في المراقبة لما كان يعلم من مسلكه نحو الحركة الوطنية في مصر، وباستدعاء دي بلنيير خلا الجو لكلفن ومالت، فراحا ينفثان سمومهما ويتعجلان الحوادث في غير أناة ولا استحياء.
ومضت إنجلترا تتربص بمصر كما يتربص الوحش بالفريسة، وبعد شهرين من سحب دي بلنيير وقع في القاهرة ما عرف بحادث المؤامرة الشركسية.
وسيرى القارئ فيما يلي كيف استغل مالت وكلفن هذا الحادث العادي دون أي وازع من ضمير أو قانون أو عرف، فلننظر ماذا كان من أمرهما وأمر الخديو في هذا الحادث الذي لولا أطماع السياسة وتربص القوي بالضعيف ما كان ليثير شيئا مما أثار من متاعب للوزارة، وما كان ليلد ما ولد من أحداث ...
إعنات وإحراج
كان الإنجليز في مصر يعملون جهد طاقتهم لحساب دولتهم كما بينا، حتى إذا حانت ساعة العمل لم يكن بينهم وبين فريستهم حائل ... ولقد ظلوا متربصين بمصر بعد أن نجحت وزارة البارودي في حل مسألة الميزانية، ينتظرون أن تواتيهم فرصة فيعملوا على تنفيذ ما بيتوا.
وأخيرا وقع في مصر حادث ما نظن في تاريخ الاستعمار الأوربي كله أن استغل حادث كما استغل هذا الحادث في قبح ما بعده قبح، على بعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد، وذلك هو حادث المؤامرة الشركسية المشئوم ...
نمى إلى عرابي وزملائه أن فريقا من الضباط الشراكسة يأتمرون به وأصحابه ليقتلوهم، فكان أن قبضت عليهم الحكومة كما يقضي بذلك واجبها وساقتهم إلى المحكمة فقضت فيهم قضاءها ...
وليس في هذا الحادث ما يتصل بالسياسة العامة للبلاد بسبب من الأسباب، وما كانت أية وزارة تستطيع أن تسلك فيه سبيلا غير ما سلكته وزارة البارودي ...
ولكن الطامعين المفترين ما لبثوا أن عادوا يملؤون الدنيا صياحا وتنديدا، وتهديدا ووعيدا، فقد واتتهم فرصة جديدة بعد أن أفلتت من أيديهم أزمة الميزانية.
ونسي هؤلاء كل شيء إلا تحقيق أطماعهم من وراء هذا الحادث، فكان من أقوالهم وأفعالهم ما هو خليق بأن يسمهم بميسم الخزي والعار، بل ما هو خليق بأن يساق بين أقوى الأدلة وأنصعها على صحة مبدأ القائلين بأن هذه المدنية المزعومة قد أفسدت بني الإنسان فزادتهم قربا إلى الحيوانية، بقدر ما باعدت بينهم وبين ما يرجى للآدمية من سمو ...
والحق لقد دل مسلك دعاة المدنية الأوربية على مبلغ ما يمكن أن يصل إليه غدر الإنسان بالإنسان في عصرنا هذا، وما برح مثل عملهم هذا يوحي إلى ذوي الأحلام من البشر أن الإنسان لا يزال هو الإنسان، وأنه إذا كان ارتقى في شيء ففي وسائل الكيد والبطش، أما غرائزه الأولى - غرائز السيطرة والأنانية - فما زالت بحيث لم يطرأ عليها أي تهذيب على الرغم مما يحلم به الخياليون من حماة الإنسانية ...
وإنا لا نجد في بيان مدى ما بلغه هؤلاء الساسة من انحطاط خيرا من أن نعرض المسألة في وضعها كما حدثت مكتفين بذلك عن كل تعليق عليها، فما يمكن أن يبين كلام ما يقوم في الذهن أو يعتلج في أطواء النفس، تلقاء هذا العدوان الشنيع ...
أراد الشراكسة المتذمرون من سياسة عرابي والمضللون منهم أن يقتلوه هو وأصحابه من كبار رجال الحركة الوطنية، وقد نمى ذلك إلى علم عرابي من طلبة باشا عصمت قائد اللواء الأول، وهذا علمه من أحد المتآمرين، وهو راشد أنور أفندي الذي خالف إخوانه فسارع إلى إفشاء سرهم ...
وفي اليوم الثاني عشر من شهر أبريل سنة 1882، قبض على تسعة عشر ضابطا وسيقوا إلى مجلس عسكري ألف لمحاكمتهم بعد أن عرض الأمر على الوزراء وعلى الخديو، وقد جعلت رئاسة المجلس للفريق راشد باشا حسني وهو شركسي، وقد اختير كما ذكر عرابي في مذكراته المخطوطة
1
لنزاهته وتقواه واعتداله ...
وبعد عشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين، وكان من بينهم عثمان باشا رفقي نفسه «وقد اعترف أحدهم وهو القائمقام يوسف بك نجاتي بالمؤامرة، وأقر بأن راتب باشا هو مدبرها، وأنه أغرى الضباط الشراكسة بحضور عثمان باشا رفقي بقتل عرابي، واعترف بعض الضباط المتهمين بما يؤيد اعتراف نجاتي بك.»
2
وقضى المجلس بإدانة أربعين رجلا منهم رفقي، فحكم بتجريدهم جميعا من ألقابهم ونفيهم إلى أعالي النيل الأبيض في ربوع السودان ... وعوقب بهذا العقاب اثنان من المدنيين مع حرمانهما من الحقوق المدنية، وأحيل خمسة على المحاكم الأهلية، وعوقب راتب باشا المدبر للمؤامرة كما رأى المجلس بالحرمان من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين، ومنع من العودة إلى مصر، وإذا عاد فينفى من فوره ... وذكر المجلس أن الخديو إسماعيل هو الذي حرك المؤامرة، واقترح أن ينظر مجلس الوزراء في مرتباته ... •••
اختلفت الآراء في بواعث هذه المؤامرة الشركسية، ومن هذه الآراء ما ذكره بلنت حيث يعزوها إلى الخديو إسماعيل، الذي وكل بها رجلا عرف بعداوته القاسية للحركة الوطنية ووجوهها يدعى راتب باشا، وكان إسماعيل يطمع أن يصل بهذه المؤامرة إلى العودة إلى عرشه ابتغاء القضاء على القلاقل والفتن المزعومة التي عجز توفيق عن القضاء عليها كل العجز، وكان يمني نفسه بأن توافق إنجلترا على ذلك فتقنع به تركيا أو تجبرها عليه ...
ويؤكد بلنت هذا الرأي قائلا: إنه عرفه من جملة مصادر منها إبراهيم بك المويلحي سكرتير إسماعيل، ولقد أيد الشيخ محمد عبده هذا الرأي فيما جاء بكتابه إلى بلنت بعد سفره إلى أوربا عن هذه المؤامرة قال: «أما فيما يتصل بالمؤامرة الشركسية على حياة عرابي باشا فليست بذات خطر حقيقي، فإن الخديو السابق إسماعيل أكبر عدو رأته مصر والرجل الذي لا يزال يحقد على ما بلغناه من سعادة، لا يفتأ منذ مدة طويلة يضع ألغام مؤامرته ليدمر حكومتنا الحالية ظنا منه أن ذلك يمهد السبيل لعودته، ولكن الله القادر قد بعثر آماله أدراج الرياح، حيث إن كل مصري يعرف أن عودة إسماعيل معناها خراب مصر.»
3
ولقد بدأت المؤامرة بتذمر الضباط الشراكسة في الجيش مما اتخذه وزير الحربية الجديد أحمد عرابي باشا من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها ولكن لأنهم ليسوا مصريين، ومما غاظهم كما زعموا إلحاق بعضهم بالمناصب الخالية بالجيش المصري في السودان ...
والذي يقف على أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة في تعكير كل جو ترى مصلحتها في تعكيره لا يستبعد أن يكون لمن كان يقيم بمصر من الإنجليز يومئذ أثر كبير في الإيحاء إلى هؤلاء الشراكسة بهذه الآراء لكي تشيع فيهم الفتنة، ثم تجاوزهم إلى المصريين فلا تصيب الذين ظلموا منهم خاصة ...
ومما يميل بنا إلى الاعتقاد في صحة هذا القول الذي نقول - فضلا عما أسلفنا بيانه من سوابق السياسة الإنجليزية - ما رمى به الإنجليز الوزارة الوطنية من التهم على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر، وبخاصة ما ذكروه من الإفك حول الجيش وسيطرته على كل شيء.
والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت الحكومة السالفة عليها، فإن تلك القوانين تنص على وجوب إحالة المرضى والذين بلغوا سنا معينة على الاستيداع، ولقد دافعت الوزارة بهذا، ولكن الخراصين المناوئين لم يحملوا هذا العمل إلا على الرغبة في الانتقام ...
ولقد كان ممن نقلوا إلى السودان ستة وثمانون من المصريين وتسعة من الشراكسة فحسب وستة من الأتراك، فأي معنى للكيد والانتقام في هذا؟
ونحن إذا جارينا هؤلاء الكائدين لمصر وحركتها فيما زعموه من أن الوزارة متهمة فلا تصدق فيما تورده دفاعا عن عملها، فإن فيما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت في كتابه المشار إليه أقوى دليل على براءة عرابي والوزارة السامية مما اتهمت به؛ قال: «أما عن ترقية الضباط التي لا تزال تلغط بها الصحف الأوربية فاسمح لي أن أشرح لك الحقائق، فأول كل شيء إن هذه الترقيات ليست من عمل عرابي باشا وحده ولا كانت رشوة يقصد بها اجتذاب الضباط نحو عرابي، فإنها كانت نتيجة للقوانين العسكرية الجديدة التي تقضي بأن يحال على المعاش من يبلغون سنا معينة ومن يصابون بالمرض أو التقاعد أو العجز، وقد بدأ تنفيذ هذا القانون من عهد شريف باشا ووضع في قائمة الإحالة على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط، ثم أرسل ستة وتسعون إلى حدود الحبشة وإلى زيلع وأماكن أخرى، وأخرج من الجيش نحو مائة ضابط ألحقوا بالوظائف المدنية، ويبلغ عدد هؤلاء جميعا أربعة وخمسين وسبعمائة ضابط، فكان من الطبيعي إذن أن تجرى ترقيات لملء المناصب الخالية، ولا يزال في الجيش خمسون منصبا يحتفظ بها لخريجي المدرسة الحربية.»
هذا ما ذكره الشيخ محمد عبده ومنه يتبين الحق في هذه المسألة. على أننا لو فرضنا أن عرابيا قد آثر المصريين بالرقيات وتخطى بذلك نفرا من الشراكسة، فلن يكون في رأينا مخطئا حتى في هذا العمل. فحسب هؤلاء الشراكسة ما نالوه من حظوة طوال العهود السابقة، وبخاصة في عهد رفقي، وذلك على ما كانوا يضمرونه وما كانوا يبدونه من حقد واحتقار لمصر والمصريين، وحسب المصريين وهم أبناء البلاد الذين تجبى منهم الضرائب ما ذاقوا من هوان ومذلة على أيدي هؤلاء السادة الذين استنزفوا دماءهم، واتخذوا منهم عبيدا وإماء ...
وماذا كان ينتظر من عرابي غير أن يطبق القانون، وهذا أقل ما يفعله رجل هو زعيم ثورة كان هذا القانون ثمرة من ثمارها؟ ماذا كان ينتظر من ذلك الذي ظل طول عمره ناقما على حرمان المصريين في الجيش واستئثار الشراكسة فيه بالخير، فلم يكف عن الشغب على هؤلاء الشراكسة الباغين منذ أن كان جاويشا ليس له من الأمر شيء ولم يفتر عن مقاومتهم ومصاولتهم في كل خطوة خطاها في سلك الجيش حتى انتهت إليه زعامته؟
أجل، ماذا كان ينتظر من هذا الرجل، وما كان حقده على هؤلاء في يوم ما صادرا عن صغار أو أنانية، وإنما كان مبعثه ما يحس في أعماق نفسه من حماسة وطنية وغيرة قومية هما في مقدمة ما كان يتصف به من صفات؟!
ومهما يكن من الأمر فما كان عمل عرابي في أية صورة له، مما يقابل بالقتل! ولا كان تقديم المتآمرين إلى المجلس العسكري مما يستأهل كل ذلك السباب الذي راحت تنبح به جوقات الاستعمار، وهل نسي هؤلاء أن عرابيا وصاحبيه قد قبض عليهم في صورة مخزية غادرة تبعث على الاشمئزاز والسخرية، لمجرد أنهم تقدموا ليرفعوا شكواهم إلى أولي الأمر مما كانوا يحسونه من إجحاف بحقوقهم دون أن يفكروا في قتل أحد أو العدوان على أحد؟
وكيف لا يستحي دعاة الاستعمار من أن يلوموا هذا الرجل بالأمس ويتهموه بالفوضى لمجرد أنه شكا أمره إلى رؤسائه، حتى إذا قبضت الحكومة عليه عد ذلك منها عين الصواب، ثم يعودون اليوم فينددون به ويستصرخ بعضهم بعضا عليه لا لشيء إلا لأنه يقدم إلى المحاكمة فريقا ممن يتآمرون على قتله! ألا ما أشد ما تحسه النفس من ضيق وغيظ تلقاء هذه المقارنة بين الموقفين!
واتت الفرصة كلفن ومالت وأشياعهما من الثعالب وبنات آوى، وهيهات أن تواتي الإنجليز فرصة فيضيعوها، لذلك ما كان أسرعهم إلى استغلال الحادث فبدأوا أولا يذكرون التعصب الأعمى، ثم انتقلوا إلى ذكر الفوضى الحكومية، وعدوا ترقية الوطنيين مظهرا من مظاهر الرشوة التي أريد بها التأثير في رجال الجيش كي يكونوا على استعداد عند أول صيحة، ثم رأوا في محاكمة الشراكسة مظهرا من مظاهر الظلم والاستبداد الغاشم قائلين في منطق عجيب ليس مثله في معنى الصفاقة والتبجح: إن المؤامرة وهمية لم توجد إلا في رأس عرابي، وإن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الشراكسة بأي وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير به عرابي، لذلك جاء حكمها في منتهى القوة بحيث لا يقل عن الإعدام، ولم يكفهم ذلك حتى يدعوا في جرأة وفي إمعان في القحة أن عرابيا كان يذهب إلى السجن فيعذب هؤلاء الشراكسة أيام المحاكمة ويشفي غليل نفسه بمنظر ذلتهم وخضوعهم ...
ولقد جعل الأفاكون الخراصون هذه المحاكمة من أكبر سوءات ذلك العهد ومن كبائر خطيئات عرابي، وحذا المؤرخون من الإنجليز حذو الساسة في موقفهم من هذه المسألة، وما كان ينتظر منهم أن يفعلوا غير ذلك، ومن هؤلاء كرومر، وهو رجل كان بحكم صلته برجال ذلك العهد جميعا يعلم حقيقة الأمر، ومع ذلك طاوعه ضميره على أن يقول في كتابه «لم يظهر دليل جدير بالتصديق ولا ظهر دليل على أن تهمة المؤامرة كانت تهمة حقيقية، وكان حكم المحكمة العسكرية وثيقة وحشية تحمل طابع المظاهرة السياسية أكثر مما تحمل طابع الحكم القضائي، وكان عرابي كثير الظنون شأنه في ذلك شأن كل جاهل من الرجال، ولم تعش المؤامرة على قتله إلا في خياله هو فحسب.»
هذا الذي شاء أدب كرومر أو على الأصح شاءت سخيمته أن يكتبه مع علمه باعتراف بعض المتآمرين بالتهمة ...
ولقد أخذ بعض المؤرخين من المصريين هذا الكلام المرسل على عواهنه وشايعوا الإنجليز - وا أسفاه - في رأيهم هذا في عرابي كما شايعوهم في غير هذا من الآراء، الأمر الذي يؤلم النفوس أكبر الألم، فليس يعنينا ما يقول خصوم الوطن وخصوم عرابي، ولكنا نضيق كل الضيق أن تجوز الأباطيل على المصريين في رجل منهم، ومن هنا ضاع تاريخ عرابي وأنكره بنو قومه، ونجح الاحتلال في مآربه فساق الجيل الذي خلف جيل عرابي كما يحب، فأضاف هؤلاء إلى عيب خضوعهم للدخيل فضيحة مشايعته فيما يسبهم به في شخص بطل من أبطالهم! ...
ويجدر بنا أن نضع أمام عيني القارئ بعض ما كتبه الشيخ محمد عبده تعقيبا على المؤامرة ... قال في كتابه إلى بلنت: «كانت الوزارة يخالجها منذ زمن طويل شبهات عما عسى أن ينجم من شر، فمنذ أن عاد راتب أول مرة إلى مصر، طلب البارودي رئيس الوزراء الحالي وكان يومئذ وزير الحربية، من شريف باشا في حضرة الخديو إخراج راتب، فقد داخلته الريبة بسبب أن راتبا ترك الخديو السابق فجأة في نابلي، ولكن شريفا رفض ذلك على الرغم من أن البارودي حمله تبعة ما عسى أن يقع من الحوادث يوما ما، وكان ذلك لأن راتبا كان صهر شريف، وربما كان شريف لذلك يرى رأيه في العمل على إعادة إسماعيل.»
ثم قال الشيخ محمد عبده: «وقد أحدث هذا الحادث شيئا من الهياج بين عامة الناس. إن كل امرئ يعلم أن حياة عرابي معرضة للخطر كل يوم كحياة غيره، كما أنه لا يتفق لرجل مهما يكن من عظمته ألا يكون بين الناس من يريده بالسوء، ولكننا لا يسعنا إلا أن نضحك إذا أعلن أن إنجلترا على وشك الفوضى لأن أحد المجانين من المدنيين أو من العسكريين حاول قتل ملكتكم.»
وليت هؤلاء المغرضين قد اقتصر أمرهم على الكذب والاتهام، فلم يخطوا تلك الخطوة النكراء التي أكدت القطيعة بين الخديو والوزراء وعجلت الكارثة للبلاد، وما كانت ادعاءاتهم إلا مقدمة بدأوا بها ما كانوا يبيتون من المكر السيئ ... يقول في ذلك بلنت: «وفي تلك الأثناء بلغت الحوادث في مصر مبلغا عظيما من الحرج بسبب المؤامرة الشركسية التي وصلت أنباؤها لندن في الأسبوع الثالث من أبريل، ولم أعرها أول الأمر كثيرا من الاهتمام، وأخذتها على أنها إحدى الشائعات التي كانت تذاع يومئذ، ولكن سرعان ما أصبحت ذات خطر كبير لا من حيث هي في ذاتها، ولكن بوجه خاص لأنها أمدت رجالنا السياسيين بالفرصة التي طالما ترقبوها، لكي يوقعوا الخلاف الصريح بين الخديو ووزرائه، وكان مالت يومئذ قد خضع تمام الخضوع لكلفن، وصار منذ ذلك الحين يهتدي في حركاته حتى النهاية بما يعرض كلفن من آرائه الإنجليزية الهندية.»
عرض قرار المحكمة العسكرية على الخديو فأسقط في يده، أيوافق على هذا الحكم فيظهر أمام الإنجليز أنه يظاهر وزراءه فيخسر الذين يظاهرونه هو، أم يرفض التصديق عليه فيرضي الإنجليز ويقضي على كل أمل في إرضاء عواطف الوطنيين؟
وكان مالت قد أشار عليه برفض هذا الحكم الذي ينطوي على القسوة والظلم على حد قوله، وللقارئ أن يقدر مبلغ ما في هذا التدخل من تطفل وقحة؛ إذ ما شأن مالت وهذا الحكم مهما كان ظالما كما يزعم؟ وإنهم ليعلمون أن جلسات المحاكم العسكرية كانت سرية حتى في عهد المراقبة، وأن الخديو لا يملك رفض أحكامها، وكل ما له من حق في هذا الصدد هو تخفيف تلك الأحكام بعض الشيء بعد التصديق عليها ...
حار توفيق واشتدت حيرته ورأى الأمر جد خطير، وأي شيء أخطر من أن يتحدى وزراءه في غير حق وفي موقف كهذا تحيط فيه بهم الدسائس من كل جانب ويعترض طريقهم من الصعاب ما يتطلب تذليله جهودا متواصلة.
لذلك وقف الخديو أول الأمر موقفا مبهما، وسرعان ما شاعت الشائعات عنه من ناحية، وعن الوزارة من ناحية أخرى، وكلما مر يوم ازدادت ريبة الوطنيين وتعاظم غيظهم وغضبهم، ووجدت الدسائس الجو الصالح لنجاحها، فنشطت نشاطا كبيرا، ولازم مالت الخديو يوحي إليه ويوسوس له.
ولم تطل حيرة توفيق؛ فإنه آثر جانب مالت، وخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجل سير الحوادث أبدا نحو الغاية التي رسمها الإنجليز والتي كان بلوغها من جانبهم معناه التهام مصر وازدراد تلك اللقمة التي طالما منت إنجلترا نفسها بازدرادها ...
ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعا، فهو الذي أدى إلى انضمام الحزبين العسكري والوطني وتضافرهما يوم تنكر للدستور، وأخرج شريفا من الوزارة، وهو الذي تقع على عاتقه قبل غيره مسؤولية مظاهرة عابدين، ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحبط أعمال شريف للمرة الثانية وصدم الوطنيين صدمة لم تدع لهم بعد رجاء فيه.
وليس بعجيب أن تكون خطى توفيق كلها مفضية إلى الاقتراب من الكارثة، فهو إنما يعمل بوحي من الإنجليز. وقد عين هؤلاء الهدف الذي يقصدون إليه بسياستهم، وكان الخديو قد دان بمبدأ نحسب أنه جرى في نفسه مجرى العقيدة، وذلك أن يؤثر جانب الإنجليز في كل شيء لأن في ذلك كما توهم منجاته من الصعاب التي كانت تحيط بعرشه.
رأى الخديو كما أوحى إليه مالت أن حكم المجلس العسكري على المتآمرين من الشراكسة حكم لا يسعه الموافقة عليه، ورأت الوزارة من جانبها أنها سلكت في المسألة منذ بدايتها مسلكا لا غميزة فيه، فهي بذلك تتمسك بالحكم الذي أصدره المجلس، هذا إلى أن رفض الحكم من شأنه أن يضيع هيبتها وينتقص من نفوذها، ثم إنها إلى ذلك ترى التحيز واضحا من جانب الخديو، ذلك الذي كان يتشدد بالأمس أعظم التشدد يوم سيق عرابي وصاحباه إلى السجن لا لشيء سوى أنهم شكوا إلى أولي الأمر حالهم ... ومن هنا قامت أمام البلاد مشكلة من أدق المشاكل وأخطرها ...
وكان الذي يغضب الأمة والوزارة في الواقع أشد الغضب وآلمه تدخل الإنجليز في تلك المسألة التي لا صلة لهم بها ولا شبه صلة، وأحست الوزارة أن غرضهم هو إحراجها فحسب، ومن هنا اتخذت المشكلة مظهرا دقيقا غاية الدقة، خطيرا كل الخطر، فلقد وجد الوطنيون البلاد تلقاء موقف ... تمتحن فيه الكرامة الوطنية، والعزة القومية، ورأوا الظروف تعود من جديد فتظهر للخديو أن لا سبيل له إلا سبيل الوطنيين لأنه بانحرافه عن هذه السبيل إنما يطعن البلاد طعنة نجلاء في صميم قوميتها.
ولقد فرح المستعمرون لا ريب أن تتعقد المشكلة على هذا النحو، وزاد فرحهم أنها من صنع أيديهم، لذلك كانوا لا يألون جهدا في العمل على تفاقمها بكل ما وسعهم من مكر وخبث، وراحت صحفهم تزيد نار الخلاف اشتعالا لا تتورع ولا تتوانى، ومن ورائها رجال السياسة ورجال المال يصورون مصر في أشنع حالات الفوضى والاضطراب، فلقد سيطر رجال العسكرية وسيطر زعيمهم عرابي على كل شيء حتى ما يقف في طريقه حائل من قانون أو التزامات حتمتها الديون والظروف على مصر ...
وكان الخديو في الواقع تلقاء آخر فرصة يستطيع أن ينقذ بها مصر مما كان يبيت لها، ولكنه ألفى نفسه سليب الإرادة أمام إرادة الإنجليز، بل إنه في الحق قد فرح أن يلطم وزارة البارودي لطمة يتخلص بها منها ويتخلص من عرابي الذي بات يغار منه أشد الغيرة ويمقته أشد المقت حتى ما يطيق أن يسمع اسمه.
وليت توفيقا تحرك من تلقاء نفسه، إذن لهان الخطب وخفت وطأة البلوى على النفوس، فقد كان يمكن أن يقال يومئذ إنه ارتأى رأيا، وإنه ينتوي الخير أو ينتوي الشر حسبما يرى، ولكنه وا أسفاه كان يقوى على الوطنيين بضعفه، فلم يكن يريد شيئا وإنما كان يراد له كل ما يأخذ أو يدع من أمر ...
وبدا لمالت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب، وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به مالت فزاد الأمور ارتباكا وتعقيدا.
ولقد أخطأ مالت خطأ كبيرا فيما أشار به، فإنه جرجر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذره الدولتان أعظم الحذر، وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه ...
أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضربا جديدا من لؤم مالت، فأجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن أعلن في عزم وتصميم: «أنه إذا أرسل الباب العالي أمرا بنقض حكم المجلس العسكري على الشراكسة السجناء، فإننا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردهم بالقوة إذا لزم الأمر.»
4
وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدها من أخطائه، فلقد أفضى بهذا التصريح إلى مالت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلا على أن الأمور قد بلغت غاية الحرج، ثم إنه يسوقه من جهة أخرى دليلا على صحة ما ذكره مرارا وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينج عرابي من حملات الكائدين له، وحمل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعد الحاكم الحقيقي للبلاد! ...
الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلا عما ذكرنا، إنما يتحدى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدوا جديدا، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستل السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء من يكونون له في الشدة قوة وسندا.
وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو، فلقد رأى توفيق أنه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء، فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف في وجه السلطان نفسه فكيف إذا جاءت المعارضة من الخديو؟ وهذا هو المعنى الذي لا يفتأ مالت وأعوانه يوحونه إلى الخديو في تلك الأزمة العصيبة.
ولو كانت الوزارة أصرت يومئذ على موقفها من العناد والصرامة لحملت قسطا كبيرا من التبعة عن تعقد الأمور وتحرجها، ولكنها ما لبثت أن خطت خطوة حميدة حقا كانت تنطوي على كثير من الكياسة وبعد النظر، فإنها تقدمت إلى الخديو تقترح أن يخفف هو الحكم من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها. والوزارة ترضى أن ينفى المحكوم عليهم من مصر إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم، وإنما تستبعد أسماءهم من سجلات الجيش المصري ...
وهذا المقترح لا ريب دليل صادق على حسن نية الوزارة ورغبتها في أن تنتهي المسألة وتنجو البلاد من كيد الأعداء، وهي فيما تقدمت به على هذا النحو متساهلة في الواقع أكبر التساهل، فما دام المجلس العسكري قد حكم بإدانة هؤلاء فإن إبعادهم من البلاد يقتضي إبعادهم من سجلات الجيش، ولكن الخديو وا أسفاه قد تنمر وتنكر، فرفض أن يجيبها حتى إلى هذا الاقتراح ...
وكان مالت من ورائه لا ينفك يوسوس له ويزين فعل السوء، وكان جرانفل قد أنكر من مالت ما أشار به على الخديو من دعوة تركيا إلى التدخل، فكتب إليه أن يسير على وفاق مع ممثل فرنسا، وفي هذا تلميح إلى ما كان في سياسته من خطأ، وكان ممثل فرنسا يسير بوحي من فرسنيه، ولكن عز على مالت أن يتراجع بعد هذه الخطوات فينقض ما نسجه من غزل بيده، فانظر إليه كيف يخلع النقاب على صورة قل أن يوجد مثيل لها في سجل السياسة العام فيكتب إلى جرانفل قائلا: «اسمحوا لي أن ألاحظ أنه عند النظر في الخطة التي يجب أن يسلكها الخديو بإزاء حكم المجلس العسكري يجب أن نلقي نظرة عامة على الحال كلها، وأن نذكر أن الوزارة الحاضرة تسعى لتضييق نطاق الحماية الإنجليزية الفرنسية، وأن نفوذنا آخذ كل يوم في النقصان، وقد يستحيل علينا أن نستعيد سلطتنا العليا حتى تخضد شوكة الحكم العسكري الذي يرزح القطر تحته الآن، وفي اعتقادي أنه لابد من حدوث ارتباكات شديدة قبل الوصول إلى حل مرض للمسألة المصرية، وأن الحكمة تقضي باستعجال هذه الارتباكات لا بتأجيلها.»
5
وأي كلام يمكن أن نعلق به على هذا الذي يقول مالت، وبخاصة تلك الحكمة التي يشير إليها؟ أهكذا تطغى المطامع على القول والقلوب حتى تجعل من الحكمة استعجال الارتباكات؟ ولكن خرافة الذئب والحمل لن تزال أبدا الأساس الذي يقوم عليه منطق الكلام بين القوي والضعيف في هذا الوجود!
وأي دليل أبلغ من هذا على صحة ما ذكرناه وما يذكره كل منصف عن السياسة الإنجليزية تجاه مصر منذ كان لها في هذا الوادي أطماع؟ ألا إنا لنقرر تلقاء هذا في غير تردد أن هذه السياسة اللئيمة كانت خليقة بأن تقابل من جانب الوطنيين بكل مقاومة، بل إنها لسياسة كان يغتفر في مقاومتها يومئذ كل عنف، ويجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إنها سياسة كان لا يغتفر معها الاعتدال ولا تمتدح الحكمة، إن كان الاعتدال والحكمة معناهما إقرار المذلة ومقابلة الغدر واللؤم بالصفح والمغفرة!
ولكن بعض الناس لا يزالون يأخذون على عرابي وحزبه تشددهم وعدم مصانعتهم خصومهم، ويعدون إباءهم الوطني من السيئات التي لا تغتفر ولا تنسى، وما نظن أن هؤلاء الناس يعلمون ما كانت تبيته السياسة الإنجليزية لوطنهم من غدر وإذلال، فمن أصعب الأمور أن يتصور المرء قبولهم الذلة على أوطانهم حتى ينكروا على الوزارة ما فعلت ...
ورأى جرانفل أن يشايع فرسنيه في هذه المسألة، وكان يرى فرسنيه أن يخفف توفيق الحكم كما ترى الوزارة فتنتهي الأزمة، ولكن كيف يدع مالت الفرصة تمر وهي من صنع يديه؟ وكيف يطيق أن تخرج الوزارة من الأزمة ظافرة فيكون ظفرها في الواقع هزيمة له؟ لذلك لم يزل بتوفيق حتى وقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد لا إلى السودان مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش، ومعنى ذلك أن النفي مؤقت ...
وتلقت الوزارة اللطمة وتلقتها معها البلاد، وآلم عرابيا وضباط الجيش من الوطنيين هذا الترفق بالمتآمرين، وقد كان عرابي ومن شايعه على وشك أن يفقدوا رؤوسهم بالأمس أو ينفوا إلى أقصى السودان لأنهم شكوا من سوء ما صنع بهم رفقي ...
وأعلنت الوزارة على لسان رئيسها أن لابد من قرار يلغي هذا القرار حتى تمحى الإهانة التي وجهت إلى الوزارة وإلى البلاد في شخصها، ولكن مالت حذر الخديو أن يجيب وزراءه إلى ما طلبوا، ويستطيع القارئ أن يدرك خطورة هذا الموقف، فلقد تأكدت القطيعة بين الخديو ووزرائه، وانعدمت الصلة وتفاقم البلاء ...
وصل كل من الطرفين إلى الموقف الذي يفسر فيه كل عمل حسب ما يجري في أطواء النفوس، ففي كل حركة ريبة، وفي كل بادرة إهانة، وكل نية لن تكون إلا نية سوء، وكل جنوح إلى السلم لن يؤخذ إلا على أنه ضرب من الهزيمة والتسليم، وكل كلمة نابية أو شديدة لن تفهم إلا على أنها نوع من التحدي يراد به إعنات القلوب وإحراج الصدور ...
وفي هذا الموقف راح مالت يجني ثمار غرسه وإنه ليطفر من الفرح كما يطفر الشيطان. كتب إلى جرانفل في اليوم الثامن عشر من شهر مايو سنة 1882، أي بعد قرار الخديو بتسعة أيام يقول: «لقد انقطعت الصلة بين الخديو ووزرائه، ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة ...»
وتقدمت الوزارة لترد على الخديو فخطت خطوة جريئة بالغة الجرأة، فدعت مجلس النواب من عطلته دون الرجوع إلى الخديو لتعرض عليه الأمر، فازدادت الأمور حرجا على حرج، فلقد عد أعداء البلاد هذا العمل من الوزارة بمثابة خروج على الحاكم الشرعي لا يقل في مغزاه عن خلعه عن عرشه، ونسوا أو تناسوا أن الخديو باتباع مشورتهم هو الذي دفع الوزارة حتى أوقعها في مأزق ضيق بحيث لم يبق أمامها إلا أن تقر الخديو على خروجه على الدستور ومشايعة أعداء البلاد أو تستقيل، وفي كلا الأمرين تفريط منها في حقوق البلاد فضلا عن كرامة رجالها ...
وانطلقت الشائعات من هنا ومن هناك، فالبارودي يريد أن يثب إلى العرش، والجيش على أهبة لأن يتحرك إلى عابدين ليرغم توفيقا على قبول مطالب الوطنيين كما أرغمه على مثل ذلك في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الماضي، والخديو يعد العدة للمقاومة، إلى غير ذلك من الأراجيف التي كان من طبيعة ذلك الموقف أن يخلقها.
ولو كانت الروح العسكرية هي المسيطرة على الحكم يومئذ كما أرجف المرجفون لما وقف دون الجيش حائل إلى القصر، وليكن بعد ذلك النصر أو الطوفان، ولكن الوزارة رأت أن تحتكم إلى نواب البلاد، ولما كانت واثقة أن الخديو لن يدعو المجلس دعته هي ليفصل في الأمر، ولا عبرة بالشكل في سبيل تحقيق الجوهر ...
وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره في دعوة المجلس دون الرجوع إلى الخديو، فكان جوابه أن الخديو قد نشأ الخلاف بينه وبين وزرائه بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، ولذلك فقد دعى المجلس دون مراعاة سلطته في هذا، ثم قال: «إن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكا يقضي على استقلال مصر، وكثيرا ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه.»
6
والحق أن توفيقا كان يود التخلص من هذه الوزارة بأي ثمن، وكان فيها البارودي الطامع في عرشه، وعرابي زعيم مصر وقائد حركتها القومية، الذي يسير بطبيعة حركته في طريق تعد عند الخديو طريق الضلال والعصيان، وتعد كل خطوة فيها ثورة وتكبرا، وأي شيء هو آلم لنفسه من أن يرى فلاحا من أبناء هؤلاء الذين ما خلقوا في رأيه إلا للفأس والطاعة يتربع على كرسي الوزارة، ويتكلم إذ يتكلم باسم الأمة، ويقبل ما يقبل أو يرفض ما يرفض باسم الأمة؟ ...
ولقد عاب كثير من الناس على البارودي وعرابي مسلكهما تجاه الخديو في الأزمة، وحجتهم أن الواجب كان يقضي على البارودي أن يترك الحكم ما دام الخلاف قد استحكم بينه وبين الخديو، ولقد يبدو هذا الكلام وجيها لمن ينظرون في النتائج دون تمحيص المقدمات، أما الذين لا يصدرون حكما إلا عن تقص وفهم، فهم لا يذهبون مذهب هؤلاء، ولا يقيسون قياسهم.
وليست المسألة دقيقة على الأفهام حتى تتشعب فيها وجوه الرأي، فحسب هؤلاء العائبين على الوزارة مسلكها أن يذكروا أن الخديو كان يعمل بوحي من الإنجليز، وعلى ذلك فإجابته لن تكون إلا تسليما لأعداء البلاد، الأمر الذي لن يقبله وطني ...
ولو أن الأمر كان خلافا بين الخديو ووزرائه، وكان الخديو يريد وجه الوطن، فالسبيل واضحة أمامه، وذلك أن يحتكم إلى الأمة ممثلة في مجلسها النيابي، ويجعل للمجلس عن طيب خاطر القول الفصل في الخلاف.
وهل كان يحمد من الوزارة أن يكون قصارى جهدها الاستقالة من الحكم، وإنها لفي موقف جهاد ومقاومة لدسائس الدساسين ومطامع الطامعين، وإن الخلاف بينها وبين الخديو في جوهره لخلاف على السلطة لمن تكون؟ ... كلا، بل إنا لنرى استقالتها في مثل تلك الظروف ضربا من الفرار ومثلا من أبلغ أمثلة الضعف، وبخاصة إذا سلمنا بموقف الخديو من القضية كلها على النحو الذي نذكره والذي لن نجد دليلا على صحته أبلغ مما ذكره كرومر في كتابه حيث يقول عن الخديو: «إنه بين للسير إدوارد مالت في يوم 6 مايو أنه يؤثر أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى.»، ومعنى ذلك أنه كان يريد أن تطلق يده في مصر فيحكمها كما يشاء ولا عبرة في سبيل الوصول إلى هذا الغرض بما تفقد مصر مما حصلت عليه من امتيازات خطت بها خطوات واسعة نحو الاستقلال ...
لم يكن أمام الوزارة إلا أن تحتكم إلى نواب الأمة، وقد لجأت إلى ذلك بدعوة المجلس إلى الاجتماع ما دام الخديو لم يدعه ...
ووقف وزارة البارودي لا تتحول ولا تلين، فكان موقفها هذا ثورة لا شبهة فيها، ثورة قومية كأروع وأجمل ما تكون الثورات القومية، وهو موقف نراه جديرا بالإعجاب والتقدير، وما نحسبه لو كان في بلد غير بلدنا إلا كان يعد من المواقف المشهودة التي تذكر في مواطن الفخر والمباهاة ...
وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر لأنها كانت معتزة بالنواب وإجماعهم على الأخذ بناصرها، ولكنها نظرت فإذا بينهم تغامز وفي صفوفهم إسرار وإعلان! وإذا كبيرهم سلطان يدعوهم إلى الحكمة والروية ... وكم تحمل على الحكمة والروية أعمال ليست منهما بسبب من الأسباب!
قال سلطان باشا يومئذ للسير إدوارد مالت: «لقد أسقط المجلس شريفا تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة وقد استبان لهم أنهم خدعوا.»
7
ولو اطلع عرابي على الغيب يومذاك لرأى أن هذه أخف ضربة من ضربات سلطان هذا الذي بدأ يتنكر للحركة القومية، تلك الضربات التي سوف يسددها إلى قلب مصر في ضجيج الجهاد وسكرات الاستشهاد ...
انحاز سلطان إلى توفيق منذ ذلك الوقت، فطلب من النواب الحكمة والروية، وما نلقي هذا القول على عواهنه فهذا كلامه لمالت الإنجليزي عدو مصر اللدود ينبئ عن ذلك؛ إذ إنه يكشف الوزارة أمام الكائدين لها من الإنجليز ويجعلهم يستهينون بما تستند إليه من سلطة الأمة.
وكتب مالت إلى حكومته في اليوم الثالث عشر من شهر مايو يصف الحال في مصر، أو على الأصح يصف مبلغ ما أصابته من نجاح دسائسه الإجرامية، قال: «يظهر أن رئيس المجلس والنواب يميلون إلى جانب الخديو، ولقد سألوا سموه أن يأخذ بالعفو فيصالح وزراءه، ولكن الخديو رفض ذلك ... ويصر سموه على رأيه فلن يصالح وزارة تحدته صراحة وتهددته هو وأسرته، واعتدت على القانون بدعوة المجلس إلى الانعقاد دون الرجوع إليه، وفي القاهرة قدر غير قليل من القلق، وكثير من الناس يغادرونها.»
8
إزاء موقف السلطان وفريق من النواب انخلع عن رئيس الوزراء عزمه، وتزايل إصراره شيئا فشيئا، حتى رأت البلاد البارودي يرفع إلى الخديو استقالته فيرتكب بذلك إثما نعيبه عليه أشد العيب، فقد كان عليه أن يستطلع رأي النواب صراحة في جلسة يعقدونها، فإذا ناصروه كان عليه أن يبقى في مكانه حتى يقال فيحظى بشرف الإقالة أو ينتظر فيكون له فخر الانتصار ...
لقد رفض النواب أن يجتمعوا في مجلسهم، أي أنهم رفضوا أن يشايعوا الوزارة في تحديها الخديو، واجتمعوا في منزل رئيسهم، ولكن هذا أمر شكلي لا يمس جوهر الموضوع، فالأمر الذي كان يهم الوزارة هو معرفة رأي ممثلي البلاد، وسواء لديها اجتماعهم في مجلسهم أو في أي مكان، فليس ثمة من فرق بين الاجتماعين إلا أن هذا رسمي وذاك غير رسمي، ولم يكن المجال يومئذ مجال شكليات، وقد جرى الخديو في مضماره الذي اختاره على الرغم من إرادة البلاد، وهل كان نواب الشعب الفرنسي الذين التقوا في ملعب التنس في مستهل ثورتهم الكبرى لا يعبرون عن رأي الشعب لأنهم لم يجتمعوا في قاعة مجلسهم؟ •••
الحق أن البارودي قد هدم ما فعل جميعا باستقالته هذه، ولو أنه نال شرف الإقالة، لكان منطقه متسقا، ولأضاف بذلك إلى نفسه وإلى وزارته معنى من معاني الإباء، وحمل الخديو والموحين إليه وزرا جديدا يضاف إلى سابق أوزارهم.
وعجز الخديو عن أن يقيم في مصر وزارة، فقد أشفق من الحكم الرجال يومئذ، وأشفق مصطفى فهمي باشا حين عرضت عليه رئاستها عملا باقتراح ممثلي إنجلترا وفرنسا الذين صار لهما الآن حق إسقاط الوزارة إلى من يرضيان عنهم في مصر.
وصرح الوزراء على الرغم من استقالة رئيسهم أنهم لا يستقيلون إلا إذا كان ذلك بأمر من مجلس النواب.
هنا يعود عرابي فيثب إلى مكان الصدارة من حوادث قومه بعد أن تنحى البارودي، ولقد كان عرابي في الواقع في رأي الناس وفي رأي الأوربيين في مكان الصدارة دائما وإن كانت رئاسة الحكومة للبارودي ...
عاد عرابي فوثب إلى الطليعة، وقد ضاق البارودي بالأمر ذرعا، فهو الذي أوحى إلى الوزراء بما فعلوا وقد عز عليه أن يبعد الوزراء عن مناصبهم بمشيئة غير مشيئة الأمة، وتلك خطوة أخرى نضيفها في غبطة وفخر إلى سابق خطواته ... •••
ووقف عرابي في مكانه لا يتزعزع وما كان أصلبه وأشد مراسه إذا وقف في أمر يرى أنه الحق، ولقد المبطلون وقفته هذه أنها عودة إلى الثورة المسلحة يوشك أن يفاجئ البلاد بيوم آخر كيوم عابدين، فما حفل بكلامهم ولا خشي تهديدهم، وكتبت الحكومات إلى ممثليها في مصر أن «يرسلوا إلى عرابي فيبلغوه أنه أصاب النظام خلل فسوف يجد أوربا وتركيا كما يجد إنجلترا وفرنسا ضده، وأنهم يحملونه تبعة ذلك.»
9
وتلقى عرابي هذا الكلام رابط الجأش، وإن كان ليفطن إلى خطورة الموقف، وأصر ذلك الفلاح الذي لولا ما كان من حميته وأنفته منذ حداثته لكان يجيل الفأس يومئذ في حقل من حقول هرية رزنة ولا يدري من أمر السياسة والحكم شيئا ...
وظل الرجل على عناده يكشف عن كرم عنصره فيفهم يريد أن يفهم أن بين أولئك الفلاحين من أمثاله الذين يجيلون فؤوسهم في صبر وصمت في حقول هذا الوادي لا ينقصهم إلا العلم والحرية ليبهروا العالم ببسالتهم ونبوغهم ...
وصرح سلطان وقد أخذ يكيد للبارودي وعرابي معا «إنه ليس من الممكن تغيير الوزارة ما دامت القوة الحربية مجتمعة في يد عرابي باشا.»
10
ولم يكن يدري سلطان أن وراء تلك القوة الحربية قوة أخرى لولاها ما قام غيرها. لم يكن يدري سلطان أن هذه القوة الحربية التي يشير إليها كانت قائمة في مصر من قبل، فلم يظهر أثرها وخطرها إلا في يد عرابي دون غيره من الرجال، ولو أن رجال وطنه جميعا التفوا حوله ما نالت إنجلترا منهم شيئا، ولسوف يكون سلطان هذا وأمثاله ممن نكبت بهم مصر، من أكبر عوامل الهزيمة يوم التل الكبير. •••
حلت الأزمة بأن أشار ممثلا إنجلترا وفرنسا على الخديو «بأن يطرح المسائل الشخصية جانبا، وبما أن سموه لم يستطع أن يقيم وزارة جديدة فإنهم يطلبون إليه أن يجدد علاقته بالوزارة القائمة».
وبقيت الوزارة في كراسيها، وانتصرت كلمة الأمة من جديد على يد ذلك الذي خرج من هرية رزنة ولم يلق إلا قسطا من العلم في الأزهر، والذي درج على الرغم من ذلك في مدارج الرقي، فكان نموه كما تنمو الشجرة الطيبة لا كما ينمو العليق الذي لا يرتفع إلا على غيره ...
ولولا ذوو الأطماع من المتربصين بمصر وحرية مصر لجنت البلاد من هذا الانتصار أطيب الثمرات ولعزت بذلك كلمة الأمة حتى ما تذل بعدها أبدا ...
ولكن مصر وا أسفاه سوف تجني من انتصارها هذا العلقم والحنظل.
بغي وعدوان
وكيف كانت ترجى لمصر السلامة، والإنجليز وراء الخديو يتربصون ويكيدون؟ لقد آن لمالت الآن أن يدعو حكومته إلى التدخل المسلح فقد حانت الساعة وواتت الفرصة، ولن يهم إنجلترا أن تكون هي المدبرة لكل ما حدث فلن يكون احتجاج الضعفاء إلا صرخة ضائعة ولن يكون منطقهم إلا ثرثرة، وشكواهم إلا تبجحا.
لم تكن في البلاد ثورة ولا خاف فيها أجنبي على حياته أو متاعه، ولكن أعوان السوء صوروها يومئذ صورة منكرة انزعجت منها أوربا أشد الانزعاج ، مع أن هؤلاء كانوا يعلمون حقيقة الأمر ويوقنون أن المسألة لا تعدو أن تكون خلافا بين الوزارة والخديو ما كان ليبلغ ما بلغه من الشدة لولا تدخلهم على ذلك النحو الأثيم الذي بينا.
لم تكن البلاد في مثل تلك الحال من الفوضى التي ذكرها المبطلون، وحسبنا أن نورد هنا بعض ما جاء في كتابين أرسلهما عرابي باشا أن نورد هنا بعض ما جاء في كتابين أرسلهما عرابي باشا إلى مستر بلنت، وكان ذلك في أوائل شهر أبريل أي قبل الأزمة التي نحن بصددها بنحو شهر، قال عرابي: «وفيما يتصل بنا فنحن نشكرك على ما أسديت من صنيع يهم مصر وإنجلترا معا، وإنا نأمل أن تكون إنجلترا أقوى صديق يعيننا على وضع نظام طيب مؤسس على الحرية وعلى أن نحذو حذو الأمم الحرة المتمدنة.
وأما عن نصيحتك التي تعطفت فأسديتها إلينا، فإنا نشكرك عليها، ونرجو منك أن تقول عنا إننا لا نألوا جهدا في المحافظة على الهدوء والنظام، لأننا نعد ذلك واجبا من أهم واجباتنا، وإنا لنحاول أن نحظى بالنجاح، ونستطيع أن نؤكد لك أن الهدوء الآن يشمل كل شيء، والسلام يسود البلاد كلها، ونحن نبذل غاية ما في وسعنا ومعنا إخواننا الوطنيون للدفاع عن حقوق من يقيمون في بلادنا، بصرف النظر عما ينتمون إليه من الأمم، وإنا نحترم كافة المعاهدات والاتفاقات الدولية كل الاحترام، ولن نسمح لأحد بالمساس بها ما دامت الدول الأوربية تحافظ على علاقاتها الودية بنا ...
أما عما يهددنا به كبار أصحاب المصارف ورجال المال في أوربا، فإنا سنحمل ذلك في ثبات وحكمة، ففي رأينا أن ذلك الوعيد لن يضر إلا أنفسهم وإنه ليؤذي تلك الدول التي يضللونها.
وإن غرضنا الأوحد هو أن تتخلص بلادنا من العبودية والظلم والجهل، وأن نرفع بني مصر إلى مستوى يستطيعون معه أن يحولوا دون أي رجعة للاستبداد، الذي كان يضع مصر فيما سلف من الأزمنة في زوايا الإهمال ...
وإن هذا الذي أكتبه إليك هو ما يفكر فيه كل مصري حر العقل محب لبلاده ...»
هذا ما يقوله عرابي الذي يصوره مالت نزقا جاهلا مستبدا، والذي ظل فريق من بني قومه حتى يومنا هذا لا يجدون له في خواطرهم من صورة إلا ما صور الاحتلال، فإذا ذكرت للرجل منهم عرابيا راح يتلو عليك ما لقنه في المدرسة وا أسفاه من أوصاف هي أبعد ما تكون عن حقيقة هذا الرجل المظلوم، ومن أغراض شتان بينها وبين ما كان يبتغيه لقومه هذا الزعيم المفترى عليه.
أجل! لا زلنا مع بالغ الأسف نسمع حتى اليوم من بعض المصريين ومنهم من له في الناس مكانته، قدحا في عرابي، فإذا جادلناه لا نجد لديه من علم إلا أن عرابيا كان طائشا جاهلا، لا يدري شيئا من شئون بلاده، إلى أمثال تلك العبارات المحفوظة التي لا تغتفر لصبي في المدرسة، وإذا كان عذر هؤلاء عن قدحهم أنهم يجهلون تاريخ هذا الرجل، فإنا لن نجد لهم عذرا عن هذا الجهل، فذلك هو العذر الذي يوصف بأنه أقبح من الذنب ...
لينظر هؤلاء فيما بينا من آمال هذا المصلح وفيما قدمنا من أدلة بسالته وحميته، وليتدبروا في هذا الذي يكتب لصديقه بلنت، وليسألوا أنفسهم بعد ذلك: ألا يزالون يرون في هذا الرجل جنديا طائشا مغرورا لا يدري من أمور بلاده شيئا.
إن هذا الذي يقوله عرابي لبلنت هو ما كان يرجوه المصريون من إنجلترا قبل الاحتلال، وهو الذي ظلوا يرجونه منها بعد الاحتلال حتى يوم الناس هذا، وكم تكرر في مصر من أشباه ونظائر لهذا الموقف؟ وكم جاء مثل هذا الكلام على ألسن غير لسان عرابي، ولكنا نحجز القلم عن الاتجاه إلى غير ما نحن فيه، وقصارانا أن نقول إن السياسة الإنجليزية في مصر هي هي وإن تغير الزمن واختلفت على موضع الزعامة الرجال ...
وقد أكد عرابي نياته في كتابه الثاني ومما جاء فيه قوله: «إننا نميل أشد الميل إلى التفاهم على روابط الصداقة والمصالح المشتركة بيننا وبين الدول التي تربطنا بهم علاقات، فإنه بالصداقة وحدها يستطيع من لهم حقوق في بلادنا أن يجنوا ثمار المعاهدات والعقود التي نجد من واجبنا العمل على احترامها وحمايتها، فإذا وقع خلاف فإنه لا يؤثر فينا فحسب، ولا تكون نحن أكثر تأثرا به من غيرنا، وإنما تتأثر به الدول الأخرى جميعا وبخاصة إنجلترا. ولا يخفى على السياسي الواسع العقل ما يكون من فوائد لإنجلترا من وراء مصادقتنا ومعاونتنا في كفاحنا ...
وفيما يتعلق بالمراقبة فكن على يقين أنه ليس هناك ما يحول بينها وبين أداء واجبها حسب الحقوق التي قررتها الاتفاقات الدولية. ولم يكن في نيتنا قط ولا في نية أحد في هذه البلاد أن يمس حقوق المراقبين أو يعتدي على أية معاهدة دولية ...
ولئن كان ممثلو الدول في بلادنا مخلصين حقا لواجباتهم ولمصالح دولهم فلن يجدوا خيرا من معاونتنا في جهودنا القومية الحقة، وليثبتوا بأعمالهم ما يعدوننا به في أقوالهم ...
لقد صممنا أن نبذل كل ما في وسعنا لكي يكون لبلادنا موضع بين الأمم المتمدنة، وذلك بنشر المعرفة في البلاد، والمحافظة على الوحدة والنظام، والقضاء بالعدل بين الجميع، ولن يردنا شيء عن عزمنا قيد أنملة، ولن يخيفنا وعيد ولا تهديد أو يلوينا عن قصدنا، ولن نخضع إلا لشعور الصداقة التي نتقبلها ونقرها بكل ما في وسعنا ...
أما عن هدوء البلاد، فليس هناك أي قلق، ونحن نحاول الآن أن نقضي على ما خلفته لنا الحكومات السالفة من مساوئ ...
فلندع الله أن يهدي المفكرين من رجال السياسة في أوربا إلى الصواب، وعسى أن يعنوا بمعرفة أحوال بلادنا وبذلك يؤدون صنيعا إلى بلادهم كما يؤدون إلى بلادنا بتقوية روابط المودة، نسأل الله أن يهيئ لنا جميعا التمتع بنعمة السلام والمودة ...»
ويذكر بلنت تعقيبا على كتاب عرابي أن الشيخ محمد عبده كتب إليه كذلك يؤكد له في ذلك الوقت قيام النظام والسلام في مصر ...
لم تكن البلاد إذن في حالة تدعو إلى القلق إلا إذا كان الخلاف بين الخديو ووزرائه مشكلة تستدعي حتما تدخل الدول الأوربية لحلها، فما يتسنى علاجها إلا على هذه الصورة.
لم يكن هذا الخلاف إلا الذريعة التي باتت إنجلترا تتحينها لتخطو الخطوة التي كانت سياستها طوال القرن التاسع عشر متجهة في مصر إليها، وكانت إنجلترا قد صممت أن تقطع العقدة إذا لم يتيسر لها حلها، فبقطع تلك العقدة تصيب في الواقع غرضين: السيطرة على مصر، وهذا قصارى آمالها في الشرق، والتخلص من مشاركة فرنسا إياها فيما هي فيه من شئون مصر، وهذا ما كانت مصلحتها توجب الإسراع في تنفيذه.
والإنجليز قوم نبغوا في أن يأخذوا كل شيء وألا يعطوا شيئا، وأن يستبطنوا دخيلة كل عدو أو حليف دون أن يكشفوا له عن شيء مما تنطوي عليه نفوسهم، ولهم في ذلك أساليب يعد نجاحهم فيها من أكبر أسباب تفوقهم ...
لذلك تقدم هؤلاء ليلعبوا إحدى لعباتهم السياسية وقد سهلت عليهم سياسة فرسنيه الأمر، فقد رأى هذا أن تبتعد إنجلترا وفرنسا عن التدخل المسلح في شؤون مصر، وفاته أنه إن استطاع أن يوجه سياسة بلاده نحو هذا الهدف فما له حيلة في إنجلترا إن استعصت عليه أو غدرت به ...
وتقدم فرسنيه يعرض على إنجلترا مقترحات لحل المشكلة، فطلب على لسان سفيره في إنجلترا أن ترسل الدولتان سفنا من أسطوليهما إلى مياه الإسكندرية، وأن تطلب الحكومتان إلى تركيا ألا تتدخل في شؤون مصر في ذلك الوقت، ولكن فرنسا لا تعارض إذا حضرت بعثة عثمانية إلى مصر بدعوة من الدولتين على أن يكون عملها محدودا وأن تكون تحت مراقبتهما.
ورأى فرسنيه أن تحاط روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا بما تتخذه إنجلترا وفرنسا حيال المسألة المصرية، على أن تكون تعليمات تلك الدول إلى سفرائها في الأستانة عين تعليمات الدولتين ...
أما عن الخديو فقد عدلت فرنسا عن رأيها في خلعه، ذلك الرأي الذي كانت ترى قبل ذلك أنه لو اتبع كان قضى على كثير من الصعاب ...
وكان فرسنيه يريد من المظاهرة البحرية أن يلقي الرعب في قلوب الوزراء ليقلعوا عن مقاومة الخديو فينتهي ما كان بينه وبينهم، ولقد وافق جرانفل على مقترحات فرسنيه في جملتها، ورأى أن يبلغ الباب العالي، واحتاط للمستقبل بقوله إنه قد تعرض عليه في المستقبل مقترحات أخرى ...
ولكن فرسنيه لم ير هذا الرأي، لأنه لم يكن يرغب في التقرب إلى تركيا، ولذلك رفضه بادئ الأمر، على أنه عاد فقبله بعد إلحاح جرانفل، وكتب إلى سفيره بالأستانة أن يبلغ السلطان أنه «ليس من المستبعد أن تقدم اقتراحات أخرى إلى تركيا فيما بعد».
وأراد جرانفل أن يبعد عن نفسه وعن حكومته تهمة الرغبة في التدخل في شؤون مصر، فاقترح أن تدعى الدول الأوربية إلى إرسال سفن إلى الإسكندرية تقف إلى جانب السفن الإنجليزية والفرنسية، وما كان جرانفل جادا فيما يقول، فإنه كان على يقين أن اقتراحه هذا سيقابل من فرنسا بالرفض، ولو كانت لديه شبهة أن ستقبله فرنسا ما تقدم به، بل لو أن هذا الاقتراح كان من جانب فرنسا لعارضت فيه إنجلترا أشد المعارضة ... ولو أن إنجلترا كانت جادة في مقترحها هذا لبذلت قصارى جهدها لتحمل فرنسا على قبوله، ولكنها اكتفت بأن تبلغ فرسنيه على لسان وزيرها أنها تأسف ألا تقرها فرنسا على وجهة نظرها، وأنها تعد من الخطأ عدم دعوة الدول إلى الاشتراك في تلك المظاهرة، ولكن بما أن فرنسا قد ذهبت في الموافقة على السياسة البريطانية إلى مثل ما ذهبت إليه فإن إنجلترا لا يسعها إلا أن توافق فرنسا على ما ترى ...
وآمن فرسنيه بنزاهة السياسة الإنجليزية، ولو كان غير فرسنيه في موضعه لآمن بها كما آمن هذا، فلم يكن يدور بخلد أحد يومئذ أن إنجلترا كانت تترقب الفرصة لتنقض على الفريسة وحدها دون فرنسا، ولا ظهر من عملها ما يبعث على الريبة ...
ولكن الإنجليز خير من انتصح بنصائح مكيافلي في هذا العالم وخير من حذقها، ولو قد تأخر الزمن بهذا الرجل لأخذ عنهم مبادئه ولوجد في أساليبهم وخططهم أبلغ أمثلة كتابه ...
الحق أن هذا المكر كان يدق على فرسنيه وغير فرسنيه من أولي الدهاء والخبرة من الرجال، وما كان ليفطن إلى هذا إلا من يسيء الظن بإنجلترا فيكون مبعث فطنته سوء الظن لا حسن الفهم، ونحن إنما نفطن إلى مرامي هذه السياسة بعد أن تكشفت عنها حجب الدهاء وتعاقبت عليها السنون، ولقد فطن إليها فرسنيه ورجال حكومته وشعبه الأريب، يوم وقعت الواقعة وانفردت إنجلترا بضرب الإسكندرية غير حاسبة لأي شيء من حولها حسابا.
وكانت إنجلترا تبغي من سياستها هذه أن تصرف نظر الدول عن مصر، فإن دعوة تلك الدول إلى مشاركتها في المظاهرة البحرية يظهرها بمظهر من لا غرض له إلا الصالح العام، في حين أن عملها هي وفرنسا يغضب الدول ويجعلها تميل إلى التدخل لتنال حظا من الغنيمة في مصر أو في غير مصر يوم يكون الحساب وتوزع الأسلاب.
وفضلا عن ذلك فقد كانت إنجلترا تحذر أشد الحذر أن تغضب السلطان فينحاز إلى عرابي وحزبه ضد توفيق، فيظهر عرابي بمظهر المحافظ على حقوق السلطان صاحب الحق الشرعي في مصر، ضد الخديو ومشايعيه من الطامعين، وعلى ذلك فكل تهمة بالعصيان توجه إلى عرابي أمام الشعب المصري إنما تذهب أدراج الرياح ...
ولقد فطن مالت إلى خطورة هذا الأمر، وكتب إلى حكومته ينذرها أن إغفال تركيا من شأنه أن يضم النواب إلى العسكريين فيقفوا جميعا صفا واحدا ضد أوربا أو على الأقل أنه يقوي جانب عرابي وأشياعه.
وكانت إنجلترا في الواقع تتبع سياسة حاذقة أكبر الحذق، فهي تشايع فرنسا في منعها تدخل تركيا، ولكنها في الوقت نفسه تحرص على ألا تغضب تركيا فقد تضطر إليها يوما ما، وفي إغضابها ما قد يثيرها فتتدخل. وتعمل إنجلترا في مصر على يد مالت عملا متصلا لتخويف الخديو ولإذاعة المفتريات عن سوء الحال في مصر، وذلك لتمهد السبيل إلى غاية يفضي إليها منطق الحوادث كما تزعمه، وتلك الغاية هي التدخل المسلح على أي صورة ما محافظة على أموال الأجانب وأرواحهم في مصر، وما عليها إلا أن تتحين الفرصة لتنفرد بالعمل، وهي لن تحجم أن تضع فرنسا أمام الأمر الواقع كما فعلت بإزاء محمد علي حين صمم بالمرستون على القضاء عليه ... ولكنها الآن تتظاهر بالنزاهة وتحرص على الظهور بمظهر دولي في سياستها نحو مصر، فتقترح اشتراك الدول في المظاهرة البحرية تارة، وتقترح دعوة السلطان إلى حل الأزمة تارة أخرى ... كل ذلك في مهارة ودقة، ولكنها مع الأسف مهارة من تجرد من الشرف فسهلت عليه غايته، لا لشيء إلا لأنه يسلك إليها كل سبيل، ولا عبرة عنده أي سبيل يسلك ...
ولما وجدت إنجلترا أن فرنسا تصر على استبعاد تركيا والدول جميعا، كتبت إلى الدول قرارا ينفي أية نية من جانبها في احتلال مصر، وأكدت أنها لم ترد بالمظاهرة البحرية إلا إقرار السلام داخل مصر، وأنها سوف تترك مصر وشأنها إذا قضي على ما فيها من القلاقل، وإذا لم تنجح تلك الوسائل السلمية فسوف تتفق إنجلترا والدول على ما تراه هي وفرنسا خير سياسة تتبع ...
وتحدث اللورد دوفرين سفير إنجلترا بالأستانة إلى وزير الخارجية العثماني في لهجة شديدة قائلا: «إنه إذا لم تعمل تركيا ما من شأنه أن يسهل على إنجلترا خطتها فسوف تزيد إنجلترا عدد القطع في الإسكندرية وتطيل أمد بقائها جميعا هناك.»
ولكن السلطان آلمه وأغضبه أن توجد السفن الإنجليزية والفرنسية أمام الإسكندرية، فلم يكف عن احتجاجه وإعلان سخطه، مما زاد الموقف حرجا وتعقدا ...
وبينما كانت فرنسا وإنجلترا تتبادلان الرأي على النحو الذي نذكر، كان الحنق في مصر على الخديو يزداد يوما بعد يوم، وما زال الناس في قلق وخوف من موقفه ومشايعته الإنجليز على هذه الصورة حتى وصلت السفن إلى الإسكندرية.
ولقد أخذ بعض الناس على الوطنيين أنهم لم يخلعوا الخديو في ذلك الوقت ويتصلوا بتركيا لتعين على مصر غيره، والواقع أنها مسألة دقيقة، فمن الناحية الوطنية كان يرى الوطنيون ضرورة خلعه، وحجتهم أن السكوت معناه التفريط في جانب الوطن، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا يرون أن عملهم هذا ينقلب وبالا عليهم في ظروف كتلك الظروف التي أذاعت فيها أوربا عنهم المزعجات من الشائعات ...
وفي هذه الآونة وقع في صفوف النواب ما تخجل أشد الخجل من ذكره، فقد انحاز كبيرهم سلطان إلى الإنجليز بعد أن تودد إلى الخديو كما أسلفنا، وشايعه عدد من النواب، ولم يكن للوطنيين من عاصم في هذه المحنة إلا الاتحاد والثبات، وكأنما تأبى الأيام إلا أن تجعل من أبناء مصر بعضهم لبعض عدو، وكان ذلك لكثرة ما يتكرر منهم، من طباعهم التي فطروا عليها. ولطالما نكب هذا الشرق المسكين بتخاذله وانقسام أبنائه بعضهم على بعض مع أنهم يرون أبدا أن الظالمين الطامعين فيهم من أهل الغرب في الكيد لهم بعضهم أولياء بعض ...
وكان انحياز سلطان والمستضعفين من النواب إلى إنجلترا أولى ثمرات المظاهرة البحرية، فإن سلطانا حينما علم بها من الخديو فكر وتدبر فرأى أن المستقبل للخديو وللإنجليز، فلما حضرت السفن اطمأن إلى الإنجليز، وآثر أن يبادر بالانحياز إليهم لتكون له الحظوة والمكانة عند أولي الجاه والبأس يوم يتخلصون من عرابي على أية صورة ...
وأمثال سلطان هذا إنما يعملون لأشخاصهم فحسب، وعلى ذلك فهم عبيد القوة وإن تعاظموا، وهم أضعف الناس وإن تطاولوا، وهم أحرص الناس على عرض الدنيا وإن تظاهروا بالنبل والعفة، وهم إنما يدلون بجاه من يركنون إليهم من الأقوياء إدلال الخادم بسيف سيده، وسنرى يوم يكافأ سلطان بالذهب لا يحصي له عدا وينفى عرابي من الأرض، وتصادر أملاكه التي رزقه الله، ولا يبقي له الإنجليز في مصر صاحبا ولا ولدا ...
ونشط مالت وأعوانه من جديد يذيعون أسوأ الأنباء عن مصر، وبخاصة عن عرابي وحزبه، حتى لقد وقف جرانفل في مجلس اللوردات في اليوم الخامس عشر من شهر مايو سنة 1882 يتوعد مصر ويتهددها، ويصرح في غير حياء منه مما يكذب به على العالم أن النواب والأمة جميعا في جانب الخديو!
وكانت أكبر دعوى يدعيها مالت أن في ازدياد نفوذ الحزب العسكري أكبر خطر على حياة الأوربيين، وأن نفوذ هذا الحزب قد بلغ أقصى ما يصل إليه من زيادة، والواقع أن مالت لم يكن يهمه ما قد يتعرض له الأوربيون من خطر حسب مزاعمه، وإنما كان يهمه الوصول إلى غرضه بأي ثمن ولو ذهبت في سبيل ذلك بعض الأرواح، تجد الدليل على ذلك في رده على جرانفل حين سأله قبل إرسال الأسطول هل يكون في ذلك العمل خطر على الإنجليز والفرنسيين في مصر فقد أجابه قائلا:
1 «يشرفني أن أبلغ فخامتكم أني أنا وزميلي الفرنسي نرى أن ما في وصول الأسطول المشترك إلى الإسكندرية من الفائدة السياسية كبير جدا، يفوق في أهميته الخطر الذي يمكن أن يصيب بسببه من في القاهرة من الأوربيين.»
ويعلق روثستين على هذا الرد الذي أخفته الحكومة الإنجليزية بقوله: «إن الذي نريد أن نقوله هو أن هذه الرسالة أكبر دليل على سياسة السير إدوارد مالت وبره بالإنسانية. ولا ريب أنه لم يكن يقصد إظهارها. وإن الإذن بنشرها فيما بعد لمما يؤخذ مرة أخرى على مقدرة اللورد جرانفل السياسية، وإن فيها دليلا واضحا على أن كل ما كانوا يخافونه من الأخطار التي يتعرض لها الأوربيون بسبب السيادة العسكرية كان كله زورا وبهتانا ولا غاية منه إلا تهيئة السبيل للتدخل المسلح. ومهما يكن من شيء فإن الأمر لا يخرج عن إحدى اثنتين: فإما أن تكون هذه المخاوف كلها لا أصل لها، وعندئذ تتبين لنا مقدرة السير إدوارد مالت السياسية، وإما أن تكون قائمة على أساس ثابت وعندئذ يتبين لنا مقدار بره بالإنسانية. وسواء أكانت هذه أم تلك فإن ما قاله السير إدوارد مالت كاف للحكم عليه بأنه من أحط طبقات الساسة الدساسين.»
وكان بلنت لا يزال يسعى سعيه في إنجلترا، فلما أعلن جرانفل تصريحه أبرق بلنت إلى عرابي في اليوم السادس عشر من مايو يقول: «ذكر لورد جرانفل في البرلمان إن سلطان باشا والنواب قد انحازوا إلى الخديو ضدك، فإن كان هذا غير صحيح فاطلب إلى سلطان باشا أن يرسل إلي تكذيبا، إذا تضامنتم فلا خوف عليكم ... ألا يمكنكم إقامة وزارة يرأسها سلطان؟ على أية حال عليكم بالثبات.»
وأبرق إلى سلطان في الوقت نفسه يقول: «أعتقد أن كل من يحبون مصر يجب أن يتحدوا، لا تختلف مع عرابي، إن الخطر جسيم.»
وكذلك أبرق بلنت إلى كل من بطرس باشا وأبو يوسف ومحمود باشا الفلكي والشيخ محمد عبده والشيخ الهجرسي وعبد الله نديم يقول: «هل الحزب الوطني في جانب عرابي الآن؟ الحكومة الإنجليزية تدعي غير ذلك. إذا اختلفتم ضمتكم أوربا.»
ورد سلطان على بلنت فقال: «زال الخلاف الذي كان بين الخديو والوزارة ولم يبق له أثر. كلنا متفقون على المحافظة على الأمن والسلام وعلى مناصرة الوزارة الحاضرة.»
وتلقى بلنت كذلك برقية من الشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر نصها: «من الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام، سوي الخلاف بين الوزارة والخديو، والحزب الوطني راض عن عرابي، والجيش والأمة متحدان.»
وأبرق إليه الشيخ محمد عبده بما لا يخرج عما جاء في برقية الشيخ الإمبابي، كما يشير إلى ذلك بلنت في كتابه ...
ولكن أمل بلنت ما لبث أن خاب، فإن مجيء السفن إلى الإسكندرية قد ألقى في روع الخديو أنه اليوم قادر على أن ينزل بالوطنيين والعسكريين ما يشاء من انتقام، وطالما تمنى توفيق أن تواتيه الفرصة فيشفي غليل نفسه من هؤلاء الذين كانت يده مكفوفة عنهم وإنه ليكاد يتميز من الحنق عليهم ...
وأخذ سلطان ومعه فريق من المستضعفين كما ذكرنا يمالئون الخديو ويتنكرون لأنفسهم على نحو كم تمنينا لو خلا منه تاريخ القومية المصرية ...
وأدى انقلاب سلطان ومن أخذ مأخذه من أشباه الرجال إلى ازدياد حرج الوزارة، وسهل على أعداء البلاد ما كانوا مقبلين عليه يومئذ من عدوان وإثم ...
وود مستر بلنت لو اتحد المصريون في تلك الآونة التي لم يكن لهم فيها من أمل إلا اجتماع كلمتهم، وإنه ليعلم ما كان يدبر لهم من كيد، والواقع أنه إن كان الاتحاد قوة في كل وقت فقد كان ضرورة كذلك في هذا الوقت. ومن هذا يتبين لنا مبلغ ما جره على البلاد سلطان ومن معه من أمثال هؤلاء الذين لم يخل منهم جيل في تاريخ هذا البلد المنكود، أولئك الذين يكونون عدة الغاصب أبدا ومطيته إلى مطامعه، دون أن يخالج ضمائرهم أي ندم، أو أن يميل بهم عن نهجهم شعورهم أنهم يقترفون أشنع الآثام ويأتون أقبح ضروب الإجرام.
وضاقت بالوزارة السبل، بل لقد أخذت كل سبيل عليها، وحزبها الأمر فما تغني فيه حيلة، فها هو ذا الخديو أداة في يد الإنجليز، وها هم أولاء بعض النواب يظهرون بمظهر الانقسام والتخاذل ...
واضطرب الوطنيون ممن يشايعون الوزارة، وأخذ يتسرب الوهن إلى النفوس، وتناصرت وساوس اليأس على حجج العقول، فزين لبعض الوطنيين أن يتخلصوا من الخديو فيأخذوه غيلة سرا أو علانية فما لهم مما هم فيه مخرج غير هذا.
لم يعمل سلطان بما أشار به بلنت في برقيته، فإنه لم يبق يومئذ على حب بلاده، وإنما غدا من الإمعات الطامعة، ولقد رأى الدنيا مقبلة على الخديو مدبرة عن عرابي، فآثر أن يكون له على الخديو يد فينال عنده الحظوة في غد كما أسلفنا، ولكنه ظل على الرغم من ذلك يتذبذب بين الجانبين شأنه في ذلك شأن كل إمعة، فبينما نراه يعارض الوزارة في موقفها من الخديو إذا به يرسل تلك البرقية التي أشرنا إليها في اليوم السادس عشر من شهر مايو إلى بلنت ردا على برقيته.
أما الوزارة فقد رضيت أن تخطو في ذلك الموقف العصيب خطوة نحمدها لها كل الحمد، بل إنا لا نجد من عبارات الثناء ما يفي بما فعلت في ظرف كهذا الظرف.
لم تهتم الوزارة بما عسى أن يفسر به عملها من ذلة وخوف، فتوجه الوزراء إلى الخديو، وأعلنوا لديه ولاءهم له وعبروا عن رغبتهم في الوئام، فمصلحة الوطن مقدمة على كل اعتبار، وإحباط كيد الكائدين هو الواجب الوطني الذي لا يقدم عليه واجب غيره، ويقال إن سلطان توسط في ذلك فأخذ دور الشفيع ليتصل بكل من الجانبين بسبب، ولعل هذا يفسر رده على برقية بلنت.
آثرت الوزارة مصلحة البلاد فقبلت أن توصف بالمذلة من أجل مصر، وكان موقفها موقف القائد الشجاع الذي يفعل ما يعتقد أنه الصواب دون أن يبالي بما عسى أن يقول الناس، فينسحب ليجمع قواته ويعيد النظر في خططه غير مكترث بما قد يفسر به الانسحاب في ذاته.
يقول روثستين في كتابه «المسألة المصرية»:
2 «وكان السخط على الخديو آخذا في الازدياد، ولولا الخوف من انتقام الدولتين لخلع توفيق، ولكن كثيرا من النواب قد عارض في ذلك الأمر، وانقسم المجلس على نفسه، فانحاز رئيسه سلطان باشا إلى جانب العدو دفعة واحدة، وأخذ يعمل على إسقاط الوزارة، ورأى غيره من الأعضاء أن يسعوا مرة أخرى للتوفيق بين الطرفين وتخفيف الأزمة بشيء من التساهل. وبينما هم كذلك إذا بالأسطول الفرنسي قد وصل في 15 مايو، وإذا باللورد جرانفل قد بعث في اليوم نفسه إلى السير إدوارد مالت برقية مضمونها أنه فضلا عن المظاهرة البحرية فإنا نحفظ لأنفسنا الحرية في أن نستخدم من الوسائل ما نراه ضروريا لإقرار النظام والمحافظة على سلطة الخديو. وقد قرر عرابي ورفاقه أن يعملوا بمشورة القائلين بالسعي مرة أخرى للتوفيق بين الطرفين؛ فذهبوا بأجمعهم إلى الخديو وعرضوا عليه خضوعهم التام، وذهبوا كذلك إلى مالت وأكدوا له أنهم سيبذلون غاية جهدهم في حفظ السكينة العامة. يا أسفا عليهم! لقد ظهروا في مظهر مؤلم للنفس وقد يكون غير مشرف لهم، ثم هم لم يجنوا من ورائه شيئا على الإطلاق ...»
على أن موقف الوزارة لم يخل على أية حال من فائدة، فقد أراد الوزراء بما فعلوا أن يبطلوا حجة القائلين بوجوب التدخل لتفاقم الخلاف بين الخديو ووزرائه، وهم إن لم ينجحوا وأصر الخديو على انحيازه إلى أعداء البلاد، أظهروه بمظهر المتجني الذي لا يريد أن يغفر لهم حتى في مثل هذا الموقف، ما زعم أنه كان من دواعي الخلاف، وهذا أسلوب سياسي جدير بكل إعجاب ...
ولا يصح أن يقول قائل إنه كان أولى بالوزارة ألا تغضب الخديو من أول الأمر. لا يصح أن يقال ذلك بعد الذي بيناه من مكر السياسة الإنجليزية، فالنية مبيتة من قبل على التهام مصر، ونعود فنكرر ما قلناه إنه لو لم يوجد عرابي لعمل الإنجليز على خلقه ...
وكأن الذين ينكرون على الوزارة إغضابها الخديو من أول الأمر يريدون أن يقولوا إنه كان على الوزارة أن ترضى بالحكم المطلق ووأد الدستور، وتسلط الشراكسة، وإذلال مصر بالقضاء على حركتها القومية الناشئة حتى لا يغضب الخديو، أعني أنه إذا خير الوطنيون بين التمسك بالدستور وإغضاب الخديو، وبين وأد الدستور وإرضاء الخديو، كان عليهم أن يقبلوا الوضع الثاني وإلا كانوا طائشين مفسدين في الأرض. وهذا كلام لا يستحق أن يوضع موضع المناقشة ...
لقد سلكت الوزارة المسلك الوطني الذي يتفق وهذه الحركة الوطنية الدستورية التي بدأت في مصر منذ عهد إسماعيل، فكانت حركة طبيعية اقتضاها تطور الأحوال، وعملت على وجودها عوامل كالتي عملت في كافة الأمم التي سبقت مصر إلى الدستور والحرية، ولقد بينا اتجاه الوزارة، وقدمنا الأدلة على صدق وطنيتها وعلى ما كانت تتوخاه من ضروب الإصلاح ...
وما كان التجاؤها إلى الخديو تنازلا منها عن مبادئها، فهذا ما لا يتصوره عقل وإلا كانت الحركة من بدايتها إلى نهايتها لعب لاعب، وإنما أرادت الوزارة الوئام والصفاء وإزالة ما تركه حادث المؤامرة الشركسية في نفس الخديو من غضب، فهو نوع من الاعتذار والتودد تقتضيه مصلحة الوطن اتقاء لخطر محدق بالبلاد ... أما الدستور وسلطة الأمة وما يتصل بها من مبادئ الحرية والقومية فدون التنازل عنها، بل دون التساهل فيها بذل الرقاب.
وكان توفيق خليقا ألا يميل إلى المعتدين من غير دينه، ولقد كان لهذا الاعتبار الديني شأنه العظيم في النفوس يومئذ، وكان كذلك خليقا أن يدرك أن عدوانهم على مصر هو في ذاته عدوان على السلطان صاحب الحق الشرعي وصاحب الولاية عليه ...
ولكن توفيقا لم يعد يبالي بالسلطان؛ فلقد اطمأن إلى قوة الدولتين وبخاصة إنجلترا، وكان إلى جانبه مالت يوحي إليه ما يشاء ويزين له ما يريد ويقوي عزمه كلما آنس منه تخاذلا عما كان يدفعه إليه، ولا ريب أن موقف الخديو كان يزداد بذلك حرجا أمام البلاد وأمام السلطان مهما سندته الدولتان ...
وأوحى مالت إلى الخديو ألا يثق بما يقول وزراؤه، وما كان توفيق في حاجة إلى هذا الذي يوحي به مالت، فهو يتطلع إلى الساعة التي يلطم الوزراء فيها لطمة تشفي ما بنفسه من غل ...
ولم يطل ترقبه تلك الساعة، ففي اليوم التاسع عشر من شهر مايو أوعزت الحكومتان إلى ممثليهما أن يشيرا على الخديو بأن يغتنم فرصة وصول السفن إلى الإسكندرية فيطيح بالوزارة، ويعهد بتأليف وزارة جديدة إلى شريف باشا أو إلى سواه ممن تتوفر فيهم مثل ثقتهما في شريف.
ورد الممثلان بأن المسألة ليست من السهولة بحيث يصنع الخديو ذلك، فلن تقوم في البلاد وزارة غير الوزارة القائمة ما دام للحزب العسكري ما له فيها من نفوذ وسلطة ...
واقترح مالت أن يشير على عرابي وثلاثة من أشهر رجاله بمغادرة مصر، وبدأ فعلا يسعى إلى ذلك فاختار أحد موظفي القنصلية الفرنسية ليفاوض عرابيا لأن هذا كان يعرف العربية، ولكنه رفض أن يلعب هذا الدور، ففوتح سلطان فقبل في غير خجل، وذهب يشير بذلك على عرابي فعظمت دهشة الوزير! ورفض أن يسمع بقية الحديث، وأعلن إصراره على عدم ترك مصر مهما يكن من الأمر، وأكد أنه لن يترك منصبه فضلا عن موطنه في تلك الظروف.
ووصل هذا الحديث إلى الضباط فقابلوه بالاستياء حتى لقد صرح أحدهم على مسمع من أحد رجال القنصلية الفرنسية أن الجيش يمزق عرابيا إذا هو اعتزلهم يومئذ.
وأخذت الوزارة تتأهب لملاقاة ما كان ينذر به الموقف من جسيمات الحوادث، وصمم الوزراء ألا يقروا أي تدخل لإنجلترا وفرنسا، وأن تكون إجابتهم على أي إنذار رسمي أنهم لا يعترفون بسيادة غير سيادة السلطان.
وتزايد انحياز الرأي العام إلى عرابي بقدر ما تزايد سخطه على الخديو والأجانب ومن انحاز إليهما من الإمعات والمستضعفين، وعاد بعض الذين انشقوا من الحزب الوطني ينضمون إليه في تلك الساعة الرهيبة، وشاعت في البلاد دعوى المحافظة على حقوق السلطان أمير المؤمنين وحامي حمى المسلمين ...
وهنا نسأل الذين يستريبون في شجاعة عرابي وزعامته: أيرون دليل جبنه في إصراره هذا على البقاء في مكانه مخلصا لواجبه؟ لقد كان من اليسير عليه أن يسافر إلى القسطنطينية أو إلى أوربا متحيزا إلى السلطان أو إلى إنجلترا، وكانت إنجلترا ترحب بذلك كل الترحيب وتطرب له أشد الطرب، ولكن ما هكذا يفعل الرجال ...
لقد صمم عرابي على البقاء حيث هو كما صمم سعد زغلول على البقاء في مكانه مخلصا لواجبه حين طلب إليه في موقف من مواقف جهاده أن يذهب إلى عزبته ليقيم بها تحت مراقبة مدير الإقليم، وآثر عرابي أن يواجه المحنة والبلاء كما آثر سعد أن ينفى من مصر، ولكن الأمة التي وضعت على رأس سعد من أجل ذلك أكاليل الغار، لا يزال فريق من أبنائها ينسبون إلى عرابي البطل أسباب الهزيمة والعار! ...
وصمم عرابي على امتشاق الحسام ليجاهد في سبيل مصر أشق الجهاد وأعظمه وليكن بعد ذلك ما يكون؛ فإما نصر، وإما فناء، أما مغادرة مصر في ساعة العسرة، فذلك هو الهرب الذي لا يفعله إلا الجبناء ...
ولما فشل مالت في طريقته الشخصية اتفق وزميله الفرنسي فأرسلا إلى حكومتيهما يطلبان أن تطلق يديهما كي يتقدما إلى الحكومة المصرية رسميا بمذكرة تنص على إبعاد عرابي من مصر هو وكبار العسكريين على أن تؤيد المذكرة بعمل إيجابي في حالة ما إذا رفضت، ومما ذكره مالت قوله: «إن الموقف الحالي قد سببه الوزراء، والناس يعتقدون أن إنجلترا وفرنسا لن ترسلا جنودا، وأن معارضة فرنسا تجعل تدخل الترك مستحيلا.»
3
وأرسل عرابي كتابا إلى بلنت في اليوم الحادي والعشرين من شهر مايو، ومما جاء فيه قوله: «إن جميع الأهالي ليطوف بهم الحزن لمجيء السفن الإنجليزية والفرنسية، وهم يرون في هذا العمل ما يبيت من سوء للبلاد، كما أنهم يرون فيه عدوانا لا مبرر له ولا ضرورة تدعو إليه. على أن المصريين قد صمموا على ألا يسلموا للدولة التي تريد أن تتدخل في شؤونهم وفي إدارة البلاد الداخلية، وهم كذلك قد جمعوا عزمهم على الاحتفاظ بالامتيازات التي ثبتتها المعاهدات، ولن يسمحوا لأحد بانتقاص هذه الامتيازات أو مسها ما دام فيهم رمق، وهم في الوقت نفسه حريصون على المحافظة على مصالح الأوربيين وحياتهم وممتلكاتهم ما داموا لا يتعدون الحدود التي رسمتها لهم القوانين، ونحن جميعا نبذل ما في وسعنا في أداء واجبنا، وعلى الله اتكالنا في الدفاع عن حقوقنا وبمعونته سننال غايتنا، وتنحصر غايتنا في إسعاد الوطن ونشر الأمن والسلام بين سكانه، ولا زلنا نأمل في عدالة أوربا ألا تتعدى علينا، بل إنا على خلاف ذلك نرجو أن يحسنوا سلوكهم معنا لأن في هذا مصلحتهم وهو يؤدي إلى تحقيق رغباتهم، وجدير بإنجلترا ألا تثق بوكلائها هنا فإنهم قوم لهم مآرب خفية شخصية يبتغون تحقيقها، ونرى أن نجاحهم في تحقيق مآربهم يعود بالضرر على بلادهم وعلى حكومتهم، وفي هذا القدر ما يكفي الآن وسيأتيك الغد بما يجد من الأنباء.»
4
ولكن ماذا كان عسيا أن يفعل بلنت وقد نشط مالت في إذاعة أسوأ الأخبار عن مصر وإحباط كل سعي يؤدي إلى نجاتها؟
يقول بلنت في كتابه مشيرا إلى برقياته وما جاءه عنها من ردود: «ولكن جاء الصباح فذهبت آمالي أدراج الرياح، وانقلب فوزي هزيمة، فقد كنت قضيت الليل بمنزلي بلندن في شارع جيمس رقم 10، وأرسلت في طلب الصحف فوجدت فيها جميعا برقية لشركة روتر وفيها نص البرقية التي أرسلتها إلى أعضاء المجلس في مصر، وقلت لهم فيها إن أوربا ستضم مصر، وفيها أن شيخ الإسلام تبرأ من الرد الذي جاءني باسمه، ووجدت في صحيفة ذي ستاندارد برقية من مراسلها بالقاهرة، مؤداها أن سلطان باشا صرح له أن يكذب البرقية التي أرسلتها والتي نشرت بالتيمس، وأن برقية سلطان هذه إنما كتبت تحت تأثير الإرهاب العسكري ...»
وعلى أي حال فما كان يغني عن بلنت صدقه وحسن مسعاه، وقد رسمت السياسة الإنجليزية الخطة التي تنتهجها، ولقد كانت الحكومة الإنجليزية على علم بكل شيء، ولذلك فما كانت بها حاجة إلى دفاع بلنت وأنبائه.
وهل كانت إنجلترا تتحرى في المسألة وجه الصواب حتى تسير على هدى ما تعلم؟ حسب الإنجليز أن يحققوا أطماعهم التي طال بهم العمل على تحقيقها في مصر، ذلك هو الواقع الذي لا يغيره جدال مهما طال، وليجر بعد ذلك بلنت في مضماره ما شاء، وليطلق هذا الشاعر الذي يعطف على حرية المصريين وآمالهم العنان لخياله حسبما يريد، فلن يؤثر ذلك في مجرى الحوادث، ولن يغير شيئا مما عقد النية جلادستون وجرانفل عليه ...
والسياسة على أي حال شيء، والشعر والأحلام شيء آخر، وكثيرا ما سخر الساسة من أماني دعاة الإنسانية، وضحكوا ملء أفواههم من هؤلاء الذين يحلمون فيتخيلون أحلامهم حقائق راهنة كما يتخيل الأطفال!
تلقت الحكومة المصرية، وتلقى الخديو في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو المذكرة المشتركة الثانية وفيها تطلب الدولتان: «أن يخرج عرابي باشا من مصر مع احتفاظه بلقبه وراتبه، وأن يبتعد كل من عبد العال باشا وعلي فهمي باشا إلى داخل القطر مع احتفاظهما كذلك بلقبيهما وراتبيهما وأن تسقيل الوزارة الحالية من الحكم ...»
ومن أعجب الأمور أن ممثلي الدولتين قد عزيا هذا الطلب إلى ما نصح به سلطان باشا لرئيس الوزارة، فقد جاء نصه كما يأتي: «إن ممثلي فرنسا وبريطانيا العظمى الموقعين على هذا يحيطان علم عطوفتكم بأنه من حيث إن عاطفة الوطنية حملت سعادة سلطان باشا رئيس مجلس النواب وكذا رغبته في تأييد سلم مصر ورفاهيتها على عرض الشروط الآتية على عطوفتلو محمود سامي باشا رئيس مجلس النظار، إذ رأى أنها الواسطة الوحيدة لوضع حد لحالة الاضطراب في مصر ...» ثم أوردا بعد ذلك الشروط أو الإنذار ... ولقد أنكر الوزراء وساطة سلطان باشا كما أن سلطان تنصل منها ...
قال الشيخ محمد عبده:
5 «حصلت مذاكرة في المذكرة التي قدمها وكلاء الدولتين بحضور سلطان باشا والنظار فوضع سؤال: هل يمكن لنا أن نجمع المجلس؟ فأجاب سلطان: أظن أن ذلك لا يكون إلا بأمر الخديو فنسأله في ذلك ولا ريب أنه يوافق عليه، فقال له أحد النظار: الخديو الذي كنت تطلب خلعه إن لم يكن قتله قبل أيام؟
قبل هذا جاء كلام في الخديو في جلسة فطلب سلطان باشا قتله وأبى عرابي، وكان سلطان يقول: اقتلوا الثعبان سلالة الجناة الناهبين الذين باعونا للأجانب ... هذا هو سلطان الذي كان رئيس الحزب الوطني، وهو لا يريد الآن إلا مجاملة الخديو، ذلك الخديو الذي لا يبغي إلا بيع البلاد للأجانب.
6
اجتماع مجلس النواب حق للشعب، ونحن نوابه، ولابد لنا أن نطلب النواب إلى القاهرة حتى لو أراد عرابي أن يوافي ما طلب من إبعاده إرضاء للساسية الأجنبية فليفعل، أما نحن فلا نخضع لمثل هذه المطالب مهما أدى إليه الخلاف ...
سلطان رجع عن رأيه إلى رأي الحاضرين مع الحيرة فيما وعد به الخديو والقنصلين وفيما اضطر إليه من موافقة الثائرين ...»
قررت الوزارة في غير تردد رفض هذه المذكرة المشتركة الثانية، وأبلغ هذا الرفض إلى ممثلي الدولتين. ومما جاء فيه قول الوزارة: «إن سعادة سلطان باشا صرح أمام الوزراء عند انعقاد مجلسهم بأن أعاد على رئيس مجلس الوزراء ذكر محادثة جرت بينه وبين قنصل جنرال فرنسا، وأنه لم يبدأ بذكر مقترحات أو إشارات لا يعنيه أن يقدمها ولا يبديها باسمه الشخصي، ولا بصفة كونه رئيس مجلس النواب فإن هذا المجلس غير ملتئم الآن، أما الطلبات المدونة في اللائحة التي قدمها قنصلا إنجلترا وفرنسا فتتعلق بمسائل داخلية تختص بالأمور الإدارية التي اعترفت الدول الكبرى دائما بأن حرية العمل فيها من خصائص الحكومة المصرية، ولا يمكن لحكومة الجناب الخديوي أن تولج في باب المناظرات والمباحثات في هذه القضايا بدون التعدي على الفرمانات السلطانية والمعاهدات الدولية التي حددت مقام مصر الخصوصي وبدون نقض القوانين الشورية لهذه البلاد التي هي أعظم كفالة تتكفل ببقاء الحال على ما هو عليه.»
وأصر الوزراء وفي مقدمتهم عرابي على موقفهم، هذا الموقف الوطني الجليل، وأيدهم كبار الضباط وأعلنوا أنهم معهم ولو أدى الأمر إلى القتال ...
ولكن ماذا عسى أن يغني عن الوزارة جلال موقفها في هذه الأزمة العصيبة، ولم يمض يوم واحد حتى قبل توفيق مذكرة الدولتين، وأعلن ذلك في غير تحرج من هذا الفعل على شناعته البالغة؟
ولم يجد البارودي بعد ذلك مناصا من الاستقالة، فكتب استقالة الوزارة على النحو التالي:
القاهرة في 26 مايو سنة 1882
إن جنابكم العالي قد بلغنا عند وصول الدوننمتين: الإنجليزية، والفرنسية بأنكم حررتم إلى الآستانة بطلب التعليمات، ولما كنا منتظرين ورود خطاب من الباب العالي وإذا بقنصلي فرنسا وبريطانيا الكبرى قدما لحضرة رئيس مجلس نظاركم لائحتهما بتاريخ 25 مايو، وبناء على أوامر جنابكم العالي اجتمعنا والتأم مجلسنا وقرر هذا الخطاب المرفق مع هذا، وعندما توجهنا إلى جنابكم العالي لاستشارتكم أخبرتموننا بأنكم قبلتم لائحة وكيلي فرنسا وبريطانيا العظمى، وهذا القبول مباين لما أجمع عليه رأي كل النظار إجماعا كليا، فإن قبول تدخل الدول الأجنبية في هذه القضية يمس بحقوق الحضرة السلطانية، وبناء على ذلك نتشرف بأن نقدم لجنابكم استعفاءنا جميعا ...»
ولم يتردد الخديو، وكان وراءه مالت في قبول استقالة الوزارة قائلا إنه يقبلها لأن هذه هي إرادة الأمة، وفيما عدا ذلك فإنها أمور بينه وبين السلطان الذي يحترم حقوقه دائما. وتنفس الخديو الصعداء، ظانا أن الأمر انتهى إلى غايته، ولم يعلم أن صنيعه هذا كان معجلا بالكارثة، بل لقد كان هذا الصنيع في ذاته هو الكارثة، فلولا ما كان من ركونه على هذه الصورة إلى الأجانب، ما أقدمت إنجلترا على تنفيذ ما بيتته طويلا من غدر بالبلاد ...
ومع ذلك فإن كارثة الاحتلال لا زالت على ألسنة بعض المصريين تنسب إلى عرابي، ذلك الرجل الذي تلفتت القلوب إليه وقد اشتدت الأزمة وأزفت الآزفة تأمل على يديه النجاة من الخطر المحدق ...
إن القضية كلها يمكن تلخيصها وقد قرب دوي العاصفة في كلمة قصيرة، هي أن خلافا داخليا وقع في مصر بين الخديو المتمسك بالحكم المطلق وبين زعماء الشعب المتمسكين بالحكم الدستوري، فانتهز الإنجليز هذه الفرصة لتحقيق نياتهم المبيتة من قبل هذا الخلاف، ولم يشأ الخديو أن يتنازل عن مبدأ الاستبداد، فركن إلى الأجانب ليتخلص من الوطنيين، وعمل هؤلاء الثعالب على زيادة الخلاف وعلى رأسهم مالت كبير شياطينهم، حتى كانت المذكرة المشتركة الثانية وهي الضربة التي تصيب الحركة القومية في مقتل، فلم يجد عرابي وأعوانه بدا من دفع هذا العدوان الفاجر عن البلاد أنفة وحفاظا ولو ذهبت أرواحهم في سبيل ذلك ...
فليت شعري كيف كان ينتظر منهم أن يفعلوا غير ذلك في موقف كهذا الموقف؟ ألا فليحترموا عقولهم أولئك الذين يردون سبب الاحتلال إلى عرابي، إن كانوا يرجون لأنفسهم ولوطنهم وقارا ...
عرابي ملاذ البلاد
كان لقبول استقالة البارودي أسوأ وقع في البلاد جميعا، وأحس الناس فيها نذر الخوف وبوادر العاصفة، وقر في نفس كل وطني أن الخديو اليوم في قبضة الأجانب وبخاصة الإنجليز، وأن مالت هو الذي يحركه ويوحي إليه ما يريد ...
ولم يعد خافيا على أقل الناس دراية مغزى قبول الخديو المذكرة الثانية، ومغزى قبول استقالة الوزارة.
وأظهر توفيق صرامة لم يألفها الناس منه، فأصر على قبول استقالة الوزارة على الرغم من إحجام شريف ومصطفى فهمي وغيرهما عن تأليف وزارة جديدة ...
وبادر توفيق بإرسال أمر منه إلى المديرين قال فيه: «بما أن هيئة النظار الحاضرة استعفت وصار قبول استعفائها فليكن معلوما ذلك لديكم لتصرفوا جهودكم وقدرتكم في المحافظة التامة منكم ومن مأموري المديرية الموكلة لإدارتهم والدقة والانتباه لحسن سير الأشغال والمصالح المتعلقة بكم، كما أنه من حيث إن السفن الحربية الأجنبية التي حضرت إلى الإسكندرية لم يكن حضورها إلا بوجه سلمي فقط، ولم يكن هناك شيء آخر خلاف ذلك، فليس هناك لزوم لإرسال أحد من عساكر الإمدادية الذين صار طلبهم أخيرا بمعرفة الجهادية، بل إن الموجود منهم تحت الحضور لهذا الطرف يصير إعادته لبلده، والذي تحت الحضور من البلاد يتنبه بصرف النظر عن حضوره، وإعلان المراكز والأقسام بالتنبيه على مشايخ وعمد البلاد بهذا المضمون للعلم بعدم الاقتضاء لجمع عساكر، وانتباه كل لأشغاله وزراعته بدون اشتغاله في غير ذلك، هذا وإن الأمور المهمة التي كان قد جرى العرض عنها لنظارة الداخلية يجب أن يعرض عنها من الآن لمعيتنا إلى أن تشكل هيئة نظارة جديدة كما هو مطلوبنا.»
وهذه أوامر من الخديو تعد بالغة الخطورة، فهو يهون من حضور السفن الأجنبية، ثم يريد أن يحبط الدفاع الوطني، وذلك بمنع إرسال الجنود التي كانت وزارة البارودي قد استدعتهم من الجيش الاحتياطي قبل استقالتها، وهو يحث الناس على الاشتغال بالزراعة دون غيرها أعني ألا يلبوا إذا دعا داعي الجهاد، وفوق ذلك جميعه فهو يستبد بالأمر كي يلقي في روع الناس أنه السيد الوحيد الذي يجب طاعته في البلاد.
وأي رضاء بالاحتلال والتمهيد له يكون أصرح مما يفعل توفيق بأوامره هذه في وقت كذلك الوقت الذي يحدق فيه الخطر بالبلاد؟
إنما يريد توفيق أن يعترض طريق ثورة مشروعة في مصر مبعثها تدخل الأجانب في شئونها الداخلية توطئة لالتهامها، وأن يظهر عرابيا ومن معه بمظهر العصاة المتمردين، الذين يعمل هو ومن يعضده من الأجانب على قمعهم والقضاء عليهم، وليس أكثر من هذا الذي يفعل ممالأة للعدو واندماجا في سياسته ...
ولكن ما لبث توفيق ومؤيدوه أن تبينوا أن الأمر ليس من السهولة كما تصوروا، وأن أمامهم من الصعاب ما ينوء من حمله أقدر الرجال ...
وكان مالت قد تصور الأمر هينا كما تصوره توفيق، فقد أبرق إلى جرانفل في اليوم التالي لسقوط الوزارة يقول: «رأى الوزراء أنهم إذا رفضوا الشروط التي قبلها توفيق فإنهم بذلك يبيتون في ثورة مكشوفة بدلا من ثورتهم المستترة، وهذا موقف أشفقوا منه، وعلى ذلك فإن سقوط الوزارة يرجع إلى المسلك الحاسم الذي سلكه سموه.»
1
واطمأنت كذلك الحكومة الفرنسية، وظنت أن مصر قد ماتت فيها روح المقاومة بسقوط الوزارة السامية، وكانت إنجلترا قد عادت إلى مراوغتها في اليوم الرابع والعشرين من مايو، أي قبل سقوط الوزارة بيومين فاقترحت على فرنسا أن تحاط الدول علما بما تراه إنجلترا من علاج للحال، وهو أن يكون جيش تركي على أهبة الاستعداد للذهاب إلى مصر، فكتب ممثل فرنسا في لندن إلى جرانفل قبل سقوط البارودي بيوم يقول: «أبرق إلى مسيو دي فرسنيه أن مجلس الوزراء الذي عرض عليه مقترحكم قد أجمع رأيه على أنه ليس في الموقف الحالي ما يبرر الالتجاء إلى قوة تركية، فقد وصلتنا مذكرة من قنصلنا العام بمصر في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر وفيها أن الوزارة في سبيلها إلى الاستقالة وأن عناصر المقاومة في طريقها كما يتضح إلى الانحلال، وعلى ذلك فلدينا كل ما يدعو إلى انتظار ما عسى أن تصير إليه الحوادث.»
2
ولكن مالت ما لبث أن أبرق إلى حكومته أنه قد طلب إلى شريف باشا أن يؤلف وزارة فرفض ذلك مصرحا بأنه لا يمكن إقامة حكومة في مصر طالما يقيم بها العسكريون، ثم قال مالت: «ولكن الخديو يحاول الآن إقامة وزارة ولو أن أمله ضعيف في أن يوفق إلى وزارة ذات كفاية إن كان ثمة من أمل في إمكان قيام وزارة ما.»
3
وعاد مالت يقترح أن يستعان بالسلطان ليعيد النظام في مصر، وذلك بأن يرسل ضابطا من لدنه في أقرب وقت «وكذلك يرى توفيق أن مبعوثا تركيا يمكنه أن يسمع العسكريين صوته وأن يعيد إلى مصر الهدوء».
والحق أن سقوط الوزارة السامية قد هز البلاد من أعماقها، وبات الناس يتوقعون الاعتداء في كل لحظة، ولم تبق في البلاد هيئة أو طبقة إلا أسخطها مسلك الخديو. قال عرابي في مذكراته:
4 «وما طير البرق خبر استعفاء الوزارة واحتجاجها على قبول الخديو للائحة إنجلترا وفرنسا حتى بلغ الاضطراب في جميع بلاد القطر مبلغا عظيما، وأخذ القلق من النفوس مأخذا جسيما، فكثر اللغط وزادت بواعث الإيجاس والخوف، ثم حضر إلى العاصمة جميع أعيان البلاد ومستخدمي الحكومة، وقدموا لنا مئات العرائض بواسطة مديريهم محتجين فيها على عمل الخديو هذا وطالبين أحد أمرين: إما رفض اللائحة المشتركة المذكورة، وإما عزل الخديو الذي قبل تدخل الأجانب في أحوال البلاد الداخلية.»
ويتبين لنا مبلغ ما لقي توفيق من عسر في الاجتماعين اللذين عقدهما في الصباح وفي المساء برئاسته بسراي الإسماعيلية في اليوم التالي لسقوط الوزارة، ففي اجتماع الصباح حيث شهده النواب وكبار العلماء والأعيان وكبار الموظفين، عرض الخديو الوزارة على شريف باشا فاعتذر وأصر على اعتذاره، وحضر أثناء الاجتماع قنصل فرنسا العام ينبئ الخديو بأن برقية وردت عليه من حكومته تأمل فيها فرنسا أن يقبل شريف باشا الوزارة وستعضده الحكومة الفرنسية بكل جهودها، ولكن شريفا ظل على إحجامه وخوفه ... ثم اشترط أن يقبل وزارة الحربية معه عمر باشا لطفي محافظ الإسكندرية فرفض ذلك عمر باشا، وعرض الخديو رئاسة الوزارة على عمر فأشفق منها ...
وفي اجتماع المساء صارح الخديو المجتمعين بأنه سوف يشكل الوزارة برئاسته وستكون له وزارة الجهادية، ثم عاد يبين للمجتمعين ما حدا به إلى قبول مذكرة الدولتين، وهدد الخديو وتوعد وقال إنه مع عفوه عما مضى لن يسمح بعصيان أو مخالفة في المستقبل، ثم أراد أن يخفف من وقع البوارج الحربية فعاد يؤكد أنها ما جاءت إلا لأغراض سلمية ...
وكل ذلك يدل على مبلغ ما أحاط بتوفيق من حيرة كما يشير إلى شدة شعوره بما يجد في نفسه من حرج مما فعل، وإن تظاهر أنه لا يبالي بشيء ...
وتكلم طلبه باشا عصمت أحد الزعماء العسكريين، فقال يرد على تهديد الخديو: «إننا مطيعون جميعا للجناب السلطاني الشاهاني وللجناب الخديو، ولكن هذه اللائحة يستحيل علينا تنفيذها، ولا حق للدولتين في طلب تنفيذها، فهي تتعلق بمسائل من اختصاص الباب العالي أن ينظر فيها، ويستحيل علينا قبول أحد رئيسا للجهادية خلاف رئيسنا أحمد عرابي باشا.»
5
وفي هذا الكلام تحد صريح للخديو يدل على مبلغ ما كان في نفوس العرابيين من استياء منه، ومن حماسة وطنية أوقد جذوتها مسلكه بانحيازه إلى الأجانب.
وزاد الموقف خطورة أن ورد على الخديو برقية من كبار رجال الجيش والشرطة بالإسكندرية يقولون فيها إنهم لا يطمئنون لغير عرابي ناظرا للجهادية، وإنه إذا مضت اثتنا عشرة ساعة ولم يعد عرابي إلى منصبه فهم غير مسئولين عما تفضي إليه الحوادث ...
وكان مالت لا ريب فرحا لوقوع توفيق في مأزق كهذا، فإن ظاهر الأمر يؤيد قوله إن تسلط الجيش هو سبب كل خوف، وإن كانت حقيقة الأمر تقطع بأنه هو وكلفن كما بينا أصل كل المصائب ...
ويذكر كرومر في كتابه «إن سلطان باشا وبعض النواب أخبروا الخديو في حضور القنصلين الفرنسي والإنجليزي أنه ما لم يوافق على إعادة عرابي وزيرا للجهادية فإن حياته يحف بها الخطر.»
وعلى الرغم من ذلك، كما ذكر كرومر أيضا، فإن الخديو أصر على رفضه كما جاء في تقرير مالت ...
وفي نفس اليوم الذي عقد فيه الخديو اجتماعيه عقد اجتماع شعبي في دار سلطان باشا وقد شهده كبار العلماء والنواب، كتب عرابي يصف هذا الاجتماع فقال: «في ليلة السبت 27 مايو سنة 1884 دعيت إلى منزل محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، فذهبت إليه ومعي إخوتي علي باشا فهمي، وعبد العال باشا حلمي، ومحمد بك عبيد، وغيرهم من الإخوان، فلما وصلنا المنزل المذكور وجدناه غاصا بأعضاء مجلس النواب ومعهم قاضي قضاة مصر الشيخ عبد الرحمن نافذ، والشيخ عبد الهادي الإبياري إمام المعية، وحصل الاتفاق على ملازمة الراحة والسكون وأن الخديو يرفض اللائحة الثنائية ويأمر برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية أو يعزل عزلا، وفي أثناء ذلك حضر بحديقة المنزل جماعة من الضباط والنبهاء من الملكية وغيرهم، وصاحوا بقولهم: اعزلوا الخديو الذي دعا الأجانب للتدخل في أمرنا وتهديدنا بأساطيلهم ...
ثم خرجت بمن معي من الضباط وتوجهنا إلى منزل محمود باشا سامي فوجدنا كثيرا من الذوات هناك ينتظرون ما عسى أن يحدث من مخبآت الدهر فقابلنا عبد الله باشا فكري الذي كان أستاذا أو مربيا للخديو في صغره وقال لنا: إن قتلتموه؟ فقلت له: إننا لا نقتل أحدا بغير حكم شرعي، فلا يليق بك أن تتكلم بهذا الكلام، ثم توجه كل منا إلى منزله.»
وفي اليوم الثامن والعشرين من مايو، أبرق الصدر الأعظم إلى الخديو ينبئه بأن «مبعوثا من لدن السلطان يرسل إلى مصر إذا تلقى السلطان طلبا رسميا بذلك.»
6
وكان ذلك ردا على ما أرسله توفيق إلى الآستانة في اليوم التالي ليوم استقالة الوزارة من أنباء مؤداها أن الجند غير راضين عن إسقاط الوزارة، وأن الوزارة احتجت في استقالتها على تدخل الدولتين ... واشترطت تركيا هذا الشرط لإيفاد المبعوث خوفا من إنجلترا وفرنسا أن تغضبا إذا هي تدخلت من تلقاء نفسها ...
وسأل توفيق القنصلين ماذا يصنع فيما جاءه من الصدر الأعظم؟ وأبرق مالت إلى حكومته يقول: «لقد ذكرت للخديو أنه إذا كانت حياته معرضة للخطر، فلست أستطيع أن أنصح بشيء يخالف الخطوة التي يقترحها إذا ظهر أنها هي فرصة الخلاص الوحيدة، واقتصر مسيو سينكويكس على قوله إنه سيطلب رأي حكومته، ثم تركنا الخديو بدون أن نفضي إليه بأكثر من هذا، مع أن الخديو كان يلح علينا بضرورة إرسال رد عاجل إلى الصدر الأعظم.»
ووصف مالت موقف توفيق في هذا الظرف بقوله: «إن موقف الخديو موقف مؤلم أعظم الألم، فهو مهدد بالقتل، ثم إننا صرفناه عن الذهاب إلى الإسكندرية حيث كان في الوقت متسع لهذا، وكذلك لم نخل بينه وبين الالتجاء إلى الجهة التي يأتيه منها تأييد ذو أثر، ولذلك فهو والحال كما أذكر خليق بأن يشعر شعور المرارة تلقاء ما يبدو له الآن من عواقب اتباعه نصحنا واعتماده على تأييدنا.»
وهكذا نرى مالت يضغط ضغطا شديدا على حكومته لتعجل بالتدخل المسلح المنشود، وكان من أثر ذلك أن كتب جرانفل دون أن ينتظر مشورة الحكومة الفرنسية إلى اللورد دوفرين في الآستانة بقول: «إن حكومة جلالة الملكة ترى الضرورة ملحة بألا يضيع السلطان شيئا من الوقت دون أن يرسل أمرا به يؤيد الخديو، ويرفض الاتهام الذي عزته الوزارة الساقطة إلى سموه، ويأمر كبار العسكريين الثلاثة، وكذلك رئيس الوزارة السابق إذا دعا الحال، بأن يحضروا ليشرحوا مسلكهم في القسطنطينية.»
ويتضح من ذلك أن الحكومة الإنجليزية تخطو خطوة سريعة نحو الانفراد بالعمل وتنفيذ خطتها في التهام مصر، ولا نجد في تفسير سياستها خيرا من قول كرومر في هذا الظرف تعليقا على الموقف: «إن النتيجة على أي حال لم تكن بعيدة، فإنه كان يتضح يوما بعد يوم أن عرابي لن يخضع إلا بالقوة، فإذا لم تتبع القوة المطلوبة أي جهة أخرى فإن هذا العمل يلقى بالضرورة على عاتق إنجلترا.»
هذا هو الذي كانت ترمي إليه السياسة الإنجليزية من جميع مراوغاتها واقتراحاتها، ولسوف تنفرد عما قريب بضرب الإسكندرية، وحجتها في ذلك تأييد سلطة الخديو تجاه عرابي الثائر الذي تحركه الأطماع والمآرب الشخصية!
واشتد خوف الأجانب في مصر حين فهموا أن الخديو عاجز عن تأليف وزارة، فذهب وفد من القناصل إلى عرابي في الثامن والعشرين من مايو، وقد أشار عرابي إلى ذلك في قوله: «ولما تعاظم الخوف حضر لمنزلي جميع قناصل الدول ما عدا قنصلي إنجلترا وفرنسا يطلبون مني التأمين على رعاياهم فأجبتهم بأني قد استعفيت ولا صفة لي تخولني تحمل هذه المسئولية العظيمة، فقالوا إن الجيش لا يخالف إرادتك، وأنت رئيس الحركة الوطنية فلا نأمن على رعايانا وأنفسنا إلا بإعطائك لنا كلمة الشرف بحفظ رعايانا، فلأجل طمأنينتهم وتسكين روعهم كتبت تلغرافا إلى جميع مراكز العسكرية بصفة أني رئيس الحزب الوطني أرغب إليهم فيه أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأن يحافظوا على راحة العموم، وخصوصا رعايا الدول الأجنبية، وأن يعاملوا الجميع بحسن المعاملة وكمال المجاملة.»
وقابل هؤلاء القناصل الخديو، ورجوا منه أن يعيد عرابي إلى الجهادية حفظا للأمن في مصر وتفاديا للأخطار.
أما الوطنيون فقد اشتد قلقهم وقد مضى يومان والخديو عاجز عن إقامة وزارة، ونشط سلطان باشا، وأكثر من مقابلة الخديو، وفي نفس اليوم الذي قابله فيه القناصل، ذهب سلطان إلى سراي الإسماعيلية وتحدث مع الخديو طويلا، ولكنه وجد منه تصميما على موقفه ...
واجتمع بمنزل سلطان باشا عدد كبير من النواب والعلماء والأعيان وكبار ضباط الجيش، واتفقوا على أن يذهب وفد منهم إلى الخديو يرجو منه أن يعيد عرابي وزيرا للحربية، ففي ذلك ضمان الأمن والسلامة.
وذهب وفد مؤلف من سلطان باشا وحسن باشا الشريعي وسليمان أباظة إلى سراي الإسماعيلية وقابلوا الخديو وعرضوا عليه ملتمسهم أن يعيد عرابي إلى الوزارة؛ فرفض الخديو وأصر على رفضه، وبعد طول توسلهم وتوسط سلطان باشا أجابهم الخديو إلى طلبهم قائلا: «بما أنكم أتيتم طالبين تقليد نظارة الجهادية لسعادة عرابي باشا حيث إنكم تظنون أن هذا التعيين يساعد على حفظ النظام فلا مانع من إجابتكم ...»
وإن اتفاق هذا العدد الكبير من رجالات الأمة على إعادة عرابي حتى يطمئن الناس ويتحقق الهدوء لدليل لا شبهة فيه على أن الرجل فضلا عما تحقق له من الزعامة قد أصبح بحق ملاذ البلاد، أما الخديو فلم يعد في رأي الناس إلا أداة طيعة في يد مالت يصرفه كيف شاء ...
أشار إلى ذلك روثستين في كتابه بعد أن أشار إلى احتجاج ضباط الجيش ورؤساء الشرطة في الإسكندرية على الخديو بقوله: «وسرعان ما وصل نبأ هذا الاحتجاج إلى أهل القاهرة، فقام إلى الخديو وفد مؤلف من رؤساء الأديان المختلفة، علماء الإسلام، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود، وطلب إعادة عرابي وزملائه، فكان ذلك مظهرا من مظاهر إرادة الأمة غير متوقع بالمرة ... وعندما قدم سلطان باشا على الخديو مهرولا يكاد يقتله الخوف، وتوسل إليه أن يرجع النظار إلى مناصبهم وإلا كانت حياته في خطر، نقول عند ذلك أذعن توفيق وأصحابه البررة، وأعيدت الوزارة، وأرسلت الأوامر إلى الأقاليم بإلغاء أوامر التسريح السابقة ... ولم تدم هذه المأساة الهزلية أكثر من ثلاثة أيام، ولكنها كانت كافية في إظهار شعور الأمة الحقيقي. وإن في السرعة التي أرسلت بها الأوامر إلى الأقاليم لوقف جميع وسائل الدفاع لبيانا لسبب كره الدبلوماسيين البريطانيين عرابي ورفاقه، فقد رأوا أنه ما دام هؤلاء قابضين على أزمة الأمور فلا يحتمل أن تقع مصر غنيمة باردة في أيدي المعتدين.»
ولكن مالت لم يرقه هذا المظهر فكان مما افتراه فيما أبرق به إلى حكومته ما جاء في قوله: «في هذا المساء توجه رؤساء رجال الدين وفيهم البطريرك، والحاخام، كما توجه النواب جميعا والعلماء وغيرهم إلى الخديو، وسألوه أن يعيد عرابي وزيرا للجهادية، فرفض الخديو، ولكنهم توسلوا إليه قائلين: لئن كان الخديو مستعدا ليضحي بحياته فينبغي ألا يضحي بحياتهم هم، وإن عرابي يهددهم جميعا بالموت إن لم يحصلوا له على موافقة الخديو، وإن حرس القصر قد ضوعف، وإن أوامر صدرت إليهم بأن يمنعوا مغادرته القصر طلبا لرياضته المعتادة، وأن يطلقوا النار إذا حاول أن يشق طريقه بالقوة ... ولم يجد الخديو أمام هذه الظروف إلا الإذعان لا لينجي نفسه، بل لينقذ المدينة من سفك الدماء.»
إلى هذا الحد يبلغ افتراء مالت فيصور توفيقا سجينا في قصره ويجعله عرضة لأن يطلق حرسه النار عليه، وهذه رواية لم يوردها غير مالت بين جميع من كانت لهم صلة بهذا الموقف من القناصل ومن المؤرخين. ومن الأمور البديهية أنه لم يحجم عن أن ينقل مثل هذه الشائعات المفزعة إلى توفيق نفسه ليملأ قلبه رعبا، ويوحي إليه أن يطلب النجدة ...
وفي مساء اليوم الثامن والعشرين من مايو، أصدر الخديو أمرا إلى عرابي باشا بإعادته إلى وزارة الجهادية والبحرية هذا نصه: «ولو أنكم استعفيتم ضمن هيئة النظار التي استعفت، ولكن مراعاة لحفظ الراحة والأمن رأينا بقاءكم على نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم لتعلموه وتبادروا بإجراء ما فيه انتظام أحوال العسكرية بالطريقة الكفيلة لحفظ الأمن العام على الوجه المرغوب كما هو مقتضى إرادتنا.»
يقول عرابي في مذكراته: «حضر لي رئيس مجلس النواب سلطان باشا وحسين باشا الشريعي وسليمان باشا أباظة، وسلموني أمر الخديو القاضي برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية، وأخبروني بأنهم لما وفدوا على الخديو وجدوا جميع القناصل في حضرته ما عدا قنصلي فرنسا وإنجلترا، وأنهم طلبوا من الخديو صدور أمره برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية لأجل اطمئنان العموم، فكان القناصل مع النواب على رأي واحد، وحينذاك فرح الضباط والجنود وجميع الوطنيين وسروا بذلك سرورا عظيما ...
وبعد ذلك توالى اجتماع قنصلي إنجلترا وفرنسا الجنرالين بالخديو ليلا ونهارا، ثم إني أصدرت منشورا إلى قناصل الدول، وتكفلت لهم فيه بتأييد الأمن والراحة لجميع سكان القطر المصري وطنيين وأجانب، مسلمين وغير مسلمين، وطلبت من الخديو لزوم جمع العساكر لاستكمال الآلايات على مقتضى القدر المقرر في الفرمانات السلطانية فأجابني بالموافقة على ذلك، وصدر أمر الجهادية بجمع عساكر الإمدادية نمرة2، ونمرة 3، استعدادا لما عسى أن يطرأ من الحوادث.»
وأخذت الطمأنينة تحل محل القلق في نفوس الناس، إلا من كانوا يفطنون إلى حقيقة الموقف، فليست المسألة مسألة الخلاف بين توفيق وعرابي، وإنما المسألة هي نوايا السياسة الإنجليزية! ولذلك ما كانت أية تسوية داخلية لتجدي فتيلا والإنجليز متربصون، ومالت يسعى جهده لتعكير الماء كي يسهل عليه الغدر ...
والواقع أن تعلق الناس بعرابي إلى هذا الحد واطمئنان الوطنيين والأجانب إليه، أقوى رد يدفع به باطل مالت وأشياعه ممن خوفوا أوربا من نفوذ الحزب العسكري وأنذروها بالويل والثبور، فها هم أولاء الناس من وطنيين وأجانب لا يجدون لهم ملاذا غير عرابي ليطمئنوا على حياتهم وأمنهم ...
وكان عجز الخديو كذلك عن إقامة وزارة أبلغ فشل لسياسة مالت، فإن طوائف الأمة تؤيد الجيش ما عدا سلطان ونفرا من النواب، وما تلتف الأمة حول الجيش ورئيسه عرابي إلا لأنه اليوم في نظر الجميع أكثر مما كان من قبل أمل البلاد في إنقاذها من التدخل الأجنبي، وهل يقول أحد إن الأمة كانت في صف توفيق بعد قبوله المذكرة المشتركة الثانية؟
إذن فالقضية تزداد وضوحا يوما عن يوم، فهذه أمة تطلب الحرية، ولكن إنجلترا وعلى رأسها جلادستون زعيم الحرية تتهمها بالتمرد والفوضى، كي تتقدم لالتهامها، كما اتهم الذئب الحمل في تلك الخرافة التي يقصونها على الأطفال بأنه يعكر عليه الماء، والذئب في رأس المنحدر، والحمل في أسفله؟!
وما أرذل موقف مالت بعد التفاف الأمة حول عرابي على هذه الصورة، وما أكثر ما يكشفه الموقف من صفاقته ولؤم طبعه ... يقول روثستين: «لا شك أن السير إدوارد مالت قد ساءه الإخفاق الذي لقيه وهو يحاول التخلص من وزارة سامي، ولو أنه كان على شيء من الشعور بكرامة النفس لاستعفى وقتئذ من عمله. ولكن الرجل لم يكن يريد المحافظة على كرامة نفسه، وإنما كان يريد إحداث تدخل مسلح، فإذا لم تؤده إلى ذلك طريق سياسة سلكها، فلا بأس بأن يعيد الكرة ويسلك طريقا أخرى تكون أقصد وأهدى إلى وجه النجاح. لذلك لم يكن الإخفاق الذي لقيه إلا ليزيده إقبالا على العمل ومضيا فيه، فقد كتب عن رجوع الوزارة
7
إلى رئيسه في 30 مايو يقول: إن القوم يعدونه إيذانا بإخراج المسيحيين من مصر ورجوع الأرض التي يمتلكها الأوربيون أو يرتهنونها، كما يعدونه إيذانا بإلغاء الدين العام ...»
وكيف كان يطيق مالت أن يضمن عرابي الأمن في مصر؟ وكيف كان يطيق أن ينجح عرابي فيما تعهد به؟ إن معناه بطلان كل حجة له، بل بطلان حجته الوحيدة التي لا يفتأ يرددها ألا وهي اختلال الأمن في البلاد، وقلق الأجانب على أموالهم بسبب تسلط العسكريين ...
لذلك يبالغ مالت في وصف ما يدعي من سوء الحال في مصر، ولا يكتفي بما ذكره فيما أورده روثستين، بل إنه يبرق إلى حكومته في نهاية شهر مايو قائلا: «ربما وقع تصادم في أي وقت بين المسلمين والمسيحيين»
8
ولنا عودة إلى هذه البرقية الخبيثة عند كلامنا على مأساة الإسكندرية ...
ويذكر مالت فيما يذكره لحكومته أن البلاد في حالة ذعر، وأن الأوربيين يغادرون القاهرة أفواجا، وأن الوزارات جميعا ما عدا وزارة الجهادية تكاد تكون معطلة الأعمال، إلى غير ذلك من المفتريات الفاجرة ...
ويشايع مالت إنجليزي آخر، هو كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية الذي رأيناه يلعب دور الشيطان يوم عابدين، فقد أبرق قبل اليوم الأخير من مايو يقول:
9 «إن كل يوم نتأخره يزيد روح العسكريين الخطرة كما يزيد تحديهم المتواصل للنظام ...»
ويقول كذلك وما أبعد ما يقول عن الحق: «إن ضباط الجيش يحصلون بالقوة على توقيعات من الناس على عريضة بطلب عزل الخديو. وإن رئيس مجلس النواب طلب إلى الأعضاء أن يستقروا في بيوتهم لكي يخلصهم من إرغام الجند إياهم على التوقيع.»
10
وللقارئ أن يتدبر في قول كوكسن: «إن كل يوم نتأخره»، ومعنى ذلك أنه كان كصاحبه مالت يستعجل دولته بالعدوان الغادر على البلاد ...
بين عرابي والسلطان
ذكرنا أن الحكومة العثمانية أجابت الخديو بأنها مستعدة لإرسال مندوب إلى مصر إذا جاءها من مصر طلب رسمي بذلك، ويقول كرومر في كتابه: إن هذا الطلب الرسمي أرسل فعلا إلى الآستانة، ومهما يكن من الأمر فإن السلطان في اليوم الثاني من شهر يونيو سنة 1882 عين مصطفى درويش باشا مندوبا عثمانيا ساميا، وأمره بالسفر إلى مصر رئيسا لوفد يعالج الحال فيها، ولعل السلطان كان يرى أن هذا الوفد أو هذه البعثة التي اشتهرت باسم بعثة درويش باشا كانت كفيلة بوضع الأمور في موضعها الصحيح، وإزالة أسباب الشكوى من جميع الجوانب على أساس الاستفادة من الخلاف بين الفريقين ابتغاء تثبيت سلطة الدولة في مصر ...
ووصل درويش باشا ووفده إلى الإسكندرية في اليوم السابع من يونيو، وقد أقلهم إليها اليخت السلطاني «عز الدين»، وكان من أهم أعضاء الوفد الشيخ أحمد أسعد أحد ذوي الحظوة والمكانة عند السلطان عبد الحميد، وبلغ عدد أعضاء البعثة ورجال حاشيتها ثمانية وخمسين ...
ويجدر بنا قبل الكلام على بعثة درويش أن نأتي على تاريخ الصلة بين عرابي والسلطان منذ بدأت بينهما، لما لذلك التاريخ من أهمية لعلاقته بما كان من أمر درويش ومسلكه نحو الخديو ونحو عرابي ...
كانت أولى خطوات عرابي نحو الاتصال بالآستانة تقابله مصادفة في اليوم السادس عشر من أكتوبر سنة 1884 بأحمد راتب باشا، أي بعد يوم عابدين بشهرين وبضعة أيام، وقد ذكر عرابي نبأ هذه المقابلة في موضعين: الأول في مذكراته، والثاني في حديثه مع مستر بلنت بالشيخ عبيد في اليوم الثاني من شهر يناير سنة 1904، أي بعد عودته من منفاه بأكثر من عامين، وقد أثبت بلنت هذا الحديث في آخر كتابه ...
قال عرابي في مذكراته: «وفي 16 أكتوبر تقابلت مع أحمد راتب باشا أحد رجال الوفد العثماني، وأحد رجال المابين المقربين من جلالة السلطان الأعظم في محطة الزقازيق، وكان قاصدا بندر السويس ليبحر منه إلى الحجاز لمأمورية فوق العادة، فركبت معه في عربة واحدة وعرفته بنفسي، ثم أخبرته بكل ما أجريناه من أول الأمر إلى آخره، وإننا لم نشق عصا الطاعة كما يدعي الأوربيون، بل طلبنا الإصلاح باسم الذات الشاهانية، وبذلك علم الصغير والكبير بأن لنا سلطانا شرعيا هو صاحب السيادة العظمى على البلاد المصرية وأن الخديو هو نائب عن جلالته فقط، من بعد أن كانوا لا يعرفون لهم حاكما شرعيا غير الخديو. ولما وصلنا إلى رأس الوادي حضر الضباط والصف ضباط، واصطفوا صفا واحدا تعظيما وإجلالا للذات المشار إليها، وهتفوا بقولهم: يعيش السلطان، ثم ودعناه والتمسنا منه عرض إخلاصنا وطاعتنا على الحضرة السلطانية حين عودته إلى الآستانة العلية، وقام به القطار بين أصوات المودعين والدعاء له وللذات الشاهانية.»
وقال في حديثه مع بلنت: «ولما جاء علي باشا نظامي إلى القاهرة ومعه أحمد راتب باشا من قبل السلطان، انزعج الخديو مخافة أن يحدث تحقيق، ولما كان محمود سامي قد عاد إلى نظارة الجهادية فقد أمرنا أن نغادر القاهرة، فذهبت إلى رأس الوادي وذهب عبد العال إلى دمياط، وبقي علي فهمي في القاهرة، ولم أر علي نظامي ولا كانت لي صلة به، ولكن حدث أن كنت في الزقازيق ذات يوم في زيارة صديقين لي هما: أحمد أفندي الشمسي، وسليمان أباظة باشا، وبينما كنت راجعا بالقطار إلى رأس الوادي، تصادف أن كان أحمد باشا راتب في طريقه إلى السويس ليبحر منها في رحلة إلى مكة، ووجدت نفسي في العربة التي كان يجلس بها، وتبادلنا التحية كشخصين يجهل كلاهما الآخر، وسألته عن اسمه، وسألني عن اسمي، وحدثني عن رحلته وعن أشياء أخرى، ولكنه لم يشر إلى بعثته للخديو، وكذلك لم أسأله عنها، ولكني أخبرته عن ولائي للسلطان بصفته رئيسا لديننا، وقصصت عليه جميع ما حدث، فقال: خيرا ما فعلتم، وتركته عند رأس الوادي، وقد أرسل إلي مصحفا من جدة. ولما عاد إلى استانبول كتب إلي يخبرني أنه ذكرني بخير عند السلطان، وبعد ذلك تلقيت كتابا أملاه السلطان على الشيخ محمد ضفر يخبرني فيه
1
بما تعلم.»
أما عن بعثة علي نظامي فإن عرابي لم يكن له بها صلة لولا ما كان من لقائه أحمد راتب باشا على الصورة التي ذكرناها، وكانت بعثة نظامي هذه هي الوفد العثماني الأول، وقد وصلت مصر في اليوم السادس من أكتوبر سنة 1881، وسميت بعثة درويش بعد ذلك بالوفد العثماني الثاني ...
نزل أعضاء الوفد الأول بقصر النزهة ضيوفا على الحكومة، واستقبلهم الخديو في اليوم التالي مرحبا بهم في قصر الإسماعيلية، وأبلغوه تحيات السلطان، وثناءه على ما يبذل الخديو من همة في تحسين أحوال البلاد، وأفهموه أن الغرض من مجيئهم هو تأييده وتثبيت حكمه في مصر ... وعبر الخديو أمامهم عن عظيم شكره للسلطان وولائه له، ورد لهم الزيارة في قصر النزهة ...
وزار علي نظامي باشا ديوان الحربية في مقرها بقصر النيل، وكانت مقر الآلاي الثاني، واستقبله البارودي بالحفاوة، وألقى نظامي باشا خطابا بالتركية على الضباط والجند حثهم فيه على طاعة الخديو، وترجمه لهم البارودي، وأجاب طلبه عصمت بقوله: «إن العساكر المصرية جموعا وأفرادا على قدم الطاعة والانقياد لولي أمرنا الخديو المعظم، يتلقون أوامره بالامتثال، ويقفون عند حد نواهيه، فإن كلا منا يعلم أن أول واجب على الجند هو إطاعة ولي الأمر والإذعان لما يأمر به، وما منا إلا محب للجناب الخديوي ميال بكليته إلى الامتثال لإشارته.»
وصافح نظامي باشا الضباط جميعا، وأثنى على ما يظهرون من ولاء وحسن نظام.
وزار نظامي باشا شيخ الجامع الأزهر ونقيب الأشراف وبعض كبار العلماء، فلقي منهم جميعا ثناء على الجيش، وشهدوا بحسن نياته وولائه للسلطان وللخديو، وكان زعيم الجند أحمد عرابي أثناء ذلك في رأس الوادي فلم يره نظامي.
ويبدو عجيبا أن نظامي لم يحاول أن يتصل بعرابي، ولعل مرد هذا إلى أن السلطان لم يكن يؤيد يومئذ الحركة الدستورية في مصر، فقد حارب عبد الحميد مثل هذه الحركة في بلاده، وذلك بتعطيل القانون الأساسي العثماني وإغلاق مجلس النواب وتشتيت أنصار الدستور والحرية ...
وكانت بعثة نظامي في الواقع مظاهرة سياسية، أراد بها الباب العالي أن يستعيد نفوذه ويثبت سلطانه في مصر، وقد قوبلت كما أسلفنا بمظاهرة سياسية مثلها من قبل الدولتين ...
أما خطوة عرابي الثانية نحو الصلة بالآستانة فتتلخص فيما جرى من مكاتبات بين بعض رجال السلطان وبين عرابي ...
وقد أشار بلنت في كتابه إلى هذه المكاتبات بقوله بعد أن ذكر ما كان من لقاء بين راتب وعرابي: «وقد أدى ذلك إلى مكاتبات بينهما، وتحت يدي أصل وثيقتين هامتين وقعت عليهما ضمن إضبارة كبيرة من الأوراق أثناء محاكمة عرابي، وهما كتابان أرسلا إلى عرابي بعد تأليف وزارة سامي بنحو ثلاثة أسابيع أي في فبراير سنة 1882، وهي الوزارة التي كان عرابي فيها وزيرا للجهادية، أما أولهما فمن أحمد راتب، وأما الثاني فمن الشيخ أحمد ظافر أحد كبار شيوخ الدين بالقسطنطينية الذي كان في ذلك الوقت يقوم على شئون المكاتبات السرية للسلطان، وقد كتبت هاتان الرسالتان بأمر السلطان شخصيا.» ثم أورد بلنت بعد هذا نص الرسالتين.
ويذكر عرابي في مذكراته أن الأصل التركي للرسالتين ضبط بعد موقعة التل الكبير وترجمتا إلى اللغة الإنجليزية ثم أورد عرابي تعريبهما عن الإنجليزية ...
أما عن قصة هاتين الرسالتين فيقول عرابي: «ولما رأينا كثرة تردد السير مالت قنصل إنجلترا الجنرال على الخديو ليلا ونهارا واستسلام الخديو لما يوحي به إليه، علمنا أن إنجلترا طامعة للاستيلاء على وادي النيل الخصيب عملا بقاعدة التوازن الدولي، لتضارع بعملها هذا عمل فرنسا في استيلائها على ولاية تونس الخضراء، فكتبنا بذلك للحضرة السلطانية، وحيث لم يكن لنا واسطة في الآستانة تبلغ عنا مقاصدنا للسدة الشاهانية اتخذنا الشهم المقدام الصادق الأمين علي راغب قبودان أحد شبان ضباط البحرية المصرية رسولا، وكلفناه بإبلاغ عريضتنا إلى الحضرة السلطانية بواسطة الشيخ محمد ظافر شيخ السادة الشاذلية وشيخ الحضرة السلطانية، فصدع بالأمر وأوصل الرسالة إلى الشيخ المذكور. وكذلك بلغ أحمد راتب باشا ما أوصيناه به بعد عودته من مأموريته الحجازية إلى دار السعادة.
فكتب لنا الشيخ ظافر بما صدر به النطق الشريف، وكذلك فعل أحمد راتب باشا، وكان الحامل لهذين الخاطبين السيد أحمد أسعد أفندي وكيل الفراشة النبوية عن الحضرة السلطانية الذي حضر أخيرا بمعية درويش باشا، وهاك ترجمتهما عن اللغة الإنجليزية من تاريخ المستر برودلي وتاريخ المستر بلنت لأن أصلهما التركي ضبط بعد واقعة التل الكبير وترجم إلى اللغة الإنجليزية.»
وأشار عرابي إلى المكاتبات بينه وبين السلطان في موطن آخر، وذلك أثناء سجنه في مقر الدائرة السنية قبيل محاكمته، فقد كتب وهو في السجن ملخصا لقضيته كلها ليستعين به محاميه مستر برودلي في الدفاع عنه، ولقد أثنى برودلي على حضور ذهنه وترتيبه الحوادث ترتيبا منطقيا حسن السياق على الرغم مما كان يحيط به. قال عرابي في هذا الملخص
2
وقد تكلم عن بعثة درويش ما نعربه كما يأتي: «أشعر الآن أن من واجبي نحو مصر ونحو نفسي أن أذكر في وضوح عند هذه النقطة اتصالي بصاحب الجلالة السلطان أثناء الحوادث الأخيرة في هذا البلد. لقد بدأت على هذه الصورة: أرسل طلعت باشا الشركسي في نوفمبر سنة 1881 في رسالة إلى القسطنطينية من جانب الخديو. وقد كلف أن يصور للوزراء الأتراك وللسلطان أن مصر في حالة ثورة، وأن هناك اقتراحا لإنشاء إمبراطورية عربية، وأن أحمد عرابي والحكومة البريطانية قد اتفقا فيما بينهما على هذا الأمر ... وقد أحدثت هذه الإشاعات التي نشرها طلعت أثرها في الآستانة، ولم يكن لنا وكيل هناك يدفع هذه الأباطيل، فاضطررت إزاء ذلك إلى الاتصال بالعالم الورع الشيخ محمد ظافر كاتم سر السلطان ومشيره الديني، ذلك الذي عرفته بشهرته ولم أقابله شخصيا قط. فكتبت إليه وحمل رسالتي إليه علي راغب مفندا جميع المزاعم التي عزيت إلينا، وطلبت إليه أن يشرح للسلطان صادق ولائي، وشدة تعلقي بالمبادئ الأساسية لديننا المقدس، تلك التي تجعل من واجبنا أن نطيع أمير المؤمنين.
ولقد رد علينا هذا الشيخ في سرور فحمل علي راغب السالف ذكره كتابا باللغة التركية، قال فيه إنه ألقى بين يدي السلطان ما تضمنه كتابي، وإن السلطان أظهر اقتناعه بولائي، وإنه يأمرني أن أظل على طاعتي، وأضاف الشيخ أن جلالة السلطان يطلب إلي أن أدافع عن بلدي بكل ثمن ضد الاحتلال، وإلا كان نصيبه نصيب تونس، وأنه لا يعنيه إسماعيل أو حليم أو توفيق، وما يعنيه إلا الرجل الذي ينفذ ما يأمر به، وكتب إلي بمثل هذا أحمد راتب باشا الذي قابلته مقابلة شخصية طويلة عندما كان بمصر، والذي جاء كتابه إلي مع كتاب ظافر.»
هذه قصة الرسالتين الخطيرتين بين عرابي وبلاط السلطان، أو تاريخ الصلة بين عرابي والسلطان قبل بعثة درويش، ولقد راجعت الرسالتين كما أثبتهما عرابي فيما بين يدي من مذكراته المخطوطة على الترجمة الإنجليزية التي أثبتها بلنت في كتابه عن الأصل التركي، فوجدت التشابه بينهما تاما، ولذلك آثرت أن أوردهما للقارئ في عبارة عرابي فيما يلي:
ولنبدأ بكتاب الشيخ محمد ظافر، قال:
ناظر الحربية المصرية، سعادتلو أفندم ... قد قدمت الخطابين الكريمين الواردين منكم إلى جلالة السلطان، وجلالته علم من فحواهما جميع عواطفكم الوطنية وتيقظكم، وخصوصا وعودكم بمساعيكم لحفظ مصالح جلالته بكل إخلاص وأمانة، فإنها وقعت لدى جلالته موقعا حسنا، حتى إن جلالته أمرني أن أبين لكم سروره ورضاه وأكتب لكم كالآتي:
حيث إن حفظ الخلافة واستقامتها فرض على كل واحد منا، فيجب على كل مصري السعي بمزيد الاهتمام وراء تثبيت سلطتنا لمنع خروج مصر ووقوعها في قبضة الأجانب الطامعين كما وقعت ولاية تونس في أيدي الفرنسيين، فنحن وضعنا ثقتنا فيكم يا ولدي لاستعمال قوتكم وعمل كل ما في الإمكان لمنع حدوث شيء مثل ذلك. فكن على حذر دائما ولا تغض النظر طرفة عين عن هذه النقطة المهمة، ولا تتركوا أية طريقة أو وسيلة من وسائل الاحتياطات والطرق المتخذة في عصرنا هذا، واضعا نصب عينيكم دائما الغرض الذي ترمي إليه، ألا وهو الدفاع عن ملتكم وبلادكم، وخصوصا يجب عليكم أن تثابروا على حفظ ثقتنا بكم والروابط التي تربطكم بنا.
تلك البلاد هي بلاد مصر التي لها أهمية عظمى لدى إنجلترا وفرنسا، وخصوصا لدى الأولى. ويوجد شرذمة من أصحاب الدسائس والفتن في الآستانة يمالئون هاتين الدولتين ويشتغلون من زمن بعيد بمشروعاتهم الفاسدة التي تؤدي إلى الخراب وسوء المصير. ومذ رأوا من صالحهم ازدياد تلك الدسائس والفتن في مصر، وجهوا عنايتهم إلى ذلك بنشاط وغيرة، فرغبة جلالته الخاصة هي أن تحذروا من أولئك الخونة الأشرار ومكائدهم، وتراقبوا أعمالهم بعيون ساهرة لا تنام!
وبناء على التلغرافات والأخبار المرسلة من الخديو توفيق باشا أحد أعضاء الجمعية المومأ إليها نرى أنه ضعيف ومتقلب، ولاحظنا أيضا أن كل تلغراف من تلغرافاته لا يؤيد الآخر، بل جميعها على طرفي نقيض. وأزيدكم معرفة بأن علي نظامي باشا وعلي فؤاد بك قد أثنيا عليك ثناء جميلا لدى الحضرة السلطانية، وكذا أحمد راتب باشا، فقد قص على جلالته موضوع الحديث الذي دار بينكما في عربة السكة الحديدية ما بين محطتي الزقازيق والمحسمة، وبما أن جلالته يضع عظيم ثقته في أحمد باشا راتب، فقد كلفني بهذا السبب أن أظهر لكم ثقته فيكم وأخبركم بأنه حيث إن جلالته يعتبركم رجلا ذا استقامة وأمانة فهو يطلب منكم قبل كل شيء منع وقوع مصر في قبضة الأجانب، وألا تتركوا لهم حجة تمكنهم من التدخل في شئون مصر ...
هذا وإن التعليمات التي ستصدر إلى راتب باشا في هذا الشأن ستكتب لكم على حدتها ...
وقد كتب خطابي هذا وخطاب أحمد راتب باشا بأمر جلالته بمعرفة أحد كتاب جلالته الخصوصيين، وبعد أن وقعنا عليهما بأختامنا في حضرته العلية ختمنا على الظرفين.
هذا وأعلمكم بصفة خاصة وسرية أن جلالة السلطان لا يعول على إسماعيل ولا حليم ولا توفيق، بل يعول على الرجل الذي يفكر في مستقبل مصر ويثبت الروابط التي تربطه بالخلافة ويحترم جلالته الاحترام الواجب، ويعمل بمقتضى الفرمانات السلطانية بلا تعطيل ولا تغيير، ويؤيد سلطته المستقلة في الآستانة وخلافها، ولا يعطي رشوة لأولئك الموظفين الخائنين، ولا يحيد قيد شعرة عن طريق واجباته، ويكون له دراية تامة بدسائس أعدائنا الأوربيين وأعمالهم التي يقصد منها إيقاع الفتن والمشاغبات، ويكون واقفا لهم بالمرصاد، ويحافظ على بلاده وملته من أن يمسها سوء، فمن يفعل ذلك يرض جلالة متبوعنا الأعظم ويكن مقبولا لدى جلالته.
وإني أرجوكم ألا تؤاخذوني في عدم كتابة تفصيلات أخرى بخطابي هذا، حيث إن أحمد راتب باشا حضر منذ ثلاثة أيام فقط، ومع ذلك ففي المدة القصيرة نظرا للأقوال التي صرح بها عن حسن مقاصدكم الشريفة وإخلاصكم لجلالته أظهر عظيم ثقته فيكم. هذا وقد وصلني بالأمس الخطاب الذي أرسلته لي وأتعشم بإمكان إرسال خطابه لكم في بريد الأسبوع الآتي متضمنا تفصيلات أكثر. وعلى كل حال فاحذروا من وقوع أي خطاب من الخطابات التي ترسلونها في أيدي الغير، واجتهدوا في الحصول على مراسل خاص بيننا تثقون به، وأما في هذه المرة فالأوفق هو تسليم رد هذا الخطاب ليد حامله.
4 ربيع الآخر سنة 1299
محمد ظافر
ونورد بعد ذلك كتاب أحمد راتب باشا ونصه كما أثبته عرابي كما يأتي:
إلى ناظر الحربية المصرية أحمد عرابي بك
3
قد بلغت جلالة السلطان الأعظم المحادثة التي حصلت بيننا بالسكة الحديدية ما بين محطتي الزقازيق والمحسمة عند عودتي من الآستانة، وقد أحدثت تلك المحادثة سرورا عظيما عند جلالته، وأمرني أن أبلغكم محظوظيته الملوكانية. وإني بلغت جلالته المعاملة الحسنة التي عوملت بها، والإكرام الذي رأته عيناي مدة وجودي بالمحروسة، وجلالته أظهر عظيم محظوظيته، حتى إن الرضا الذي حصل عنده أقنع جلالته بحسن ولائكم وعبوديتكم أضعافا مضاعفة ...
هذا وقد سعى أناس في جعل جلالته يفتكر أنكم كنتم تسيرون على خطة مخالفة للطريق القويم، ولا أدري كيف ذلك، ونجحوا في تغيير فكرة جلالته نحوكم. وأما الآن بعد أن أوضحت لجلالته حقيقة المسألة أقسم لكم أن جلالته متأسف جدا لكونه سمع للأقوال الكاذبة والمختلفة التي بلغته عنكم، والذي يثبت لكم ذلك هو أن جلالته أمر بأن أحرر هذا لكم وأوضح لكم فيه الخواطر الآتية:
لا أهمية فيمن يكون خديو مصر، ويجب أن تكون أفكار والي مصر ومقاصده وسيرته خالصة من الشوائب، بحيث إن جميع حركاته تكون متجهة لصيانة مستقبل مصر ولتوطيد عرى العلاقات الوثيقة مع عرش الخلافة، وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يظهر الغيرة التامة والإخلاص في تأييد حقوق البلاد، ويلزم أن يتصف بهذه الصفات كل من يتربع من الولاة على الأريكة الخديوية.
إسماعيل باشا وأسلافه، أولئك رشوا غالي باشا وفؤاد باشا ومدحت باشا ونائبيهم الخائنين في الباب العالي، وبعد أن أغمضوا عيون أولئك الموظفين المذكورين اجترأوا على ظلم المصريين وفرض الضرائب الثقيلة عليهم ومعاملتهم بالضغط والقسوة، وزيادة على ذلك فإنهم تداينوا ديونا ثقيلة وجعلوا المصريين يئنون تحت تأثير العبودية. واليوم حالتهم في نظر الدنيا تستدعي رأفتنا الخاصة بهم، فالمركز بأكمله في غاية من الضعف ويحتاج إلى البحث الدقيق وراء الدواء الشافي العاجل، وعليه يهمكم قبل كل شيء منع ما عساه أن يؤدي إلى التدخل الأجنبي، وألا تحيدوا عن الطريق الحق القويم، ولا تصغوا إلى الخلافات التي تسبب الخدعة، بل يجب عليكم في كل الأحوال منع حدوث المؤامرات الأجنبية التي يقصد منها إثارة الفتن بكل يقظة، وهذا هو غاية جلالة السلطان العظمى ...
وبما أننا سنكاتب بعضنا في المستقبل يلزمكم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لعدم وقوع خطاباتنا في أيدي الغير، وأسهل طريقة وآمنها يمكنكم اتخاذها الآن هي أن تعطوا رسائلكم إلى الرجل الصادق الأمين الذي يحمل هذا، وآخر من الشيخ محمد ظافر، وأزيد على ذلك أنه من الضروري إرسال ضابط سرا يكون عالما بأحوال مصر ويكون بين أحد أصدقائكم الذين تضعون ثقتكم فيهم ليقدم إلى أعتاب جلالة السلطان تقارير مسهبة حقيقية عن أحوال البلاد، هذا وأرجوكم رد هذا بمعرفة الرجل الذي يحمل هذا الخطاب ... في 4 ربيع الآخر سنة 1299 الموافق 22 فبراير سنة 1882، ياور جلالة السلطان أحمد راتب ...
من هذا يتبين لنا أن الصلة كانت وثيقة بين عرابي والسلطان قبل مجيء بعثة درويش، وهو أمر له خطورته البالغة؛ فقد كان عرابي في نظر من يعلمون هذه الصلة من شيعته المدافع عن حرية المصريين وعن حقوق السلطان ضد إنجلترا وفرنسا، في حين ظهر الخديو بمظهر الناقم على المصريين ما يطلبونه من حرية والممالئ لسياسة الدولتين المعتديتين، وخاصة إنجلترا ... ولسوف تكون هذه الصلة أهم ما يدفع به محاميه عنه تهمة التمرد والعصيان يوم يساق هذا المجاهد السيئ الحظ إلى المحاكمة ...
ولقد أشار عرابي إلى أهمية هذه الصلة في تقريره الذي كتبه في السجن قبيل المحاكمة، فقال بعد أن أتم تاريخ هذه الصلة إلى ما بعد بعثة درويش: «لم يستنكر السلطان أبدا ما فعلنا، لا في أثناء تلك المفاوضات ولا فيما بعدها حتى وقتنا هذا، بل إن السلطان أيد أفعالنا بالقول وبالعمل، فكيف أكون مع ذلك متمردا؟! أليس يعد السلطان في نظر الأمة الإنجليزية صاحب السيادة على مصر؟!
وإنا لا نجد في بيان أهمية هذه الصلة خيرا مما كتبه بلنت في صددها قال: «إن هاتين الرسالتين وثيقتان، لهما من عظيم الأهمية التاريخية أنه إذا قدر لمذكراتي أن تطبع يوما فيجب أن تلصقا بها بنصهما وحروفهما، وإنهما لتفسران كثيرا مما سيحدث بعد ذلك في يونيو أثناء بعثة درويش، وكذلك تقيمان الدليل على أنه إذا كان عرابي أخذ على عاتقه وقتئذ وأثناء شهور الحرب مسئولية حكم مصر حكما ديكتاتوريا فإن ذلك لم يكن بغير مبرر قوي من وجهة النظر الإسلامية، وهذا المبرر هو أوامر الخليفة أمام دينه في أن يدافع عن القطر في وجه الدول الأوربية. وترينا الوثيقتان كذلك لماذا لم يكن عبد الحميد ميالا في شهر أغسطس إلى أن يطلق على عرابي لفظ المتمرد، وكيف بلغ من السخف نعته بذلك عند المحاكمة ...
وعلى أي حال فينبغي ألا يؤخذ من ذلك أن عرابيا قد جعل من نفسه أداة للسلطان في أي شيء يتصل بالإدارة الداخلية المستقلة لوطنه، إن موقفه في هذه المسألة كان ثابتا لا يتزعزع، فقد كان يكره الترك وكان على وجه اليقين يرد بقوة السلاح أي تدخل حربي من جانب القسطنطينية، وإن كتاب الشيخ محمد عبده لدليل قوي على صحة هذا الذي أقول،
4
وهو يشاكل جميع ما أفضى به إلى عرابي نفسه ... لهذا كان موقفه من بلاط الخليفة موقفا متقلبا عرضة للتغيير، ولقد كان له صديقان هناك في شخص أحمد راتب ومحمد ظافر، ولكن كان له كذلك أعداء أشداء.»
نعود بعد ذلك إلى بعثة درويش لنبين مبلغ ما كان فيها مما نحن بصدده من صلة بين عرابي والسلطان، ثم لننظر في الغرض منها وأثرها في مجرى الحوادث بوجه عام ...
لخص عرابي علاقته وعلاقة أشياعه بدرويش في هذه الفقرة التي جاءت ضمن تقريره الذي كتبه في سجنه قال: «وكان أن وصل درويش باشا عند ذلك الوقت، وبعد أن أجرى تحرياته عن مسلك الجيش أعلن أنه يرى أن الجيش كان مطيعا دائما، وأنه حافظ على النظام العام، وأنه لا ملامة توجه إليه، وبناء على ذلك فقد طلب من السلطان نحو مائتي وسام للضباط وللمدنيين، وطلب لي الوسام المجيدي من الطبقة الأولى.»
وقد أنعم فعلا على عرابي بهذا الوسام الجليل الشأن. أبرق مستر كارتريت وكيل قنصل الإسكندرية إلى اللورد جرانفل في اليوم الخامس والعشرين من يونيو يقول:
5 «سيدي اللورد ... أخبر الخديو السير أوكلند كلفن أن السلطان منح سموه منحة من الجواهر علامة على الرعاية وحسن النظرة إلى مقامه، وأضاف سموه أن السلطان مع الأسف قد أنعم على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر، وأنه أنعم على سلطان باشا بوسام روميلي بيلربي.
ولكن الخديو يقرر أن جميع جهود درويش باشا في تسكين ثائرة عرابي باشا بالملاينة أو بالقوة قد منيت بالفشل التام، وأن درويش نفسه يتخذ المسألة لهوا وهزرا، ويتمسك عرابي الآن بأن ما يتضمنه هذا الإنعام الأخير عليه من الرضا والعفو لا يدع ثمة ضرورة لأن يتخذ خطوات أخرى يبرر بها سلوكه، ويبدو من درويش باشا أنه يتراجع عن أن يبذل أية محاولات أخرى للتأثير عليه.»
ويتضح من هذه البرقية مبلغ ما وصل إليه توفيق من الحقد على عرابي والخوف من نفوذه، وأنه ينظر إلى المسألة كلها نظرة شخصية.
ولا ريب أن توفيقا على الرغم مما أنعم به عليه، يفطن إلى معنى الإنعام على عرابي، فهو تأنيب عملي لتوفيق على صلته بالدولتين، وهو في الوقت نفسه دليل على أن السلطان يريد أن يقول إنه يرى في عرابي المدافع عن حقوقه في مصر ...
وقد وصل الوسام ومعه فرمان من السلطان في اليوم الرابع من يوليو وسلمهما الخديو بيده لعرابي، معبرا له عن رضائه عنه وثنائه عليه لإخلاصه في أداء خدماته وانتباهه إلى واجبه. وشكره عرابي شكرا حارا على هذا العطف، كما أبرق عرابي إلى الآستانة يرفع شكره إلى السلطان، وجاءته برقية تتضمن رضاء السلطان عنه وثناءه على حسن سلوكه وإخلاصه لواجبه ...
وقد أظهر عرابي كياسة ولباقة في استلام الوسام، وذلك أنه أبى أن يتسلمه إلا من الخديو حتى لا يكون في تسلمه من مندوب السلطان معنى التحدي للخديو.
6
ولم يستشر توفيق في الإنعامات جميعا، وقد وزعها درويش مباشرة على أصحابها باسم السلطان.
7
ظن السلطان أنه يستطيع أن يستعيد نفوذه في مصر بالتفرقة بين الفريقين المتنازعين فيها: توفيق ومن يشايعه، وعرابي وأعوانه ...
لهذا جعل رئاسة الوفد لدرويش المعروف بالقوة وبكراهية العناصر الحرة، وجعل فيه أسعد مشيره في شئون من يتكلم العربية من رعاياه ومرجعه في دعوة الوحدة الإسلامية، واتفق الباب العالي وأسعد على «شفرة» خاصة للمكاتبات لا يعرفها درويش، وأفهم أسعد أن يلاين عرابي ويلقي في روعه أن السلطان راض عنه وعن حزبه كل الرضاء، فلا بأس عليه مما عسى أن يجد من غلظة من جانب درويش، وطلب كذلك إلى أسعد أن يطلع السلطان على حقيقة شعور المصريين، وخاصة علماء الأزهر، فكان أسعد في الواقع رقيبا على درويش الذي لا يأمن السلطان أن تصله هدايا توفيق ...
ويذكر جون ثينيه فيما كتبه عن مذبحة الإسكندرية وقد مهد لها بالكلام عن بعثة درويش أن درويشا كانت لديه أوامر سرية بأن يعمل على خلع توفيق إذا أمكنه ذلك توطئة لتعيين حليم ...
وأرسل الخديو مندوبا يستقبل الوفد في الميناء، وهو ذو الفقار باشا، وأرسل عرابي رسولا بصفته المهيمن يومئذ على الحكومة؛ إذ كان وصول الوفد بعد سقوط البارودي بعشرة أيام، وقد أحسن درويش لقاء المندوبين جميعا، الأمر الذي أسخط الخديو أشد السخط ...
وخرج درويش من الميناء يقصد سراي رأس التين، فإذا بالشوارع التي مر بها هو ووفده ملأى بالمصريين وقد جاءوا يحيون الوفد، وترجمت لدرويش بعض الهتافات مثل قول المنادين:
8 «اللايحة اللايحة»، ورد الباقين: «مرفوضة مرفوضة» ... ومثل قول المتظاهرين: «ابعدوا السفن الأجنبية.»
ووقعت في نفس درويش ووفده موقعا مهيبا هذه المظاهرة القوية، ووجدوا أنفسهم أمام دليل قوي باهر على قوة الحركة الوطنية في مصر ...
وكان عبد الله نديم قد سافر إلى الإسكندرية قبيل وصول الوفد، فخطب في الناس خطبا حماسية، كانت عظيمة الأثر في إذكاء الروح الوطنية وإثارة شعور الوطنيين على المذكرة المشتركة والسفن الأجنبية ...
وزار الوفد ضريح السيد البدوي بطنطا وهو في طريقه إلى القاهرة. وقد سافر إليها في اليوم التالي بقطار خاص، وفي القاهرة نزل الوفد بسراي الجزيرة ...
ومما يذكره جون نينيه عن هذا السفر قوله: إن أعوان الخديو أرادوا أن يحولوا بين مندوب عرابي وبين الركوب صحبة درويش في عربته، فأخذه درويش بذراعه وأدخله معه في العربة ، وكذلك يذكر نينيه أن جماعات من المصريين حيت الوفد في كل من دمنهور، وكفر الزيات، وطنطا ...
وتلقاهم الخديو بسراي الإسماعيلية مرحبا مظهرا عظيم الحفاوة بهم، ثم رد الزيارة لدرويش باشا بسراي الجزيرة، وهناك أظهر له استياءه من حسن لقائه مندوب عرابي، ومن جفاء لهجته في مخاطبته إياه في سراي الإسماعيلية، فطيب درويش خاطره مظهرا أنه ما جاء إلا لتثبيت سلطة الخديو ...
وأظهر درويش في القاهرة عظيم دهشته وشديد نفوره مما رأى من تحمس الناس وجرأتهم، وخاصة علماء الأزهر الذين أظهروا عطفهم الشديد على عرابي ومبادئه، ولم يستثن منهم إلا الشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر والشيخ العباسي والشيخ البحراوي والشيخ السادات
9
الذين آثروا الانحياز إلى الخديو ...
وذهب وفد كبير من العلماء إلى درويش باشا، يحملون مكتوبا موقعا عليه منهم ومن عدد عظيم من الناس يطلبون فيه رفض الإنذار الأجنبي، وخاصة ما جاء فيه عن إبعاد عرابي ...
وأغلظ درويش في مخاطبة الشيخ الذي تكلم باسم العلماء، وهو الشيخ محمد خضير، وانتهره قائلا: «أمسك لسانك، فما جئت هنا لأستمع إلى النصائح من أحد، وإنما جئت لآمر أوامري.» ثم صرفهم في جفاء وخشونة، وفي الوقت نفسه أعطى الحلة العثمانية لشيخ الإسلام ولبعض العلماء ...
وحسب درويش أنه بذلك أخاف العلماء، ولكن ما لبث أن تبين له خطأه ... فقد اجتمع طلاب الأزهر في اليوم التالي بسبب ما علموا من إهانة علمائهم، وتعددت الاجتماعات في جهات من المدينة، وبدأ الناس يظهرون خوفهم وسخطهم على الوفد التركي، وخاصة أن عددا كبيرا من الأعيان أرسلوا إليه يحتجون على مسلكه نحو رجال الدين ...
ورأى درويش أن عليه أن يصلح ما أفسد، وأيقن أن لهجة الأمر والنهي لم تعد تجد في مصر جوا ملائما لها، وفطن إلى أنه تلقاء أمة جادة، خلعت منذ يوم عابدين عن أعناقها أغلال العبودية، ومضت قدما في سبيل الكرامة القومية ...
وكان الرجل غافلا يظن أنه كفيل - وهو مندوب السلطان - أن يلقي الرعب في قلب كل امرئ مهما علا مقامه، وفاته أن مصر اليوم غيرها بالأمس؛ لأن فيها حركة وطنية تغلغلت في أقاليمها، وشملت جميع طبقاتها ...
وفي يوم السبت الموافق اليوم العاشر من يونيو، أرسل درويش في طلب عرابي ومحمود سامي، وكان حتى ذلك الوقت يظهر أنه لا يحب أن يراهما ...
وقد أورد جون نينيه حديث هذا اللقاء، وأخذه عنه بلنت قائلا إنه يثق في صحته كل الثقة، أما نينيه فيذكر أنه أخذه عن عرابي،
10
وأنه سمع مثله من البارودي على أن الشيخ محمد عبده قد ذكر عن هذا اللقاء ما لا يختلف في جوهره عن حديث جون نينيه.
قال جون نينيه: «أظهر درويش المودة لعرابي ولسامي وأجلسهما بجانبه تكريما لهما، ثم قال: نحن هنا جميعا أشبه بإخوة، ونحن أبناء السلطان، وأنا بلحيتي هذه البيضاء أقوم منكم مقام الأب، وهدفنا جميعا واحد، وهو مقاومة الدخيل والعمل على رحيل الأساطيل، التي هي إهانة للسلطان وتهديد لمصر، ثم ذكر أنه يجب عليهم أن يعملوا جميعا لهذه الغاية، وخاصة عرابي والوزارة ليظهروا حماستهم نحو مولاهم، وأن خير ما يفعل في ذلك هو اعتزالهم مناصب الجندية ولو في ظاهر الأمر فقط، ولكي يرضي عرابي السلطان ينبغي أن يسافر إلى الآستانة ليقيم هناك بعض الوقت. وأجاب عرابي على ذلك بقوله إنه مستعد لأن يعتزل، ولكن الظرف دقيق، ولما كان قد أخذ على عاتقه تبعة عظمى هي حفظ النظام والأمن فإنه لا يرضى بأنصاف الحلول، وإنه إذا اعتزل فإنما يعتزل حقا، ولكنه لن يفعل ذلك إلا إذا أخلي كتابة من كل تبعة، لأنه لا يقبل أن يكون مسئولا عن أشياء لم تكن له يد فيها، لقد اتهم بإساءة التصرف والاستبداد والإرهاب وغير ذلك، ولذلك فهو لا يدع منصبه إلا إذا أبرئت ذمته كتابة من جميع هذه التهم، وسوف يذهب إلى القسطنطينية بعد هدوء الحال فردا عاديا ليقدم ولاءه للسلطان ... ولم يكن درويش يتوقع هذه الإجابة ولذلك فقد كرهها، وتغير وجهه، ولكنه قال: دعنا نعد المسألة منتهية ولتبرق في الحال إلى محافظة الإسكندرية وقائد حاميتها أنك اعتزلت ما أنت مكلف به ووضعته في يدي ، وأنك وكيلي منذ اليوم، وعندما يجتمع القناصل والخديو يوم الاثنين في عابدين سأعطيك ما يعفيك من كل تبعة ...
ورفض عرابي رفضا باتا أن يجيبه إلى ذلك قائلا: إنه ما لم يصل إليه هذا الإخلاء فإنه محتفظ بمنصبه وبمسئوليته ...
ولم تقدم في هذا الاجتماع قهوة أو سجائر، وقد أكد لي محمود سامي بعد ذلك هذا الذي أورده عن الاجتماع ...»
نجد في هذا الحديث شواهد جديدة على بسالة عرابي وصراحته في القول، وعدم فراره من المسئولية، وحضور ذهنه وحسن تخلصه، وفطنته إلى ما يدور حوله، وما أبعد ذلك عما يرميه به الجاهلون والمبطلون من سذاجة وجهل وتهور وعدم دراية بالأمور ...
ولقد شك الخديو في نيات درويش وأوجس في نفسه خيفة منه، فمنحه خمسين ألفا من الجنيهات، فضلا عن جواهر تساوي نصف هذه القيمة، وقد أيدت كثير من المصادر نبأ هذه الرشوة، وما كان أغنى توفيقا عنها فإن درويشا لم يكن في وسعه أن يصنع بالخديو شيئا، ولم يستطع أن يزحزح عرابي من مكانه ...
وقد أرسل صابونجي
11
رسالة من القاهرة بتاريخ اليوم الحادي عشر من يونيو إلى بلنت في إنجلترا، وجاء في هذه الرسالة أنباء لها أهميتها عن الحال يومئذ بوجه عام ...
فمن ذلك الذي ذكره صابونجي، أن الشيخ عليش أحد علماء الأزهر أفتى بأنه لا يصح أن يكون توفيق حاكما للمسلمين بعد أن باع مصر للأجانب باتباعه ما يشير به القنصلان، ولذلك وجب عزله، وأن مصر تؤيد عرابي، الأقباط والمسلمون على السواء، وليس يخرج على عرابي من المديرين وعددهم أربعة عشر إلا ثلاثة، وأن الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام، تمارض كيلا يحرج في حضور درويش بين الخديو والحزب الوطني ... وكذلك ذكر صابونجي أن عرابي يصمم على الجهاد والمقاومة إلى آخر رمق من حياته قائلا: «إننا إذا متنا جميعا فسوف يدخلون بلدا خربة وسوف يكون لنا مجد الاستشهاد في سبيل وطننا.» •••
ويشير صابونجي إلى موقف سلطان، فيقول إنه اعتزل عرابي وانحاز إلى توفيق منذ مجيء السفن، وليس مع سلطان من النواب إلا تسعة وهم جميعا ومعهم الخديو يتهمون بالخيانة ويطلق عليهم اسم الخونة ...
والأزهر علماؤه وطلابه ما عدا أربعة من شيوخه في جانب عرابي والحركة القومية، ويخطب فيهم نديم خطبا حماسية مستشهدا بالقرآن والحديث وأحداث التاريخ.
والناس جميعا يستنكرون المذكرة المشتركة، حتى إن الصبية في الأزقة والنساء في نوافذ المنازل يرددون الهتاف الذي بات مألوفا وهو: «اللايحة ... اللايحة ... مرفوضة ... مرفوضة ...»
ولندع الكلام الآن عن درويش، فسوف تتبين لنا مقاصده ونواياه فيما يأتي من الحوادث حتى يرحل هو ووفده من مصر في اليوم التاسع عشر من شهر يوليو سنة 1882، أي بعد ثمانية أيام من الاعتداء الغادر على البلاد ...
مأساة الإسكندرية
بدأت هذه المأساة في يوم الأحد الموافق الحادي عشر من شهر يونيو سنة 1882 في صورة مشاجرة بين أحد الوطنيين واسمه السيد العجان وبين مالطي من ساكني الثغر، هو من رعايا الإنجليز ...
كان الوطني صاحب حمار ركبه المالطي وقتا طويلا متنقلا من مقهى إلى مقهى حتى انتهى به المطاف في نحو الساعة الثانية بعد الظهر في حانة قريبة من «قهوة القزاز» على بعد خطوات من مخفر اللبان بآخر شارع «السبع بنات»، وظهر منه أنه لا ينوي دفع أجرة ركوبه، فلما طالبه صاحب الحمار، لم يدفع له إلا قرشا واحدا، فاختلفا على الأجر، واستل المالطي سكينا وطعن به صاحب الحمار عدة طعنات فأرداه قتيلا ...
وخف رفاق القتيل ليمسكوا بالقاتل، ولكنه هرب إلى بيت قريب، وسرعان ما رأى الوطنيون الذين تجمعوا عقب الحادث، طلقات الرصاص تتهاوى عليهم من بعض النوافذ والأبواب القريبة، فسقط بعضهم بين قتيل وجريح، واجتمع الوطنيون للانتقام، فأخذوا ما اتفق لهم من العصي والحجارة والكراسي وانهالو على كل ما يصادفهم من الأجانب ضربا لا يخشون أي عاقبة ...
واستمرت المعركة حتى الساعة الخامسة مساء، وكان الوطنيون يستنفرون إخوانهم للقتال صائحين: «جاي يا مسلمين! جاي! بيقتلوا إخواننا.»
1
ونهبت بعض الدكاكين، وامتدت الفتنة إلى الشارع الإبراهيمي وإلى شارع الهماميل وشارع المحمودية وإلى جهة الجمرك والمنشية وشارع الضبطية،
2
وسقط في هذه الشوارع جرحى وقتلى من الأجانب والوطنيين.
وقد ذكر جون نينيه، الذي شهد المعركة بنفسه، أن عدد القتلى بلغ 238، منهم 75 من الوطنيين و163 من الأجانب ...
كان لهذه المأساة خطر أي خطر في الظروف القائمة حينذاك، وقد حاول كل حزب أن يتهم الآخر بتدبيرها، فالإنجليز والخديو يعزونها إلى الوطنيين، وهؤلاء يعزونها إلى الإنجليز وإلى عمر لطفي محافظ المدينة ومن ورائه توفيق ...
وظل الحال كذلك حتى قدم عرابي للمحاكمة بعد التل الكبير فما استطاع خصومه أن يثبتوها عليه وهم أصحاب الجاه والنفوذ ...
ورمى محاميه مستر برودلي بالتهمة خصوم عرابي من المصريين، وألح في ذلك، ولعله إنما أراد به أن يبعد الشبهة عن بني جنسه من الإنجليز ...
وفي سنة 1883، تجددت قضية هذه المأساة في مجلس العموم البريطاني، إذ تقدم اللورد راندلف تشرشل يحمل حملة عنيفة على وزارة جلادستون، فاتهم الخديو ومحافظ الإسكندرية عمر لطفي بأنهما المدبران للمأساة، وقد جمعت أدلة اتهامه في كراسة من كراسات الكتاب الأزرق الإنجليزي هي الكراسة «مصر رقم 4 سنة 1884.»
ويجدر بنا أن نتبين وجه الحق في هذه المأساة، لما كان لها من عظيم الخطر في مجرى الحوادث، فننظر هل كانت مبيتة؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن بيتها؟ وماذا كان غرضه من هذا الفعل الأثيم؟ ...
كان إجماع الإنجليز عقب المأساة على أنها مبيتة، وذلك لأنهم أرادوا أن يلصقوها بالحزب الوطني، فلما عجزوا عن ذلك راح كتابهم ومؤرخوهم ومنهم كرومر يقولون إن الحادث من الحوادث التي تقع في المدن كل يوم وإنه ابن وقته فلا تبييت هناك ولا غدر من أحد ...
أما أن هذا الحادث في ذاته ابن وقته فذلك ما يقبله العقل في غير صعوبة، بل ما يرجحه على الفرض الثاني، وأما أن الفتنة على الصورة التي ذكرناها كانت كذلك بنت وقتها، فذلك ما يصعب تصوره، على أن المسألة ليست مسألة تصور، إنما هي مسألة حقائق، فلننظر فيما يحيط بها مما يصح أن يساق مساق الحقائق أو مساق الأدلة الصحيحة ...
قرر مستر جويس المهندس الإنجليزي، أن أحد باعة الخضر قال له صباح السبت: اشتر وكل فإن النصارى سيذبحون غدا ، ويقول هذا المهندس إن مثل هذه العبارات قيلت لغيره من الأجانب ...
وقال إنجليزي آخر يدعى هيوارت: «أعتقد كل الاعتقاد بناء على ما لدي من معلومات استقيتها من عدة مصادر أن مذبحة 11 يونية كانت نتيجة خطة مدبرة.»
وقال ثالث يدعى ألكسندرفيس: «بناء على معلومات تلقيتها تباعا، كونت رأيا قاطعا هو أن المسألة قد دبرت من قبل، وقد بدأت في عدة أماكن في وقت واحد تقريبا.
وقال مستر جورج بلافاتشي: «إن معركة يوم الأحد مع المالطيين تلك المعركة التي دبرها من قبل أعوان البوليس قد أدت إلى تلك المناظر العنيفة المرعبة مناظر الفتك والقتل التي كنا نحن شهودها وضحيتها، وإن هذه الحقيقة ألا وهي انبعاث الاضطرابات من ثلاثة أمكنة مختلفة لدليل على أنها كانت مدربة من قبل ...»
ويقول فيلبوليس: «كنت في السوق يوم 8 يونية الساعة الثالثة بعد الظهر فشاهدت كثيرا من البدو يحملون بنادق، وكانوا يضعونها في مخازن لتحفظ فيها كما يبدو، وفي اليوم التالي بينما كنت جالسا في مقهى اقترب مني أحد العرب وهو صديق لي وطلب إلي أن آخذ حذري، لأن العرب كانوا سيقتلون الأجانب إما في ذلك اليوم أو في اليوم الذي يليه.»
وكتب لورد جرانفل إلى نائب قنصل الإسكندرية مستر كارتريت يقول: «أنبأني مسيو سينادينو أحد أعضاء مصرف يوناني بالإسكندرية أن كل ما لديه من المعلومات يميل به إلى الاعتقاد بأن الاضطرابات الأخيرة بالإسكندرية كانت من قبل مدبرة ...»
وكتب إليه بعد ذلك يشير إلى هذه الرسالة مضيفا إليها قوله: «لقد ذكر أن رسالة أرسلت إلى كل قنصل من الأجانب كي يحضر إلى بيت المحافظ، وأنهم بناء على ذلك اخترقوا المدينة في وقت الاضطرابات، وقد تبين من البحث بعد ذلك أن رسالة كهذه لم يرسلها محافظ الإسكندرية.»
ويقول دكتور جويس: «إني أرى أن هذه المذبحة دبرت من قبل، وليس هذا شأنها فحسب، بل لقد نفذت في مهارة، وإن الذين خاضوا غمارها كانوا في الوقت نفسه يبحثون عن أسلاب، ولقد جمعوا في الواقع بين العملين في وقت واحد.»
ويقول مستر ستونتون: «عند نزولي إلى البر ومروري في عربة بشوارع المدينة رأيت الناس في الطرقات المؤدية إلى الحديقة العامة هادئين جدا لا يبدو عليهم شيء من الشر، ولما بلغتنا أنباء الاضطرابات بعد ذلك بثلاث ساعات، وشهدت مئات من الوطنيين مسلحين جميعا بالعصي والمدى، استقر رأيي على أن الفتنة مدبرة.»
وقرر مستر جروسجيان، ذلك الذي اختاره اللورد جرانفل ليجمع أدلة تفضي إلى إدانة عرابي باشا، أنه وصل إلى أن الحوادث مدبرة، ولكنه لم يصل إلى شيء يلصقها بعرابي
3 ...
نورد بعد ذلك بعض ما قاله جون نينيه، وهو رجل سويسري أقام بمصر أكثر من أربعين سنة منذ أن قدم في عهد محمد علي في عمل يتصل بزراعة القطن، وقد خالط أهل مصر من جميع الطبقات وعرف أحوالها معرفة وثوق كأنه من أهلها، وقد شهد مأساة الإسكندرية، وكان يتنقل في أركان شوارعها اثناء القتال متباعدا حذر الغيلة، قال بعد أن وصف ما أحدثه مجيء السفن من هياج: «لقد نظر الأوربيون إلى ذلك كأول عمل من أعمال الحرب، وأصبح سلوكهم نحو الوطنيين ينطوي على التهديد ... وقد أزعج الهياج الأوربيين، وخاصة الإنجليز والمالطيين، فاتصلوا بقناصلهم يسألونهم عن الوسيلة التي يحمون بها أنفسهم إذا وقع الاضطراب؟ وقد أخبرهم مستر كوكسن بأن عليهم أن يحموا أنفسهم، وقد علم في أواخر مايو أو في أوائل يونيو أن أسلحة أرسلت من اليونايين في الإسكندرية.» وقال جون نينيه يصف القتال: «ولكن على بعد نحو مائتي ياردة كان الدهماء يتحركون كالبحر، ورأيت طلقات نارية تنبعث من بعض النوافذ، واتجه القتال سريعا إلى حيث كنا نقف، ولذلك تراجعنا حتى إذا كنا على مقربة من مدرسة لازارست، رأيت أمام أحد المقاهي عددا من اليونانيين مسلحين بالغدارات وقد أخذوا يطلقونها على الناس في غير تمييز عقب مرورنا بهم مباشرة ... وعند ذلك رأيت عربة في داخلها أحد رجال المستحفظين جريحا أو ميتا، ولعله هو الذي طاف بالنذير. ذلك لأني رأيت في أثره عددا من المسلمين وبعضهم من السود والبدو قادمين من عدة جهات يحملون عصيهم ... ثم اتسع نطاق القتال وإطلاق النار واتخذت طريقي إلى بيتي.»
ويقول أحمد رفعت بك، وهو من كبار الموظفين، وقد كان السكرتير العام لمجلس الوزراء في وزارة البارودي: «إن هناك شيئا واحدا يحمل على اليقين، وذلك أن هذا الحادث كان مدبرا من قبل، فقد قام الدليل على أن عددا من «النبابيت» قد وزع على الدهماء قبل يوم 11 يونية بأيدي بعض العناصر الخفية، وأن هذه النبابيت ظهرت في وقت واحد في عدة أماكن في المدينة في نفس اللحظة التي قتل فيها أحد المالطيين حمارا لسبب تافه.»
4
ويقول الشيخ محمد عبده: «في هذه الحالة رؤي مستر كوكسن نازلا من بيت أحد المالطيين بلباس ملكي ومعه قواصه، فتبعه المتشاجرون وضربوه ضربا خفيفا عندما أراد أن يركب.»
5
يضاف إلى ما سلف برقية مالت في أواخر مايو التي سبق أن أشرنا إليها وهي قوله: إن تصادما سوف يقع قريبا بين المسلمين والمسيحيين،
6
ولقد أشار الشيخ محمد عبده إلى هذه البرقية في تلك الورقة التي كان يدون بها بعض ملاحظاته بقوله: «مسألة تسلح الأجانب وإيهام مستر كوكسن أن حوادث ستحدث ...»
هذه كلها أدلة نقطع معها أن هذه المأساة كانت مبيتة قبل وقوعها، وأنه لو لم يكن حادث السيد العجان، والمالطي، لوقعت المأساة عقب أي حادث من نوعه أو من أي نوع آخر ...
وإذا كانت المأساة مدبرة على هذه الصورة فجدير بنا أن ننظر من دبرها، وسبيلنا في ذلك أيضا أن نورد الحقائق التي تنهض أدلة على ما نذهب إليه ...
ولما كان عمر لطفي باشا هو محافظ المدينة وقت وقوع المأساة فخليق بنا أن نبدأ به فنستعرض ما كان من مسلكه أثناء ذلك الحادث، فمن هذا يتبين لنا مبلغ ما يقع على كاهله من تبعة، إن كان الأمر فيما يتصل به أمر خطأ أو تقصير، ومبلغ نصيبه من الجريمة إن كان أمر إجرام وتدبير ...
وإن أول ما نذكره عن عمر لطفي أنه كان بصفته محافظ المدينة المسئول عن الأمن والنظام فيها، كما نذكر أنه منذ استقالة الوزارة لم يكن لأحد عليه من سلطان إلا الخديو، وذلك حسب الأمر الذي أصدره الخديو عقب استقالة الوزارة بعرض ما كان من اختصاص وزارة الداخلية على القصر ...
ونذكر بعد ذلك أن عمر كان من أنصار الحزب الوطني حتى منتصف شهر مايو، ثم انحاز إلى الخديو فيمن انحازوا إليه بعد ذلك، والدليل على ذلك أن الخديو عرض عليه منصب وزير الجهادية بعد سقوط وزارة البارودي ... على أنه ظل إلى ما بعد سقوط الوزارة يتظاهر بالولاء للحزب الوطني، فيحضر حفلات هذا الحزب بالإسكندرية ويحرص على الصلة بكبار رجاله ...
وتذكر بعض المصادر الهامة نبأ برقية من الخديو إلى عمر لطفي على أعظم جانب من الخطورة نعربها فيما يأتي «لقد ضمن عرابي الأمن العام ونشر ذلك في الجرائد، وقد تحمل مسئولية ذلك أمام القناصل، فإذا نجح في ضمانه، فإن الدول سوف تثق به وسوف نفقد بذلك اعتبارنا، يضاف إلى ذلك أن أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وأن عقول الناس في هياج، وأن الحرب قريبة الوقوع بين الأجانب وغيرهم ... والآن فاختر لنفسك هل تخدم عرابي في ضمانه أم هل تخدمنا.»
7
وكان عرابي فعلا قد أخذ على عاتقه مسئولية الأمن بعد إعادته إلى وزارة الجهادية، وأعلن ذلك رسميا في الصحف بعد الاتفاق عليه مع الخديو ...
ويذكر عرابي باشا في تقرير كتبه لبلنت قوله: «قبل كل شيء أرسل الخديو إلى عمر لطفي محافظ الإسكندرية ليحضر إلى القاهرة بقطار خاص يوم 9 يونية، وقد تحدث معه الخديو عقب وصوله مدة طويلة، وأعطاه ما يلزمه من التنبيهات لإحداث فتنة في الإسكندرية.»
وكانت شرطة المدينة تحت رئاسة عمر لطفي، وقد اشترك هؤلاء في الجرائم بدل أن يعملوا على القضاء عليها كما يقضي بذلك أول واجب عليهم، واشتراك الشرطة في المأساة ثابت من تقارير أشخاص لهم خطرهم، ومن هؤلاء مستر جروسجيان السالف ذكره، وقد كانت مهمته كما اختاره مالت بإشارة من جرانفل أن يجمع الأدلة على اشتراك عرابي في الجريمة، وقد قال جروسجيان أن الشرطة اشترت قبل الحادث بأيام قليلة عددا كبيرا من النبابيت، وأنها وزعتها على عدد من سفلة البدو، وكان توزيعها من بيت قريب من مقر الضبطية، ولم تتخذ إجراءات ضد موزعي تلك النبابيت ... كما يذكر جروسجيان أن عشرة من الأطباء الأجانب قرروا أن جراح المصابين جميعا كانت إما من النبابيت، وإما من الحراب، وكانت هذه هي أسلحة الشرطة ...
وقرر مستر جويس المهندس بالأسطول الإنجليزي: «إن المستحفظين أو الخفراء قد أخذوا بنصيب فعال في الفتنة، فكانوا يقتلون المسيحيين حين لا يفعل الوطنيون ذلك، وينظرون في سكون في حالة اعتداء الوطنيين.»
وذكر مستر هيوارت وهو من رجال المال وقد أقام سبعة عشر عاما في الإسكندرية: «أن الشرطة بدلا من أن تقضي على الفتنة عملت على زيادتها، وأن معظم الجراح كانت من أيديها، وأنها كانت توزع النبابيت على العرب، وأن بعض الأوربيين كانوا يلجأون إلى الضبطية، فكانوا يذبحون على مقربة منها أو بداخلها، وأنه لولا حضور الجيش في النهاية لتفاقم الخطب، وأن الأجانب يدينون بأرواحهم لرجال الجيش» ...
ولقد وقف عمر لطفي موقفا سلبيا من هذه الأحداث. يتضح ذلك في قول جون نينيه: «تصادف أن قابلت عمر لطفي في الساعة الثالثة، وكان يمشي بملابس عادية ومعه بعض رجال الشرطة، فسألته: لماذا لم تفعل شيئا لإيقاف الفتنة؟ فقال: إنه كان مع القنصل الإنجليزي وقد اعتدي عليه، فقلت: ولماذا لم تذهب بملابسك الرسمية وتستصحب نحو خمسين رجلا من رجال الشرطة الفرسان لتقضي على الفتنة؟ فأجاب بأنه لم يعثر على قنديل رئيس الشرطة، فسألته: ولماذا لم يفعل الجند شيئا؟ فقال: إنهم لم يتلقوا أوامر فلا يستطيعون التحرك، فسألته: وماذا فعل القناصل؟ فقال: إنهم عقدوا اجتماعا، فقلت: ولماذا لم تبرق بما حدث إلى الخديو وإلى عرابي باشا؟ فأجابني في خشونة قائلا: «وما شأنك والمسألة عن هذا؟»
ويقول روثستين: «ابتدأت الفتنة حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، واستمرت حتى الساعة الخامسة ... حدث هذا كله ورجال البوليس كانوا تارة لا يفعلون شيئا وتارة يشتركون في الفتك والقتال، أما عمر لطفي فكان في أثناء ذلك قد استحوذ على مكتب التلغراف ليكون على اتصال بالخديو ، ولم يخبر سليمان سامي قائد الحامية بشيء عن الفتنة إلا بعد مضي الساعة الرابعة. وحتى في هذه الساعة قد أمر بأن يقود الجنود عزلا من السلاح، على أن الرجل تولى الأمر بنفسه فبرز في الساعة الخامسة وأخمد ثورة المذبحة.»
ويقول عرابي: «إن عمر باشا وهو المحافظ لم يرسل إلي أي نبأ عن الحادث مع أنه يعلم أني أخذت على عاتقي حفظ الأمن والنظام في البلد كله.»
وفي الوقت نفسه كانت الصلة بين عمر لطفي وتوفيق مستمرة أثناء الحوادث كما يشهد بذلك أحمد رفعت بناء على ما وصل إلى علمه من موظفي التلغراف بالقصر. ولقد كتب وهو في السجن أنه يستطيع أن يثبت ذلك، ولكنه بالضرورة لم يتمكن من شيء ...
وقرر كذلك جون نينيه أن مصلحتي التلغراف في الإسكندرية والقاهرة قد شغلتا طوال الوقت بالاتصال بين الخديو وعمر لطفي.
ويقول الشيخ محمد عبده في تقرير له كتبه في منفاه بسوريا: «حقا إن أكثر من اتهموا ومن قبض عليهم بعد الحادث بيوم كانوا يصيحون بقولهم: «لا لوم علينا؛ فإن سعادة المحافظ نفسه هو الذي كان يأمرنا بأن نضرب وأن نسرق.»
8
وجاء كذلك في تلك الورقة المرقمة التي كان يثبت بها ملاحظاته قول الأستاذ: «وعلى القرب من زيزينيا رؤي عمر لطفي فسأله سائل: كيف تكون هنا والمذابح على خطوات منك؟ فقال: لست بقائد، وهذا لا يعنيني ... فسأله: ولماذا لم تحضر بلباسك الرسمي على حصانك شاهرا سيفك في حراسة خمسين من عساكر المحافظين وبذلك كان ينتهي الأمر؟ فأجابه: انصرف ليس هذا من شأنك، وهل أنت محافظ البلد؟»
وجاء فيها أيضا قوله: «لم يصل الخبر عرابي إلا الساعة الرابعة والربع بعد الظهر مع أن القليل من موظفي التلغراف الذين يشتغلون بعد الظهر مع أن القليل من موظفي التلغراف الذين يشتغلون بعد الظهر لم يكن عندهم وقت للعمل إلا في تلغرافات المحافظ، حتى إن رسالتين هامتين من أحد الميرالايات في الإسكندرية لم تقبلا لاشتغال الكثرة بتلغرافات المحافظ.»
وقوله: «ذهب نينيه عند قنصل روسيا وحدثه بما رآه من المحافظ ، فتعجب وقام للمخابرة مع إخوانه القناصل، وبعد ذلك كتب للخديو ودرويش وعرابي، وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر.»
وقوله: «سليمان سامي كان مستعدا لإرسال العساكر إذا ورد له الأمر من نظارة الجهادية، ولكن لم يكتب أحد بذلك إلى النظارة لأن الأمر بيد المحافظ.»
وقوله: «عمر لطفي باشا طلب إنزال جند إنجليز لعجز عرابي عن حفظ الأمن.»
وقال أحمد رفعت: «ولما كنت في الإسكندرية بعد الحادث باثني عشر يوما سمعت الناس يقولون في صوت واحد: إن المحافظ عمر لطفي هو الذي أدى بتفاقم الأمر إلى هذا الحد؛ لأنه كان حاضرا ولم يصدر أي أمر لإيقافه.»
هذا ما يتصل بموقفه السلبي من الأحداث، ذلك الموقف الذي ينطوي على أشد الريبة، وإنه ليصعب على المرء أن يتصور أن محافظا في مدينة ما يرى القتال بين الناس ثم يقف منه مكتوف اليد كما وقف عمر لطفي من حوادث الإسكندرية، ثم لا يتهم بأنه إن لم يكن مدبر الجريمة، فهو على الأقل راض عنها لأنها جاءت وفق ما يريد ...
على أن جون نينيه يذكر نبأ عظيم الخطورة عن هذا المحافظ ويقول إنه سمعه من سكرتير سيمور أدميرال الأسطول، ومؤداه أن عمر لطفي ذهب إلى ذلك الأدميرال في قارب بعد المأساة بأربعة أيام وطلب إليه أن ينزل جنودا بالإسكندرية؛ لأن عرابي لن يقوى على حفظ الأمن.
وقد رأينا أن الشيخ محمد عبده يشير إلى شيء مثل هذا في مذكراته، كما أن أحمد رفعت بك يذكر مثل هذا النبأ فيقول: إن الخديو وقت الحادث أبرق إلى لطفي أن يستعين بجنود من الأسطول لا بفرق من الجيش المصري، كأنما يستعجل توفيق الاحتلال ويخشى أن تفلت الفرصة من يده.
ومن أخطر ما يتصل بموقف عمر لطفي أنه كان يعلم قبل المأساة أن الأجانب يسلحون أنفسهم، ثم لم يتخذ أي إجراء احتياطي لما عسى أن يؤدي إليه هذا التسليح، ولا هو أبلغ عرابي بشيء من هذا أو أبلغ الخديو ليتصل بعرابي، وكان علمه بهذا التسلح حقيقة ثابتة، فقد ذكر كوكسن في رسالة منه إلى مالت في اليوم السادس من يونية أن يعد العدة للتسلح، ثم قال: «ويصح أن أذكر أن محافظ المدينة زارني منذ أيام وكان معي بعض زملائي وأبلغني أنه علم أن الأجانب يسلحون أنفسهم.»
9
ولننظر بعد ذلك في موقف الخديو من هذه المأساة، ولنبين ما عسى أن يكون من صلة بينه وبين عمر لطفي، وما عسى أن يكون من مغزى لهذه الصلة بينهما ...
ذكر اللورد راندلف تشرشل في قرار اتهامه الذي أثاره في مجلس العموم البريطاني في سنة 1883، أن الخديو توفيقا، اتصل ببعض البدو في مديرية البحيرة وخاصة قبيلة أولاد علي، وذلك عن طريق مدير الإقليم إبراهيم توفيق، وكان الخديو يرمي إلى غرضين: اتخاذ هؤلاء البدو قوة له يقاوم بها قوة الجيش، ثم الاعتماد عليهم في إحداث فتن وقلاقل تظهر الوزارة بمظهر العجز أمام دول أوربا، وقد أنفق الخديو على ذلك نحو عشرين ألفا من الجنيهات وزعت على مشايخ هؤلاء البدو، واستقبل توفيق هؤلاء الشيوخ في مقره وأكرم مثواهم، واتفق معهم على أن يدخلوا عددا من أتباعهم القاهرة عن طريق الجيزة، وكان يريد أن تقع الفتنة في القاهرة، ولكن هؤلاء البدو تخاذلوا عن القاهرة لما رأوا من يقظة الحكومة، على أن عمر لطفي قد استعان ببعض هؤلاء البدو في مأساة الإسكندرية
10 ...
وذكر بلنت في كتابه هذه المؤامرة وأكدها، وكذلك ذكر أحمد رفعت بك في تقرير كتبه في سجنه ...
ويقول روثستين: «في هذا اليوم وقعت بالإسكندرية مذبحة الأجانب التي دبرها الخديو ومحافظ المدينة عمر باشا لطفي، وقام بها رجال البوليس وجماعة من الفتاك المستأجرين، وهي مثل صحيح لما يقع في زمننا هذا من مذابح اليهود المدبرة ...
لقد كان الخديو يعلم حق العلم أن هيجة صغيرة تقع بمصر إنما هي ضالة السياسة البريطانية التي ما برحت تنذر بأشد الويل للأجانب إذا لم يقض على «الفوضى» التي يؤيدها حزب سامي وعرابي بنفوذه «العسكري». وفي 31 مايو، وليس قبل، أنهى السير إدوار مالت إلى اللورد جرانفل أن المسلمين والمسيحيين قد يصطدم بعضهم ببعض وقتا ما، وقد رأينا أن ذلك أدى إلى تعزيز الأسطولين ...
ومع هذا فإن الخديو باطلاع مستشاريه الأجانب، أو بغير اطلاعهم قد عقد العزم على أن يتعجل تلك الفتنة المنشودة بشيء من الكياسة ولطف الحيلة إذا كان سير الحوادث الطبيعي لا يعجل وقوعها. ولكن ترى أين تقع هذه الفتنة؟ إنها إذا وقعت في القاهرة فلا تؤمن عاقبتها على الإطلاق. ففي القاهرة عرابي ورفاقه، وفي القاهرة الجيش الذي يستطيع أن يقطع دابر الفتنة في طرفة عين، أما إذا وقعت في الإسكندرية فإنها يكون لها شأن آخر. فمحافظ المدينة هو عمر باشا لطفي الذي كان وطني الميل زمنا ما، والذي رشحه الخديو لنظارة الحربية في فترة اليوم التي أعقبت استقالة وزارة سامي، فأصبح من مصلحته أن يعمل على سقوط عرابي.»
وقال اللورد تشرشل بعد أن أشار إلى برقية توفيق الخطيرة إلى عمر لطفي: «إن لدي أدلة على أنه أثناء الأسبوع التالي، أرسل حيدر باشا ابن عم الخديو مرتين إلى الإسكندرية، وكان يلقاه الخديو عقب عودته تحت ستار الليل، وقد ثبت أن حيدر هذا نفسه كان حاضرا بالإسكندرية يوم الفتنة ومنها سافر إلى القاهرة عقب الحادث مباشرة.»
وأورد أحمد رفعت بك مثل هذه الرواية عن حيدر باشا، وزاد عليها أنه صحب الخديو بعد ذلك عند سفره إلى الإسكندرية ...
ولا يفوتنا ونحن في صدد الكلام عن صلة توفيق بالمأساة أن نشير إلى برقيته الخطيرة إلى عمر لطفي، التي طلب إليه فيها أن يختار لنفسه، هل يكون معه، أم يكون مع عرابي ...
كذا لا يفوتنا أن نشير هنا إلى ميله لإنجلترا وقبوله المذكرة المشتركة الثانية، وإلى رغبته في التخلص من عرابي وحزبه بأي ثمن ...
وقد ذكر أحمد رفعت بك فيما ذكره عن المأساة بعد نفيه من مصر: «في يوم الأحد الموافق 11 يونية كان المندوب العثماني درويش باشا، الذي وصل إلى مصر قبل ذلك بثلاثة أيام، يقطع في عربته الطريق بين قصر الجزيرة وجسر قصر النيل، وكان قد لقي في مقره عرابي باشا والوزراء المستقيلين لقاء طويلا، وكان متجها إلى قصر الإسماعيلية حيث كان يقيم الخديو ليفضي إليه باتفاق كان يؤدي كما قيل إلى صلح بين الخديو والوزراء.
وعلى مقربة من الجسر قابله طلعت باشا سكرتير الخديو، وقد أرسله سيده ليبلغه بأن فتنة وقعت في الإسكندرية، وأنها استمرت ثلاث ساعات، وأن الأوربيين والمسيحيين كانوا يقتلون أينما وجدوا، وقد أدى طلعت الرسالة في مظهر المنتصر، وظهر عليه سرور شديد، وكأنما كان يريد أن يقول إن عرابي الذي عمل من أجله ما عمل كان سبب ما حدث ...
وأرسل درويش باشا أحد الضباط المرافقين له في العربة ليعود من فوره إلى عرابي، ولما كنت حاضرا فقد أفسحت لرسول درويش مكانا في عربتي وأخذته إلى بيت محمود سامي حيث كان عرابي حاضرا في ذلك الوقت. وشاعت الأنباء سريعا في المدينة، وقد انزعج لها الناس جميعا، واستولى الحزن على عرابي وصحبه. أما في قصر الخديو وحده فكان الفرح واضح المعالم.»
وقد جاء في تقريره وهو بالسجن ما لا يخرج عن هذا، وقد ذكر في نهايته أنه يستطيع أن يثبت ما يقول بشهادة شهود لا يمكن أن تحوم حولهم شبهة ... •••
ومما هو جدير بالاعتبار أن الخديو عين عمر لطفي باشا على الرغم من سلوكه أثناء الفتنة رئيسا للجنة التحقيق التي كلفت بالبحث عن المسئولين، وكان أول شيء يجب أن يعمل لو سارت الأمور سيرا بريئا أن ينحى عمر لطفي لكي يستطاع سؤاله عن أسباب تقصيره، ذلك التقصير الذي لا يستطيع أن يماري فيه أحد ...
وكان الغرض من لجنة التحقيق إلصاق تهمة المذابح بعرابي وحزبه، فلما لم يتيسر ذلك بأي وجه انسحب الإنجليز كما سنرى من لجنة التحقيق، ونصح الخديو لعمر لطفي أن يطلب إجازة بحجة السفر إلى خارج القطر للراحة.
وبقي عمر لطفي بمصر حتى أعلنت الحرب، ولما عزل عرابي في اليوم السادس والعشرين من شهر يوليو عينه الخديو وزيرا للحربية مكانه.
ومما يذكر في صدد هذا أن حيدر باشا كذلك قد ظفر بمقعد بين الوزراء ... •••
ننظر بعد ذلك فيما كان من أمر عرابي وحزبه تلقاء هذه الفتنة، ولنبدأ بما ذكره روثستين في هذا الصدد. قال: «وأعجب ما يتصل بهذا الحادث وأغربه أنهم حاولوا فيما بعد أن يجعلوا لعرابي يدا فيه مع أنه قاسى من جرائه ما لم يقاسه غيره. فزعموا أنه ناسج برد المؤامرة لحمته وسداه، والآمن بالمذبحة، والناهي رجال الحامية عن التعرض لها. ولكن التهمة تطايرت بشكل يرثى له عندما أدركوا أن اللجاج في الأمر قد يزيح الستار عمن قاموا حقيقة بتلك الفظيعة المنقطعة النظير. ثم ظهرت الحقيقة على الرغم من ذلك كله، وكان الفضل في ظهورها راجعا إلى جهود المستر بلنت. وفي سنة 1883 بسط اللورد رندلف تشرشل لأعضاء البرلمان الأمر بأجمعه.»
ونحسب أن المسألة واضحة كل الوضوح في بعد عرابي وحزبه عن هذه المأساة، فمما لا ريب فيه أنها موجهة ضدهم، فقد ضمن عرابي الأمن، ولا يمكن أن يطعن نفسه بنفسه فيأتي بما يهدم كل ما يدعي، كذلك ما كان من الممكن أن يقف سليمان سامي قائد حامية المدينة مكتوف اليدين من المأساة لو أنه أحيط علما بها وقد علم أن تبعة الأمن ملقاة على عاتق عرابي ...
وقد أرسل كوكسن برقية إلى مالت عقب إعادة عرابي إلى الوزارة يصف الإسكندرية فقال: «كل شيء هنا هادئ، والسلطات المحلية تؤكد لي أنه لا خوف من وقوع اضطراب، وقد تلقت فرق الجيش ردا من القاهرة اتفقت بناء عليه أن تظل ساكنة في الوقت الحالي.»
ولم يكن لعرابي من سلطان علي عمر لطفي؛ إذ كان هذا بعد استقالة البارودي يتلقى الأمر من الخديو مباشرة، وقد ثبت أنه لم يتصل بعرابي عند وقوع المأساة حتى يمكن أن يقال إن عرابي تراخى في الإشارة عليه بما يجب أن يعمل.
هذا وقد أعاد الجيش الأمن إلى المدينة بأمر من عرابي بمجرد أن علم بالنبأ، ومما هو جدير بالنظر أنه لم يحدث بعد ذلك في المدينة حتى وقعت الحرب أي شغب منذ أن تدخل الجيش وفطن الحزب الوطني إلى الدسيسة.
ولقد كان وقع النبأ إليما في نفس عرابي ونفوس أصحابه، حتى إن عرابيا ظل صامتا مكتئبا يضغط بيده على قلبه ويتنهد تنهدات طويلة.
11
واهتم عرابي بالتحقيق اهتماما كبيرا يتضح ذلك فيما أرسله إلى سليمان سامي إذ يقول: «لست تجهل أهمية مركزك في الوقت الحالي فيما يتصل بلجنة التحقيق، وذلك لأن أعضاء اللجنة ليسوا كما تعلم مساوين في العدد لأولئك الذين يهمهم شرف الجيش والأمة، وهذا يجعل من الضروري أن تتخذ كل الحذر أثناء التحقيق، وأن تعمل على كشف الدافع الحقيقي إلى هذه الفتنة.»
والأمر كما نذكر لا يحتاج إلى كثير من القول ولا إلى قليل لبيان موقف عرابي وحزبه، فإذا أراد المرء أن يبحث عمن ارتكب جريمة ما فلينظر من له مصلحة في اقترافها، ولقد كان في هذه المأساة الضرر كل الضرر على عرابي وعلى قضية الحزب الوطني. •••
يأتي بعد ذلك الكلام عن موقف الإنجليز من المأساة، وأول ما نذكره أن ذلك المالطي الذي قتل السيد العجان كان أخا لخادم مستر كوكسن، وقد يكون ذلك من قبيل المصادفات، ولكنه لا يمنع من القول بأنه تجرأ على الطعن لما كان يعلمه من نية مبيتة بينه وبين أشباهه من المالطيين.
وكذلك نذكر أنه كان بين القتلى رجل يدعى ستراكت، وكان يعمل خادما للسير بوشمب سيمور أدميرال الأسطول، وقد أقسم هذا الأدميرال العظيم الذي جاء لضرب الإسكندرية أن يثأر من أهل المدينة لمصرع خادمه.
12
على أن هناك من الشبهات والقرائن ما هو أهم وأقوى من هاتين القرينتين، وحسب المرء أن يقلب صفحات الكتاب الأزرق ليرى أنه تلقاء يقين لا يخالطه شك ...
ولقد أشرنا إلى بعض ما كان يدبره مالت وكوكسن وأشياعهما، ونكرر هنا الإشارة إلى برقية كوكسن الخبيثة بأن تصادما سوف يقع بين المسيحيين وبين المسلمين، وكذلك نعيد الإشارة إلى ما أرسله مالت إلى جرانفل في اليوم السابع من مايو، ومؤداه أنه لابد من حدوث ارتباكات قبل تسوية المسألة المصرية، وأن الأصوب استعجال هذه الارتباكات لا تأجيلها.
13
ونعود بالقارئ إلى ما سقناه من أدلة على أن المأساة مدبرة، وخاصة تسليح الأجانب أنفسهم ، ولنبسط القول بعض البسط في هذه المسألة، فنقول إن كوكسن كان دائب السعي في تسليح الأجانب، وخاصة الإنجليز كما هو ثابت صراحة في الكتاب الأزرق، وقد اتصل بالسير سيمور أكثر من مرة كما اتصل بالسير إدوارد مالت مرات، وكان يقول لمالت كل مرة إنه يحرص على سرية هذا التسليح مخافة أن يحدث ذعرا إذا عرف، والواقع أن الغرض منه كان تبييت الغدر حتى تحين الساعة المقصودة ...
وليس يخفى ما ينطوي عليه هذا التسليح من تحريض على الفتنة بطريق الإيحاء، ولعل ذلك ما دعا مالت إلى شيء من التحفظ ليفلت من التبعة، ويتضح هذا التحفظ في برقية منه إلى اللورد جرانفل يوم الفتنة بالذات إذ يقول: «لي الشرف أن أذكر لفخامتكم أن قنصل السويد العام وصل اليوم من الإسكندرية، وعرض علي مشروعا للدفاع العام عن الأجانب، ورغب في موافقة ممثلي الدول عليه. وقد أجمع الممثلون على أن تسليح ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف تمهيدا لهذا الدفاع عمل بالغ الخطورة، وأنه بجانب ذلك عمل في ذاته يفضي إلى التصادم في أي وقت، وعلى ذلك فقد اتصلوا بقناصلهم كيلا يشاركوا في شيء من هذا. وبناء على ذلك أبرقت إلى مستر كوكسن ألا يشارك بعد الآن في شيء منه، وفي حال ما إذا خيف الخطر على البريطانيين فعليه أن يعتمد على مساعدة الأدميرال، وأن يعمل حسبما يشير به من نصائح، ولما وجدت الأمر يقضي أن تبقى تعليماتي سرية إذ إنها تتصل بالرجوع فجأة عن خطة بانت معلومة إلى حد ما، فقد أشرت على مستر كوكسن بأن يجعل ما سلف من الأمور السرية، وفي الوقت نفسه عليه أن يحاول أن يقضي على المخاوف بأن يذيع أنه ليس ثمة نزاع بين الوطنيين والأجانب، وأن المفاوضات في الوقت الحالي في يد درويش باشا المندوب العثماني الذي يعمل باسم السلطان. وطلبت إلى مستر كوكسن أن يطلع على هذه التوجيهات الأدميرال السير. ب. سيمور.»
وأدعى من هذا التسليح إلى إثارة الشبهة موقف الإنجليز من التحقيق الذي أزمعت وزارة راغب باشا إجراءه عقب تأليفها ...
أراد الإنجليز أن يعزوا هذه المأساة إلى عرابي، ولم يعنوا بالبحث عن الحقيقة في ذاتها، وقبلت ضمائرهم أن يتجهوا هذا الاتجاه وهم الذين طالما عابوا على الشرقيين انحطاطهم وتفاخروا عليهم بمدنيتهم، أرسل جرانفل إلى مالت يقول له: «أطلب إليك أن تتخذ الخطوات التي تؤيد هذا الدليل، وخاصة ما يتصل منه بمسلك نديم ووكلاء عرابي وعلاقة قنديل بعرابي.»
ثم تلقى كارتريت نائب قنصل الإسكندرية من جرانفل برقية بتاريخ 24 يونية، وفيها يقول: «لقد ذكر في الصحف العامة أن راغب باشا أمر بإجراء تحقيق في الاضطرابات التي وقعت بالإسكندرية يوم 11 الحالي، وإذا كان الأمر كذلك فإن حكومة جلالة الملكة ترغب منك أن تقف بمنأى عن هذا التحقيق، وعليك أن تخبر قنصل جلالتها بما تلقيت من توجيهات في هذه المسألة.»
ونفذ كارتريت ما أمر به، وأغرى زميله القنصل الفرنسي بأن يسلك مسلكه، وكان سبب انسحاب هذين من لجنة التحقيق أن اللجنة أرادت أن تفتش منازل الأجانب والوطنيين على السواء، وكان أولى بهما لو أرادا إنصافا أن يزدادا اطمئنانا إلى عدالة اللجنة بهذا القرار، وأن يجعلاه سببا لانضمامهما إليها لا لابتعادهما عنها ...
وعرض راغب باشا على الأجانب أن يؤلفوا لجنة جديدة يحدد عملها فرفض كارتريت هذا العرض وأيده جرانفل في رفضه. وفي الوقت نفسه طلب إلى كارتريت أن يجمع المعلومات لحسابه هو، وخاصة ما يتصل منها بمسلك وزارة الجهادية تجاه الحادث، وبما حصل من تأخير في إرسال الجنود إلى أمكنة الاضطرابات.
14
علق اللورد رندلف تشرشل على ذلك بقوله: «وهكذا نرى أن الاضطغان المتعمق في نفس اللورد جرانفل على الحزب الوطني، وأن الاعتقاد القائم على غير أساس منه ومن السير إدوارد مالت بأن المذابح كانت من صنع الحزب العسكري، وبأن عرابي وأصحابه أرادوا أن يطمسوا الحق بأي ثمن، وقد كانوا في الواقع يعملون على إبرازه ... نرى أن ذلك كان سببا في صد التحقيق عن وجهه، ذلك التحقيق الذي أجري عقب الفتنة مباشرة، وكان صنيعا فذا من عرابي باشا، وفضلا عن ذلك فإنه كان من الأهمية بمكان عظيم أن يعقب التحقيق الفتنة مباشرة لا ابتغاء الوصول إلى معرفة مدبري الفتنة فحسب، ولكن لمنع ما قد يعقبها من ظلم، وكان التحقيق عقب الحادث هو الوسيلة في ذلك الوقت فقط التي بها يمكن الوصول إلى أدلة يوثق بها، وليس من ريب في أنه بناء على تعطيل التحقيق على يد اللورد جرانفل قد عوقب كثير من الأبرياء ومن سيئي الحظ بالموت والنفي والسجن.»
وثمة حقيقة أخرى جديرة بكل اعتبار في صدد الكلام عن سياسة الإنجليز في المأساة، وهي خليقة بأن تثير أكبر الشبهات، وذلك أنه ما من برقية أو رسالة بين الخديو ومالت أو بين مالت وسيمور أو بين عمر لطفي والخديو، عما كان يحدث أثناء الفتنة، ما من شيء من ذلك أثبت في مجموعة الكتاب الأزرق، ولا يعقل بأية حال أن المخابرات انقطعت بين هذه الجهات أثناء وقوع الاضطرابات.
وحقيقة أخرى جديرة بالنظر، وقد سبق الإشارة إليها في موضع آخر، وتلك هي إطلاق النار من النوافذ على الوطنيين بمجرد مقتل السيد العجان على يد ذلك المالطي الذي هو شقيق خادم كوكسن، فكأن الأجانب أعدوا هذا الحادث إيذانا ببدء ما سبق به الاتفاق ...
ويتصل بذلك ما ذكره جون نينيه في قوله: «وفي طريقي قابلت مستر كوكسن في عربة، وأخبرني أحد الواقفين بجانبي أنه كان في بيت أحد المالطيين أثناء إطلاق النار، وأنه اعتدي عليه عند خروجه من ذلك البيت؛ لأن الدهماء عدوه مسئولا عن إطلاق النار.»
ولا يفوتنا كذلك أن نشير إلى مساعي مالت وكوكسن بوجه عام ضد وزارة البارودي وضد عرابي منذ قامت هذه الوزارة، ومزاعمهما عن تسلط الحزب العسكري، ورغبتهما الملحة في إسقاط تلك الوزارة التي أعلنت الدستور وقضت على نفوذ الرقيبين الأجنبيين، والتي زادت روح الوطنية تأصلا في نفوس المصريين بحيث بات يخشى الأجانب استعصاءها على المقاومة لو تركت وشأنها. ولقد ازداد غضب مالت وكوكسن بصفة خاصة منذ عودة عرابي إلى الوزارة بعد سقوطها والتجاء الأجانب والوطنيين إليه لحفظ الأمن، وإعلانه أنه يأخذ ذلك على عاتقه، وواضح أن نجاحه فيما تعهد به إسقاط لحجتهما من أساسها، وقضاء على محاولتهما الشيطانية لتنفيذ السياسة المرسومة، سياسة احتلال مصر ...
والآن بعد أن أثبتنا أن المأساة مدبرة، وبعد الذي عرضناه من مسلك عمر لطفي ومن ورائه الخديو، ومسلك الإنجليز قبل المأساة وبعدها، يمكننا القول في غير أدنى شعور بالحرج إن المأساة كانت من تدبير مالت وكوكسن وقبيلهما من شياطين الاستعمار، وإن عمر لطفي كان شريكا لهما فيما دبرا، إن لم يكن بالتواطؤ الصريح فبالموافقة الضمنية، كمن يعلم سلفا أن نارا سيشعلها بعض الجناة فيظل يرتقبها لأن له مصلحة في إشعالها، حتى إذا اندلعت ألسنتها تركها تأكل كل شيء، ويزيد في تبعته أنه كان بحكم منصبه المسئول الأول عن الأمن في المدينة.
والحق عندي أن كوكسن ولطفي كانا في الشر سواء، ولا يقل أحدهما تبعة عن صاحبه في تدبير هذه المأساة.
ولا يستطيع منصف أن يبرئ عمر لطفي إلا إذا استطاع أن يبرئ كوكسن ومالت، ولن يبرأ هذان إلا إذا أدين عرابي وأصحابه، وهو ما لم يستطع أعداء عرابي بكل ما وسعهم من جهد أن يصلوا إليه ...
قال الشيخ محمد عبده: «وفي يوم هذه الحادثة توجهت إلى السراي فرأيت موظفيها في جدل عظيم مما حدث، وكانوا يبالغون في رواية الأخبار، ويضحكون من عهد عرابي بالمحافظة على الأمن العام، ومن المعلوم أن موظفي السراي لا يقولون إلا ما يسر الخديو، فإذا كانت الأخبار سارة تكلموا وضحكوا، وإلا تظاهروا بالحزن والكآبة جهدهم.
15
وبعد اثني عشر يوما من هذا التاريخ كنت في الإسكندرية، فسمعت الناس جميعا يقولون إن المحافظ عمر لطفي سمح بانتشار الفتنة إلى هذا الحد لأنه كان مقيما في البلد ولم يصدر أمرا بتوقيفها، ولم يذهب إلى مكان الفتنة إلا بعد مضي وقت، ولم يطلب مساعدة العسكر النظامي مع أنهم كانوا على مقربة منه، وأجمع الناس على أن عمله هذا موعز به من الخديو. وعلمنا أيضا أنه لما كانت المذبحة على وشك النهاية وكان المحافظ يتجول من مكان إلى آخر، وإذا بأجنبي في شباك وفي يده مسدس فقال أحد البدو: أأرمي هذا الرجل يا باشا؟ فقال له: ارمه، فأطلق البدوي عليه الرصاص فقتله، وكثير من المنهوبات دخلت بيته وبيوت أقربائه في ذلك اليوم الأسود ... وقد سمعت أيضا أنه حرض بعض الناس أثناء المذبحة وشجعهم على ذلك، وأنه أشار إلى البوليس ألا يتدخل قائلا: دعوا أبناء الكلاب يموتون.
ولم تسأل اللجنة التي تألفت للنظر في أسباب هذه الفتنة عمر لطفي عن شيء مما حدث مطلقا، بل كان الخديو أوعز إليه بأن يستقيل بحجة المرض.
كان عمر لطفي محافظ الإسكندرية زمن الفتنة، وقد أهمل أمر القيام بحفظ الأمن العام على أنه هو الشخص الوحيد المسئول عنه. هذا إذا لم نقل إنه هو المحرض عليها، فإذا كان فعل ما فعل إطاعة لأمر عرابي كما ادعى، مع أن وظيفته تابعة رأسا إلى الخديو - لأن الخديو أصدر أمرا خاصا صرح فيه أنه بعد استقالة وزارة سامي أفضت أمور الداخلية وشئونها إلى السراي - فكيف نعلل تعيينه وزيرا للحربية جزاء لطاعة عرابي وعصيانه لسيده الخديو؟ وإذا كان الأمر إهمالا منه فكيف يصح مع إهماله وعدم كفاءته تعيينه وزيرا للحربية؟ ولماذا لم يسأل سؤالا واحدا عما جرى مع أنه كان يجب أن يكون أول من يسأل؟
لا ريب في أن استقراء سير الحوادث، يظهر أتم الظهور أن الخديو بالاشتراك مع عمر لطفي كانا سبب هذه الفتنة، أي مذبحة الإسكندرية.»
16
ويعتقد برودلي اعتقادا جازما بإدانة عمر لطفي، فقد كتب إليه اللورد تشرشل يسأله رأيه عقب عودته من مصر ليقدم هذا الرأي إلى جلادستون، فكتب برودلي إليه، بأنه سأل في السجن اثنين من كبار السياسيين النابهين لا ترقى إليهما شبهة ولا تخفى عنهما حادثة،
17
فتوافقت روايتاهما بما يدين عمر لطفي، وكانا كل في معزل عن صاحبه في السجن بحيث لا يمكن التقاؤهما ...
أما كوكسن فقد لعب في هذه الفتنة دور الشيطان، ويقيني أنه لو سار التحقيق كما أراد عرابي لأخذ بجريمته، ولكن توفيقا بادر بتعيين عمر لطفي رئيسا للجنة التحقيق، ولم يعارض عرابي في هذا رغبة منه في المحافظة على المودة بينه وبين الخديو، وقد أقسم كل منهما قبل ذلك بأيام على أن يحمي الآخر كما يحمي نفسه، ثم أحبط الإنجليز عمل اللجنة بانسحاب مندوبهم منها فنجا كوكسن من الاتهام ...
أما الغرض من تدبير هذه المأساة فيتبين لنا في تتبع سير الحوادث صوب الهدف المقصود، وحسبنا أن نذكر الآن أنها كانت من أقوى الضربات التي نزلت بالحركة الوطنية القومية، وكانت فاتحة المآسي التي سوف يأتي بعضها في إثر بعض حتى تقع المأساة الكبرى يوم التل الكبير.
العدوان الفاجر
هذا هو العدوان الذي لا نجد في تاريخ الحروب أقبح منه أو أشد منه فجورا، والذي سوف تنطوي العصور ويظل في تاريخ الإنسانية من أبلغ الأمثلة على ما يفعل الأقوياء بالضعفاء، وفي تاريخ الاستعمار المثل الرائع على ركوب أية وسيلة إلى الغاية في غير مبالاة بما يسمى الشرف أو الحق أو العدالة ...
هذا العدوان الغادر الشنيع هو إطلاق المدافع من الأسطول الإنجليزي على مدينة الإسكندرية في اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882.
وإنه لتاريخ خليق بأبناء هذا الوادي وبني الشرق جميعا أن يذكروه، كلما تحدث متحدث عن الضمير والشرف البريطاني وعن الحضارة الأوربية بوجه عام في هذا الشرق المسكين ...
وإنه لعدوان خليق بأن يخجل منه ساسة الإنجليز إذا نسوا أطماعهم فترة، وفكروا فيما ينطوي عليه من غدر وقحة ...
وإنه لثأر جدير بكل أب وبكل أم في هذا الوادي أن يتحدثوا به إلى أبنائهم وبناتهم، إذا أرادوا أن يغرسوا في نفوسهم الغضب لكرامة وطنهم، والاشمئزاز والنفور من الغاصب الدخيل ...
وما ندري بأية وسيلة نعبر عما نحس به إزاء هذا العدوان الغادر وليس في مقدورنا أن نعبر بالكلام عما يختلج في ثنايا الصدور ... •••
قبل الخديو المذكرة المشتركة كما أسلفنا، واستقالت وزارة البارودي في اليوم السادس والعشرين من شهر مايو، وظن المتربصون بمصر أن الحزب الوطني وأن الحركة القومية قد انتهى أمرهما بسقوط الوزارة، ولكنهم ما لبثوا كما بينا أن تبينوا أن الأمر أكبر مما يظنون، واضطر الخديو إلى إعادة عرابي بعد يومين وزيرا للجهادية لحفظ الأمن والنظام ...
ولكن مالت بدل أن يكف عن دسائسه أمعن فيها، وبات همه الشاغل استعجال الحوادث التي تفضي إلى احتلال مصر، وكان جرانفل بالضرورة وإياه على اتفاق، وكان من ورائهما جلادستون أحد دعاة الحرية والمشتهرين بنصرتها!
وكانت السياسية الإنجليزية قد حددت سياستها نحو مصر، وتتلخص هذه السياسة في الانفراد باحتلال مصر وتحين الفرصة لذلك، وهي في الواقع سياسة قديمة ترجع إلى حملة نابليون على هذه البلاد، وقد نشطت نشاطا عظيما منذ فتحت قناة السويس ...
وكان أمام إنجلترا في الخارج عقبتان: موقف فرنسا من المسألة المصرية، وحق تركيا صاحبة هذه البلاد، وفي الداخل عقبة كؤود هي الحركة القومية بزعامة عرابي، وكان سبيلها في الخارج المراوغة والتربص، وسوف يكون سبيلها في الداخل البغي والعدوان ...
ولتمض إنجلترا إذن في مراوغتها بعد المذكرة المشتركة، ولتحرص أشد الحرص، كما حرصت من قبل، على أن تظهر لفرنسا والدول جميعا أنها لا تنوي العمل بمفردها ولتدع تركيا إلى التدخل، ولتطع فرنسا في كل ما تدعو إليه، لتفعل إنجلترا ذلك كله فليس يضيرها شيء منه، بل إنه لستار تختفي وراءه إلى حين، ولن تعدم ذريعة لانفرادها بالتدخل حين تحين الفرصة، وإنها لتفيد من تردد تركيا وتراخيها؛ إذ يهيئ لها ذلك أن تقول: إنها اضطرت آخر الأمر أن تضطلع بحماية الأجانب ومصالحهم وأموالهم في مصر ...
وكانت إنجلترا منذ إرسال المذكرة المشتركة الثانية إلى وزارة البارودي تزعم دائما في صلتها بالدول، وخاصة فرنسا، خطورة الحال في مصر، وتبالغ في الإنذار والتخويف.
وبعد سقوط وزارة البارودي بأربعة أيام أرسل دي فرسنيه إلى السفير الفرنسي بلندن يقول «لم يعد من أمل في حل سلمي بالضغط الأدبي القائم على وجود الأسطولين الفرنسي والإنجليزي وعلى المساعي الطيبة التي يبذلها عمال الدولتين في القاهرة».
واقترح فرسنيه أن يعقد مؤتمر دولي لحل المسألة المصرية، وكان غرضه من هذا كما فعل حين اقترح مجيء السفن إلى الإسكندرية أن يحول بين إنجلترا وبين الانفراد بالعمل ؛ فقد بات يتوجس خيفة من سياستها ...
وقبلت إنجلترا الاقتراح، وأخذت تعمل في نشاط لتنفيذ الفكرة، مدعية أن الأحوال الداخلية في مصر تتطلب عملا عاجلا حاسما. ولن تخيب إنجلترا في أن تجعل من المؤتمر أداة تنتفع بها في تحقيق ما تبيته ...
ومما يدل على حيرة السياسة الفرنسية أن فرسنيه، كما أسلفنا، كان يرى إبان أزمة وزارة البارودي أن لا داعي إلى التدخل في شؤون مصر، وأرسل رأيه هذا إلى جرانفل على لسان سفيره في لندن ...
على أنه ما لبث أن رأى جرانفل يخطو خطوة صوب الانفراد بالعمل؛ وذلك أنه كتب إلى اللورد دوفرين في الثامن والعشرين من مايو أن ينصح للسلطان بمؤازرة توفيق، وأن يرسل في طلب عرابي وزميليه والبارودي إلى القسطنطينية، وكتب في نفس الوقت إلى مالت؛ كي يشير على الخديو بطلب مندوب عثماني يحافظ على حياته ... ثم إنه بعد ذلك أخبر فرسنيه بما فعل.
1
وصرح السير إدوار مالت قبل ذلك بيوم أنه لا يعد نفسه مقيدا باتباع الوسائل المنطوية على اللين والاعتدال والتي تضمنتها المذكرة المشتركة الثانية.
2
وبعث أدميرال الأسطول الإنجليزي إلى حكومته بعد ذلك بيوم يخبرها أن مصر تنشئ طابية جديدة تجاه إحدى سفن الأسطول ويطلب إليها زيادة السفن، وقد أجابته حكومته إلى طلبه دون أن تستشير فرنسا ...
من أجل ذلك اقترح فرسنيه عقد المؤتمر؛ ظنا منه أن في ذلك عرقلة لسياسة جرانفل، ولم يشأ جرانفل أن يرفض المقترح فيكشف سياسته، ولذلك رحب به، بل وعمل على تنفيذه ...
وحرص جرانفل على أن يظهر بمظهر من لا غرض له إلا المصلحة الدولية العامة، كما فعل حين كتب إلى الدول غداة وصول السفن إلى الإسكندرية يؤكد لها أن لا غرض لإنجلترا من وراء ذلك إلا إقرار السلام في مصر، وأنه ليس لها من مطمع، ولا هي ترمي إلى الانفراد بالعمل، و«أن الحكومة البريطانية لم تفكر قط في أن تنزل إلى البر جنودا ولا أن تحتل البلاد احتلالا عسكريا، وفي عزم حكومة جلالة الملكة، متى أعيدت السكينة إلى مصر وزال الخوف على مستقبلها أن تترك مصر وشأنها وتسحب سفنها الحربية، فإذا وقع عكس ما نرجو بأن تعذر حل المسألة حلا سلميا فإنها تتفق مع الدول ومع تركيا على ما تكون قد رأته هي والحكومة الفرنسية أنجح الوسائل.
3
وكان مظهر حرص إنجلترا على التجرد من الغرض حين قبلت اقتراح فرنسا لعقد مؤتمر أن أبدت رغبتها في أن تشترك تركيا في المؤتمر، ثم إنها أرادات بهذه الرغبة أن تعرقل مساعي فرنسا لعقد المؤتمر؛ إذ كانت تعلم أن تركيا لا تميل إلى هذا الاتجاه ...
وكانت سياسة تركيا تجاه الدولتين في مصر تدعو إلى الدهشة والأسف، ومردها فيما نرى إلى أنها كانت في حيرة بين توفيق وبين عرابي، فهي إن آزرت توفيقا فكأنما توافق على انحيازه إلى الدولتين، وهو في الواقع منحاز إليهما منذ أن خلع أبوه. وهي إن آزرت عرابي وافقت على النزعة الدستورية الحرة في مصر وقوت شوكة الفلاحين ضد الأتراك والشراكسة، وقد كانت هذه اليقظة القومية التي تعد في جوهرها موجهة ضد السيادة التركية تتمثل في عرابي زعيم مصر الفلاح ...
والواقع أن اضطراب سياسة تركيا نحو مصر يرجع كذلك إلى غفلتها عن كثير من دسائس الإنجليز وعن السياسة الدولية بوجه عام، ثم إلى فساد رجالها وإيثارهم مصالحهم الشخصية على مصالح الدولة، وإمكان توجيههم بالرشوة الوجهة المطلوبة ولو كان في ذلك ضياع دولتهم ...
ورفض السلطان أن يشارك في المؤتمر، ولكن ذلك زاد في حرج موقفه؛ إذ كيف يرفض إرسال مندوب إلى المؤتمر وفي الوقت نفسه لا يعمل عملا ما تجاه سياسة الدولتين في مصر؟ لذلك أوفد بعثة درويش ورأى في ذلك سببا عمليا يحتج به على رفضه فكرة المؤتمر ...
وجاءت بعثة درويش وقد رأينا ما كان من سياستها المزدوجة، كما رأينا عجز درويش إزاء الرأي الوطني العام وتأثره بهدايا الخديو، وتذبذبه بسبب ذلك بين حاكم مصر وبين زعيم مصر ...
ورأينا إنعام السلطان على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر، وفي ذلك - فضلا عما بيناه من معان - معنى آخر هو أن عرابي لم يكن بالمتمرد ولا بالمتسلط، بل إنه الرجل الذي لاذ به الجميع لحفظ النظام، وبذلك فلا وجه لما يذيعه الإنجليز عن خطر الحزب العسكري في مصر، ومن ثم فلا حاجة إلى مؤتمر، ولا إلى تدخل من أي نوع كان ...
ولكن أين هذا الأسلوب من دهاء السياسة الإنجليزية وخبثها وطول مرانها على اللؤم والمكر السيئ؟ لقد دبر الإنجليز وشركاؤهم مأساة الإسكندرية؛ لتكون حجة لهم على صحة ما يقولون ... ومن هنا يتبين لنا خطر هذا الحادث المشؤوم ...
ولذلك نعود بأشد اللوم على عرابي؛ لأنه أذعن لتوفيق حين جعل عمر لطفي رئيسا للجنة التحقيق، ولأنه تراخى بعد ما كان من إقدامه أول الأمر على أثر انسحاب الإنجليز من اللجنة، وكان عليه أن يتعقب الجناة مهما كان شأنهم وأن يواجههم بالأدلة ثم يضرب على أيديهم، ولو أنه فعل ذلك للعب لعبة بعيدة الأثر في مجرى الأحداث؛ إذ كان يفضح أعداءه ويحبط كيدهم ويردهم خاسرين ...
ولن يشفع لعرابي أنه آثر الحرص على مودة الخديو، ولا أنه خشي أن يفسر عمله بالتحدي لسلطته فيهيئ لأعدائه دليلا على صحة ما يزعمون من تدخله وتسلطه.
لن يشفع له شيء من هذا؛ فقد اضطلع بحفظ الأمن وتعهد بذلك، وكان بعد استقالة البارودي الحاكم الفعلي بل الحاكم الوحيد، وقد أعيد إلى منصبه في الوزارة لهذا الغرض بالذات ... إلا أنه لخطأ من أكبر أخطائه السياسية سوف يعود عليه وعلى مصر بأوخم العواقب. •••
ولندع الآن موقف تركيا من المؤتمر لنعود إلى ما كان بين فرسنيه وجرانفل ...
في أول شهر يونية، أي في اليوم التالي لاقتراح فرسنيه، أرسل إليه اللورد جرانفل يقترح مرة أخرى رجاء الدول العظمى أن ترسل إلى السلطان تطلب إليه إرسال جنود تركية إلى مصر، ورد فرسنيه أن الأولى أن تنظر الحكومتان: هل توافق الدول على عقد المؤتمر أم لا؟ وأجاب جرانفل بأن سؤال السلطان إرسال جنود إلى مصر ينبغي أن يكون مما يشار به على اللورد دوفرين فيما يتصل ببرنامج المؤتمر، وأظهر فرسنيه تململه من هذا الرد؛ لأن أجوبة الدول على الدعوة إلى المؤتمر لم ترد بعد ...
وكان جرانفل في الواقع يماطل ويسوف؛ عله يستطيع أن يتخلص من عقد المؤتمر؛ وإن تظاهر أمام فرنسا أنه يرحب به ...
ولما وقعت مأساة الإسكندرية عادت إنجلترا إلى تخويفها العالم من سوء الحال في مصر؛ علها تجد في ذلك ذريعتها للتدخل قبل هذا المؤتمر الذي تشير به فرنسا.
أرسل مالت إلى جرانفل بعد المذبحة بيومين أي في اليوم الثالث عشر من يونية يقول: إن بعثة درويش قد فشلت فشلا تاما في مهمتها، وأن مندوب السلطان اضطر إلى الخضوع لسلطة عرابي، وأنه أدلى إلى ممثلي الدول بقوله: إنه تحت ضغط الظروف الملحة يشارك عرابي باشا في تنفيذ أوامر الخديو، وإنه وزع الأوسمة على العرابيين وعلى الخديوين، وأن تأثيره قد ذهب.
وأراد فرسنيه أن يأخذ الطريق على السياسة البريطانية بفكرة أخرى فأعلن أنه بعد سيطرة عرابي على الموقف «قد تهيأ كل ما يمكن من تسوية المسألة المصرية بالاتفاق مع عرابي».
وردت الحكومة البريطانية على ذلك ردا حاسما صريحا قائلة: «إنه لا يمكن وضع تسوية ثابتة مقبولة إلا بالقضاء على عرابي باشا والحزب العسكري في مصر».
4
واهتم الإنجليز في مصر، أكثر من قبل، بإذاعة الأنباء عما يزعمونه من سوء الحال؛ وذلك كي يردوا على قول درويش وقول السلطان من أن الحال هادئ لا يستدعي شيئا من القلق ...
وأراد جرنفل أن يستغل حادث الإسكندرية قبل أن تظهر حقيقته فكتب في اليوم الثالث عشر من يونية دون الرجوع إلى فرسنيه، إلى القناصل الإنجليز في الدول المختلفة بأن يعرضوا على هذه الدول اقتراحا مؤداه أن يطلب إلى السلطان إرسال جنود إلى مصر بشروط معينة؛ أهمها: عدم الاعتداء على الفرمانات المقررة ...
ورأى فرسنيه ألا يدع إنجلترا تتصرف وحدها فوافقها مرغما مشترطا أن يكون هؤلاء الجنود خاضعين لأوامر الخديو العليا، وقبل جرانفل هذا الشرط، وإنه ليجعل من هذا كله ستارا لنياته ... ثم كتب فرسنيه إلى قناصله؛ لتفعل كما فعل القناصل الإنجليز ...
واتفقت الدولتان على عقد المؤتمر عاجلا بمشاركة إنجلترا أو بغير مشاركتها ؛ إذ إن السلطان كان لا يزال على رفضه بحجة أن (درويش) قد نجح في مهمته، وأن وزارة شكلت في مصر وعادت الأمور إلى مجراها العادي.
وبعد شيء من الأخذ والرد اجتمع المؤتمر في الآستانة في اليوم الثاني والعشرين من شهر يونية دون أن يحضر فيه أحد من قبل السلطان.
ولندع المؤتمر ريثما ننظر نظرة إلى الحال الداخلية في مصر ...
في اليوم الثاني عشر من يونية وهو اليوم التالي ليوم الفتنة ذهب قناصل الدول إلى الخديو وطلبوا منه تأمين أرواح رعاياهم بمصر وأموالهم، وكان ذلك بحضور درويش باشا، فأرسل الخديو في طلب عرابي وأخبره بذلك وطلب إليه «نشر التنبيهات والتأكيدات على كافة العساكر المصرية وضباطهم وأمرائهم الموجودين بمصر والإسكندرية والأقاليم والبنادر بزيادة الدقة والتحفظ».
5
وبناء على ذلك أرسل عرابي إلى جميع قادة الجند يخبرهم بما طلب الخديو ويدعوهم إلى اليقظة قائلا: «يحق لنا الأمل في هممكم التي علمت فيكم ونشاطكم الذي عرفتم به بحيث لا يقع أمر من الأمور - صغيرا كان أو كبيرا - في أي نقطة من النقط التي أنتم بها إلا كنتم حصنا منيعا بينه وبين سكان ديارنا على اختلاف طبقاتهم ومعتقداتهم وتبعيتهم، كما يجب على حضرتكم بذل الهمة ودوام السعي في تسكين كل اضطراب ومنع ما يوجب قلقا أو تشويشا في الأفكار، وفي كل هذا تتخذون حسن المعاملة مع جميع الأهالي والأجانب شعارا لوظائفكم مع التمسك بالآداب المدنية والحقوق الوطنية في سائر الحركات والسكنات كما هو الواجب على كل وطني محب لوطنه ساع في حفظه ونجاة أهله، ونسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لحفظ هذا النظام العائد ثمرته على الوطن العزيز».
6
وكانت الشائعات تنتشر في الإسكندرية - ولم يمض على الفتنة يوم - أن الأوربيين يستعدون لهجوم جديد فاجتمع رؤساء الجند وكتبوا إلى القناصل؛ ليطلبوا إلى رعاياهم السكينة والنظام، وأصدر القناصل نداء للأوربيين يحثونهم فيه على التزام السكينة ...
وغادر الخديو القاهرة في اليوم الثالث عشر من يونية إلى الإسكندرية بحجة الاصطياف حسب عادته كل عام وصحبه درويش باشا، وقد ودعه عرابي في المحطة، وقبل تحرك القطار أوصى الخديو عرابي بالسهر على الأمن وأخذ الحيطة لمنع وقوع أي حادث ...
وقد أستراب الناس في سفر الخديو فجأة عقب الفتنة، وفسروا ذلك بأنه أراد أن يبتعد عن عرابي وحزبه؛ ليكون في حمى الأسطولين بالإسكندرية، وأحسوا في هذا السفر المفاجئ شيئا من الخوف وقالوا: إن الخديو على علم بقرب وقوع الحرب ...
والواقع أن الخديو كان يريد السفر إلى الإسكندرية منذ مجيء السفن الأجنبية ... تجد الدليل على ذلك من برقية قنصل فرنسا إلى فرسنيه في اليوم الثامن عشر من مايو؛ إذ يقول: «إن أهم مسألة مستعجلة في الوقت الحاضر هي إقناع الخديو بعدم السفر إلى الإسكندرية؛ فإن هذا السفر يشبه أن يكون فرارا، وتركه العاصمة في الوقت الحاضر معناه العدول عن العودة إليها.
7
ونجد دليلا آخر في برقية لمالت - سلفت الإشارة إليها - يصف فيها موقف الخديو فيقول عن الإنجليز: إنهم هم الذين صرفوه عن السفر إلى الإسكندرية. ومعنى ذلك أنه لولا مساعيهم لسافر إليها.
وقد علق فرسنيه على سفر الخديو بقوله: «كانت رغبة الخديو متجهة منذ وصول العمارة الإنجليزية الفرنسية إلى الالتجاء إلى الإسكندرية؛ ليكون قريبا من مدافعها، وعبثا أريد إقناعه بأن مركزه يجب أن يكون على رأس حكومته قريبا من وزرائه؛ ليتسنى له توجيه أفكارهم وعلى الأخص ملاحظتهم، ولكن مذبحة الإسكندرية كانت له فرصة يحقق فيها رغبته، وقد زعم أنه قصد إليها بحجة تدارك الخطر مع أن النظام كان قد عاد إلى نصابه».
8
وفي الإسكندرية قوبل الخديو بفتور، وقد أطلقت المدافع تحية له واصطف الجند على الجانبين حتى سراي رأس التين، وقد وجل الناس عند سماع المدافع؛ ولم يكونوا يعلمون بمجيء الخديو، وظنوها مدافع الحرب ...
وزاره القناصل في سراي رأس التين عدا قنصلي فرنسا وإنجلترا؛ إذ كانا بالقاهرة، فأعرب لهم عن أسفه لما حدث يوم الفتنة، ووعدهم بأن يوجه عنايته حتى لا يحدث شيء من هذا في المستقبل ...
وسرعان ما ذاع في الإسكندرية أن الخديو أسر إلى كلفن أنه لا يأمن تجدد الفتن، وأن بعثة درويش قد أخفقت ، وأنه لا بد من مجيء جنود عثمانية، وكان ذلك ردا على ما أثنى به درويش على رجال الجهادية.
9
ويورد عرابي في مذكراته أن الخديو طلب جنودا إنجليزية؛ «لأنه لا يصح أن يطلب جنودا عثمانية من عامل إنجليزي مثل كلفن».
ووقع ما أسر به الخديو إلى كلفن وقعا مؤلما في النفوس وعادت إليها عوامل الخوف، وزادت هجرة المهاجرين من الأجانب في حالة أشبه بالذعر كأنما تنتظر الحرب بين ساعة وساعة، أو ترتقب فتنة أشد هولا من الفتنة السالفة ...
وتتابعت هجرة الأوربيين من الإسكندرية والقاهرة ومدن أخرى، حتى ضاقت بهم عربات القطارات وازدحمت القوارب والسفن، ورأى عرابي أن يدعو الناس إلى الاطمئنان فأصدر بلاغا يقول فيه: «ناظر الجهادية أحمد باشا عرابي يعلن كل سكان القطر المصري من المصريين والأوربيين رسميا أن الحضرة الخديوية الفخيمة كفلت الأمن والراحة في جميع جهات القطر المصري أمام حضرات قناصل الدول المتحابة، وتكفل ناظر الجهادية أيضا بصيانة الأرواح والأموال وحفظ سكان البلاد على اختلاف طبقاتهم ومعتقداتهم وتابعيتهم، وقد انتقل الجناب الخديو إلى الإسكندرية بعائلته؛ لدفع الأوهام من الأفكار واطمئنان القلوب، وبقي ناظر الجهادية بمصر؛ لمراقبة الأحوال وصيانة البلد، وكتب لأمراء العسكرية في سائر الجهات ببث الراحة والسهر على حفظ الأمن وصيانة النفوس، وعلى هذا فديوان الجهادية يعلن الجميع؛ حفظا للأفكار من الأراجيف والإشاعات الكاذبة».
10
وظل عرابي في القاهرة، وكان بيته حسب المعتاد يمتلئ كل يوم بالناس وفي مقدمتهم زعماء الحركة الوطنية ومن أبرزهم نديم ومحمد عبده والهجرسي والشريعي والسيد حسن العقاد، وكبار رجال الجيش مثل البارودي وعبد العال وعلي فهمي وكان حديث هؤلاء لا ينقطع عن موقف توفيق من الأجانب وخاصة منذ سفره إلى الإسكندرية، وعن نيات درويش، الذي كان يكرهه نديم أشد الكره ويوجس منه خيفة، وطالما أعلن إلى أصحابه أنه لا يأمن الأتراك بوجه عام ولا يدري هل جاء درويش للقضاء على عرابي أم للقضاء على توفيق ...
وكان عرابي يغشى بيت البارودي كثيرا؛ حيث يجتمع أنصاره فيتحدثون أحاديثهم السياسية، ويذكر صابونجي في كتاب له أرسله إلى بلنت: «أن الناس كانوا ينهضون وقوفا على جانبي الطريق إذا أبصروا عرابي في عربته ويهتفون قائلين: «الله ينصرك يا عرابي» ...
ومما يذكره صابونجي كذلك أنه بينما كان في بيت الشريعي باشا؛ حيث كان هو وعرابي وسامي ونديم والهجرسي وعبد العال وعلي فهمي ضيوفا على صاحب الدار، إذ دخل ضابط ومعه كتاب من سيدة أجنبية تطلب حماية عرابي، وقد نصح الناس لها بالهجرة من القاهرة، فطلب إليه عرابي أن يكتب لها مؤكدا حماية عرابي إياها كما يحمي نفسه ...
ويقول صابونجي: «إن عرابي قد غدا بطلا عند كثير من الأوربيات، وقد سمعتهن يثنين عليه لما يعلمن من استعداده لحمايتهن، وأنهن ليهرعن إلى الشرفات والنوافذ إذا سارت به عربته في الشارع».
11
وكان عرابي شديد الشك في نيات توفيق، فإذا تحدث عما تم بينهما من صلح قال: إنه من جانبه لا يخون عهدا، ولكنه إذا وجد الخيانة من غيره نقض عهده، وإذا غشه الخديو «فسيدفع له من جنس عملته».
وسأله صابونجي رأيه في حليم فقال: «إنه يفضله على توفيق، ولكنه يرى أنه لو تخلص توفيق من تأثير مالت فكل شيء يسير سيرا حسنا، ولقد أضل كلفن صاحبه مالت، ولقد سببا ضررا بليغا لدولتهما كما سببا ضررا بليغا لمصر وذلك بتشويههما الحقائق».
وتحدث عرابي عما يتوقع من حرب فقال: «لن نكون نحن المعتدين، ولكننا سنقاوم كل من يعتدي علينا، نحن أمة مخلصة نعترف بالجميل لمن يأخذ بأيدينا ويعيننا على إصلاح وطننا، ونحن لا نبغي إلا الإصلاح، ولكن الذين يريدون أن يغشونا سوف يجدون منا كل غش».
ويصف صابونجي زيارته للشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر ذات يوم بصحبة عرابي، فيقول: إن الشيخ كان جالسا على وسادة فنهض واقفا وتقدم خطوات يلقي عرابي محتفيا به، وقد خلع عرابي نعليه عند دخول الحجرة؛ إجلالا للشيخ وقبل يده، وكان مع الشيخ نفر من العلماء فتقدموا وسلموا على عرابي وحفوا من حوله مرحبين، وقد طلب عرابي من الشيخ أن يذيع في الناس نداء يحثهم فيه على الهدوء والسكينة ويطلب إليهم - وفق تعاليم الدين الإسلامي - ألا يعتدوا على أموال اليهود والنصارى ولا على أرواحهم، ووعده الشيخ بإذاعة هذا النداء ... •••
وكان يسر الإنجليز ويهمهم أن تبقى البلاد بغير وزارة ففي ذلك ما ينتحلونه لإثبات مزاعمهم عن الفوضى الداخلية، وتسلط عرابي، وعجز الخديو، وما إلى ذلك من البهتان ...
وكان يرضي الخديو كذلك أن يشهد الدول على أنه طالما توجد السلطة في يد عرابي فلا أمل في تأليف وزارة ولا رجاء في إصلاح الحال ...
وكذلك كان يرى توفيق أن تأليف وزارة معناه الرجوع إلى حكم الدستور؛ إذ لا يمكن لوزارة ما أن تحكم البلاد حكما مطلقا، وهو يتطلع إلى اليوم الذي يقضي فيه على هذا الدستور الذي سلبه مشيئته وألقى بها في يد الأمة، وكان أكبر ما يغيظ توفيقا أن يصل الحزب الوطني أو حزب الفلاحين في مصر - كما كان يسميه الأتراك - إلى ما وصل إليه، وبلغ به الحنق أنه كان لا يطيق سماع اسم عرابي الذي تتمثل فيه زعامة الأمة كما يتمثل مبدأ الحكم الدستوري ...
فلما وقعت الواقعة في الإسكندرية أشفق قنصلا ألمانيا والنمسا ونصحا للخديو بإسناد الوزارة إلى رجل يرضى عنه العرابيون، وقد فطنا إلى لؤم السياسة الإنجليزية وحيرة السياسة الفرنسية وعقم السياسة التركية، وكانت دولتاهما غير مرتاحتين إلى استئثار إنجلترا وفرنسا بالمسألة المصرية، وقد أظهر بسمارك شيئا من العطف على عرابي في قوله: «إن عرابي قد غدا قوة يحسب لها حسابا» ولعله بهذا كان يرمي كذلك إلى مناوأة الدولتين ...
ولم يكن ليقوى توفيق على تبعة بقاء مصر بلا وزارة، فأقل ما يقال في ذلك: إنه عاجز عن إقامة وزارة، لذلك قبل على رغمه مشورة القنصلين: الألماني والنمسوي، وعرض الوزارة على راغب باشا فقبلها في اليوم السابع عشر من يونية، وصدرت المراسيم بتألفيها في اليوم العشرين منه ...
ولم يكن راغب باشا من الموالين للخديو؛ ولذلك وافق عرابي عليه؛ فقد أرسل إليه الخديو ينبئه بإسناد الوزارة إليه ويدعوه إلى معاونته، وجاء رد عرابي بالموافقة وبالثناء على راغب، وظل عرابي في وزارة راغب وزيرا للجهادية والبحرية ...
ولقد خاف جرانفل أشد الخوف من دخول ألمانيا في النزاع، فلم يكن بسمارك بالسياسي الذي يؤمن جانبه، بل إنه وحده بين ساسة أوربا الذي يلف لف الإنجليز ويدور دورانهم ويمكر مكرهم أو أشد من مكرهم ...
لذلك أرسل جرانفل إلى بسمارك يقول على لسان السفير البريطاني ببرلين: «إن حكومة جلالة الملكة لم يكن لها يد في النظام الذي وضع بمصر حديثا
12
وإنه إذا كانت الحكومة قد سلمت بضرورة هذا النظام لحفظ حياة الأوربيين وممتلكاتهم من الاعتداء فإنها لا تعده حلا للمسألة السياسية بحال من الأحوال» ...
ولا يفوتنا أن نلاحظ مغزى إخبار توفيق عرابيا بإسناد الوزارة إلى راغب، فكأنما يقول بذلك: إنه يستأذنه؛ لأنه هو المتسلط، ثم إنه يطلب معونته. قال: «فليكن في علمكم إحالة مقام الرئاسة لعهدة الباشا المشار إليه، وكونوا جميعا يدا واحدة في المساعدة والمعاونة وصرف الاقتدار والإمكان له فيه انتظام الإدارة وحسن السير في الأعمال واستتباب الأمن والراحة بأطراف وأكناف البلاد» ...
وكان في رد عرابي شيء من التحفظ يتضح في قوله: «وحيث إن أوامر الحكومة إنما تصدر لصالح البلاد ورفاهيتها وتمتعها بالراحة الكاملة، فنحن مستعدون لتنفيذ تلك الأوامر ونؤدي واجباتنا في ذلك بكل ما في الوسع والطاقة ونسأل الله حسن التوفيق».
13
ووضع راغب باشا في كتابه الذي رفعه إلى الخديو منهاجا لوزارته يتضح منه أنه كان ينوي أن يحكم البلاد حكما دستوريا قوميا، يكفل للدستور الاستقرار والتقدم، ويقطع الطريق على دسائس الإنجليز، فبعد أن أشار راغب باشا إلى احترام الفرمانات المحددة مركز مصر واستقلالها ومراعاة الاتفاقات الدولية المتصلة بالديون واحترام مبدأ الدستور والسير وفق أحكامه قال: «فجميع هذه الأصول الثابتة التي روعيت قبل الآن بكمال الضبط ستراعى في هيئة النظارة الجديدة بغاية الدقة بل إن هذه الهيئة ستأخذ بجميع الأسباب الموجبة لتثبيت هذه الأصول وتقوية جانبها فإنها ترى في ذلك توفيقا بين المصالح يعود على البلاد بأجل المنافع.
وأما الأصول التي يجب بذل الجهد في ترتيبها على قواعد أساسية موافقة للأصول الثابتة توضع باشتراك هيئة النظارة مع مجلس النواب وتصديق عظمتكم؛ فهي الأصول الأساسية التي تعيد حقوق الحكام والمحكومين من كل صنف والقوانين الإدارية والقضائية وتنظيم حالة الإدارة والقضاء على وجه يلائم مصالح البلاد ويحفظ لها صورتها المدنية فهذه الأصول ستأتي بما في الوسع لإصلاحها ومنها ما نخصه بالذكر لضرورة الأحداث التي طرأت على البلاد أخيرا ويبتدئ العمل به من أول يوم يستلم فيه النظار وظائفهم وهو:
أولا:
أن يصدر عفو عام ويدرج في الجرائد الرسمية باللغتين العربية والفرنسية عن كل من عليه مسؤولية أو له اشتراك في الأحداث الأخيرة، وهذا عدا المشتركين والمسؤولين في حادثة الإسكندرية وفي المواد الحقوقية، فلا يشملهم العفو ...
ثانيا:
لا يعامل أحد بجزاء إلا بعد محاكمته في مجلس بمقتضى القانون وصدور الحكم عليه ...
ثالثا:
لا تجرى مخابرات في المصالح السياسية من مأموري الحكومة مع أحد وكلاء الدول بالقطر المصري إلا من طرف ناظر خارجية حكومتكم فقط، وعليه أن يستشير مجلس النظار في الأمور الهامة وإن حصلت مخابرة من أحد المأمورين فلا تعتبر ولا يعتد بها
14 ...
رابعا:
الأوامر التي تصدر بالإجراء والعمل يكون إصدارها على موجب الديكريتو العالي المؤرخ في 28 أغسطس سنة 1878
15 ...
ومما نرى الاهتمام به واجبا علينا إيجاد الوسائل لتوسيع دائرة المعارف والصنائع وتحسين أحوال الزراعة والتجارة وكل ما يعود على البلاد بالثروة، فهذه يا مولاي هي المبادئ التي يكون عليها العمل في هيئة نظارتكم الجديدة.
ولا ريب في أنها تكون كافلة لأهالي الديار المصرية بأتم الفوائد، وإن لي ثقة تامة بأن الدول العظيمة ستعد هذه الأصول ضامنة للراحة والهدوء الأبديين، وأنها جميعها ستساعدنا كل المساعدة على القيام برعايتها خصوصا دولتنا العلية العثمانية التي لا يسرها إلا أن ترى أهالي أوطاننا في رغد العيش ورفاهية البال، فإن حسن لدى مولاي
16
ما أوضحته في هذا البيان فليحسن بالتصديق على التقرير، وإني لعظمتكم الخاضع والخادم المتواضع ...»
من ذلك نرى أن وزارة راغب باشا كانت كفيلة ببرنامجها هذا أن تعيد السكينة والهدوء إلى مصر، وأن ترضي الوطنيين وتضمن حقوق الأجانب المالية ، ولقد وافق الخديو بكتاب رسمي إلى راغب باشا على هذا البرنامج الوطني السليم، ولن يضيره أن يوافق؛ فذلك كله في نظره من الأمور العابرة.
وكان منهج هذه الوزارة أبلغ رد على السياسة الإنجليزية وادعاءاتها، ولو أنها وجدت في مصر حاكما غير توفيق لنجت البلاد من الكارثة المحدقة ...
ولكن ماذا كان في طوق راغب أن يفعل، وقد خاصم توفيق الدستور والوطنيين خصاما لن يجدي معه تفاهم، وآثر الانحياز إلى الإنجليز حتى لقد أحرق القوارب جميعا من ورائه كما يقولون ...
وهل كان الإنجليز يدعون راغبا ينفذ برنامجه؟ وإذن ففيم كانت دسائسهم الماضية جميعا؟ وهل هم انصرفوا عن احتلال مصر حتى يدعوا هذه الوزارة وشأنها؟ لقد قابلوها بأشد الجفاء من أول الأمر، وأخذت أبواقهم تذيع ما كانت تذيعه عن البارودي ووزارته وأشد منه، وعادوا إلى نغمتهم القديمة المرذولة وهي أن الوزارة في يد الحزب العسكري، وسوف يدأبون - كما نرى - على اختلاق الأكاذيب، ووضع العراقيل في سبيل هذه الوزارة، وخاصة ليؤثروا على المؤتمر الذي انعقد في الآستانة بعد تأليف وزارة راغب بثلاثة أيام ...
وكانت أولى هذه العراقيل امتناع كارتريت - بأمر من جرانفل - عن تمثيل إنجلترا في لجنة التحقيق التي ألفتها الوزارة للبحث عن مدبري حوادث الإسكندرية، ولم يكتف كارتريت بذلك، بل راح يثير الشكوك حول اللجنة متهما أعضاءها بممالأة العرابيين؛ خوفا من نفوذ الحزب العسكري ...
وكان توفيق لما علم بعزم الوزارة على تحقيق أسباب هذه الفتنة وتأليف لجنة جديدة بدل اللجنة الأولى التي انحلت بانسحاب الإنجليز منها، قد كتب إلى راغب يطلب إليه الاهتمام بهذا الأمر ويستنكر حوادث الإسكندرية، وغرضه من هذا أن يظهر بمظهر المحايد الذي يريد تحقيق العدالة ... •••
اجتمع المؤتمر بدار السفارة الإيطالية بالآستانة، ورأسه الكونت كورتي سفير إيطاليا بصفته أقدم السفراء.
وكانت الجلسة الأولى في اليوم الثالث والعشرين من يونية كما أسلفنا القول وفيها قرر المؤتمر إرسال مذكرة إلى حكومة السلطان ينبئها باجتماعه ويعبر عن أسفه لعدم انعقاده برئاسة وزير خارجية تركيا وعن أمله في اشتراك تركيا في الاجتماعات المقبلة.
وعقد المؤتمر جلسته الثانية في الخامس والعشرين من يونية، وفيها وضع ميثاق «البراءة من الغرض» وهذا نصه: «تتعهد الحكومات التي يمثلها الموقعون على هذا أنها في كل تسوية يقتضيها علمها المشترك لتنظيم شؤون مصر لا تسعى إلى امتلاك شيء من أراضيها، ولا إلى أي إذن بأي امتياز خاص، ولا إلى أي فائدة تجارية لرعاياها، إلا ما كان عاما يمكن أن تناله أية أمة أخرى».
17
هذا هو الميثاق الذي وقعت عليه إنجلترا على رؤوس الأشهاد، والذي لم يمض عليه ستة عشر يوما حتى ضربت إنجلترا الإسكندرية بمدافعها الضخمة، كذلك على رؤوس الأشهاد، ولقد وقعت عليه إنجلترا التي لا تسكت قط عن التغني بشرف سياستها، بعد أن أعدت كل ما استطاعت لاحتلال مصر!
يقول روثستين: «فالطريقة التي أنفذت بها إنجلترا هذا الاتفاق تعد في تاريخ القانون الدولي من أشنع المخازي، ولا عجب إذا عني المؤرخون الذين ينتصرون لها بتحاشي ذكر ذلك الاتفاق القاطع لحججهم كلها».
والواقع أن إنجلترا كانت قد فرغت منذ زمن طويل من تحديد ما تعمله في المسألة المصرية، يقول كرومر في كتابه: وقد جاء دور الكلام عن المؤتمر: «ليس من الضروري أن نقف طويلا عند إجراءات المؤتمر المملة؛ فقد كان من الأمور الجلية كما قال اللورد سالسبري في مجلس اللوردات يوم 24 يولية أن المجمع الأوربي ما هو إلا وهم، وفي أحد الجانبين كانت الحكومة البريطانية ويمثلها في المؤتمر رجل من أقدر دبلوماسييي ذلك الوقت، وكان اللورد جرانفل واللورد دوفرين يفهمان تمام الفهم ماذا يريدان، ولقد رغبا في أن يوطدا النظام في مصر، وكانا يقظين إلى تلك الحقيقة التي مؤداها أنه بغير استخدام القوة المادية فلن يوطد ذلك النظام».
ومما يدعو إلى الأسف والسخرية أن تركيا ظلت غافلة عما تبيت إنجلترا حتى ذلك الوقت، وظلت تأمل أن يفشل المؤتمر، وكانت لا تفتأ تردد قولها على لسان سفيرها في لندن أن وزارة ألفت في مصر، وأن الحال في غاية الهدوء، وأن تقرير درويش باشا يدل على طاعة الجند وبعدهم عن أي غرض سيئ.
وكان من الممكن أن يكون لكلام تركيا قيمته وخطره لو أنها اشتركت في المؤتمر واستطاعت أن تقنع به مندوبي الدول أو بعضهم فتأخذ الطريق على إنجلترا.
على أن إنجلترا لم تستهن بأقوال تركيا هذه، فهي لا تأمن أن يلقيها في المؤتمر مندوب دولة أخرى يكون لها غرض في مناوأة إنجلترا، ولذلك حرصت كل الحرص أن تصور الحال في مصر حسبما تريد هي من السوء، لا كما يشهد به الواقع.
ولقد وصل تقرير درويش إلى الآستانة في اليوم الذي اجتمع فيه المؤتمر، وأنعم على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر بعد ذلك بيومين، وأبلغ موزروس باشا وزير خارجية تركيا جميع وكلاء تركيا لدى الدول الأجنبية مضمون ما جاء في تقرير درويش باشا، وطلب إليهم أن يبلغوا الدول باهتمام تركيا بشؤون مصر بحيث لا يدعو الحال إلى تدبير خاص، وكان يقصد بذلك عقد المؤتمر الدولي.
وكانت إيطاليا قبل عقد المؤتمر قد اهتمت بكلام تركيا، ولعل مرد ذلك إلى أنها كانت تميل إلى ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا وفرنسا في السياسة الأوربية بوجه عام وقد كان بسمارك يعمل في إيقاع الخلاف بين إنجلترا وفرنسا فتدخل في المسألة المصرية تدخلا ظهر في نصيحة قنصله وقنصل النمسا للخديو بتأليف وزارة في مصر.
ويتبين اهتمام إيطاليا فيما أرسله باجت السفير البريطاني بروما إلى جرانفل من أن مانشيني وزير خارجية إيطاليا أفضى إليه بأن الكونت كورني السفير الإيطالي بالآستانة تلقى من وزير الخارجية العثماني ما يفيد بهدوء الحال في مصر بتأليف وزارة راغب باشا وأنه لم يبق هناك من داع للمؤتمر الدولي ...
ويقول باجت: إنه ما زال بمانشيني حتى صرفه عن ميله إلى الاعتبار في كلام تركيا «وقبل أخيرا أن ينتظر ما تخابره به سائر الدول في هذا الشأن؛ ليقف على آرائها».
18
وكذلك اهتمت روسيا بمسألة مصر، يقول روثستين: «إن مسيو ده جيير وزير خارجية هذه الدولة قد اهتم في التعليمات التي أرسلها إلى سفرائه بمناسبة انعقاد المؤتمر بوجوب بقاء المؤتمر حتى يفصل في أمر مصر، قائلا: إن كل حل للمسألة يأتي من غير هذا الطريق حل غير مقبول، وإنه إذا لم يكف التأثير الأدبي في تذليل الصعاب فإن المؤتمر بأجمعه يقرر ما يراه من الوسائل الأخرى، فإذا اقتضت الضرورة هذا الأمر فتركيا أحق الدول بإعادة المياه في مصر إلى مجاريها، فإن أبت تركيا ذلك؛ فقد يعهد الأمر إلى إنجلترا وفرنسا على شرط أن يرافق جيوشهما مندوبون من طرف الدول الأخرى، فإذا استقر النظام في نصابه أعيد النظر في جميع التزامات مصر الدولية بقصد إلغاء المراقبة الثنائية ووضع نظام دولي يحول دون عبث معتمدي الدول ويجعل كل تعرض آخر لشؤون مصر الداخلية أمرا مستحيلا».
لذلك كانت لا تأمن إنجلترا أن تعود إيطاليا أو غيرها إلى مناوءتها، فعمدت إلى التهويل في تصوير خطر الحال في مصر وأنها تنذر بأوخم العواقب.
فمن ذلك ما أذاعوه من أن أربعة عشر ألفا من المسيحيين قد غادروا مصر، وأن ستة آلاف غيرهم ينتظرون في لهفة وصول السفن التي تقلهم من البلاد، ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أن هذه الهجرة تمت بتحريضهم وإذاعتهم أنباء السوء في الوقت الذي كان فيه عرابي يؤمن الأجانب على أرواحهم وأموالهم المرة بعد المرة والذي هدأت فيه الحال بعد الفتنة التي كانت من صنع أيديهم ألا وهي مسألة الإسكندرية النكراء!
ومن ذلك ما أنذروا به الدنيا بالهول، ألا وهو ادعاؤهم أن عشرة من اليونانيين وثلاثة من اليهود قتلوا في بنها بأيدي المتعصبين من الوطنيين، وقد أرسل كارتريت هذا النبأ إلى جرانفل، ولم يخجل من أن يقول: إنه سمعه من مصدر موثوق به
19
وهذا كل أدلته على ما يزعم!
ومنه ما أشيع عن عرابي أنه عرض على مجلس الوزراء أن يصادر أملاك كل مصري يغادر مصر، ومما يدعو إلى الضحك قول كرومر معقبا على ذلك بأن عرابي يسلك في ذلك مسلك اليعاقبة في الثورة الفرنسية على غير وعي منه، ثم يعود فيقول: «إنه من الممكن أن يكون عرابي قد فعل ذلك بوعي منه؛ فقد أخبرت من مصدر يوثق به أنه كان في ذلك الوقت يوجه اهتماما كبيرا إلى دراسة تاريخ الثورة الفرنسية»، وهكذا يكون عرابي عالما يقرأ ويطلع إذا شاء كرومر أن يكون العلم وسيلة لاتهامه، ويكون جاهلا طائشا إذا كان رميه بالجهل وسيلة لتشويه حركته القومية، وليس وراء ذلك فجر أو لؤم ...
ومنه ما أرسله كارتريت إلى جرانفل في اليوم السادس والعشرين من يونية يقول: «نظرا لما يلوح من أن فكرة تسود الآن في الآستانة مؤداها أن وزارة راغب باشا تسير سيرا مرضيا، وأن نفوذ عرابي يتناقص، وأنه ليس ثمة ما يدعو إلى تدابير لتهدئة الحال، رأيت من الصواب أن أخبر سفير حكومة جلالة الملكة بالآستانة عما لا نزال نحسه هنا من عدم الاطمئنان الذي ترد كل أسبابه إلى مسلك الحزب العسكري.»
وخير ما يوضح لنا نفوذ عرابي الشامل هو تسلط الجيش تسلطا لا يتوقف وادعاءاته التي لا هوادة فيها وسلوكه مسلك التهديد، تلك الأمور التي أدت إلى ازديادها الاعتراف بعرابي في الوزارة الجديدة.
20
وأطلق كارتريت في برقيته هذه العنان لمزاعمه عن لجنة التحقيق ومن ذلك قوله: «إن يعقوب باشا العضو العسكري في اللجنة والذي هو وكيل وزارة الحربية قد عارض معارضة شديدة وصمم على ألا يجرى تحقيق مرض، الأمر الذي أدى إلى انسحاب العضو الإنجليزي، وأن بطرس باشا وكيل وزارة العدل والعضو المدني في اللجنة قد قرر أكثر من مرة بأنه ما من شخص يجرؤ على تقديم أدلة لا يرضاها الحزب العسكري وأنه هو نفسه مضطر إلى تأييد يعقوب باشا ولو أنه يخالفه في آرائه كل المخالفة ... وإنه لا يزال في السجن عدد من الأوربيين، احتجزوا هناك منذ 11 يونية، ويرفض يعقوب باشا إطلاقهم؛ لأن ذلك يغضب الجنود وفي مثل تلك الحال لا يسأل عن حفظ النظام».
وقال عن راغب: «إنه لا يستطيع أن يعمل عملا فيه إغضاب للجيش على أية صورة، وأذكر تأكيدا لذلك أن لغة سعادته أصبحت مطابقة للغة عرابي».
وقال عن عرابي: «إن إنعام جلالة السلطان على عرابي باشا في الوقت الذي كاد يكون فيه شخصه هو الوحيد الذي يبعث على القلق، قد أدى إلى زيادة ارتفاع مقامه زيادة عظيمة، كما أدى إلى ازدياد ثقة الجيش في نفسه وسيادته، وأينما ظهر عرابي باشا في المجتمع أعدت المظاهرات لاستقباله، وإنه هو وحده بين الوزراء الذي يحيط به كوكبة من الفرسان كتلك التي تحيط بسمو الخديو».
21
ثم أخذ يبالغ في وصف تسلط العسكريين في جميع دواوين الحكومة وكيف يشكو المديرين في الأقاليم وسائر الموظفين من تدخل الجند في كل شيء.
وبعد ذلك بيومين أبرق كارتريت مرة ثانية إلى جرانفل: «يلقى راغب باشا صعوبة شديدة في محاولته السيطرة على العنصر العسكري في وزارته، وعلمت أن سعادته يشعر بالقنوط تلقاء ما يلقى من فشل، ويجد الجند أكثر اشتغالا بمشروعاتهم الحربية وتدابيرهم من أن يوجهوا أي انتباه جدي إلى الوسائل المؤدية إلى الطمأنينة أو إلى الحاجة إلى خطوات جديدة يقصد بها إقرار النظام».
وعقد المؤتمر جلسته الثالثة في اليوم السابع والعشرين من يونية، وكأنما عاودت إيطاليا الشكوك في نية إنجلترا؛ فقد قدم العضو الإيطالي اقتراحا هذا نصه: «ينبغي أن يكون معلوما أنه ليس لأية دولة أن تقوم بعمل انفرادي في مصر ما دام المؤتمر منعقدا».
وأحس اللورد دوفرين أن إيطاليا - وقد قبل المؤتمر هذا الاقتراح - قد ضربت مطامع إنجلترا في مقتل ولكنه بدهائه تدارك الأمر، فما زال بالمؤتمر حتى أقنعه بإضافة تحفظ إلى هذا الاقتراح مؤداه استثناء ما تقتضيه الظروف القاهرة كضرورة محافظة كل دولة على أرواح رعيتها، وقد استعان في دفاعه عن وجوب قبول هذا التحفظ بما قدمه من أنباء عن سوء الحال في مصر، ومن أعجب العجب أن المندوب الفرنسي أيده في هذا التحفظ بعد التشاور فيما بينهما!
وكتب دوفرين إلى جرانفل ينبئه بهذا الانتصار قائلا: «إن الغرض من إضافة ذلك التحفظ إطلاق أيدينا في العمل إذا طرأ طارئ ما ... وإننا في الحقيقة لم نعد اقتراح السفير الإيطالي ذا شأن كبير بعد هذا التحفظ الذي نرجع إليه عند الحاجة».
ولكن جرانفل لم يرض أن تكون الظروف القاهرة مقصورة على محافظة كل دولة على أرواح رعاياها فذلك مجال ضيق، وكتب إلى دوفرين ليتدارك الأمر وما كان دوفرين بالذي تعوزه حيلة إذا كان الأمر أمر خداع.
وعقدت الجلسة الرابعة في اليوم الثلاثين من يونية، فتقدم دوفرين بسؤال: ماذا يكون الموقف إذا لم يعترف السلطان بالمؤتمر وأرسل من تلقاء نفسه جنودا إلى مصر؟ وقال قائل: يمنع الأسطولان جنود السلطان من النزول. واعترض مندوب فرنسا قائلا: إنه ما دام المؤتمر منعقدا فليس للأسطولين أن يتدخلا بهذه الصورة. فقال دوفرين: «إذن نعد من الظروف القاهرة مثل هذا التدخل من السلطان، كذلك لو هددت قناة السويس وطرأ في الحال السياسية تغير فجائي أو مخيف يخشى منه على المصالح الخاصة.
22
ومن غريب أمر المندوبين أنهم قبلوا هذا من دوفرين، فألغوا بذلك المقترح الإيطالي!
وفي الجلسة التالية للمؤتمر ألقى دوفرين خطبة عن الحالة في مصر، فملأها بالمطاعن على مصر وأهلها وحركتها القومية، وكان مما ادعاه: أن الفوضى قد شاعت في مصر بسبب تمرد الجيش وخروجه على سلطة الخديو، وقد اختلت الإدارة وارتبكت الحال بوجه عام، وشلت حركة التجارة، وعجزت الحكومة عن الوفاء بتعهداتها المالية، وعجز الأهالي عن سداد الضرائب ...
وعقب على فتنة الإسكندرية واتهم الوطنيين بتدبيرها، وبالغ في الكلام عما يتعرض له الأوربيون من خطر، وأشار إلى هجرتهم المتزايدة كل يوم من البلاد، ونفى ما ذكرته تركيا من أن الحالة هادئة وأن وزارة راغب قد أعادت الأمور إلى مجراها العادي، وسمى هذه الوزارة «الوزارة الهزلية» قائلا: إنها أداة في أيدي المتمردين، وإن الخديو سليب الإرادة لا حول له ولا قوة ...
ثم قال: إن إنجلترا وفرنسا لا يسعهما السكوت على هذا الوضع في مصر، وكشف النقاب عن وجهه، فصرح بوجوب التدخل المسلح في مصر، وأهاب بالدول أن تضرب على أيدي الثائرين وأن تأخذ الثورة بالشدة وإلا استفحل نفوذها واستعصى بعد ذلك قمعها ...
على أنه يرى أن هذا التدخل يجب أن يكون من جانب السلطان، ثم قال: إنه علم من مصدر يوثق به أن (درويش باشا) اعترف بإخفاقه في مهمته ، وإنه لا يستطيع أن ينقذ الخديو من تسلط الجيش إلا بقوة حربية لا تقل عن عشرين طابورا، وإن الوزارة المصرية الجديدة ما هي إلا أداة في يد عرابي، وسيبقى الخديو سليبا من كل إرادة ما لم ينفذ إليه جيش يعيد إليه سلطانه ...
وكان يتلو دوفرين على المؤتمر البرقيات التي أرسلت إلى جرانفل ويسوقها مساق الأدلة، ولن يكون عبث بالعقول أشد من هذا مدعاة إلى السخرية والاشمئزاز! ألم تك تلك البرقيات من صنع الإنجليز؟ ولم تكون هي المصدقة وتكون أقوال تركيا المكذبة، ولا فرق على الأقل بين هذه وتلك في قابليتها للكذب أو للصدق؟!
كان أعضاء المؤتمر يصغون إلى دوفرين ولديهم من الأنباء ما يحملهم على عدم تصديقه في كثير مما يقول، وقد صرح بعضهم فعلا أنهم لا يستطيعون قبول هذه الآراء ...
ولكن المؤتمر رأى ما تبيته إنجلترا من نية الانفراد بالعمل في مصر فمال إلى تقييدها بآخر قيد بقي لديه وهو أن يكون التدخل على يد تركيا، ولهذا قبل الأعضاء النظر في اقتراح دوفرين وقرروا إبلاغ دولهم بشأنه على أن ينظر فيما بعد في تفاصيله، إلا العضو الفرنسي فإنه صرح بما يشبه التحفظ على الاقتراح المذكور.
23
وأبرق دوفرين يزف نبأ انتصاره الجديد إلى جرانفل فقال: «أبلغتك في رسالتي السابقة عما ينزع إليه المؤتمر في سير أعماله، وأبلغك أن ما أطلعته عليه من أنباء المذبحة في بنها قد كان عظيم الوقع في نفوس زملائي، وكذلك أحدث مثل هذا الأثر في نفوسهم ما سردته من الأمثلة على طغيان الحزب العسكري وعلى مظاهر الخراب المالي الذي جاء تفصيله في برقية مستر كارتريت بالأمس، وقد كان لزميلي الفرنسي اليوم الزعامة؛ إذ أصر في حماسة عظيمة على ضرورة اتخاذ علاج ناجح للفوضى المتزايدة في مصر، تلك الفوضى التي يخشى كما قال أن تؤدي في وقت ما إلى استحالة الأقاليم الإفريقية على سكنى الأوربيين.
ولما رأيت من الأعضاء الآخرين ما يشعر بتسليمهم بخطورة الحال أكثر من زميلهم الفرنسي أو أقل، بدا لي أن الوقت ملائم لأتقدم باقتراح صغته ، مؤداه دعوة السلطان لأن يرسل تحت شروط معينة ومن أجل غرض خاص، جنودا تركية إلى مصر لها من القوة ما تسيطر به على الموقف وتقضي على استبداد العسكريين، ولاحظ زملائي واحدا بعد الآخر أنهم لا يستطيعون إبداء الرأي في اقتراح هام كهذا دون الرجوع إلى حكوماتهم، ولكنهم في الوقت نفسه أعلنوا استعدادهم لدراسته في جميع احتمالاته، وفي ظني أنه يحق لنا أن نرضى بالصورة التي قوبل بها مقترحنا، ولقد وافق كل شخص على أنه لا بد من عمل شيء، ولم يجرؤ أحد على أن يقترح خلاف ذلك.
24
ظن المؤتمر كما ذكرنا أن خير وسيلة يقيد بها إنجلترا هو إقراراه مبدأ تدخل تركيا بقوة حربية، وكانت إنجلترا على يقين من أن السلطان لن يفعل ذلك؛ لتردده وارتباك شؤونه المالية والسياسية، وبعد ذلك يسهل عليها وهي لا تكف عن الإنذار بالويل من سوء الحالة في مصر، أن تضطلع هي بعبء التدخل متظاهرة أنها تفعل هذا لا على أنه ضرب من القرصنة أو الخروج على قرار المؤتمر، وإنما على أنه عمل توجيه الإنسانية والشهامة؛ لأنه دفاع عن الرعايا الأجانب في مصر ودفاع عن الأوربيين كافة، وما أسهل عليها وهي التي دبرت بالأمس مأساة الإسكندرية أن تخلق ما تدعي أنه من «الظروف القاهرة»! ألا ساء ما يفعل الأقوياء، وما أرذل ما يتبجحون به من الشرف والحق في هذا الشرق الذي لا ندري متى يفيق!
أخذ المؤتمر يدرس كيفية التدخل التركي ونظر في ذلك ثلاث جلسات، وكان دوفرين يستعجل المؤتمر ليموه عليه أن الحالة في مصر لا يقبل معها إبطاء، وأنه يقظ إلى كل ما عساه أن يحبط سعيه، وأنه يوحي إلى شياطين الاستعمار في مصر أن يحرضوا على هجرة الأوربيين وأن ينشطوا في نشر الرعب والأنباء الكاذبة.
وفي آخر شهر يونية أرسل دوفرين إلى حكومته يقول: «إن المؤتمر لم يفعل شيئا حتى ذلك الوقت، وإنه ما لم تتخذ خطوة عاجلة فإن إطالة مدة وجوده تظهر أنه عديم الجدوى» ...
وفي اليوم الثاني من يولية قرر المؤتمر «أنه إذا رفض السلطان الدعوة الموجهة إليه لإرسال جنود إلى مصر فإن المؤتمر يحتفظ بحق التعبير عن رأيه فيما عسى أن يتخذ في الفرصة المناسبة».
وقد أبرق كارتريت إلى جرانفل في التاسع والعشرين من يونية يقول: «إن هجرة الأوربيين وإعدادهم العدة للهرب بعد أن خفت زمنا عادت إلى الزيادة في صورة شديدة، وأن الفنادق تغلق أبوابها وعمال السفن قد نقلوا مقرهم إلى مقربة من الشاطئ، وأن ما بقي من المصارف يعد العدة لنقل المواطنين إلى السفن، ومن المستحيل تصور الانهيار والخراب، الذي دهم البلد هكذا فجأة ... إن الوطنيين حتى شيوخ الدين منهم، يرفعون أصواتهم اليوم ضد الحزب العسكري، ويغادر القطر عدد كبير من ذوي الاحترام من العرب كما يتزايد بصورة شديدة رحيل الأسر التركية».
وأبرق إليه أول شهر يوليو يصف سوء الشعور في القاهرة تجاه الأوربيين ويستأذن أن يسمح لهم بالهجرة.
وأبرق إليه ثاني أيام الشهر يقول: «لي الشرف أن أبلغكم إنه في جلسة مجلس الوزراء بالأمس ألح عرابي باشا وزير الحربية على زملائه ليقرروا إعلان التجنيد العام؛ توقعا للأعمال العدائية، وقد عارض بشدة محمود باشا الفلكي وزير الأشغال وعبد الرحمن بك وزير المالية، وعلى ذلك لم يتخذ المجلس هذا القرار وفي نفس الوقت يستدعي الاحتياطي وعساكر الرديف في نشاط».
وفي اليوم السادس من شهر يولية أصدر المؤتمر في جلسته السابعة هذا القرار الخطير وذلك بعد أخذ ورد بين دوفرين ودي نواي العضو الفرنسي «أن الدول الكبرى مقتنعة كل الاقتناع بأنه أثناء وجود الجند العثماني بمصر سيحتفظ بحال البلاد المعتادة، ولا يتعرض للأمور التي أعفيت منها مصر، ولا لما خصت به من الامتيازات بموجب الفرمانات السابقة، ولا لعمل الإدارة المعتادة، ولا للنظم والاتفاقات الداخلية المبنية عليه، وأن تكون مدة بقاء الجنود الشاهانية التي سيعمل ضباطها بالاتفاق مع الخديو ثلاثة أشهر ما لم يسأل الخديو مد هذا الأجل، فإذا فعل، حدد الأجل الجديد بالاتفاق مع تركيا والدول الكبرى، وأن تتحمل مصر نفقات الاحتلال ... وأنه إذا وافق السلطان - كما ترجو الدول - على هذا النداء الصادر من الدول الكبرى فإن إنفاذ المواد والشروط الآنفة الذكر يكون موضوع اتفاق آخر بين الدول الست وبين تركيا».
وأرسل المندوبون هذا القرار إلى حكوماتهم ولبثوا ينتظرون ما ترد به ...
وظنوا أنهم قيدوا إنجلترا، وحالوا بينها وبين الانفراد بالتدخل في مصر، كما ظنوا أنهم حالوا بينها وبين الانفراد بتركيا والضغط عليها، وفاتهم أن إنجلترا قد أعدت عدتها لجميع الاحتمالات ...
كان على إنجلترا أن تخلق هذا الظرف القاهر قبل أن تعتمد الدول هذا القرار المشترك وتقدمه إلى الباب العالي وأن تضرب الإسكندرية فتضع المؤتمر أمام الأمر الواقع، وتذر قرار المؤتمر قصاصة من الورق لا قيمة لها، فليتدبر في ذلك الذين يسخطون ويتكلمون كما تتكلم الببغاوات كلما ذكر عرابي فيردون سبب الاحتلال إليه. ليتدبر هؤلاء في مسلك إنجلترا فها هي ذي على الرغم من كل شيء تصمم على احتلال مصر؛ تنفيذا لسياستها المرسومة سواء وجد عرابي أم لم يوجد، فلو لم يكن عرابي لكان أي رجل غيره من الناس أو أي حادث ذريعة لها ...
وكانت إنجلترا قد فكرت في الظرف القاهر فعلا قبل ذلك وأعدت له كثيرا من الصور فإن لم تلفح هذه لجأت إلى تلك ...
ولم يتوان الإنجليز في مصر عن إذاعة أنبائهم المختلفة ومن ذلك ما أبرق به كارتريت في اليوم الخامس من يولية قائلا: «في مجلس الوزراء الذي عقد بالأمس تكلم عرابي باشا كلاما عظيم العنف ضد السلطان، وفوق ذلك فإنه أمر ضباط الجيش المصري أن يقطعوا كل صلة بدرويش باشا الذي يجب أن يفضى إليه بأن بعثته في مصر انتهت».
وبعد خمسة أيام فحسب من قرار المؤتمر أي في اليوم الحادي عشر من شهر يولية ذلك التاريخ الأسود وقع من الإنجليز عدوانهم الغادر على مصر، رغم أنف الدول جميعا، والمؤتمر قائم في الآستانة لا يدري ماذا يفعل، وتركيا لم تبت في الأمر بعد ...
وستبلغ مهزلة المؤتمر تمامها حين يعقد جلسته بعد ضرب الإسكندرية بأربعة أيام لينظر في الأمر!
فكر المؤتمر طويلا في التدخل المسلح في مصر وقد اتخذ قراره كيف يكون هذا التدخل، ولكنه ما فكر لحظة أنه يتدخل لقتل حركة قومية صادقة في مصر قوامها الحرية، والحكم الدستوري، وإذا كانت إنجلترا موطن الحكم النيابي والديمقراطية قد أذهلتها عن مبادئها أطماعها الاستعمارية فجعلتها كعادتها في كل مواقف الاستعمار، ذات سياستين: صراحتها ونزاهتها في حكم نفسها، ونفاقها وفجرها في معاملة الأمم وخاصة أهل الشرق، وإذا كانت روسيا والنمسا وألمانيا قد انصرفت بحكم أوتوقراطيتها عن نداء الدستور والحرية، فكيف غفلت عن ذلك فرنسا موطن الثورة الكبرى ومبعث الحرية والإخاء والمساواة؟! وكيف ذهلت عنه إيطاليا المجاهدة، بلد مازيني وجاريبالدي العظيمين؟! ولكن الإنسان هو الإنسان مهما اهتدى إليه عقله من مبادئ، ولن تزال الأثرة هي أساس كل تعامل بين أفراد هذا النوع من الحيوان مهما تبجح بعلمه وسموه، ولن تزال هي الرابطة التي تقترنه على رغمه بدواب الأرض من العجماوات ...
كانت إنجلترا قد أعدت بالفعل تدبير «الظرف القاهر» قبل أن يقترحه دوفرين فاقرأ خرافة الذئب والحمل في صورة جديدة هي قصة النزاع بين بوارج الأسطول الإنجليزي وقلاع الشواطئ بالإسكندرية.
في اليوم التاسع والعشرين من مايو، أي قبل تحفظ دوفرين بنحو شهر، أبلغ السير بوشامب سيمور أدميرال الأسطول البريطاني بالإسكندرية اللورد جرانفل، كما سبق ذكره، أن المصريين يقيمون تحصينات في شواطئ الإسكندرية وأن هذا يعد عملا عدائيا موجها إلى الأسطول، وطلب زيادة السفن وقد أجابته حكومته إلى ما طلب دون استشارة فرنسا ...
وسألت إنجلترا الباب العالي عما يراد بهذا الإجراء، فردت تركيا بأنه لا تحصين هناك ولا استعداد وإنما هو إصلاح في بعض الحصون المتهدمة، ومع ذلك؛ فقد أمرت تركيا بوقفه، وأعربت تركيا عن أملها في أن يتجنب قائدا الأسطولين ما عسى أن يثير أدنى نزاع ... ووقفت المسألة عند هذا الحد ...
ولكن الأدميرال سيمور عاد في أول يولية فأبرق إلى سكرتيرية الأدميرالية أن عرابي يستعد بجمع السلاح والرجال وأنه يعلن أن النبي يوحي إليه كل ليلة، وأنه سوف يضع الأسطولين في فخ وذلك بسد البوغاز بالأحجار.
25
وفي اليوم الثاني من يولية أبرق كارتريت إلى جرانفل بأنه سمع أن مجلس الوزراء المصري قرر استئذان السلطان في العودة إلى أعمال التحصين بشواطئ الإسكندرية، وأبرق جرانفل إلى سيمور في نفس اليوم يبلغه ذلك ويطلب إليه أن يأخذ حذره.
26
وتلقى سيمور في اليوم الثالث هذه البرقية الخطيرة: «امنع كل محاولة لسد البوغاز إلى الميناء، وإذا استؤنف العمل في التحصينات أو إذا وضعت مدافع جديدة، فبلغ القائد الحربي بأن لديك أوامر بمنع ذلك، فإذا لم يوقف ذلك فورا فحطم التحصينات وأسكت البطاريات إذا أطلقت نيرانها.»
27
وتلقى كارتريت في الوقت نفسه نبأ ما أرسل إلي سيمور، مشفوعا بالتنبيه عليه أنه في حالة ما إذا أقدم سيمور على عمله فيجب أن يخطر الرعايا البريطانيون في القاهرة وغيرها ليغادروا مصر قبل فوات الوقت.
28
وأرسلت برقية أخرى إلى سيمور هذا نصها:
قبل أن تأتي عملا عدائيا ادع الأدميرال الفرنسي إلى التعاون معك ولكن لا تؤجل العمل كما طلب إليك؛ لأن الفرنسي رفض الانضمام.
29
وفي اليوم الرابع من يولية أبرق كارتريت إلى جرانفل أنه توجه وبصحبته القنصل الفرنسي إلى راغب باشا، فأجابهما إجابة شبيهة بما اعتاد أن يجيب بها في مسائل أخرى مؤداها أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف وذكر كارتريت أنه أنذر الرعايا البريطانيين ليكونوا على أهبة للسفر.
30
وفي اليوم الخامس أبرق كارتريت إلى جرانفل: «أنه رغبة في أن يهيئ زمنا للرعايا البريطانيين كي ينسحبوا من القاهرة؛ فقد اقترحت على الأدميرال السير بوشامب سيمور أن يؤجل إلى يوم الخميس اتصاله بقائد حامية المدينة بشأن مسألة وضع البطاريات في الحصون؛ ذلك أني أخشى أن يؤدي الاتصال السريع إلى تعجيل سير الحوادث وبذلك يجعل من الصعب انسحاب البريطانيين من القاهرة.
31
وفي نفس اليوم أبرق كارتريت يقول: «لي الشرف أن أبلغكم أن وكيل وزارة البحرية قابل الأدميرال السير بوشامب سيمور أمس بعد الظهر، وذكر له تأكيدات بشأن عمل إصلاحات في مدخل الإسكندرية وبعد ذلك بقليل تلقى الأدميرال من قائد الحامية إجابة مكتوبة صيغت في عبارة شبيهة بعبارات صاحبه، وتلقى الخديو صباح اليوم برقية من السلطان ينبئه بأنه سيعد هو ووزراؤه مسؤولين إذا لم توقف أعمال التحصينات؛ لأن هذه الأعمال إذا استمرت فسوف تؤدي إلى ضرب الإسكندرية بمدافع الأسطول البريطاني، وسيجتمع مجلس الوزراء اليوم للنظر فيما جاء من السلطان.
32
وفي اليوم السادس، وهو اليوم الذي اتخذ المؤتمر فيه قراره النهائي أبرق كارتريت إلى جرانفل يقول: «لي الشرف كذلك أن أبلغكم أن الأدميرال
33
السير بوشامب سيمور قد أرسل لتوه إلى قائد الحامية يطلب إليه إيقاف التحصينات والمباني الشاطئية، وقد أرسلت تبعا لذلك تحذيرا رسميا أخيرا إلى الرعايا البريطانيين ليغادروا القاهرة، وسوف أبلغ في الحال القناصل الأجانب بما اتخذ من الخطوات».
34
وأرسل سيمور للمرة الثانية إلى طلبة باشا قائد حامية الإسكندرية في اليوم السادس من يولية يقول: «البارجة أنفنسبل في 6 يولية سنة 1882: سيدي، لي الشرف أن أحيط سعادتكم علما بأني علمت من مصدر رسمي أن مدفعين أو أكثر أضيفا بالأمس إلى خطوط الدفاع البحرية، وأن استعدادات حربية يجري عملها في الواجهة الشمالية للإسكندرية ضد الأسطول الذي تحت قيادتي، وأرى لزاما علي - والحالة هذه - أن أنبه سعادتكم إلى أنه إذا لم توقف هذه الأعمال، أو إذا أوقفت، ثم استؤنفت، فإن واجبي يقضي بأن أطلق مدافعي على الأعمال الجاري بناؤها» ...
ورد طلبة باشا بقوله: «عزيزي الأدميرال الإنجليزي لي الشرف أن أبلغكم أني تلقيت كتابكم المؤرخ 6 يوليو، الذي تخبرونني فيه أنكم علمتم من مصدر رسمي وضع مدفعين وأن أعمالا أخرى جارية على شاطئ البحر، وردا على ذلك أؤكد لكم أنه لا أساس من الصحة لهذه الأخبار، وأنها من قبيل خبر التهديد بسد مدخل البوغاز الذي أبلغتم به وتحققتم من كذبه ...
وإني لمعتمد على مشاعركم الإنسانية الصادقة وأرجو أن تتقبلوا احتراماتي».
35
وأبرق جرانفل في اليوم السابع إلى سفير حكومته بفرنسا يقول: «أرسل إلي لوردات الأدميرالية صورة برقية وردت من السير بوشامب سيمور بتاريخ أمس يقرر فيها أن قائد الحامية أكد له أنه لم توضع حديثا مدافع أو تجرى عمليات حربية، وقد أكد هذا درويش باشا أيضا ، وقد قرر الأدميرال أنه لم يلاحظ عمليات منذ يوم 5 بعد الظهر، ولكنه لن يتوانى عن العمل إذا استؤنفت العمليات، وقد ألقى إلى الأدميرال الفرنسي أن ينسحب في حالة الاعتداء».
36
وقد جاء في برقية سيمور إلى الأدميرالية قوله: إن وقف العمليات منذ التاريخ الذي أشار إليه ربما كان تنفيذا لأمر السلطان
37
وفي هذا دليل بل اعتراف من سيمور بأن العمليات أوقفت ...
وفي اليوم السابع كتب القناصل بالإسكندرية إلى سيمور يسألونه عما إذا كان مقتنعا برد الحكومة المصرية بشأن أعمال التحصين، ويبلغونه بأنهم على استعداد لأن يأتوا له بما يقنعه، ويرجون منه أن يبلغهم ماذا بقي لديهم من وقت لحماية رعاياهم، ثم يشيرون إلى أن ضرب الإسكندرية على أية حال يفضي إلى ضرر جسيم بالأجانب بالمدينة وبالوطنيين كذلك، كما أنه يحطم كثيرا من الممتلكات الأوربية ...
ورد الأدميرال ردا رسميا حاسما قائلا: «إنه إذا كان لهم من النفوذ ما يحمل قائد حامية الإسكندرية على الإخلاص فلا يستمر في أعمال التحصين، وإنه مستعد لإجابة طلبهم، أما التأكيدات الكتابية مهما كانت عبارتها فإنها قليلة الجدوى لديه فيما هو بصدده، وإنه لا يقصد ضرب المدينة، وإن عمله إذا لزم الحال سيكون ضد الحصون، وإنه سوف يبلغ حكومته بكتاب القناصل، علما بأنه ما يزال عند عزمه كما أبلغ قائد الحامية إذا لاحظ استئناف أدنى عمل دفاعي، وعلى أية حال فسوف تكون هناك مهلة قدرها أربع وعشرون ساعة.
38
وأبرق كارتريت إلى جرانفل في اليوم التاسع يقول: «لي الشرف أن أبلغكم بأن الأدميرال السير بوشامب سيمور تلقى نبأ بأن مدفعين أضيفا إلى قلعة السلسلة تجاه الميناء الجديد، ولن يستطيع الأدميرال أن يتغاضى عن هذا العمل العدائي، ولذلك صمم على أن يفتح أفواه نيران مدافعه في مطلع شمس الثلاثاء 11 الحالي، وسأبلغ هذا المساء القنصل العام والخديو ودرويش باشا وسأعد ما يلزم لنزول جميع الرعايا البريطانيين إلى السفن الليلة أو صباح الغد».
وأبرق سيمور في اليوم التاسع إلى سكرتيرية الأدميرالية البريطانية يقول: «إيماء إلى برقيتي المؤرخة 4 يولية سنة 1884، أقول: إنه ليس لدي أي شك في حدوث الاستعدادات الحربية، وقد وضعت مدافع جديدة في حصن السلسلة، وسأبلغ قناصل الدول الأجنبية صباح غد وأبدأ بالضرب بعد 24 ساعة ما لم تسلم إلي الحصون القائمة في شبه جزيرة رأس التين والحصون المشرفة على مدخل الميناء».
39
وجاء في برقية إلى سيمور من سكرتيرية الأدميرالية طلب إليه فيها أن يستبدل بكلمة «تسلم» الواردة في برقيته عبارة «تسلم مؤقتا بقصد تجريدها من السلاح».
40
وفي صباح اليوم العاشر من يولية تلقى طلبة باشا إنذارا نهائيا هذا نصه: «لي الشرف أن أخطر سعادتكم أنه لما كانت الاستعدادات العدائية الموجهة ضد الأسطول الذي أتولى قيادته آخذة في الازدياد طول نهار أمس في حصون صالح وقايتباي والسلسلة، فقد عقدت العزم أن أنفذ غدا 11 الحالي عند شروق الشمس ما أعربت لكم عنه من عمل في كتابي المؤرخ يوم 6 الحالي وذلك إن لم تسلموا إلي في الحال قبل هذه الساعة البطاريات الموضوعة في شبه جزيرة رأس التين وعلى شاطئ ميناء الإسكندرية الجنوبي بقصد تجريدها من السلاح».
41
هذه هي قصة النزاع بين بوارج الأسطول الإنجليزي وقلاع الشواطئ بالإسكندرية أو أقصوصة الذئب والحمل في صورتها الجديدة.
وما ندري بأي كلام نعقب عليها وأي عبارات اللغة تفي بوصف سماجة السير بوشامب سيمور ذئب هذه الأقصوصة؟
لقد قرر دي فرسنيه رئيس الوزارة الفرنسية في كتابه المسألة المصرية أن المعلومات التي لديه لم تكن بالخطورة التي تبدو من رسائل الأدميرال سيمور بحيث إن ضرب الإسكندرية في الظروف التي وقع فيها إنما كان عملا هجوميا لا دفاعيا وقرر كذلك أن «سد البوغاز لم يشرع فيه في وقت من الأوقات».
42
وقد أرسل الأدميرال الفرنسي كونراد إلى حكومته يصف تحرش سيمور ويذكر أنه لم يشاهد أي عملية في الحصون.
43
ويقول نينيه وقد حضر ضرب الإسكندرية: «إني أؤكد بشرفي ما تحققته؛ إذ كنت أزور الحصون يوميا بصحبة كبار الضباط، أنه منذ يوم مجيء أوامر السلطان بالكف عن الترميمات لم يطرأ أي تغيير على أية بطارية من جهة الميناء أو على البحر، ولم يحصل أي ترميم في الحصون ولم ينصب فيها أي مدفع جديد.
44
ولا يستطيع المرء أن يتصور كيف يكون تحصين أمة شواطئها تلقاء سفن أجنبية تتهددها عملا عدائيا يسوغ الشر والاعتداء؟! إن مثل ذلك كمثل لص أراد أن يقتحم دارا وسلاحه في يده والشر في معارف وجهه، فإذا تناول صاحب الدار شيئا يدفع به عن نفسه هذا العدوان، عد ذلك منه حقا للص يسوغ له أن يقتله ويأخذ متاعه وداره، وليس في تاريخ العدوان كما ذكرنا أقبح من هذا ولا أشد منه فجورا ...
وكيف يجوز في عقل أن تكون قلاع الإسكندرية هي المعتدية على بوارج الأسطول والقلاع لم تنتقل إليها لتضربها وإنما جاءت السفن تهدد المدينة والمؤتمر الدولي قائم في الآستانة ينظر في المسألة المصرية؟!
إن من حق كل دولة، بل من واجبها أن تعد وسائل الدفاع عن كيانها في كل وقت وفي غير مناسبة معينة، وتكون أكثر التزاما بأداء هذا الواجب إذا هددها عدو، ذلك ما لا يستطيع أن يماري فيه أحد.
ولكن الأدميرال العظيم السير بوشامب سيمور - أو قل: ولكن جلادستون زعيم الأحرار - وجرانفل السياسي القدير رأيا في هذا الواجب - الذي ثبت أن مصر لم تؤده فيما يتصل بحصون الشواطئ - مسوغا لإطلاق نيران المدفعية على مدينة وادعة مسالمة كمدينة الإسكندرية ... ألا ما أتعس هذا الشرق المسكين!
ويزيد في سماجة هذا التحرش السخيف من جانب الأدميرال العظيم أنه اعترف بأن أعمال الترميم أوقفت، والحق أنه كان يظهر الهدوء ريثما ينقل الرعايا البريطانيون، فلما تم ذلك عاد إلى إنذاره، ثم لم يكتف بما تقدم به أول الأمر حتى طلب تسليم بعض الحصون!
ولقد طلب تسليم بعض الحصون؛ لأنه من الممكن إقامة الدليل المادي على أنه ليست هناك تحصينات وبذلك تسقط حجته - إن كانت هذه حجة - وإن ذئب الأقصوصة هذا ليعلم أن هذا التسليم لن يكون، وبذلك تواتيه الذريعة السمجة المضحكة لضرب الإسكندرية، ولقد ضربها سيمور وكوفئ على ذلك بأنه أصبح اللورد السستر!
يقول روثستين في كتابه المسألة المصرية يصف عمل إنجلترا: «إن عملها هذا كان يخشى منه عليها، ولكنه أفلح كما يفلح كل عمل وقح تقوم به دولة شديدة البطش والسلطان».
وقال أيضا: «والحق أنه لا شيء أحط قيمة ولا أصرح نفاقا من الحجة التي شرع بها الإنجليز في ضرب الإسكندرية».
وقال: «وهذه حجة أجاد تسخيفها المستر ريشردز في البرلمان؛ إذ قال: أجد رجلا يحوم حول بيتي وعلامات الإجرام بادية عليه، فأبادر إلى إحضار الأقفال والمتاريس وأحكم سد نوافذي فيقول: إن هذا إهانة له وتهديد، ويحطم علي أبوابي، ويعلن أنه إنما فعل ما فعل دفاعا عن نفسه ليس غير».
ولقد خطر لنا هذا الذي يذكره المستر ريشردز قبل أن نقع عليه، ولا ريب أنه يخطر على بال كل من يقرأ قصة هذا العدوان الغادر ...
ومما يزيد الأمر غرابة ويزيد موقف إنجلترا سخفا أنها تجعل مما أدعته من أعمال التحصين «ظرفا قاهرا» لتدخلها، في الوقت الذي كانت قد فرغت فيه من نقل رعاياها من البلاد! •••
بعد أن أرسل سيمور إنذاره النهائي إلى طلبة عصمت، أرسل كارتريت إلى رئيس الوزارة المصرية يقول: «سيدي الوزير: بناء على البلاغ الذي أرسله الأدميرال السير بوشامب سيمور صباح اليوم إلى قائد حامية الإسكندرية، أراني مضطرا إلى أن أخلي قنصلية صاحبة الجلالة، وأن أقطع في الوقت الحاضر العلاقات التي كانت بين سعادتكم وبين شخصي بصفتي وكيل القنصل العام عن جلالتها في مصر».
والواقع أن العلاقات تعد مقطوعة بين الإنجليز ووزارة راغب باشا منذ قيامها؛ فقد قابلوها كما ذكرنا بالجفاء الشديد، يتبين ذلك من ردهم على إخطار الحكومة المصرية إياهم بقيام هذه الوزارة؛ إذ لم يزيدوا على قولهم: إنهم علموا بما أخطروا به. دون أي عبارة من عبارات المجاملة المعتادة ...
وقد غادر مالت القنصل العام الإسكندرية منذ اليوم السابع والعشرين من يونية وأناب عنه كارتريت وغادرها أيضا كوكسن إبليس مذبحة الإسكندرية وشيطان يوم عابدين، وأوعزت الحكومة الإنجليزية إلى أوكلند كلفن الرقيب المالي الإنجليزي بالامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء ...
ويذكر بلنت في كتابه أن رحيل مالت كان بمساعيه؛ إذ كتب إليه صابونجي وكيله بالقاهرة يقول بضرورة إخراج مالت من مصر؛ فكل الناس لاعنه وكلهم قاتله إذا بقي، فذهب بلنت إلى وزارة الخارجية والتمس نقل مالت إلى إحدى السفن وأجيب إلى طلبه.
ومهما يكن من الأمر فإن الإنجليز منذ مجيء سفنهم إلى الإسكندرية كانوا يترقبون اليوم الذي يطلقون فيه مدافعهم على المدينة ...
أما الخديو فهو في كنف الإنجليز وحمايتهم منذ قبوله المذكرة المشتركة الثانية بتاريخ اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو، وذلك في ظل السفن الأجنبية، بل إنه في كنفهم منذ يوم عابدين، أو في الواقع منذ عملوا على تعيينه بعد خلع أبيه ...
لهذا كان يجاري وزارة راغب؛ انتظارا لتدخل الإنجليز، وكان في الوقت نفسه يتعجل هذا التدخل، وقد رأينا ما كان منه ومن عمر لطفي في فتنة الإسكندرية ...
ولم يكن يضيره أي اتفاق مع راغب، وهو يوقن أن العاقبة للإنجليز، بل لقد كانت مداراته راغبا سترا لنياته أمام درويش حتى ينفض يده من كل ذلك عما قريب ويركن إلى الغالبين ...
ولسنا نرسل هذا الكلام الخطير على عواهنه، ولسنا كذلك نكتفي بما سلف من مواقف الخديو، وهي في ذاتها براهين تثبت ما نقول وخاصة قبوله المذكرتين المشتركتين واحدة بعد الأخرى، وقد جاء في أولاهما إشارة الحكومتين إلى بقائه على العرش و«أن سموه سيستمد من هذا التأكيد ما يحتاج إليه من الثقة والقوة لتدبير شؤون بلاده وشعبه»
45
وقد كانت الثانية تدخلا فعليا في شؤون البلاد الداخلية، ولا نقتصر على الإشارة إلى موقفه من الحركة القومية الدستورية بوجه عام، وشدة كراهته لعرابي بوجه خاص، لا نكتفي بذلك كله، وإنما نعرض على القارئ نص البرقيتين الآتيتين:
كانت البرقية الأولى من كاتريت إلى جرانفل في اليوم السابع من يولية وفيها يقول: «أتشرف بإبلاغ فخامتكم أن الخديو استدعى السير أوكلند كلفن هذا الصباح ليدلي إليه بالطريق الذي يقترح سموه اتباعه في مواقف معينة تتصل بحركاته الشخصية، إن سموه يعتزم البقاء في مصر إذا وقع الضرب، فإنه لا يستطيع كما ذكر أن يعتزل الذين وقفوا بإخلاص إلى جانبه أثناء المحنة، كما لا يستطيع أن يغادر مصر؛ إذ تهاجمها دولة أجنبية لمجرد - كما يصح أن يقال - أنه يريد أن يضمن سلامته الشخصية، وإذا حاولت تركيا الغزو ولقيت جيوشها مقاومة فإن سموه ودرويش باشا سوف يعلنان الجيش أنهما كرجلين من رعايا السلطان الموالين يعدان نفسيهما مقصرين في أداء واجبهما إذا اقرا المقاومة وعلى ذلك فإنهما يأويان بأحسن وسيلة ممكنة إلى يخت درويش باشا، وفي حالة ضرب الإسكندرية بمدافع الأسطول البريطاني سيأوي سموه إلى قصر ترعة المحمودية؛ حيث يرافقه درويش باشا، وكلما كان الفراغ من الأمر كله أسرع قل الخطر الذي يتعرض له شخصيا، وقد كانت لهجة سموه أثناء المقابلة كلها هادئة وكان يضبط نفسه، واختتم حديثه بأن رجا من السير أوكلند كلفن أن يطلع فخامتكم على ما اعتزمه ...
وإني اقترح في حالة الضرب أن أبلغ درويش باشا قبل إقلاعي أن حكومة جلالة الملكة تلقي على عاتقه تبعة سلامة سموه الشخصية».
46
أما البرقية الثانية فهي من جرانفل إلى كارتريت في اليوم التالي وهذا نصها: «توافق حكومة جلالة الملكة على ما ذكرته في برقيتك بالأمس وهو أنك ترى أن تبلغ درويش باشا في حالة ما إذا أدت الضرورة إلى ضرب الإسكندرية بأنك تلقي على عاتقه سلامة الخديو الشخصية».
47
ولسنا بحاجة إلى التعقيب بكلمة واحدة على كلام الخديو، فما يأتي كلام أصرح من كلامه في موقف كهذا الموقف وخاصة قوله: «إنه كلما كان الفراغ من الأمر كله أسرع قل الخطر الذي يتعرض له شخصيا».
ولسوف يزداد شأن توفيق وضوحا فيما يأتي من الحوادث إن كان شأنه يحتاج إلى وضوح ... •••
لم يكن هذا التحرش السخيف من جانب سيمور ليطرأ على بال أحد، وخاصة لانعقاد مؤتمر الآستانة واتخاذه قراره بدعوة السلطان إلى إرسال جيش إلى مصر، لذلك لم تأخذ وزارة راغب باشا أهبتها لتقوية مدفعية الإسكندرية وإعدادها للقتال كما زعم الإنجليز من مزاعم اتخذوها ذريعة لعدوانهم ...
وأراد راغب باشا أن يتلافى الخطب بكل ما في وسعه فاستعان - عقب تلقي الإنذار - بقنصل إيطاليا العام ؛ ليدعو زملاءه القناصل؛ ابتغاء السعي لدى سيمور عسى أن يرجعوه عن عزمه، واجتمع القناصل ولكنهم لم يستطيعوا عمل شيء؛ لأنهم كانوا على يقين أن ضرب الإسكندرية غدا أمرا مقررا ...
وأشار القناصل على راغب أن يذهب بنفسه لمفاوضة الأدميرال، فتوجه بصحبة عبد الرحمن رشدي بك وزير المالية ونجران بك سكرتير مجلس الوزراء، وقابلوا سيمور على ظهر البارجة أنفنسبل فوجدوا منه إصراره على إنذاره فأعلنوه أنهم سيرسلون ردهم في المساء، وتوجه راغب باشا لمقابلة الخديو ...
وعقد الخديو مجلسا من الوزراء وكبار رجال الدولة شهده درويش باشا؛ لينظروا ماذا يكون جواب الحكومة على إنذار سيمور.
وبعد أن تداول المجلس طويلا انتهت أغلبيته إلى رفض ما طلب الأدميرال، وكانت المداولة في أمرين: هل تقبل مطالب الإنجليز؛ تجنبا للعدوان. أم هل ترفض؛ إبقاء على الكرامة القومية وتفاديا للمذلة؟
وكانت حجة القائلين باختيار الرأي الأول أن الحصون ضعيفة لا تجدي مقاومتها، وأن الحكومة أخذت على غرة فلم تأخذ للأمر أهبته، وكان أصحاب الرأي الثاني يقولون: إن العدوان واقع لا محالة سواء قبلت مطالب الإنجليز أم لم تقبل، فلن يعجز الإنجليز عن تحرش من نوع آخر ...
ورجح رأي الفريق الثاني، بيد أن الوزارة رأت أن تسلك سبيل الحكمة حتى آخر لحظة، يقول عرابي في مذكراته: «تقرر بالمجلس المذكور بأنه لا يمكن إجابة طلب الأميرال المذكور؛ لما في ذلك من الخزي والعار الذي يلحق بالمصريين إلى الأبد حيث إن الاستحكامات والطوابي المذكورة ما أنشئت إلا لحفظ الثغور، والعساكر ما وجدت إلا للدفاع عن الوطن العزيز والذود عن حياضه، فلا يجوز لهم أن يخربوا معاقلهم بأيديهم لمجرد طلب العدو الطامع في بلادهم، بل الواجب عليهم أن يدافعوا عن بلادهم ويقوموا بما تحتمه عليهم واجباتهم الحربية إلى آخر رمق من حياتهم؛ دفاعا عن شرف الوطن، ولكن قفلا لباب الشر وقطعا لاحتجاجات الأميرال سيمور رئيس الدوننمة الإنجليزية رؤي أن يرسل له وفد مؤلف من عبد الرحمن بك رشدي ناظر المالية وقاسم باشا وكيل البحرية السابق ومحمد كامل باشا وكيل البحرية حينذاك وتجران بك باشكاتب مجلس النظار ويتلطفوا معه في المقال ويوضحوا بأن المصريين ليسوا أعداء للإنجليز، وأنه لا يمكن سد البوغاز بالأحجار كما قيل، وأنه يمكن ضبط المراكب المشحونة بالأحجار عند شروعها في العمل إن وجدت ... وأما إنزال المدافع فهو أمر لا يمكن قبوله؛ لما فيه من مخالفة قوانين البحرية، ولما يتبع ذلك من الإهانة والمذلة، وإنما يمكن إجابة لطلبه وفضا للإشكال تنزيل ثلاثة مدافع من ثلاث طوابي إحداها طابية المكس والثانية طابية صالح والثالثة طابية برج السلسلة وأن يكتفى بذلك ردا لشرف الدوننمة كما يزعم ... فذهب الوفد وبلغ الرسالة ثم رجع وأبلغ بأن الأميرال المذكور لم يقبل ما عرضه عليه وصمم على وجوب إنزال جميع المدافع، كما طلب، وإنما تكرم بأن عافى عساكره البحرية من معاناة مشقة إنزال المدافع وتخريب الطوابى وسمح للعساكر المصرية بأن يعانوا هذه الأعمال ويخربوا معاقلهم بأيديهم، وزاد على ذلك أنه يطلب من الحكومة أمرا صريحا بإعطائه طابية المكس وما وراءها من الأراضي وطابية العجمي وطابية باب العرب؛ لاتخاذها معسكرا للعساكر الإنجليزية وأنه إذا لم يجب إلى طلباته المذكورة باشر القتال عند طلوع الشمس في يوم غد».
ويؤيد ما يذكره عرابي ما أورده اللورد تشرشل في اتهامه عن هذا الموقف؛ فقد أثبت نص برقية لمراسل المانشستر جارديان يذكر فيها أن الخديو عقد مجلس الوزراء برئاسته في اليوم العاشر من يولية، وكان عرابي غائبا عن هذا المجلس وقد قرر المجلس أن يرسل رئيس الوزراء إلى سيمور يعرض عليه إنزال ثلاثة مدافع إما من حصن واحد وإما من ثلاثة حصون، وإبقاء على علاقات المودة بين الحكومة المصرية والإمبراطورية البريطانية، وكلف الخديو رئيس الوزراء بأن يكتب بهذا إلى الأدميرال فإذا رفض وأصر على ضرب المدينة فإن الحصون لن تجيب إلا بعد الطلقة الخامسة من البوارج، وبعد ذلك يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين».
48
وأرسل الوزراء في المساء الرد الآتي على الإنذار النهائي: «لم تأت مصر شيئا يقضي بإرسال هذه الأساطيل المتجمعة، ولم تعمل السلطة المدنية ولا السلطة العسكرية أي عمل يسوغ مطالب الأميرال إلا بعض إصلاحات اضطرارية في أبنية قديمة، والطوابي الآن على الحالة التي كانت عليها عند وصول الأساطيل، ونحن هنا في وطننا وبيتنا، فمن حقنا، بل من الواجب علينا أن نتخذ عدتنا ضد كل عدو مباغت يقدم على قطع أسباب الصلات السلمية التي تقول الحكومة الإنجليزية: إنها باقية بيننا، ومصر الحريصة على حقوقها الساهرة على تلك الحقوق وعلى شرفها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع ولا أية طابية دون أن تكره على ذلك بحكم السلاح، فهي لذلك تحتج على بلاغكم الذي وجهتموه اليوم وتنفي مسؤوليات جميع النتائج المباشرة وغير المباشرة التي تنجم إما عن هجوم الأساطيل أو من إطلاق المدافع على الأمة التي تقذف في وسط السلام القنبلة الأولى على الإسكندرية المدينة الهادئة مخالفة بذلك لأحكام حقوق الإنسان ولقوانين الحرب».
وتأهب الأدميرال العظيم لضرب المدينة، ويجدر بنا قبل أن نصف هذه المأساة الشنيعة أن ننظر ماذا كان موقف فرنسا وقد كان لها أسطول بالإسكندرية، ثم ماذا كان موقف تركيا وكان لها الحق في مصر ...
في اليوم الرابع من شهر يولية أبلغ اللورد لايونز سفير إنجلترا في باريس المسيو دي فرسنيه نبأ التعليمات التي أرسلت إلى سيمور قبل ذلك بيوم باستعمال القوة ضد قلاع الإسكندرية، وسأل السفير المسيو فرسنيه عما إذا كانت فرنسا سترسل مثل هذه التعليمات إلى الأدميرال كونراد.
وكان كونراد قد أبلغ حكومته ما رأى وما علم، وقد قرر - كما أسلفنا - أنه لم يكن هناك أعمال في الحصون كما ادعت إنجلترا.
وعقد فرسنيه مجلس الوزراء، ولم تكن فرنسا رسمت لنفسها خطة بشأن هذا التحدي المفاجئ، ولم يدر بخلد فرنسا أن تجرؤ إنجلترا على هذا العمل مهما بلغ من تطلعها إلى الانفراد بضرب مصر؛ وذلك لأن المؤتمر قائم في الآستانة يدرس كيف يكون التدخل في شؤون مصر، وكانت تظن فرنسا أنها بهذا المؤتمر الذي اقترحته قد أخذت السبيل على إنجلترا فجعلت المسألة المصرية مسألة دولية.
وكذلك كانت فرنسا مطمئنة إلى أن الظرف القاهر الذي أضافه دوفرين إلى مقترح السفير الإيطالي لم يظهر بعد، وليس في شؤون مصر ما يدعو إلى القلق، وقد كان فرسنيه يقظا إلى أن الإنجليز يبالغون في تصوير ما يزعمون من سوء الحال في مصر ...
وقرر مجلس الوزراء الفرنسي لسوء حظ مصر الامتناع عن مشاركة إنجلترا فيما هي مقدمة عليه؛ وذلك لأن هذا العمل يعد خروجا على مؤتمر الآستانة، وهو يجر إلى اعتداء لا موجب له على مصر ولا يمكن عده عملا دفاعيا، هذا إلى أن الحكومة لم تعرض الأمر على مجلس النواب الفرنسي، ولا يمكنها أن تدخل في حرب بدون إقرار هذا المجلس.
وكتب دي فرسنيه إلى السفير الفرنسي بلندن ليبلغ الحكومة الإنجليزية قرار مجلس الوزراء الفرنسي وأنه أرسل التعليمات للأدميرال كونراد، أنه إذا أصر القائد الإنجليزي على ضرب الإسكندرية فعليه أن يغادر الإسكندرية بالأسطول الفرنسي ويرسو قرب بورسعيد.
وهكذا تخلي فرنسا السبيل لإنجلترا لتنفرد بضرب مصر، وكم لحقت بمصر النكبات من جراء ضعف السياسة الفرنسية، ولم تنس مصر أن فرنسا بعد أن شدت أزر محمد علي وأغرته زمنا بالوقوف في وجه إنجلترا تخلت عنه أمام تهديد بالمرستون وتركته ينهار وحده ...
الحق أن فرنسا كانت تفطن إلى أن إنجلترا تريد أن تنفرد باحتلال مصر، ولم تأنس فرنسا في نفسها القوة لتناوئ إنجلترا مناوأة فعلية؛ خشية أن يدب الخلاف بينهما وألمانيا التي ضربتها تلك الضربة القاصمة منذ اثنتي عشرة سنة في حرب السبعين لم تزل لها بالمرصاد ولم يزل بسمارك يرمي إلى إضعاف فرنسا حتى لا تنهض من كبوتها فتثأر لما لحقها من هوان.
لهذا تغافلت فرنسا على كره منها وأفسحت السبيل لإنجلترا فأضاعت بذلك جهودها الدبلوماسية الماضية جميعا في عرقلة السياسة الإنجليزية ...
أما تركيا فقد تراخت وتهاونت في الأمر وأظهرت ضعفا وترددا وحيرة هي خليقة بدولة مثلها قامت على القوة والدسائس وعدمت الوسائل الدبلوماسية الصحيحة.
في اليوم الثامن من يولية أبرق دوفرين إلى جرانفل يقول: «أتشرف بإبلاغكم أن وزير خارجية تركيا قد خرج لتوه من عندي، وجاء يتوسل لاعتبارات إنسانية أن تطلبوا إلى الأدميرال سيمور ألا يفعل شيئا يعجل الأزمة في الإسكندرية، وأجبته أن الأمر كله بيد السلطات المصرية هناك، وما عليهم إلا أن يعملوا حسب ما طلب إليهم وبذلك فلن تطلق قذيفة واحدة، ولاحظ سعادته أنه ربما كان فيهم بعض ذوي النزق والحمق، فقلت: ولماذا لم يذهب السلطان بجنوده إلى هناك ليجبرهم على النظام؟ ثم ذكرت له أنه إذا استطاع أن يدع لدي من الضمانات ما يؤكد لي أن السلطان سيفعل كما أردنا، فإن ما أدلي به إلى فخامتكم بشأن مقترحاته سوف يلقى منكم الاعتبار الودي، في حين أن مجرد طلبه الذي أراد أن أبلغه إليكم لا يكون له الأثر المطلوب طالما أنه لا يقوم على شيء، فقال: إنه لا يملك أن يعطيني أي تأكيد؛ فإن المسألة تدرس الآن وأمله أن يستطيع يوم الاثنين أن يفضي إلي بشيء ... ولم يقل أكثر من ذلك، ولما ألححت على سعادته قال: إن عرابي اتخذ سبيل العناد والواضح أنه لا بد من عمل شيء».
49
ومن هذه البرقية يتبين لنا مبلغ ما في السياسة التركية من حيرة وتردد، وما فيها من ضعف يتجلى في هذا التوسل باسم الإنسانية، وترينا هذه البرقية الهامة كذلك مبلغ ما في السياسة الإنجليزية من لؤم وكذب، فإن استعداد الإنجليز للرجوع عن ضرب الإسكندرية إذا عمل السلطان كما يحبون فيه أبلغ دليل على أن خوفهم من أعمال التحصينات المزعومة وعدهم ذلك ظرفا قاهرا للتدخل كان من أسخف الأكاذيب وأحطها، وأن ضرب الإسكندرية كان نية مفروغا منها ...
وفي اليوم العاشر من يولية أبلغ دوفرين حكومة تركيا ما يأتي: «تتشرف سفارة حكومة جلالة الملكة بأن تبلغ حكومة الباب العالي بأنه بناء على استمرار السلطات الحربية في مصر في تسليح الحصون بالإسكندرية، فإن الأدميرال الإنجليزي سوف يعلن هذا الصباح أنه ما لم تسلم الحصون مؤقتا بقصد تجريدها من السلاح فإنه سيطلق مدافعه بعد أربع وعشرين ساعة».
50
وأبرق في نفس اليوم إلى حكومته يقول: «أتشرف بأن أبلغكم أني ناشدت السلطان للمرة الأخيرة بكرة هذا الصباح، وأبلغته أن ما تلقت به حكومة جلالة الملكة تأكيداته من اقتناع قد قضي عليه قضاء تاما بسبب مسلكه بعد ذلك، وأجاب السلطان أنه سوف يرسل إلي في الساعة الخامسة من صباح الغد إجابة مبوبة على رسالتي، وفي نفس الوقت طلب أن يؤجل ضرب الإسكندرية فأجبت جلالته ردا على ذلك أني سأبلغ فخامتكم رسالته، ولكن إذا رفضت الشروط التي طلبها الأدميرال سيمور - تلك الشروط التي بلغتها الوزير صباح اليوم بناء على توجيهكم - فإنه لا يبقى لدي أمل في تعديل اتجاه ما اعتزم عمله».
51
وفي نفس اليوم العاشر أبرق جرانفل في الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر إلى سفرائه في باريس وبرلين وفينا وروما وبطرسبرج والآستانة، ليبلغ كل منهم الدولة التي يوجد بها أن «المسلك الذي سلكه أدميرالنا لم يكن إلا عملا مشروعا لا أقل ولا أكثر للدفاع عن النفس، وأن عمله - إذا أدى سوء الحظ إلى العمل - لن يكون رائده غير هذا دون أن يكون لنا أي مأرب خفي، ولقد تبين من تقريره أن السلطات في الإسكندرية مستمرة في تدبيراتها العدائية على الرغم من أوامر السلطان ومن رغبة الخديو، ومما ذكروه لنا مرارا من تأكيدات».
وأضيف إلى هذه البرقية عبارة لدوفرين خاصة وهي: «أننا نعتقد أننا نعمل وفق مصالح السلطان المفهومة حق الفهم، وقد أغفلت سلطته في مصر».
52
وللقارئ أن ينظر فيما في هذه البرقية من حجة الدفاع عن النفس ومراعاة مصلحة السلطان، واستمرار السلطات في الإسكندرية في تدبيراها العدائية؛ ليرى مثلا رائعا للسياسة الإنجليزية كيف تلجأ إلى الكذب الصريح في سبيل تحقيق أطماعها الاستعمارية! ...
وفي اليوم الحادي عشر، وهو اليوم الذي حدث فيه الضرب، أبرق دوفرين إلى جرانفل في الساعة الرابعة صباحا يقول: «حضر إلي الآن سعيد باشا وزير الخارجية ليسلمني مذكرته المرسلة مع هذا ... وليبلغني أنه في المساء يستطيع أن يقترح علي حلا معقولا للمسألة المصرية، وقد طلبت إليه إيضاحا، فقال: إن كل ما عنده الآن أن الحل سيكون معقولا، فقلت: إنه لا مجرد دخول عضو تركي في المؤتمر ولا مجرد العودة إلى دعوة عرابي باشا إلى هنا يكون حلا معقولا، فعاد يكرر قوله: إن الحل سيكون معقولا. ورجاني أن أرسل إليكم وإلى الأدميرال سيمور ما سلف في الحال ومشفوعا بتوصية بقصد تأجيل الإنذار لكي يدع ذلك متسعا من الوقت يسمح بأن تصل رسالة أخرى من الباب العالي إلى فخامتكم. فقلت: إني لم أمنح سلطة التدخل في عمل الأدميرال سيمور، وإن عبارة الحل المعقول من الغموض بحيث لا تدع لي أكثر من أن أعيد لفخامتكم ما قال بنصه، وأضفت إلى ذلك قولي: إني على أي حال سوف أرسل إلى السير بوشامب سيمور صورة برقية لمذكرة الباب العالي ولما طلبه مني أخيرا، مقترحا أنه في حالة ما إذا كانت التعليمات المرسلة إلى الأدميرال تسمح له بالتأجيل، أن يؤجل سعادته الضرب ثلاث ساعات أو أربع؛ ابتغاء إفساح الوقت لتصل إليكم رسالة الحكومة العثمانية إذا كنتم ترغبون أن ترتبوا عليها عملا ما ...
وقد جرؤت على أن أبين لسعيد باشا مبلغ ما كان في التراخي الدبلوماسي من حمق، وبين أيدينا مسائل عظيمة كهذه حتى أصبح من المستحيل ماديا أن نتدخل في مجرى الحوادث».
53
أما مذكرة الباب العالي فهذا نصها وكانت بتاريخ اليوم العاشر: «ردا على المذكرة الشفوية لسفارة صاحبة الجلالة البريطانية بتاريخ 10 الحالي والتي تلقاها الباب العالي بعد ظهر اليوم نفسه، تتشرف وزارة الخارجية بإبلاغ السفارة أنه وفقا لتلغراف أرسل اليوم من الخديو والماريشال درويش باشا، قد أعلن سموه والحكومة المصرية أدميرال الأسطول البريطاني بالإسكندرية أن السلطات المحلية سوف لا تتعرض بمقاومة في حالة ما إذا أقدم الأدميرال على الضرب.
54
ومن الجلي أن عملا كهذا إذا وقع يؤدي إلى افتيات خطير على الحقوق الملكية لصاحب الجلالة الشاهانية السلطان وعلى مصالح الإقليم، وأن الحكومة الشاهانية الواثقة من أن مجلس وزراء سان جيمس إذ ينظر إلى ما ذكر نظرة الاعتبار الجدي يتخذ الخطوات التي تؤدي إلى أن ينصرف الأدميرال سيمور عن أي عمل من طبعه أن يفضي إلى مثل هذا الوضع النهائي وأن يرسل إليه التعليمات بهذا المعنى، وأن الحكومة الشاهانية على أي حال سوف تتشرف بإخبار سفارة صاحبة الجلالة البريطانية عن القرار الذي ربما وصلت إليه غدا الثلاثاء في الليل بشأن رسالة السفارة السالف الإشارة إليها بأعلى هذا، وبشأن البرقية الواردة من الخديو والمارشال.
وإن الباب العالي ليرجو من مجلس وزراء سان جيمس أن يتكرم بسرعة إرسال التعليمات بما طلبنا أعلاه إلى الأدميرال».
55
هذا كان ما فعلته تركيا ولا نجد في المكاتبات الدبلوماسية أسوأ من هذه البرقيات التي تنطق بالحيرة والضعف والتسويف والارتباك ... •••
كانت مصر وحدها تتلقى ضربات الاحتلال الأولى ممثلة في الاعتداء الآثم على الإسكندرية، وسوف يبذل الوطنيون ما في وسعهم تلقاء هذا الاعتداء وإن كانوا ليوقنون أن قوتهم المادية أضعف كثيرا من قوة اعدائهم، ولكن الحر إذا وجد نفسه في موطن يوقن فيه أنه هالك لا محالة كان عليه أن يبذل ما في وسعه من مقاومة؛ أنفة منه وحفاظا ...
ولكنا والأسف يملأ نفوسنا سنجد أول خطوة من خطى التخاذل في مسلك الخديو توفيق منذ يبدأ الضرب وسوف يكون لمسلكه بعد هذا أبعد الأثر في بث روح التردد والانقسام حتى يفضي الأمر إلى الهزيمة، وعلى الذين يعنون بتاريخ مصر أن يذكروا أن وجود توفيق باشا على رأس حكومة مصر يومئذ كان العامل الجوهري في نجاح مدبري الاحتلال ...
ثم انتقل الخديو في عصر اليوم العاشر من يولية من سراي رأس التين في موكبه الرسمي إلى سراي الرمل، وسيبقى بها حتى يقع الضرب ويتبين عاقبته ثم يعود إلى رأس التين؛ حيث يتلقاه سيمور ويعد له ترجمانا يلازمه ويضع البوارج على مقربة من القصر لحمايته.
وكان كارتريت قد أشار عليه قبل ذلك الحديث الذي أفضى به إلى كلفن، بأن يأوي إلى إحدى سفن الأسطول ولكنه رأى أن الوقت لم يحن بعد لهذه الخطوة الجريئة، كما أنه كان في شك من العاقبة ...
يقول الشيخ محمد عبده: «11 يولية، أحد الميرالايات الذين في معية الخديو قال له: ما مصير الإسكندرية لو ضربها الإنجليز؟
فأجاب الخديو: ستين سنة ... وهز كتفه.
فقال الضابط : لكن السكان سيحرقونها فأرجو أن تتوسط لدى الأدميرال، والوقت لم يزل يسمح بذلك، اطلب (ذو الفقار) وبلغه أن يحافظ على المدينة فعنده من الرجال الكفاية ...
فأجاب: فلتحرق المدينة جميعها ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، كل ذلك يقع على رأس عرابي وعلى رؤوس الفلاحين، وسيذوق الأوربيون عاقبة هروبهم مثل الأرانب ...
ذهب الخديو من رأس التين إلى الرمل، والمحافظ وموظفو المحافظة انسحبوا واختفوا.
56
ويقول بلنت في كتابه بعد أن ذكر ما أفضى به توفيق إلى كلفن: «كان هذا هو البرنامج الذي سار على وفقه الخديو ولم يخرج عنه إلا في أنه لم يذهب إلى قصر المحمودية وإنما ذهب إلى سراي الرمل على بعد ثمانية أميال من الإسكندرية وهو مكان أكثر أمنا في حالة إطلاق النار من مدافع سيمور.
وبعد الحرب بزمن قصير وقعت بطريقة غريبة على سبب تردد توفيق وذلك من مصدر له معرفته الوثيقة، ولم يكن هذا المصدر غير اللورد شارلس برسفورد نفسه الذي قاد السفينة كندور من سفن المدفعية بالأسطول وقت الضرب والذي صار مارشال الإسكندرية بعد ذلك؛ فقد ذكر لي أن الخديو في لحظة من لحظات الصراحة غير عادية شرح له سبب بقائه في المدينة أثناء الضرب، ولم يكن ذلك سوى أنه كان في حيرة شديدة أي المتحاربين سيصمد أكثر إزاء خصمه؟ فقد كان الرأي السائد في مصر أن السفن سوف تغرق، ولقد ظل الخديو في حالة من الشك الباعث على الخوف طول نهاره في الرمل حتى لقد كان يهرول إلى سطح القصر كل نصف ساعة ليرى ماذا كان من أمرها، ولما أن تبين في المساء أنها ظلت سليمة وأن الحصون قد أسكتت، عقد العزم عند ذلك فقط على أن يضع نفسه تحت حماية سيمور ... وقد أدت تجارب برسفورد في الأسابيع التي قضاها بالإسكندرية إلى أن ينظر نظرة الاحتقار إلى توفيق، وأن يشعر بشيء من العطف على عرابي والفلاحين الذين نهضوا بأعباء الحرب على الرغم من انشقاق أميرهم».
57
في الساعة السابعة من صباح اليوم المشؤوم، الحادي عشر من شهر يولية سنة 1882، أطلق الأدميرال العظيم السير بوشامب سيمور أولى قذائفه على مدينة الإسكندرية، باسم الدفاع العادل المشروع عن النفس، والدنيا كلها تشهد هذا البغي الأكبر، وليس فيها دولة يتيقظ ضميرها لما تصبه إنجلترا على الحركة القومية القائمة على السلام والدستور في مصر!
كانت حصون الشاطئ تمتد من ناحية العجمي في الغرب إلى أبي قير في الشرق وكان عددها نحو عشرين حصنا أو طابية كما كانت تسمى ويدخل في ذلك اثنان في داخل المدينة هما كوم الناضورة، وكوم الدكة ...
وإذا استثنينا الحصنين الأخيرين وهما من منشآت نابليون، وقلعة قايتباي وهي ترجع إلى القرن الخامس عشر كانت بقية الحصون من منشآت محمد علي، وقد ظلت على حالها منذ ذلك الوقت إلا بعض إصلاحات أدخلها عليها إسماعيل، وكانت مدافعها وتبلغ تسعة وعشرين ومائتين، قديمة الطراز ضعيفة، قريبة المرمى، ولولا أن إسماعيل وضع فيها تسعة وأربعين مدفعا من المدافع القوية من طراز أرمسترنج ما صلح فيها للدفاع من شيء ...
وكان الأسطول البريطاني مكونا من ثماني مدرعات كبيرة وخمس مدفعيات وسفينة للطوربيد وأخرى لأعمال الكشف، وكانت مدافع الأسطول ويبلغ عددها سبعا وسبعين من النوع الضخم القوي من طراز أرمسترنج ...
والمعروف في الحرب البحرية أن أكبر الأخطار تعرض السفن للقلاع ذات المدافع القوية، فشتان بين ما يستند إلى الماء وبين ما يستند إلى الصخر، هذا إلى ارتفاع القلاع وتمكنها وصلتها بما تطلب من العتاد والرجال ...
ولكن للسفن ميزة عظيمة على القلاع الضعيفة المدافع، فإن السفن تستطيع أن تتجمع فتدك قلعة بعد قلعة، في حين أن القلاع لا تستطيع أن يدفع بعضها عن بعض ... وكذلك كان الحال مع شديد الأسف في قلاع الإسكندرية.
وكان آلاي طوبجية السواحل يتألف حسب الإحصاء الرسمي من اثنين وستين وسبعمائة وألف رجل ما بين ضابط وصف ضابط وجندي، وكان يقودهم الأميرالاي إسماعيل بك صبري ... ولكنهم يوم الضرب كانوا دون ذلك كثيرا؛ فقد ذكر عرابي في مذكراته أنهم كانوا لا يزيدون عن سبعمائة.
وكان بالمدينة من قوات الجيش أربعة آلايات ، يكون اثنان منهما اللواء الثالث ويرأسه خورشيد باشا طاهر تحت قيادة الفريق إسماعيل باشا كامل، ويكون الباقيان اللواء الثاني بقيادة طلبة باشا عصمت قائد حامية الإسكندرية، وكان مجموع هذه الآلايات اثني عشر ألفا من المشاة ...
أصدر عرابي باشا تعليمات إلى صبري في الليلة السابقة للصباح المشؤوم وأبلغه أن مجلس النظار قرر ألا تجيب الحصون إلا بعد الضربة الخامسة من الأسطول، ووزع صبري ضباطه على الحصون؛ استعدادا للمعركة، وكان يعاونه وكيله محمد بك نسيم الذي وكل إليه صبري الدفاع عن الحصون الغربية ...
وكان عرابي ليلتئذ بالترسانة يصحبه محمود فهمي باشا وطلبة عصمت باشا ومحمد كامل باشا وكيل نظارة البحرية ...
ووزع عرابي حامية المدينة وراء الحصون من قلعة العجمي إلى برج السلسلة وعهد إلى أورطتين من الفرسان بالمراسلة بين الحصون ...
أجابت الحصون بعد خمس دقائق من ابتداء الضرب، واستمر آلاي السواحل في الدفاع وأبدى همة ونشاطا وحماسة وطنية شهد بها كثير من الأجانب، وذلك على الرغم من عنف المدافع الإنجليزية وشدة فتكها وعظم تدميرها، ومهارة السفن الإنجليزية في الابتعاد والاقتراب والاعتصام بدخان كثيف يغطيها أثناء الضرب، وشباك قوية من الفولاذ كانت ترد عنها قذائف الحصون ...
واستمر الضرب من الجانبين حتى الساعة الحادية عشر، وكانت قذائف الإنجليز تلقي النار والدمار على المدينة في شدة مروعة، وسكتت السفن قليلا ثم استأنفت الضرب وجاوبتها الحصون حتى الساعة الثانية بعد الظهر ...
قال صابونجي في رسالة إلى بلنت يصف هذا الضرب وقد كان في سفينة على مقربة من الأسطول: «في صباح اليوم الثلاثاء عند الساعة السابعة تماما انبعثت أول طلقة على الحصون، وقد كنت على ظهر السفينة سعيد على مقربة من الأسطول الإنجليزي ... غادر درويش الإسكندرية بمجرد أن بدأ الضرب وأبحر إلى حيث لا يدري أحد مكانه، ومن بين 1170 شخصا كانوا معي هذا الصباح وشهدوا الضرب كنت أنا وحدي الذي رجوت حسن الحظ والنجاح لعرابي وأنصاره، وعندما انبعثت أول طلقة تموجت في الهواء القبعات والمناديل والأيدي، مشفوعة بالهتاف وعلامات الرضاء، وكان الرجال والنساء وفيهم القساوسة على اختلاف درجاتهم متهللين جذلين يتنبأون بسقوط الحصون في ساعتين، ولكن شعورهم بالخيبة ما لبث أن ظهر، الساعة الآن الواحدة والنصف بعد الظهر ولم تنقطع النيران من الجانبين، وإن الدفاع يعد حتى الآن فائقا، ولا يمكن لأحد أن يقول الآن ما عسى أن تكون النتيجة ... أكتب إليك من ظهر السفينة وأنا أشاهد الضرب وأثبت كل ما أستطيع أن أراه، ولكن ماذا عسى أن يرى المرء خلال سحب كثيفة من الدخان إلا الرعد والبرق من المدافع ... لم يكن أصدقاؤنا، وكذلك لم يكن حتى القناصل، واثقين من عزم إنجلترا على الحرب، ولم أكن أنا واثقا من ذلك».
58
واستأنف الأسطول الضرب بعد الساعة الثانية واستمر يرسل قذائفه الهائلة في شدة حتى منتصف الساعة السادسة، أي قبل غروب الشمس بنحو ساعة، ثم نزل الليل وقد سكتت الحصون فلن تجيب بعد؛ إذ قد دمرتها مدافع الأسطول تدميرا ... وتهدمت في المدينة أبنية كثيرة ومساكن واحترق بعضها، وقد هجرها كثير من أهلها منذ بدأ الضرب في هرولة ورعب.
وهكذا وقف المصريون - وإن حاقت بهم الهزيمة - موقف الدفاع والكرامة، وليس يماري أحد في أنهم فعلوا فعل القلة تحارب من تكاثروا عليها حتى تهلك أو ينثلم سلاحها ...
وإنه لمما يذكر في مواطن الفخر ما أظهره نفر من أهالي المدينة من الحمية والبسالة وخاصة النساء، أشار إلى ذلك عرابي باشا في مذكراته فقال: «وفي أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء في خدمة المجاهدين ومساعدتهم في تقديم الذخائر الحربية وإعطائهم الماء وحمل الجرحى وتضميد جروحهم ونقلهم إلى المستشفيات».
وقال الشيخ محمد عبده: «تحت مطر الكلل ونيران المدافع كان الرجال والنساء من أهالي الإسكندرية هم الذين ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها وكانوا يغنون بلعن الأميرال ومن أرسله».
59
وقال محمود فهمي باشا: «ورأيت في ذلك الوقت بعيني ما حدث من غيرة الأهالي بجهة رأس التين وأم كبيبة وطوابي باب العرب، وهمتهم في مساعدة عساكر الطوبجية من جلبهم المهمات والذخائر وخراطيش البارود والقذائف هم ونساؤهم وأولادهم وبناتهم والبعض من الأهالي صار يعمر المدافع ويضربها على الأسطول».
60
وقد وصف عرابي المعركة في مذكراته فقال: «أطلقت ألكسندرة مدفعها الأول في الساعة السابعة والدقيقة أربعة وكان مركزها في الطرف الشرقي من خط القتال موجهة نحو استحكامات رأس التين ...
وبعد ذلك بخمس دقائق بدت من جانب الأنفنسبل علامة الحمل العام على استحكامات الإسكندرية فأخذت السفن مونارك وبينلوب وألكسندرة وسلطان وسوبرب تطلق مدافعها على بطاريات رأس التين وطابية الفنار، فأجابتها القلاع بنار شديد حامية، وقد أصاب السفينة مونارك من أسباب الانقطاع عن إطلاق النار أكثر مما أصاب غيرها ...
وكانت السفن الثلاث ألكسندرة وسلطان وسوبرب تنتقل على التعاقب من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وتطلق مدافعها على الاستحكامات إطلاقا متواليا وتقدمت المدفعية سينت إلى جهة رأس التين وأخذت ترميها بالنار.
وكانت السفينة أنفلكسيبل تطلق مدافع أحد برجيها على رأس التين والآخر على حصن المكس وحذت حذوها المدرعة بينلوب وكذلك المدرعة تمرير.
ولقد أصاب طابية المكس نارا لا تبقي ولا تذر فتعطلت مدافعها ما عدا أربعة منها من العيار الأعظم؛ فقد ثابرت على رمي سفينة الأميرال «أنفنسيبل» وقد أحكمت مقذوفاتها إلى هذه السفينة جيدا، وفي الساعة العاشرة والنصف وقعت قنبلة على مخزون البارود الكائن في طابية المكس فأشعلته وكان لدوي التهابه صوت هائل.
ولما بلغت حالة القتال إلى هذه الدرجة عمد حصن مارابوت
61
إلى الاشتراك في الدفاع فوجه ناره على السفن الثلاث التي كانت مستقرة فيما داخل المضايق فانسلخت المدفعية كوندور عن المدرعة تمرير؛ لعدم احتياجاها إليها واندفعت نحو ذلك الحصن ترميه بنارها فاشتبك بينهما القتال شديدا، وفي الساعة العاشرة والنصف قدم لنجدتها السفن بيترن وبيكن ودكوى وسينت واستمرت على القتال حتى تعطلت مدافع الحصن المذكور ولم يبق منها غير مدفع واحد صالح للعمل ...
ثم اتجهت السفن الأربع المذكورة إلى ناحية الحصن واشتركت مع المدرعات في تدميره فتركته أثرا بعد عين، وكذلك تقدمت السفن ألكسندرة وسلطان وسوبرب على مسافة 700 متر من حصن فاروس وطابية أطه وأخذت في إطلاق مدافعها عليها غير غافلة عن رمي بطاريات رأس التين ببعض القنابل ...
وكان إسماعيل بك صبري في الطابية أطه يدير حركة القتال في الحصنين المذكورين فصب على السفن السابق ذكرها من لهيب ناره ما اضطرها إلى طلب النجدة من المدرعتين أنفلكسيبل وتمرير وأبلى في قتالها بلاء حسنا.
وفي نحو الساعة الثانية بعد الظهر اندفعت قنبلة من السفينة أنفلكسيبل نسفت مخزن البارود الكائن في حصن طابية أطه، وعند الساعة الرابعة خمدت نار الحصنين المذكورين إثر تخريبهما وتعطيل أسلحتهما واستشهاد رجالهما.
وفي الساعة الخامسة استأنفت المدرعتان مونارك وبينلوب إطلاق المدافع على حصن نابليون والاستحكامات الواقعة في داخل الميناء، وفي الساعة الخامسة والنصف انقطعت النار عن خط القتال بناء على أمر الأميرال» ...
وقال يصف المدافع المصرية: «ومن الأسف أن قاذفات المدافع القديمة كانت لا تصل إلى السفن الإنجليزية، ومدافع الأرمسترنج لم تكن لها المساطر التي بها تعرف المسافات وتحكم الإصابة بواسطتها اللهم إلا مسطرة واحدة كانت في محل التعليم بالعباسية «بالبوليجون» استحضرت ليلا وسلمت إلى الشهم المقدم سيف النصر بك قومندان طابية الفنار فكان يطلق المدافع بنفسه وينتقل من محل إلى آخر ويحكم الإصابة بواسطة المسطرة المذكورة، فكانت معظم المدرعات التي تعطلت، من جراء المقذوفات التي أحكم إطلاقها، ولو كانت مدافع الأرمسترنج كلها ذات مساطر لأمكنها تعطيل المدرعات الإنجليزية بما تقذفه من القاذفات الصائبة».
ووصف جون نينيه ما فعله الأدميرال العظيم في قوله: «وكان رجال المدفعية المصرية يطلقون قذائفها في إحكام وحماسة أدهشت خصومهم الذين ظل عملهم الجهنمي متواصلا عشر ساعات ونصف الساعة، دون أن يستطيعوا المباهاة بالنصر الحاسم، وكانت تغطي المدينة أثناء الضرب طبقات من الغبار والدخان وكان قصف المدافع يصم الآذان ... وكنا حين تبدد الرياح سحب الدخان نشاهد قذائف المدافع المصرية تسقط في البحر في منتصف المسافة بينها وبين سفن الأسطول، وقد أدى رماة مدافع أرمسترنج عملهم على خير ما يرجى وذلك على الرغم من أن مدافعهم كانت أقل عيارا من مثيلاتها من المدافع الإنجليزية وقد أصابوا سبع مدرعات إصابات بعضها خطير وبعضها ضئيل ...
وكانت سفن الأسطول تجري ها هنا وهنا ترمي قذائفها وهي على مسافة بعيدة فتصيب الشاطئ ولا تستهدف للخطر، وكانت كل قذيفة تزيد على المتر طولا وتزن 480 رطلا وتحتوى على 370 رطلا من البارود، وكان ثمن كل واحدة منها 70 جنيها، وسقطت أولى هذه القذائف الضخمة في قلعة رأس التين دون أن تنفجر فنظر إليها الجند والضباط، وقال أحد الضباط مشيرا إليها: هلم أيها الإخوان لتشهدوا مثلا من إنسانية إنجلترا، وقد أدى عبارته بلهجة تنم عن الذكاء والسخرية وضحك إخوانه جميعا، وواجهوا ما يلقى عليهم باسمين.
وكانت السفن الإنجليزية تسير مثنى مثنى في تؤدة وروعة تجاه كل طابية وتطلق عليها قذائفها حتى تدكها دكا، وبعد ذلك تقترب منها شيئا فشيئا، وتنسف ثم تفتك بالرجال فتكا ذريعا بنار المترليوزات المركبة في ساريات البوارج ...
ولا يسعنا أن نعترف بأنها كانت مجزرة وحشية لا موجب لها ولا مسوغ ولم يكن الباعث عليها إلا الشهوة الوحشية المتعطشة إلى الدماء، وكنت أتوق إلى أن أسال أولئك الذين كانوا يضربون ويطلقون مترليوزاتهم: هل يستطيعون حين يعودون إلى بلادهم ويتحلقون حول موائد الشاي في بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عما فعلته تلك المجازر البشرية من الفتك والتخريب؟ إني لفي شك من هذا، فأية إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر من مصر على هذه الصورة الفظيعة؟
ومع هذا فما كان أروع منظر الرماة المصريين الذين كانوا خلف مدافعهم المكشوفة، كأنما هم في استعراض حربي لا يخافون الموت الذي يحيط بهم، وكانت معظم الحصون بلا حواجز تقيها ولا متاريس، ومع هذا فقد كنا نلمح هؤلاء البواسل من أبناء النيل خلال الدخان الكثيف، كأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الموت؛ قد بعثوا ليناضلوا العدو ويواجهوا نيران مدافعه وكان القادة يزورون الحصون ويستحثون الرجال، ولقد أدى الجميع واجبهم رجالا ونساء كبارا وصغارا، ولم تكن ثمة أوسمة أو مكافآت تستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم، وإنما كانت تثير الحماسة في نفوسهم عاطفة الوطنية والثورة على ما استهدفوا له من فظائع، وهم في مواقفهم البواسل المجهولون الذين لم يفكر أحد فيما تحملوا من آلام ...
وقد بدأ نقل جثث القتلى منذ الساعة العاشرة صباحا، وظلت عربات النقل حتى هبط الليل تحمل الجثث من الحصون وتخترق المدينة إلى شارع محطة الرمل حيث المستشفى العسكري، وهناك كانت تدفن بعد المعاينة بغير احتفال في المقابر المجاورة للمستشفى ...
وكان الجرحى ينقلون إلى المستشفى على عربات النقل، وكان مما يؤلم النفوس حقا منظر تلك العربات تقل الواحدة عشرين أو ثلاثين قتيلا من الأهالي أو الجند وقد شدوا بالحبال على ألواح من الخشب فوق العربات، والدماء تقطر من أجسامهم ...
وكانت بعض الأمهات يحتضن أبناءهن وهم يلفظون أنفاسهم، وكانت النسوة يجرين جموعا خلف العربات نادبات صائحات، يلعن من كانوا سبب هذه المجازر ...
وكنت واقفا عند منعطف «الإجبسيان بار» فمرت أمامي عربتان تحملان جثث القتلى، ولمحني النسوة هناك فصحن مولولات واستنزلن علي اللعنات؛ إذ كن يلعن كل إنجليزي وكل أوربي، وصرخن في وجهي قائلات: «أتقتلون أبناءنا وتتفرجون على جثثهم؟ اقتلوا هذا، اقتلوه»، وكاد يحاط بي لولا أن رآني أحد رجال الأمن فأنقذني وعاد بي إلى داري، وقد قل رجال الحفظ ولم أعد أرى أوربيا واحدا في الشوارع والحارات؛ فقد خيم السكون الرهيب على هذه الشوارع التي كانت عامرة من قبل بالناس زاخرة بالحياة حتى غدت كأنما هي شوارع مدينة أودى بأهلها الوباء ...
وكانت الدكاكين والنوافذ والأبواب مغلقة في المدينة كلها، وخيل إلي أنني في بلدة محاها الخراب الأبدي، وكانت قذائف الأسطول الضخمة تنصب على المدينة وتخترق أحياءها في كل جهة، وكانت تدور فوق رؤوسنا وهي تدوي في صورة مفزعة، وكانت تدمر المنازل هنا، وتشعل النار هناك وترسل الموت إلى كل مكان ...
وقد مرت من فوق سطح المنزل الذي كنت أقيم به تجاه حمامات كارتوني بالقرب من محطة الرمل خمس قذائف من رسائل «الإنسانية الغربية» على حد تعبير أحد الضباط، وأصابت إحداها مدرسة فدمرتها، وأصابت ثلاث بعض قصور الأغنياء على مقربة من شارع باب شرقي فهدمتها، وقتلت الخامسة 11 شخصا وجوادين بأول شارع محرم بك، ولم يقابل هذه القذائف الفتاكة شيء من جانب المصريين؛ فقد رأى عرابي منعا للخراب ألا تشترك قلعتا كوم الناضورة وكوم الدكة في الضرب لوجودهما وسط المدينة ...
وكنت أرى بمنظاري المقرب على بعد 1800 متر على الأكثر طابية قايتباي أو ما تسمى قلعة فاروس، قائمة بالمينا الشرقي في أقصى حاجز الأمواج الأبيض، وكانت هذه القلعة رائعة المنظر ببنائها الضخم وبروزها على صخرة تحيط بها أمواج البحر ومخاطره في ذلك البساط الأزرق من مياه البحر الأبيض المتوسط على صورة تنجذب إليها المشاعر ... وكان يزينها مسجد بني منذ سنة 1450 للميلاد، تعلوه منارة تعد من بدائع الفن العربي ومن تحفه، مزدانة بالنقوش العربية الجميلة التي يقدرها أصحاب الفنون ... وكانت هذه القلعة هدفا لضرب شديد استمر منذ شروق الشمس حتى تخربت بين الساعة 11 ووقت الظهر ... وكم كانت دهشتي إذ رأيت في نحو الساعة الرابعة مساء سفينتين شامختين من سفن الإنجليز ترابط غربي القلعة وتقذف نيرانها من جديد على هذا البناء الذي هوت معظم مدافعه وانقلبت على الأرض ...
ولكن الإنجليز الذين ضربوا قلعة برج السلسلة وقلعة كوم الدكة ولم تشتركا في الدفاع، قد أرادوا كما يبدو لي هدم هذا المسجد الجميل.
ولم يسكت المصريون تلقاء هذه الوحشية فأطلقوا بعض القذائف من مدفعين كانا لا يزالان قائمين في الجهة الغربية الشمالية من القلعة ... ولكن قذائفهم لم تجدهم شيئا؛ إذ قد انصبت عليهم القذائف الهائلة من السفن، وقد أحصيت بنفسي اثنتين وثلاثين من هذه القذائف تصوب إلى هذا البناء الأعزل الجميل وقد طاش نصفها فلم يصب الهدف تماما، وكانت معظم القذائف تصيب الصخور فتنسفها وتذريها في الهواء، ثم إذا بها تنصب في الماء وتنبعث ثانية في دوي هائل فتبعث في الهواء عمودا من الماء كأنه إعصار بحري لا يقل ارتفاعه عن 60 قدما ألا ما أشد روعة هذا المنظر ...!
وهوى المسجد الصغير المسكين في منتصف الساعة 6 مساء وقد تهدم كله ووقعت أنقاضه على 12 جريحا كانوا يأوون إليه فدفنوا تحت أنقاضه ...
ولقد شاهدت بمنظاري أولئك الجرحى التعساء وهم يأوون إلى المسجد حيث ماتوا، ولم يكن في الإمكان نقلهم إلى المستشفى العسكري تجاه برج السلسلة؛ إذ كانت قذائف المترليوزات المعدة للإجهاز على الجرحى تنصب منذ الصباح متصلة كالمطر فتمنع الصلة بين القلعة والأرض اليابسة على الرصيف الضيق الذي يصلها بالمدينة ...
وانفجر مخزن البارود في قلعة الأطه بعد الظهر بوقت قصير فسكتت مدافع هذه القلعة التي امتازت بقوتها في الدفاع ...
ووقف الضرب من جانب الأسطول في نحو الساعة السادسة مساء، وقد بث الأدميرال سيمور الموت والدمار في أنحاء المدينة وهو الذي تعهد ألا يضرب إلا القلاع، ورأيت النيران تندلع ألسنتها في جهات كثيرة دون أن يقوى أحد على إخمادها».
هذا ما ذكره جون نينيه السويسري المحايد الذي شهد الحوادث بنفسه، وأهم ما جاء في كلامه شهادته ببسالة المدافعين وقوة روحهم المعنوية على الرغم من تفوق عدوهم عليهم في عتاده، ثم تقريره أن القذائف كانت تنصب على المدينة ذاتها وأنها أحدثت بعض الحرائق، ولهذا القول أهميته؛ لأن الإنجليز الذين دبروا من قبل مذبحة الإسكندرية وألصقوها بعرابي وحزبه قد أحرقت قذائفهم المدينة اليوم فعادوا يتهمون بالحريق كذلك عرابي ورجاله! •••
اشتد ذعر الناس حين سمعوا المدافع ترعد وترسل صواعقها المدمرة على المدينة ولم يكن لهم عهد بمثل ذلك من قبل، وتعاظم الفزع حين سرت الشائعات بين الناس بما حدث من دمار وفتك، وحين رأوا العربات تحمل جثث القتلى والجرحى، ورأوا سحب الدخان من المنازل والأبنية المحترقة تدفعها الرياح في تلك الأحوال، على أن الهول في ذاته كان يغني عن التهويل، فحسب الناس أن تتساقط القذائف عليهم من السماء فتدمر بيوتهم تدميرا ...
لذلك لاذ الناس بالهجرة فهرولوا جموعا إلى المحطة وتزاحموا على القطارات التي أعدت لنقلهم بالمجان، ولم يتحمل كثيرون منهم التزاحم على القطارات فخرجوا من أبواب المدينة إلى حيث يبتعدون عنها فحسب لا يدرون أين يذهبون ولا يقعد بهم التعب من المشي عن طلب النجاة من الهول حتى نزلوا بالقرى والبنادر، وبلغت أفواج منهم القاهرة في حالة تبعث على الرثاء وتطلق عصى الدمع.
وقد وصف الشيخ محمد عبده هذه الهجرة وكان مع عرابي بالمدينة يوم الضرب فقال: «نحو مائة وخمسين ألفا من السكان مجردين من كل شيء أخذوا في الحركة لغير قصد ولا لمأوى، الموت والفزع ملء نفوسهم على شواطئ المحمودية إلى دمنهور وجسر السكة الحديد من دمنهور إلى القاهرة.
كانت المهاجرة تكون خطوطا سوداء تارة عريضة وأخرى رقيقة، متحركة في كل جهة، أشبه بسلسلة إنسانية طويلة، هنا ينزلون، هناك يمشون ببطء، لا وقاية ولا رعاية ... على طرفي تضاد مع سماء صافية وأرض خضرة نضرة.
أما الهاربون فكانوا كالأعاصير أو كالماء انكسر سده فاندلق، يتصل بعضهم ببعض مزدحمين متراكمين، في حالة عقلية أشبه بالجنون سائقين أمامهم أو حاملين على ظهورهم ما خف حمله من أمتعتهم: حيوان، أثاث ضئيل، ثياب رثة، حتى بعض المفروشات التي لا قيمة لها.
في هذه الحالة - حالة شعب طرد من بيته - كان الحر شديدا، وغيم من الغبار سد الأفق، وأظلم الجو، نساء يبحثن عن أولادهن، يتشاجرون بعضهن مع بعض، يتضاربن في أخلاط لا يمكن التعبير عنها، عربات بلا عجل استعملت مساكن، عربات من كل نوع، بعضها ساقط في المحمودية، بعضها مقلوب، بعضها بالخيل وبعضها بغير خيل، رائحة شواء اللحم، صياح على المارة: الخبز! الخبز!»
62
على أن بني مصر قد أحسنوا إيواء المهاجرين، وجادوا بالتبرعات أينما نزل فريق منهم، وظهرت في أجمل مظهر عواطف الوطنية المصرية في القاهرة وفي القرى، وعنيت الحكومة بأمر المهاجرين، فأسكنتهم في القاهرة مدرسة المبتديان بالناصرية، وأمدتهم بما يحتاجون إليه من مأكل وملبس ... •••
في اليوم التالي عاودت الأدميرال العظيم رغبة في الضرب، وقد أسكرته لذة النصر على تلك الحصون البالية كأنما هدمت مدافعه قلاعا اشتد خطرها عليه فأحس ما يحسه الأبطال من نشوة بعد خوض الشدائد.
وعادت مدافعه تضرب المدينة في الساعة العاشرة، وأرسلت قذائفها على طابية قايتباي وطابية الأسبتالية.
وكان مجلس الوزراء قد اجتمع في اليوم السابق للنظر في الأمر برئاسة الخديو وحضره عرابي باشا، وبعد أن تداول الوزراء والخديو قرر المجلس الاتصال بالأدميرال وإبلاغه أن ما كان يطلبه قد تحقق له بضرب الحصون فلا داعي بعد ذلك للضرب وانفض المجلس على أن ترفع في الغد الراية البيضاء وهي راية طلب الهدنة للمفاوضة.
ورفعت الراية البيضاء على بعض الحصون وعلى وزارة الحربية، فتوقف الضرب وذهب طلبة باشا يصحبه ترجمان فصعد إلى ظهر اليخت الخديو «المحروسة» وهناك التقى بمندوب من قبل سيمور ... فسأله عما يريد من رفع الراية البيضاء، فأبلغه طلبه قرار مجلس الوزراء، فأجاب المندوب في صلف وسماجة بأن الأدميرال يطلب الترخيص له بإنزال جند من بحارة السفن لاحتلال ثلاث قلاع هي: العجمي، والدخيلة، والمكس، فإن لم يأته الرد في الساعة الثانية بعد الظهر استأنف الضرب ...
وهكذا يأبى الأدميرال العظيم أن يتكلم إلا بلسان مدافعه، فليس الأمر أمر تفاهم وإنما هو أمر قوي يملي إرادته على ضعيف لا يملك له دفعا ...
وطلب عصمت باشا أن يطيل الأدميرال ما تفضل به من مهلة؛ ليستطيع أن يبلغ الخديو رده ويعود إليه ... ولكن سيمور رفض هذا الطلب ...
وذهب طلبة باشا فعرض الأمر على الخديو، واجتمع لدى الخديو مجلس ضم الوزراء والكبراء ممن تصادف حضورهم واتفق رأي الحاضرين على أنه لا يجوز لمصر أن تسمح بنزول جنود أجنبية إلى البر، وذهب وفد برئاسة طلبة باشا يبلغ سيمور هذا القرار ...
ولكن الوفد لم يجد أحدا يتصل به؛ إذ عاد مندوب سيمور إلى السفن، وأمر سيمور في نحو الساعة الرابعة باستئناف الضرب فأرسلت أنفنسبل قذيفة واحدة على قلعة المكس، فلم تجاوب القلعة، ثم رفعت الراية البيضاء ثانية على بعض الطوابي، فوقف الضرب، وظلت السفن في موقف القتال حتى الساعة السادسة مساء وأرسل سيمور سفينة إلى الميناء وبها مندوب من قبله فلم يجد المندوب أحدا يتفاوض معه، فعاد ينبئ الأدميرال أن المدينة تبدو وكأن ليس بها أحد ... •••
بلغ عدد الضحايا من المصريين في الإسكندرية نحو ألفين غير من جرحوا، أما الإنجليز فلم يزد قتلاهم عن خمسة وجرحاهم عن تسعة عشر، وقد ذكر عرابي أنه استشهد من رجال الطوابي وحدهم مائة رجل، وقتل هناك امرأتان من المتطوعات كانتا تعنيان بالجرحى ...
أما السفن الإنجليزية، فقد أصيبت أنفنسبل ثلاث عشرة إصابة عطلت ست الأجزاء غير المدرعة منها وجرحت واحدة ستة رجال، وأصيبت سلطان بثلاث وعشرين ضربة وأتلفت سواريها ومدخنتها، واخترقت قذيفتان جدرانها غير المدرعة وتعطلت الزوارق الملحقة بأنفلكسبل، واخترقت قذيفتان درع سوبرب ومدخنتها وقد أصيبت عشر مرات وعطل في بنلوب أحد مدافعها، ولحق ضرر حفيف بألكسندرة على الرغم من أنها أصيبت ثلاثين مرة وعطل مدفعان من مدافعها ... •••
وأما المدينة التي كانت تراوحها نسائم البحر الندية وتغاديها، فقد اندلعت فيها ألسنة النيران في صورة مروعة كأن الجحيم تزفر عليها بنارها، وقد لبثت النار بها بضعة أيام، وظلت سحب الدخان تتراكم وتنعقد فوق شوارعها الموحشة المتهدمة وخيمت الكآبة على الثغر الذي ماتت بسمته أياما طويلة نتيجة لعدوان سيمور ...
ولقد ذهبت الآراء عدة مذاهب بشأن هذا الحريق، وقد حاول الإنجليز أن يعزوه إلى عرابي كما عزوا إليه من قبل مذبحة الإسكندرية التي اقترفوها، على أن التحقيق فيما بعد قد برأه منها كما برأه من مذبحة الإسكندرية كما سيأتي بيانه في موضعه ...
وذهب جون نينيه إلى أن النيران كانت من فعل قذائف الأسطول، قال عن اليوم الأول: «رأيت في ذلك الصباح عددا كبيرا من القذائف يمر فوق داري، وسقطت بعض القذائف من ذات الحجم الأكبر تحمل اسم «الإسكندرية» في الدار المجاورة لداري، وقد قتلت القذيفة الثالثة من القذائف التي مرت فوق داري أحد عشر رجلا وجوادين عند باب محرم بك، وهدمت وحرقت بيوت كثيرة ومبان في كل ناحية بفعل قذائف السفن».
وقال عن اليوم الثاني: «كان عدد من قبيلة أولاد علي ينهبون دكاكين المدينة وقد دخلوا إليها من ناحية القباري أو باب عمود بمبي، وقد رأيت كثيرين منهم قد قبض عليهم وصودر ما يحملون بأمر من سليمان بك سامي أثناء محاولتهم الهرب من المدينة بمنهوباتهم، وكان عرابي باشا قد أمر قبل مغادرته المدينة بإغلاق هذا الباب لحراسة الشوارع الرئيسية وحفظ النظام فيها، كما أنه ترك فرقتين من الاحتياطي ...
وكان طلبة باشا في الرمل بعد الظهر يفاوض الخديو، وكنت طوال ذلك الوقت في حجرة ميس الضباط قرب باب رشيد! وكان هناك كثير من الباشوات، منهم: محمود سامي البارودي، ومحمود فهمي باشا، وقد غادرت المدينة معهم وعدد من الأطباء والضباط عند الساعة السادسة لألحق بالجيش ... وبعد أن غادرت المدينة حملت الريح الدخان إلى حيث كنا وكانت المدينة تحترق في عدة جهات، ولم يكن في المدينة نار حين غادرناها، ولم يشعل الجند نارا بالمدينة، بل لقد بذلوا كل ما في وسعهم لمنع امتداد النيران التي سببها الضرب ... ومن الممكن أن يكون بعض جنود الفرقتين اللتين تركتا بالمدينة قد شاركوا البدو في النهب، وكان هذا مخالفا بالضرورة لأوامر عرابي باشا والضباط ... وأستطيع أن أؤكد أنه لم يخطر ببال عرابي باشا أو أحد من الضباط بأي حال أن مدينة الإسكندرية ستحرق بأيدي البدو أو غيرهم، وإني أعلم أن عرابي ومن كان معه من الضباط أظهروا أسفهم ودهشتهم عند رؤية المدينة تحترق عقب مغادرتهم إياها، وعبروا عن أملهم في أن يبذل ذو الفقار باشا - محافظ المدينة ومن أكبر أصدقاء الخديو - ما في وسعه لإخماد النار وإعادة النظام».
63
ويقول نينيه في موطن آخر من كتابه: «عرابي باشا» أن عدة عناصر اشتركت في هذا الحريق، منها بعض الأوربيين الذين بقوا في المدينة بقصد النهب، ومنها بعض الأروام والمالطيين من أصحاب الدكاكين؛ كي يطلبوا بعد ذلك تعويضا كبيرا ومنها بعض البدو من قبيلة أولاد علي، وبعض عساكر الرديف، وبعض الأشقياء الذين أخرجوا من سجن الترسانة ...
ويقول الشيخ محمد عبده: «بين من حرقوا الإسكندرية أروام بلباس عرب رؤيت جثثهم بتلك الثياب أثناء الحريق، ومنهم عربان من أولاد علي ممن كانوا على صلة بالخديو، ومنهم من أهالي الإسكندرية، ومنهم أوربيون بقصد المبالغة في التعويضات وذلك بعد أن أخليت الإسكندرية ممن يخشى عليهم».
64
وهناك من يذهب إلى أن سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس هو الذي أمر جنوده بإضرام النار في المدينة كعمل يقتضيه الدفاع إذا أراد به أن يعرقل نزول الإنجليز إلى المدينة، أو لعله فعل ذلك بدافع الحمق والغيظ من عزم الإنجليز على دخول المدينة، ولقد شهد عليه كثيرون أثناء المحاكمة، وكانت أقواله هو دليلا عليه؛ ففيها ما يشبه الاعتراف، وخاصة اتهامه لعرابي بأنه هو الآمر بحرق المدينة؛ ليتنصل هو من التبعة، يتبين ذلك في مثل قوله: (س1)
هل كان عرابي أعطاك أمرا بالكتابة بحرق المدينة؟ (ج1)
أمرني شفويا ... (س2)
هل يجوز في قانون الجهادية حرق مدينة بناء على أمر شفوي؟ (ج2)
لا يجوز ... وأنا لم أفعل سوى إبلاغ ما نبه به «ثم قال: إنه ليس متحققا إن كان القانون يجيز ذلك أم لا».
65
على أن عرابي في مذكراته يعقب على أقوال سليمان سامي في التحقيق بقوله: «الحقيقة أن سليمان بك سامي لما شاهد هول تأثير مقذوفات سفن الإنجليز حدث له هلع وطيش أثر على مخيلته فصار يتحفز ويميل لعمل غير العقلاء، فبدرت منه كلمات تدل على جنونه كقوله: احرق واضرب يا ولد. في حالة هياجه، وقوله: إني أمرته لكل ما يتخيله في مخيلته، ولكن أجمعت الشهود على أنه لم يفعل من ذلك شيئا، وأنه خرج بآلايه من المدينة قبل الغروب، وأنه ترك المنشية وخرج إلى باب شرقي الساعة 11 عربي ولم يعد إليها، وأن الحريق لم يبتدئ إلا بعد الغروب وبعد خروج العساكر من المدينة كشهادة سعد بك أبو جبل وعلي بك داود وغيرهم، وأن الحريق لم يكن إلا من أوباش الخدم والبدو وغيرهم من الأوربيين والفقراء الذين تخلفوا في مدينة الإسكندرية؛ ليحصلوا على شيء من الصيد والغنيمة، ولذلك لم يقل أحد بأنه رأى سليمان سامي يفعل الحريق بنفسه ولا بغيره، وعلى ذلك يكون سليمان سامي ذهب شهيد طيشه وغضبه والحساب على الله.
وثمة رأي على أعظم جانب من الخطورة، وذلك أن سليمان سامي كان متواطئا وأنه أحرق المدينة بأمره، وقد صرح بهذا الرأي في مجلس العموم الإنجليزي اللورد تشرشل في حملته على وزارة جلادستون سنة 1882 بعد إعدام سليمان سامي، قال صابونجي فيما أورده من كلام تشرشل: إن هذا ذكر في المجلس قوله: «إن الخديو الذي كان يرغب في الذهاب إلى الإسكندرية يوم الأحد ما استساغ الدخول إليها قبل موت سليمان سامي لكي لا يرى بعينيه شنق الرجل الذي أحرق الإسكندرية بأمره وطاعته. «فلما قال اللورد تشرشل هذا الكلام قامت في البرلمان ضجة أعقبتها دهشة» ثم قال الورد تشرشل: «إن الأمر الصادر بحرق الإسكندرية كان مختوما عليه من الخديو نفسه، وأنا أطلب للميدان كل وزراء الحكومة الجلادستونية إذا كان فيهم من يتجرأ على أن ينكر هذه الحقيقة، وإني أقول علنا أن مستر جلادستون ووزراءه وأحزابه قد ارتكبوا جناية من أقبح الجنايات في قتل سليمان داود، وأن دم هذا الرجل على رأس مستر جلادستون وشركائه إلى الأبد وهم المطالبون به».
66
ومما ذكره تشرشل فيما أورده صابونجي أن الحكومة الإنجليزية عجلت بشنق سليمان سامي قبل أن يبوح بأسرار خطيرة تدين الخديو؛ وذلك لأن محاميه طلب بدء التحقيق من جديد، ومواجهته بمن شهدوا عليه ...
ومهما يكن من الأمر، فمن الخطأ أن يرد الحريق إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرت، والمعقول أن تسببه هذه العناصر جميعا، وخاصة قذائف الأسطول وطيش سليمان سامي.
غادر عرابي الإسكندرية على رأس حاميتها، فلندعه الآن ولننظر ماذا كان من أمر توفيق منذ أن أوى إلى قصر الرمل ...
كان مما تحرص عليه الحكومة الإنجليزية أن يظل الخديو منحازا إليها لتمشي عند الحرب بالتفرقة بين الأمة؛ لأن من أكبر المخاطر عليها أن تكون الأمة صفا واحدا حتى ولو غلبت على أمرها؛ لأن إنجلترا في مثل ذلك الوضع لا تستطيع أن تضرب فريقا بفريق كما تفعل في الأمم التي تستطيع أن تجعل منها معسكرين أو أكثر.
ويدلنا على اهتمام الإنجليز بهذا الأمر هذه البرقية التي وصلت من جرانفل إلى كارتريت في اليوم الثاني عشر من يوليو، أي في اليوم الثاني للاعتداء، قال جرانفل: «رأيت أن أرسل إليك هذا لتعمل مع الأدميرال السير ب. سيمور على بذل ما يمكن من المحاولات لاستحضار أنباء بشأن الخديو فإن حكومة جلالة الملكة تحس كثيرا من القلق من جراء الاهتمام بسلامته ويشاركها أهل هذه البلاد» ...
وكان الخديو كما ذكر نينيه يهرول إلى سطح القصر بين حين وحين في اليوم الأول يستطلع أنباء القتال، وكان يخشى جانب الجيش أشد الخوف لما يعرف عنه بينهم من أنه في جانب الإنجليز، وقد نمى إلى علمه أن عديدا من عرب البحيرة بلغ نحو خمسمائة جاءوا في اليوم الثاني للضرب إلى مكان قريب من قصره، فلما سئلوا عن سبب مجيئهم قالوا: إنهم جاءوا لنجدة الخديو فهم عبيده وخدمه، ثم لم يقف لهم أحد على أثر بعد ذلك.
على أن هناك رواية مؤداها أن سليمان سامي قد أرسل إلى القصر في نفس اليوم نحو أربعمائة من الفرسان بقيادة البكباشي محمود منيب وكتيبة من المشاة، وأحاط هؤلاء بالسراي، فأوجس الخديو خيفة وأرسل يسأل القائد عن سبب وجود هؤلاء الجنود، فأجاب بأنهم جاءوا لحماية الخديو والمحافظة على السراي.
وذهب بعض رجال السراي يذيعون في أنحائها أنهم سمعوا من البكباشي منيب أن هؤلاء الجند جاءوا للقبض على الخديو وإرساله إلى القاهرة.
وذكر طلبة باشا في محضر استجوابه أثناء المحاكمة أن وفدا جاء من قبل الخديو لمقابلة عرابي، وأخبرهم عرابي أنه لا يعلم بما حدث وأرسل طلبة باشا لرفع هذا الحصار فرفعه، ويقول طلبة: إنه قابل الخديو فقال له: «لماذا أحضرتم هؤلاء العساكر وحاصرتم السراي بهم، هل أنتم خائفون أن أهرب؟»
ويقول: إنه بعد عودته من السراي قابل عرابي وسأله عمن أمر بهذا العمل، فأجابه بأن سليمان سامي هو الذي أصدر هذا الأمر.
67
ويقول عرابي في مذكراته: «وفي صباح يوم 12 يوليو جاءنا رسول من قبل الخديو يدعونا إليه، فتوجهنا مع راغب باشا؛ تلبية لدعوة الخديو، وكان في الرمل، فأبلغنا بأنه قد حضر نفر من العسكر إلى السراي، وسألني عن سبب حضورهم، فأجبته بأن لا علم لي بذلك، ولعلهم حضروا لتقوية الحرس، فقال: لا لزوم لذلك؛ فإن فرقة الفرسان الموجودة هنا كافية، فاصدر أمرا برجوعهم إلى مكانهم، فتوجهت إلى القشلاق ووجدت أربعة بلوكات من آلاي سليمان بك سامي ومعهم الصاغ علي أفندي أبو غنيمة - أو هشيمة - فسألته عن سبب حضوره مع العساكر إلى سراي الخديو؟ فقال: إن حكمدار الآلاي سليمان بك سامي أمره بذلك، فحضر لتقوية الحرس الخديو، فأمرته بالعودة إلى آلايه مع عساكره لعدم لزوم تلك القوة».
وسواء كانت رواية طلبة أو رواية عرابي هي الصحيحة، وقد تكونا صحيحتين معا، فإن ما يستخلص منهما أن سليمان هو الذي فعل هذا، ولقد كان سليمان من أكبر المتحمسين الساخطين على الخديو وعلى الإنجليز ...
وفي اليوم الثالث عشر شاور الخديو من كان معه من الأمراء والكبراء ماذا يعمل إزاء احتلال الإنجليز مدينة الإسكندرية، فلم يرض أحد أن يبقى بها وأشار عليه درويش بالسفر إلى بنها ثم إلى السويس، وأشار غيره بالذهاب إلى العاصمة، فما يليق بحاكم البلاد أن يظل مقيما في بلد وقعت في يد أعدائه.
ولكن هؤلاء كانوا يشيرون بذلك، على أساس أن الخديو لا ينتوي شيئا ...
ولكن الخديو فاجأهم بقوله: «إن أهم الأمور أن نجعل الأميرال سيمور على علم بأمرنا إذا أمكن لنا ذلك.
68
ويبدو أن الخديو ذهب بنفسه إلى الميناء على ظهر يخت درويش باشا في اليوم الثالث عشر من يوليو؛ فقد أرسل سيمور في هذا التاريخ برقية قصيرة نصها:
علمت أن الخديو ودرويش باشا سالمان على ظهر سفينة في الميناء.
69
والذي نلاحظه أن الكتاب الأزرق حريص كل الحرص على أن يقتصد ما أمكن في ذكر حركات الخديو وخاصة ما يظهر نياته الحقيقية نحو الاحتلال ...
وفي اليوم الرابع عشر أبرق سيمور برقية جاء فيها: «لقد أحتلت رأس التين ووضعنا فيها بحارة ومدفعية كما وضعنا ست بطاريات تواجهها، لا تزال الإسكندرية تحترق، ولكني أرفع الأنقاض من الشوارع، والخديو سالم في قصره يحرسه 700 من البحارة».
70
والواقع أن الخديو آثر أن يخطو الخطوة الأخيرة، وقد اطمأن إلى قوة الإنجليز فانضم إليهم صراحة، ونأى بجانبه عن السلطان ومندوب السلطان، أما المصريون وقادة الحركة الوطنية فما كان يعترف بهم في يوم ما.
أرسل الخديو إلى سيمور رسولا يخبره أنه اعتزم الحضور إلى سراي رأس التين ومعنى ذلك أنه اعتزم أن يكون في رعاية الإنجليز وحمايتهم وأنه اختار لنفسه ما يحلو له ...
قال بلنت يتحدث عن حصار قصر الرمل: «كان ذلك في الواقع لكي يبقى توفيق تحت المراقبة وبقصد أن يرسل إليه عرابي أنه نظرا لأن سيمور يهدد بإعادة الضرب فإنه يرى أن يسحب الحامية، ويدعو الخديو إلى أن يبتعد معهم عن مرمى مدافع الإنجليز ومن ثم يذهب إلى القاهرة ... وكان يجب على عرابي بغير شك أن يذهب بنفسه مرة ثانية ليرى أن هذه الدعوة لم تهمل لأي عذر من الأعذار، وأن يحمل معه توفيق بالقوة أسيرا إذا لزم الأمر، فإن مثل باي تونس كان أمامه، وكان لديه مما جربه بنفسه من أساليب الخديو ما يكفي لأن يجعل من المستحيل أن يكل شيئا إلى شرفه ... ولقد كان إهمال عرابي هذا الأمر من الأخطاء الجسيمة.
على أن عرابي كان مشغولا في الصباح بحركة إخلاء المدينة من الجند، بحيث لم يكن لديه وقت ليذهب ثانية إلى الرمل، وتمكن الخديو بعد الظهر بما بذل من «بقشيش» - كما أخبر بذلك أصدقاؤه الإنجليز - أن يفلت من حرسه إلى الإسكندرية في نفس القطار الذي أرسل ليحمله إلى القاهرة وهناك وضع نفسه صراحة تحت حماية سيمور! وقد أخذ معه جميع من كانوا في القطار بما في ذلك درويش والوزراء، وبذلك أظهرهم إلى حد ما شركاء له في خيانته».
ويؤيد كلام بلنت برقية من كارتريت في اليوم الثالث عشر من يوليو جاء فيها: «عاد الخديو من الرمل إلى الإسكندرية في الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم بعد أن ضمن ولاء الحرس والجند والفرسان الذين تركهم عرابي لمراقبته».
71
وأرى أن إشارة بلنت إلى «البقشيش» وإشارة كارتريت إلى ضمان ولاء الحرس تلقي ضوءا عل الرواية القائلة بأن البكباشي منيب انشق ومعه نحو 250 من الجند الذين أرسلهم سليمان سامي، وأعلن ولاءه للخديو وأقسم أنه وجنوده يموتون بين يديه إذا دعت الضرورة
72
ولئن صحت هذه الرواية، رأينا في هذا العمل أولى بوادر الانقسام وأولى خطوات الهزيمة في الجيش المصري.
وبلغ الخديو السراي في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 13 يوليو فإذا الحرس ببابها من جنود البحرية البريطانيين وإذا بالأدميرال سيمور يتلقاه في ساحتها يحيط به عدد من كبار رجاله، ولقد هنأوا الخديو بسلامته، ودخل توفيق القصر ومن هناك سوف يعود إلى عاصمة بلاده في حماية جيش الاحتلال، فيتلقاه في قصره الثاني قواد الاحتلال مهنئين بسلامة الوصول كما استقبله في الإسكندرية سيمور ...
وهكذا نرى الأمة من أول الأمر فريقين: أولياء الاحتلال وعلى رأسهم الخديو ونفر ضئيل من المصريين، والمجاهدين الأحرار يقودهم عرابي ومن ورائهم الأمة المصرية كبراؤها وعلماؤها وفلاحوها ... ونعود فنكرر القول: إن موقف الخديو هذا سوف يكون أقوى عامل في نجاح الإنجليز ...
وبعد فهذه قصة العدوان الغادر على مصر، قصة البغي الأكبر على بلاد كل ذنبها أنها تطالب بالحرية، والحكم الدستوري أسوة بأوربا المتمدنة، ومن أعظم الأمور إثارة للنفوس وأدعاها إلى الكفر بمدنية الغرب ومبادئه أن يأتي هذا العدوان على يد رجل مثل جلادستون ... بيد أن المطامع الاستعمارية وإقامة صرح الإمبراطورية شيء، ومبادئ القومية والحرية شيء آخر! ولكن متى يفهم ذلك المغترون بضلال أوربا؟
على أن الحرية لا تعدم أنصارا حتى في أحلك الساعات وإن لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا؛ فقد استقال مستنكرا الضرب المستر جون برايت أحد أعضاء وزارة جلادستون؛ لأن ضميره وذمته لم يتسعا لهذا العدوان الذي وصفه بأنه «انتهاك صارخ للقانون الدولي ومبادئ الأخلاق».
ولقد احتج أحد نواب الأحرار على العدوان في الثاني عشر من يوليو بمجلس العموم قائلا: «إنه شناعة دولية وعمل ينطوي على القسوة والجبن والإجرام».
ويقول روثستين في كتابه المسألة المصرية: «يا له من تدهور في عالم الشهرة والمبدأ مؤلم للنفس وقد يكون أشد مما شاهدناه في أيامنا مدة حرب البوير».
وقال كذلك: «إن إنجلترا قد خرقت حرمة القانون الدولي وأتت أمرا همجيا لم يسبق له مثيل، أمرا لو صدر من دولة أضعف منها لحوسبت عليه حسابا عسيرا» ... •••
وإنه ليحلو لبعض الكتاب والمؤرخين أن يعيبوا على عرابي وأنصاره أنهم تركوا حصون الإسكندرية ضعيفة فلم تستطع مقاومة السفن الإنجليزية بسبب ذلك ، ولا ندري كيف يلقون هذا القول ولا يتذكرون أنه طالما كان الخديو في صف الإنجليز والفرنسيين منذ حضرت سفن الدولتين، لم يكن في وسع الوطنيين عمل شيء، ولقد قبل الخديو المذكرة المشتركة وقبل استقالة الوزارة الوطنية بمجرد أن واتاه شيء من القوة ...
ألا فليعلم هؤلاء العائبون أن الخلاف الداخلي الذي فصلنا قضيته كان سبب كل ضعف، وماذا عسى أن يصنع حزب وطني في البلاد يخاصمه الخديو من أجل تمسكه بالحكم المطلق ورغبته في القضاء على الدستور؟
هل كانت تستطيع وزارة البارودي أن تعد العدة لمحاربة إنجلترا والخديو الذي يملك حق إبعادها عن كراسيها في صف الإنجليز؟
على أن عرابي قد بذل في وزارته جهدا محمودا في إصلاح الحصون ولولا إسقاط وزارة البارودي لكان يرجى أن يسير في هذه السبيل حتى يتم ما بدأه.
73
لقد قامت القيامة وأنذر الإنجليز الدنيا بالويل لنبأ من مفترياتهم هم، ألا وهو ما زعموه من تحصين في قلاع الإسكندرية واتخذوا من ذلك وسيلة لإنذارهم مصر ثم الاعتداء عليها، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يقال: إن الوزارة ملومة لأنها لم تقو الحصون؟ •••
فإذا أضفنا إلى ذلك أن عمل إنجلترا كان مفاجئا لا لمصر وحدها لكن للمؤتمر الدولي القائم في الآستانة تبين لنا مبلغ ما في هذا اللوم من ضعف وسخف ...
على أن الوطنيين قد جاهدوا في الوطن حق جهاده وأبوا أن يسلموا بما طلبت إنجلترا إلا مكرهين، ولم يفروا أو يتخاذلوا من ضعف أو مباغتة ...
والأن بعد أن أقدمت إنجلترا على عملها الإجرامي المعدوم النظير، وبعد أن ألقى الخديو بنفسه في أحضانهم، ستجاهد الأمة المصرية أصدق الجهاد، وستعد ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل، وستبدو وطنيتها وحميتها قوية رائعة على الرغم من قعود نفر من بنيها من الإمعات والمستضعفين والطامعين ...
عرابي بطل الجهاد
رأى عرابي نية الخديو قبل عودته إلى رأس التين، وإنه ليعلم ما يكنه توفيق في نفسه للحركة القومية منذ يوم عابدين ...
لذلك أيقن عرابي وأصحابه أن الحرب غدت أمرا محتما بين الأمة المصرية وبين إنجلترا، ورأوا أن الإسكندرية لا تصلح ميدانا للقتال، وأن الدفاع عنها بعد تحطيم حصون الشواطئ مستحيل، وهو أكثر استحالة بعد انضمام توفيق إلى الإنجليز ...
وكان الخديو يأمل أن يدافع عرابي زمنا عن قلعة العجمي، وبذلك يستطيع الإنجليز أن ينزلوا جندا يقطعون عليه الطريق ويأسرونه في الإسكندرية، يقول بلنت في ذلك: «لقد كان جيشه جيشا مكسورا، ولو أنه لم يفقد روحه المعنوية إلا أنه كان من السهل أن يصل إلى ذلك لو أن قوة صغيرة نزلت من السفن واستولت على السكة الحديد وقطعت طريق ارتداده، ولقد كان من المؤكد في خطة الإنجليز أنهم كانوا يريدون تطويق عرابي إذا أمكن، وربما كانت تلك الحمية التي بدت في الدفاع على غير ما كان منتظرا، أو كانت خدعة الراية البيضاء هي التي حالت بين سيمور وبين إنزال جنده».
1
ولذلك حنق توفيق على عرابي لانسحابه، ولم يكن مبعث حنقه أنه ترك المدينة بغير دفاع كما سيزعم عند الضرورة، قال عرابي في تقريره الذي كتبه إلى محاميه المستر برودلي في السجن: «أصدر الخديو أمره في مجلس الوزراء إلى جنودنا ليحتلوا قلعة العجمي ويمنعوا نزول الجنود البريطانية، فأفهمت سموه أن المشاة لا يستطيعون ذلك؛ لأنهم يتعرضون بذلك لنيران مدفعية السفن كثيرا، ويكونون عرضة كذلك لأن يقطع عليهم الطريق إلى الإسكندرية، فظهر على الخديو الغضب وقال: «لماذا تسمون أنفسكم جنودا إذا كنتم لا تستطيعون أن تمنعوا عدوا من أن ينزل جنوده في بلادنا؟»
2
لذلك انسحبت الحامية لتتخذ مكانا حصينا يصلح لإقامة خطوط الدفاع عن داخل البلاد، وقد اتخذت جهة كفر الدوار موقعا لهذا الدفاع.
وهكذا ينتقل تاريخ الثورة القومية إلى فصل جديد، هو الحرب بين مصر الناهضة بالأمس القريب مما رزحت تحته زمنا طويلا من الحكم الفردي المطلق، والتي لم تستوف أسباب القوة المادية بعد أن حطمت الدول قوى محمد علي، وبين إنجلترا ذات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!
ولم يكن أمام مصر إلا أن تختار أحد سبيلين: التسليم بالاحتلال وما يقضي به على نهضتها القومية الحرة وقبول هذه المذلة طائعة مختارة، أو الحرب التي تبذل فيها الأموال والأنفس والتي تنتهي إما إلى نصر يتحقق به كل شيء، وإما إلى هزيمة تذهب بكل شيء إلا الشرف والكرامة ...
واختارت مصر السبيل الثانية تحت راية عرابي، وتركت للخديو ومن شايعه السبيل الأولى، وما كان لعرابي وأصحابه أن يفعلوا غير ما فعلوا وإلا كانت حركتهم القومية ونهضتهم الإصلاحية هزرا ولعبا من أول الأمر، وما كانت لعمر الحق إلا الجد كأعظم وأجمل ما يكون الجد.
يقول بلنت في هذا الصدد: «إن خير صفات عرابي - كما أعتقد - هي إصراره على ألا ينصرف عن وضع كان هو الأصل في إعلانه وذلك أنه وإن كان على استعداد لأن يسالم الدنيا كلها، إلا أنه كان يرى من واجبه أن يدفع عن وطنه كل عدو مغير ... وهذا قد أدى لبني وطنه في تلك الأسابيع خدمة لا تقدر، خدمة أرى أن من الحق أن يذكر بها، فليس هناك شيء أكثر يقينا من أنه لو كان عرابي أقل عنادا مما كان في رفضه التهديد أو الرشوة
3
عندما طلب إليه مغادرة مصر ولم تنشب الحرب تبعا لذلك، لبقي الفلاحون كما كانوا سنة 1880 عبيدا لسادتها الأتراك وعبيدا للأوربيين، وماذا يرى أي وطني ما كان يمكن أن ينتج من إذعان عرابي؟ أهو حرية من أي نوع؟ أهو استمرار لحكم الشعب نفسه؟ أهو حكم أجنبي أخف وطأة مما هو عليه الآن؟
4
لا شيء من ذلك يقينا، إن ما كان ينتج يتضح في النظام الذي أقيم في القاهرة عقب الحرب، أنه كان لا يخرج عن نوع من استبداد الشرطة والغدر والعقوبات الخفية، دون أن يخفف من ذلك أي اهتمام بعد بالقومية المصرية كما ينظر إليها بالمعنى المفهوم في أوربا، ومن الممكن من الوجهة الشكلية أنه كان يسمح لمجلس من الأعيان أن يظل يعقد بعض جلسات، من قبيل ما يسمى هيئة استشارية، ولكنه لن يكون ذا قوة كما أنه لن تكون له قط روح وطنية، وكان يعاد الحكم الشركسي أشد مما كان ، وكانت تحرص الرقابة المالية - وقد قويت شوكتها بسلطة سياسية جديدة، واهتمت بأمور مالية ومصالح أوربية بحتة - على ألا تحرر الفلاحين من سادتهم الأتراك وقد غدا هؤلاء الأتراك عبيدا لأوربا، وكانت تذهب أسطورة الحركة القومية للفلاحين هباء في صورة مشينة؛ لأن الشعب الذي لم يجرؤ قط على الدفاع عن وجوده جدير بالاحتقار ... وكانت المطبوعات القومية تهوى إلى مثل ما هوت إليه في تونس، وكان لا يجد المرء أثرا للحرية المدنية ولا للحرية الشخصية ولا لأي اعتبار للحقوق القومية، وكانت مصر في الواقع ترى كما رؤيت سنة 1883 أرضا لا يستطيع المرء فيها أن يزيد على الهمس ولا يأمن جاره أن يشي به ...
وقد خلص عرابي بني وطنه على أقل تقدير من هذا كله ... ولئن لم يتفق لهم أن يروا فيه جنديا كما رأوا فيه وطنيا، فإنه أنقذهم من وصمة شنيعة، وتلك أنهم لم يحاربوا قط في المرة الوحيدة التي أتيحت لهم في مدى تاريخهم حين واتتهم الفرصة ليدافعوا عن حريتهم».
5
وإن عبارة بلنت هذه لتلخص القضية كلها أبلغ تلخيص وأجمله، وما نجد خيرا منها نسوقه للذين ينعون على عرابي أنه حارب، ويقولون في سذاجة مثيرة: إنه حارب فجلب البلاء على مصر. كأنما كانت هذه الحرب لعبة طرأت على خياله فلعبها ... أو هكذا يفكر هؤلاء كما يفكر الصبيان ...
وقفت مصر إذن تدافع عن حريتها وعن شرفها، وتخوض حربا لأول مرة في تاريخها تحت قيادة فلاح من أبنائها يعاونه في القيادة فلاحون مثله، فإما إلى النصر وإما إلى القبر ... وهي في أقل ما توصف به مظاهرة للشرف والكرامة ... •••
أعلنت الأحكام العرفية في مصر ابتداء من اليوم الحادي عشر من يوليو؛ فقد أرسل راغب باشا إلى جميع المديرين برقية هذا نصها: «حيث ابتدأت الحرب بيننا وبين الإنجليز فبمقتضى القانون تكون الإدارة تحت أحكام العسكرية، والخيول والبغال الموجودة جميعها بالمديريات والمحافظات ترسل لديوان الجهادية بأثمان موافقة على الجهادية فليسرع بالمبادرة بإرسالها».
6
وهذه البرقية صريحة في أن الحرب ابتدأت بين مصر وبين الإنجليز، وصدورها من رئيس مجلس الوزراء لن يكون إلا بإذن من الخديو ...
ومنذ أن قرر الخديو مجلس وزرائه رفض الإنذار النهائي تعتبر البلاد في حالة حرب مع إنجلترا، وقد أصدر الخديو أمره إلى عرابي باشا بدعوة 25000 من الاحتياطي بالأقاليم، هذا وإن القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في اليوم العاشر من يوليو، ذلك المجلس الذي كان عرابي غائبا عنه، والذي أشار إليه اللورد راندلف تشرشل في مجلس العموم متعجبا من أن الكتاب الأزرق أغفل نشره ومبينا أن مرد ذلك إلى أنه صريح في أن توفيقا أعلن الحرب على إنجلترا، نقول: إن ذلك القرار كان ينص نصا صريحا على أن الحصون سترد على ضرب الأدميرال بعد القذيفة الخامسة من جانب السفن
7 ...
ولينظر القارئ بعد هذا فيما كان من راغب وتوفيق في هذا الجهاد القومي الذي لم يكن لعبة وإنما كان حياة أو موتا لأمة ...
أرسل راغب باشا في اليوم الخامس عشر من يوليو إلى وكيل وزارة الجهادية بالقاهرة يطلب إليه إعادة المهاجرين إلى الإسكندرية؛ لأن الحالة قد تحسنت وأن «جميع من خرجوا من البلد جاز رجوعهم إليها وإن أبوا العودة أرسلوهم ولو جبرا».
8
وكان راغب باشا يريد أن يقول: إن البلاد ليست في حرب مع الإنجليز مع أن الإنجليز قد احتلوا الإسكندرية فعلا منذ غادرتها الحامية واتخذوها قاعدة يزحفون منها إلى داخل البلاد ...
وهكذا ينقلب راغب فإذا هو من الإمعات، وإذا هذا الشيخ الذي نيف على السبعين يختار أن يختم حياته أسوأ خاتمة ...
ولم يقف راغب عند هذا، بل كتب في اليوم السابع عشر من يوليو إلى الأدميرال سيمور يقول - وما أسخف وأشنع ما قال: لي حظ الشرف أن أعلن لحضرتكم أن عرابي يشتغل الآن بإعداد وسائل للدفاع، وذلك مخالفة لأوامر الجناب الخديو، وقد صدر له الأمر بالكف عن هذه التجهيزات، فكونوا إذن على علم بأن الجناب الخديو عزم على عزله من وظيفته، فهو لذلك وحده المسؤول عما يحدث، فأرجوكم أن تعلنوا مآل هذه الرسالة إلى حكومة جلالة الملكة».
9
وإن المرء ليتملكه العجب والأسف معا، بل الحزن العميق؛ أن يرسل رئيس وزارة مسؤول كلاما كهذا إلى أدميرال دولة أجنبية معتدية لا تزال أرض الوطن مخضبة بدماء من فتكت بهم قذائفها في غير مسوغ!
وهل غدا سيمور حاكم البلاد الشرعي حتى يكتب له راغب هذا الكلام؟ كلا فلن يزال توفيق حاكمها الشرعي من قبل السلطان الذي عينه، ولكن سيمور قد غدا صاحب النفوذ الفعلي في الإسكندرية على الخديو الذي لاذ به وعلى الوزراء الذين أصبحوا منذ أن صحبوا توفيق إلى رأس التين أشبه بسجناء في المدينة ...
وليس أدل على ما بات لسيمور من سلطة من ذلك المنشور الذي أصدره باسم الخديو في اليوم السابع عشر من يوليو يحث فيه الناس على الهدوء والنظام ويعلن إليهم أنه مكلف بذلك من جانب الخديو ...
وهكذا أخذ الإنجليز يخطون خطواتهم نحو احتلال البلاد والسيطرة عليها باسم الخديو والدفاع عن الخديو الحاكم الشرعي أمام العصاة الثائرين من بني شعبه، تلك الدعوى التي ادعوها منذ حضور سفنهم، والتي ألقوها في روع الخديو منذ يوم عابدين ...
ولن يفسر عمل راغب إلا بأنه تم بعد اتفاق بينه وبين سيمور وتوفيق، وهذه بديهية لا تحتاج إلى دليل ...
وأدهى وأمر من فعلة راغب وأدعى إلى الأسف والألم والدهشة جميعا برقية الخديو الآتي نصها والمرسلة في اليوم السابع عشر من يوليو إلى عرابي بكفر الدوار؛ حيث أخذ يبني خطوط الدفاع عن الوطن في نشاط وبسالة، قال توفيق - وما أعظم ما تحس النفس من ألم وثورة تلقاء ما قال: «اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدوننمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية وتخريبها، إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها، والآن وقد حصلت المكالمة مع الأميرال، فأفاد أنه ليس للدولة الإنجليزية مع الحكومة الخديوية أدنى خصومة ولا عداوة، وأن ما حصل إنما هو في مقابلة ما كان من التهديد والتحقير للدوننمة، وأنه إذا كان بيد الحكومة الخديوية جيش منظم وممتثل ومؤتمن فهو مستعد لتسليم مدينة الإسكندرية إليها، ولذلك إذا حضرت عساكر شاهانية فالحكومة الإنجليزية تحترمهم وتسلم إليهم المدينة؛ فقد تحقق من هذا أن الدولة الإنجليزية ليست محاربة مع الحكومة الخديوية وأنه تقرر من كافة الدول المعظمة بالقونفرانس
10
بأنه لا يصير مس امتيازات الحكومة المصرية ولا حريتها، ولا مس حقوق الدولة العلية، بل هي تبقى ثابتة لها كما كانت، ولن يصير إرسال عساكر شاهانية لأجل استتباب الراحة بمصر، فلذلك يلزم أن تصرفوا النظر عن جمع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية التي تجرونها بوصول أمرنا هذا، وتحضروا حالا إلى سراي رأس التين لأجل إعطاء التنبيهات المقتضية الشفاهية على حسب أمرنا هذا وما استقر عليه رأي مجلس النظار».
11
وفي هذه البرقية العجيبة - الذي لا ينتهي عجبنا منها - يحمل توفيق عرابيا تبعة ضرب الإسكندرية ويعلن حسن مقاصد الإنجليز وأنهم لا يبتغون إلا الخير لمصر! ويقول: «إن سبب الضرب يرجع إلى الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها»!
وتناسى الخديو أنه أرسل برقية إلى السلطان في اليوم السابع من يوليو ينفي فيها حدوث هذه الأعمال التي يشير إليها، ويقول: «إن التأكيدات أرسلت إلى الأدميرال بنفيها».
12
وكانت دعوة عرابي إلى الإسكندرية خدعة مكشوفة لا تجوز على أبسط الناس عقلا؛ بغية القبض عليه بحجة أنه ثائر متمرد خارج على إرادة الخديو داع إلى الفوضى، ولسنا بحاجة إلى تلمس الدليل على صحة ما نقول، فحسبنا أن نورد نص البرقية الآتية التي أرسلها كارتريت إلى جرانفل في اليوم الخامس عشر من يوليو، قال: «قلت النار قلة محسوسة، يعود الأوربيون إلى المدينة، أنشئ شرطة من الوطنيين ليعملوا مع البحارة الأمريكان، أبرق عرابي باشا هذا الصباح من كفر الدوار إلى الخديو يقول: إنه سوف يسر سموه أن يعلم أن الرديف قادمون ليساعدوه في محاربة الإنجليز وأجاب الخديو بدعوته إلى هنا، إذا حضر فسيقبض عليه، وإذا رفض فسيعلن عصيانه وخروجه على القانون، القاهرة هادئة كما نعتقد، الشعور القومي إلى أقصى ما نستطيع أن نراه في جانب الخديو، مع عرابي نحو 400 جندي».
13
والواقع أن الخديو كان قد فرغ من عرابي وقضى فيه قضاءه بعزله من وزارة الجهادية قبل أن يستدعيه إلى الإسكندرية بيوم، تجد ذلك صريحا في برقية لكارتريت بتاريخ اليوم السادس عشر من يوليو جاء فيها: «أتشرف بأن أخبركم أن الخديو عزل عرابي باشا من منصب وزير الجهادية، وأصدر أمره بمنع جميع المصريين من مساعدته وسيذاع هذا الأمر بكافة الوسائل التي في متناول سموه وبناء على اقتراح الخديو أنفذ الأدميرال السير بوشامب سيمور سفينتين من سفن جلالتها إلى أبي قير؛ مخافة أن يقطع عرابي الساحل ويدع ماء البحر يطغى».
14
وهكذا يعزل توفيق عرابيا قبل أن يستدعيه، ولم يعلن قرار العزل رسميا إلا في اليوم الثاني والعشرين من يوليو.
ولندع لعرابي الرد على توفيق؛ فقد أبرق إليه ردا على برقيته يقول: «مولاي ... في شريف علم مولاي المعظم أن الحرب التي وقعت بيننا وبين الإنجليز، وبلغت مسامع عظمتكم، وعرضت على مجلس نظاركم - المنعقد تحت رئاسة سموكم بحضور كثير من أعيان البلاد المنتخبين ودولت درويش باشا نائب الحضرة السلطانية - ولما تحقق عند جميعهم أن هذه الطلبات مضرة بالحكومة الخديوية ومخلة بشأن البلاد، استقر رأيهم على معارضة طلب الأميرال ولو أدى ذلك إلى الحرب، وبناء على ذلك قرر المجلس لزوم زيادة 25000 عسكري، وصدرت الأوامر إلى المديريات بطلبهم، وقرر المجلس أيضا أنه لا تطلق المدافع من جهتنا إلا بعد إطلاق خمسة مدافع من السفن الإنجليزية، ولما ابتدأت السفن بضرب النيران على مدينة الإسكندرية لم نقابلها إلا بعد عشرين طلقة، ولم يكن عندنا قبل وقت الضرب أدنى استعداد، لاستمرار الأوامر بعدم الاستعداد، ثم بعد ذلك أعلن حضرة رئيس مجلس النظار وناظر خارجية حكومتكم إلى جميع جهات الإدارة بصيرورة البلاد حربا مع الإنجليز، وأنها صارت تحت الأحكام العسكرية كما هو حكم القانون زمن الحرب ... فلهذه الأسباب يا مولاي تكون حكومتكم الخديوية المصرية محاربة لدولة الإنجليز بوجه الحق والشرع، ولم يحصل من الحكومة ولا من عساكرها أدنى تحقير ولا ازدراء بالدوننمة كما هو معلوم لدى عظمتكم، وإنما كانت الحرب عدوانا من الإنجليز على الحكومة التي لم يبد منها أي شيء يستوجب الحرب، فإن كان الأميرال في مخابرته مع سموكم أظهر أنه عدل عن الحرب إلى السلام فذلك بعد وقوع الحرب يعد طلبا للصلح وسعيا في تجديد العلاقات، ولا يجوز أن يكون إنكارا للحرب بالمرة وتبرأ من العدوان بعد وقوعهما، ولا شك في أني أطابق أفكار سموكم في الميل إلى الصلح مع حفظ شرف البلاد والحكومة، وإن كان الأميرال يريد تسليم المدينة لجيش حكومتكم المنظم بعد أن تخربت بمدافع السفن الإنجليزية هدما وحرقا فها هو جيشها المنظم الذي لم يقع منه أدنى أمر يخل بنظامه، مستعد؛ لأن يستلمها بعد سحب السفن عن مياه الإسكندرية، وللمحافظة على شرف حكومتكم الوطنية ينبغي الاستمرار على الاستعداد العسكري كما وافق رأي سموكم أولا حتى تنسحب السفن من السواحل المصرية خوفا مما عسى أن يحدث من قبيل ما سبق؛ فقد صارت الحادثة الماضية برهانا جليا على أن الوعد بالسلام من الإنجليز لا يمكن الثقة به، وإنما هو لأجل شغلنا عن الاستعداد واقتراح مطالب مضرة بمصالح البلاد، وإنني كنت أتمنى أن تمثل بين يدي عظمتكم لإبداء هذه الملاحظات، لكن من الأسف أنه تحقق عندي من الاكتشافات الحقيقية أن مدينة الإسكندرية مشغولة الآن بعساكر الإنجليز، فمن المعلوم عند مولاي أنه لا يمكنني الحضور بتلك المدينة لهذا السبب، فإذا حسن لدى مولاي، فليصدر أمره السامي بحضور حضرات النظار أو سعادة رئيس مجلس النظار إلى مركز الجيش للمداولة في هذا الأمر، لنكون على بينة من الحقيقة حتى يمكننا بعد ذلك صرف العساكر وترك التجهيزات الحربية والحضور إلى المدينة، والأمر لمن له الأمر».
15 •••
ووقف عرابي في خطوط دفاعه، لا لينتظر شيئا من الخديو بعد ذلك، ولكن لينتظر كلمة الأمة المصرية تحكم بها بينه وبين الخديو وأعوانه من الإنجليز والخوارج من المصريين، وعما قليل ستأتيه الأنباء من أعماق مصر بأن الأمة التي مجدته بالأمس زعيما قوميا مناضلا في سبيل حريتها ودستورها، ستنطوي اليوم تحت لوائه قائدا مجاهدا مدافعا عن الحرية التي استخلصها لها، وعن الدستور الذي حرس مهده، وعن شرفها الذي يمتحنه ببغية الاحتلال ...
وحسبه مجدا وفخرا وجزاء بما جاهد وصابر أن ترى فيه أمته رمز الخلاص وبطل الجهاد ...
نصرك الله يا عرابي
ما ذاعت في القاهرة والأقاليم أنباء ما فعل الإنجليز في الإسكندرية وما كان من موقف الخديو بعد ذلك، وما ذاع رد عرابي على استدعاء توفيق إياه حتى امتلأت القلوب عطفا على عرابي وإجلالا له، وازدادت محبة الناس له أضعافا مضاعفة، وصار من الكلمات الشعبية التي يسمعها المرء في المدن أينما سار في شوارعها ودروبها وأينما حل في مقاهيها ومتنزهاتها، وفي القرى أينما وجدت شمالا أو جنوبا تلك الكلمة التي غدت شعار الشعب وهي: «الله ينصرك يا عرابي»
1 ...
ولم تقتصر الأمة على الهتاف والدعاء، فلسوف نرى أنها بذلت من أبنائها ومن أقواتها وأموالها ما هو خليق أن يسجل لها في تاريخ الحركات القومية مثلما يسجل للأمم الأبية الكريمة من دواعي الفخر ... •••
فطن عرابي منذ أن جاءته برقية الخديو إلى أن الإنجليز من أول الأمر سيتخذون من الخديو أداة لتحقيق أغراضهم، وكان أول اتجاه نحو هذا أن يصدر قرارات ضد عرابي تذيع الانقسام في البلاد ...
لذلك رأى أن الظروف تحتم عليه أن يقضي على هذا السلاح، فبادر بإرسال برقية إلى جميع المديريات والمحافظات يعلن فيها للناس انضمام الخديو إلى الإنجليز ويحذرهم من اتباع أوامره ويدعوهم إلى الاستعداد وجمع ما يلزم للقتال
2 ...
وأرسل عرابي برقية أخرى يعلن فيها للمديرين أن الوزراء أسرى عند الخديو وأنه يريد أن يتخذ منهم أداة لتنفيذ أغراضه في شل حركة الدفاع عن الوطن وعلى ذلك فليعلم الحكام والمديرون أن ما يأتي من رئيس الوزراء من البرقيات بطلب الكف عن الاستعداد إنما هو مجبر عليه فلا طاعة له، وأن الذين يخونون وطنهم لا يكون جزاؤهم العقاب وفق قوانين الحرب فحسب، بل سيلعنون في الآخرة
3 ...
وأرسل كتابا خطيرا في اليوم السابع عشر من يوليو إلى يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الجهادية بالقاهرة يعلن إليه فيه خيانة الخديو للبلاد وأنه سبب ما نزل بها من الكوارث ويدعوه إلى عقد جمعية من الكبراء، والعلماء للنظر في الأمر وإصدار قرار بشأن الخديو، وفيما يجب عمله لصالح الأمة وتقرير مدى «صلاحية هذا الوالي عليها».
4
وقد اهتم الإنجليز بأنباء هذه الاتصالات وغاظهم أن يسبقهم عرابي إلى السلاح الذي أرادوا أن يحاربوه به، وأبرق كارتريت إلى جرانفل في اليوم الحادي والعشرين من يوليو يقص عليه أمرها، فرد عليه جرانفل ببرقية في نفس اليوم هذا نصها: «بالنظر إلى لهجة عرابي باشا في بلاغاته التي ذكرتها لي في برقيتك اليوم، رأيت أن أوجهك بشدة إلى أن تؤثر على الخديو بضرورة إصدار بلاغات مضادة من جانبه إلى الشعب المصري، وأن تخبر سموه بأن حكومة جلالة الملكة تعد العدة لإرسال قوة كبيرة إلى البحر الأبيض المتوسط».
ومعنى ذلك أن إنجلترا كانت تعد حملتها لاحتلال مصر وأنها خشيت من نشاط عرابي وقطعه الطريق على أساليبها ...
وكان الخديو قد أعلن فعلا بعزل عرابي في اليوم الثاني والعشرين من يوليو وبنى قرار العزل على أمور نسبها إليه سوف نذكرها، ولكن الإنجليز لم يكتفوا بذلك وأرادوا أن يستمر الخديو في إصدار القرارات ضد عرابي ...
وكان يعقوب سامي باشا من المخلصين للثورة الوطنية وكان يكره أشد الكره من الخديو انضمامه إلى الإنجليز، ويرى أن ذلك خيانة منه للبلاد، وكان يعقوب باشا كذلك من أكبر أنصار عرابي المتحمسين له ...
فلما جاءته برقية عرابي اجتمع في نفس اليوم في مقر وزارة الحربية بقصر النيل مع عدد من صفوة أنصاره وتشاوروا في الأمر، واستقر رأيهم على دعوة مجلس من وكلاء الوزارات وبعض كبار الضباط وكبار الموظفين، وقد انعقد هذا المجلس وعرف باسم المجلس العرفي، وسيبقى يدير شؤون الحرب والإدارة طول مدة القتال.
وقرر المجلس العرفي في نفس اليوم دعوة جمعية عامة تضم رؤساء الأديان والعلماء ووجوه الأمة ممن يوجدون بالقاهرة وكبار موظفي الدولة، للنظر في هذه الأمور الخطيرة واتخاذ القرارات التي يراها صالحة للبلاد ...
وانعقدت الجمعية العامة - أو مجلس العموم كما سميت - في مساء الاثنين في السابع عشر من يوليو سنة 1882 الموافق غرة رمضان سنة 1299 في وزارة الداخلية، وشهد هذا الاجتماع الخطير نحو 400 عضو، كان بينهم الأمراء الموجودون بالعاصمة ورؤساء الأديان وفي مقدمتهم الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام، ثم كبار العلماء وقاضي قضاة مصر ومفتي الديار المصرية والنواب ووكلاء الوزارات والقضاة وكبار الأعيان والتجار ...
وعرضت على أعضاء الجمعية البرقيتان المتبادلتان بين الخديو وعرابي، والبرقية التي أرسلها عرابي إلى يعقوب سامي، وبعد أن تشاورا طويلا في الأمر، اتخذوا قرارا خطيرا يدل على قوة روح الأمة ومناصرتها المجاهدين من أبنائها؛ وذلك أن الجمعية رأت الاستمرار في إعداد العدة للقتال ما دامت سفن الإنجليز في الشواطئ المصرية وجنودهم في الإسكندرية، كما رأت استدعاء الوزراء من الإسكندرية لسؤالهم عن حقيقة الأمر، وأوفدت لجنة من ستة مندوبين من أعضائها للسفر إلى الإسكندرية لإبلاغ الوزراء قرار الجمعية ... •••
وكان الخديو في قصر رأس التين بالإسكندرية يحيط به أعوانه من الإنجليز ويختلط بحرسه بحارة الأسطول البريطاني وإنه لينتظر بصبر فارغ ذلك اليوم الذي يؤتى إليه فيه برأس عرابي حيا أو ميتا ...
أبرق كارتريت في التاسع عشر من يوليو يقول: «أرسل الخديو في طلب السير أوكلند كلفن صباح اليوم وطلب إليه أن يستحث حكومة جلالة الملكة لتخطو خطوة جديدة بلا إبطاء، ويقول سموه: إنه من ناحيته يرى أن هذا العمل ضروري جدا، وإنه يسر سموه إذا أحيط علما بالخطوات التي ينظر فيها، وقد وصف سموه قوة عرابي باشا بأنها الآن بلغت من العظمة حدا ينشر الرعب ويبثه في عقول الوطنيين جميعا، وأن سيطرته على البلاد وخاصة القاهرة يجعل عائلات جميع الموالين للخديو وأملاكهم تحت رحمته، أو الذين يستراب في أمرهم أنهم موالون، ومن ناحية أخرى فإن هناك إشاعة مستفيضة بأن إنجلترا سوف يحال بينها وبين خططها بسبب الخلاف بينها وبين الدول، وستكون عاقبة هذين الاعتبارين أن يصبح من الصعب على سموه أن يحتفظ بمن يشايعونه متحدين».
5
وهذه البرقية صريحة في أن الخديو لا ينضم إلى الإنجليز فحسب، بل إنه يستعديهم على مصر ويستحثهم في صورة من القول لا تحتاج إلى تعقيب ...
وجاء إلى الإسكندرية من بورسعيد عمر باشا لطفي بطل مأساتها، يقص على الخديو والإنجليز مزيجا مهوشا من الأباطيل ليس فيه من الحق إلا ما كان من صالح الخديو إعلانه، وحتى هذا القدر من الأنباء قد جاء به على صورة ممسوخة أملتها ضغائنه ومن ذلك ما ذكره عن حوادث اغتيال بعض الأوربيين داخل البلاد ...
ومن ذلك وصفه المجلس العرفي بأنه مجلس عدائي حضره نحو مائة من العلماء والباشوات والتجار، ومنه ما ذكره عن الشيخ حسن العدوي أنه قال: إنه بأمر الله ورسوله لن تطاع أوامر الخديو بعد اليوم، وإن الوقت قد حان لنشوب حرب مقدسة وقد وافقه الشيخ عليش على ذلك، ومنه أن أحد الباشوات اعترض على الشيخين وتشكك في صحة ما أرسله عرابي من الأنباء وطالب بالدليل عليها فوثب إليه بعض الضباط وأرادوا قتله، ولما أعيد النظام أبدى بعض الحاضرين أنه إذا كان للأمة أن تشكو شيئا من الخديو فإن السلطان هو الذي ينظر في شكواها وليس للمجلس هذا الحق، وقال بطريق الأقباط: إننا سمعنا من جانب واحد هو جانب عرابي ولم نسمع شيئا من الخديو ... إلى آخر هذا الخلط المرذول ...
ومما أورده بطل مذبحة الإسكندرية كذلك مشوها ممسوخا قوله: إنه شاهد من القطار وهو مسافر إلى القاهرة عقب ضرب الإسكندرية جثث كثير من الأوربيين ملقاة على الطريق وقد اغتالهم الجند وقطاع الطرق، وإنه شاهد في محطة طوخ مقتل ألماني وزوجته، وإن طنطا ودمنهور والمحلة نهبت نهبا تاما وقتل جميع من كانوا فيها من الأوربيين.
وإنه بأمر عرابي باشا قد سجن من كبار الموظفين إبراهيم باشا أدهم مدير الغربية وحسن بك مدير المنوفية وكمال بك مدير القليوبية.
وإن الضباط يعقدون اجتماعات كثيرة برئاسة محمود سامي باشا في قصر النيل، وإن عرابي باشا قد طلب إلى المديريات إرسال سدسي عدد الذكور في كل منها إلى كفر الدوار مسلحين بالنبابيت، كما أنه طلب للخدمة جميع الجنود القدامى من كل سن ومنهم من بلغ أرذل العمر ؛ حيث كانوا في جيش محمد على نفسه.
وإن الخيل والأقوات تجلب قسرا من داخل المديريات، وإن المديريات جميعا في حال عامة من الفوضى التامة، ويسود القاهرة ذعر عظيم وإن لم يقع فيها حتى الآن ما يخل بالنظام
6 ...
وقد أبرق كارتريت بأقوال عمر لطفي هذه إلى حكومته لتنتفع بها في الحملة على عرابي في كل فرصة دولية تسنح لها ...
وليس أدل على تشويه عمر لطفي الحقائق، وبعده بعدا كبيرا عن الأمانة من إيراده نبأ حبس الموظفين في صورة تشعر المرء بطغيان عرابي، مع أنه حبس هؤلاء الموظفين رهن المحاكمة؛ لأنهم تهاونوا فوقعت حوادث اغتيال في أقاليمهم استاء لها عرابي أعظم الاستياء، وكان في مقدمة المتهاونين إبراهيم أدهم باشا مدير الغربية؛ فقد تمارض وترك الغوغاء يعيثون في الأرض فسادا حتى لقد شاركهم بعض خفراء المديرية، وكان من جراء ذلك أن قتل في طنطا نحو ثمانين من الأجانب وفي المحلة نحو تسعة منهم ...
وقد أرسل عرابي فرقا من الجيش على الفور إلى طنطا والمحلة وشبين الكوم، وأرسل قطارات تنقل من يرغب في السفر من الأجانب بالمجان إلى الإسماعيلية، وبورسعيد ...
وممن كان لهم همة مشكورة في إخماد هذه الفتنة، أحمد باشا المنشاوي؛ فقد آوى في بيته نحو 300 من الأوربيين والمسيحيين وظلوا في حمايته ورعايته حتى انتهت الحرب ...
وما إن بلغ الخديو قرار الجمعية العامة حتى أعلن قراره في اليوم الثاني والعشرين من يوليو بعزل عرابي من نظارة الجهادية والبحرية، ذلك القرار الذي صدر منذ اليوم السادس عشر كما جاء في برقية كارتريت إلى جرانفل، وكان الخديو في هذه الأيام الستة بين إصدار القرار وإعلانه يحاول استدراج عرابي إلى الإسكندرية كما بينا، للقبض عليه غدرا وعدوانا ...
وقد أعلن الخديو أن هذا الأمر بالعزل كان بناء على قرار من مجلس الوزراء وعين الخديو عمر باشا لطفي مكان عرابي ناظرا للجهادية.
أما قرار العزل فهذا نصه: «إن ذهابكم إلى كفر الدوار مستصحبا العساكر وإخلاء ثغر الإسكندرية من غير أن يصدر لكم أمر بذلك، وتوقيف حركة السكة الحديد وقطع جميع المخابرات التلغرافية عنا ومنع ورود البوستة إلينا ومنع حضور المهاجرين إلى وطنهم بالإسكندرية واستمراركم في التجهيزات الحربية ... وارتكابكم عدم الحضور طرفنا بعد صدور أمرنا بطلبكم، كل ذلك يوجب عزلكم؛ فقد عزلناكم من نظارة الجهادية وأصدرنا أمرنا هذا لكم بما ذكر ليكون معلوما».
7
وأذاع الخديو عملا بنصيحة كارتريت وتنفيذا لتعليمات جرانفل منشورا علق على الجدران بشوارع الإسكندرية في اليوم الثاني والعشرين من يوليو وفيه يبرر الخديو عزله عرابي، ومما احتواه هذا المنشور، قول الخديو: «ليعلم كل من يقرأ هذا الأمر سبب عزل أحمد عرابي باشا؛ ذلك أنه بعد عشر ساعات من ضرب الشواطئ حطمت قلاعنا وحطم 400 مدفع من مدافعنا وقتل القسم الأكبر من رجال مدفعيتنا أو عطلوا، بينما لم يفقد الأسطول الإنجليزي إلا خمسة رجال ولم تصب سفنه إصابات ذات بال، وجاءنا حينذاك أحمد عرابي باشا يعلن إلينا النبأ المؤلم عن تحطيم حصوننا، وقد طلب الأدميرال الإنجليزي منا إخلاء قلاع العجمي والدخيلة والمكس لتحتلها جنوده، ولما كان مجلس الوزراء منعقدا بحضور درويش باشا؛ فقد تقرر أنه لا يمكن إخلاء القلاع إلا بأمر من صاحب الجلالة الشاهانية السلطان، وأنه على عكس ذلك صار من الضروري العمل على تدبير وسائل الدفاع عنها وذلك بوضع حاميات جديدة تمنع نزول الجنود الأجنبية، وفي نفس الوقت أرسلنا برقية بذلك إلى الباب العالي، ولكن عرابي باشا توجه إلى جهة باب رشيد بالإسكندرية دون أن يتخذ أي إجراء حربي، فأرسلت إليه أحد ياوري ليذكره بأنه يجب عليه إرسال إمدادات إلى القلاع المذكورة، فأجاب بأنه لا يستطيع أن يرسل جنديا واحدا، وأمر الجند، بأن ينسحبوا معه وعسكر في كفر الدوار تاركا المدينة بغير دفاع».
8
وإن المرء ليعجب حتى ما يفرغ عجبه من هذا الكلام! ويتساءل بحق: هل كان الخديو يقرأ هذا قبل إذاعته؟ إذ كيف يجمع الخديو بين هذا القول وبين ما جاء في برقيته إلى عرابي بكفر الدوار؛ إذ حمله تبعة الضرب نظرا «لاستمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها» وإذ دعاه إلى أن «يصرف النظر عن جمع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية»!
ومن المضحك المؤلم معا أن يقول توفيق في نفس الوقت: «ولو لم يتحقق لدينا أن نية الإنجليز والفرنسيين ليست نية استيلاء، بل نية إصلاح أو كان عندنا أدنى شبهة في ذلك لكنا أول من يقوم بالمدافعة بأرواحنا وأموالنا إلى أن يقضي الله أمرا مفعولا».
9
ولكن ماذا عسى أن يقول توفيق غير هذا وهو لا يستطيع أن يجعل من الباطل حقا، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يسكت ومن ورائه كارتريت وفي دخيلة نفسه شديد مقته لعرابي وعظيم سخطه على الثورة؟
وأرسل كارتريت في اليوم الثاني والعشرين كتابا إلى جرانفل يقول: «إيماء إلى رسالتي بتاريخ الأمس بشأن ما حدث في قصر الرمل أثناء الضرب وبعده، أفيدكم أني تلقيت من المصدر نفسه زيادة على ما سلف أن عرابي باشا حينما سأله الخديو ماذا ينوي عمله في المستقبل أجاب بأنه سوف يلجأ إلى تدبيرات غير نظامية حيث إنه لا قبل له بمقاومة الإنجليز، وكان عرابي بهذا يمهد لما كان من إحراق المدينة وتخريبها وحبس الماء عنها،
10
ولقد لمح عرابي باشا قبل ذلك في حديث له مع رجل إنجليزي إلى ما سوف يتبعه من وسائل المقاومة.
ومن الجلي أن قوة عرابي الرئيسية كائنة في وسائله البربرية التي لا وازع يصرفه عنها، وإنه ليسود بين موظفي القصر الآن خوف شديد مما عسى أن يصنعه عرابي بأملاكهم في القاهرة وفي غيرها، حتى إن ذلك ليشمل عمل الخديو، وإن سموه ليحجم عن إعلان عصيان عرابي بسبب ما يفضي إليه ذلك من مكايلته بكيله ...
وفي مقابلة لي مع سمو الخديو بالأمس حاولت أن أصور له ما يحدثه مثل هذا الإعلان من أثر أدبي، وما يبثه من الشجاعة في قلوب من لا يزالون موالين لسموه في القاهرة وغيرها، فأجاب الخديو بأنه ليس هناك ما يدعو في الإسكندرية إلى القول بأن قوى عرابي قد ذهبت، أما عن القاهرة فإنه أبرق إليها الآن بعزل عرابي من بورسعيد، وليس لديه وسيلة لإذاعة بلاغ ضده هناك، وأضاف سموه أن المديرين في الأقاليم لا يجرءون في الظروف الحالية إطاعة أوامره، ولكنه يتخذ الخطوات لإذاعة منشور فيهم بأيدي بعض البدو ...
وإنه ليؤسفني أن أقرر، أنه على نقيض ما يذكر الخديو بشأن الإسكندرية، لا يزال يغادرها كثير من العرب لينضموا إلى عرابي، وربما كان مرد ذلك إلى خوفهم مما تهدد به من عقاب في بلاغاته الأخيرة وإن كان يمكن القول إلى حد ما بأن ذلك يرد إلى الذعر الذي استولى عليهم من نقصان الماء نقصانا واضحا».
11
ومن عجيب ما يذكر في هذا الصدد، أن كارتريت قد اقترح على حكومته الاعتراف بوزارة راغب باشا بعد طرد عرابي منها وتجديد العلاقات معها على أساس المودة، مع أن راغب يعد مسؤولا عن كل شيء يسأل عنه عرابي، بل هو بحكم كونه رئيس مجلس الوزراء أكثر مسؤولية منه إذا سلمنا جدلا بأن في الأمر مسؤولية، ومما يزيد الأمر غرابة أن عرابي كان نائبا عن المجلس الذي انعقد في اليوم العاشر من يوليو بقصر رأس التين برئاسة الخديو؛ ذلك المجلس الذي قرر أن الحصون سترد على الأسطول بعد القذيفة الخامسة ... فكيف تجدد الحكومة الإنجليزية علاقتها بوزارة راغب التي أصدرت هذا القرار وتمعن في معاداتها عرابي الذي لم يشهد هذا المجلس؟
وللقارئ أن يمعن النظر في هذه البرقية التي أرسلها كارتريت إلى جرانفل في اليوم الثاني والعشرين من يوليو قال: «بما أن الوزراء قد تجنبوا الآن كل فكرة عدائية وبما أنهم يظهرون صراحة ولاءهم للخديو؛ فقد طلب إلي سير أ. كلفن أن أعرض على فخامتكم ما يذهب إليه من أنه مما ينصح به تجديد العلاقات الدبلوماسية معهم مع استثناء عرابي باشا بالضرورة من بينهم، وإن مثل هذه الخطوة كفيلة بأن تساعد الوزارة المصرية في محاولتها كسب الشعب ثانية إلى جانب توفيق باشا كما أنها تبث الثقة في نفوسهم بشأن ما تنويه الحكومة الإنجليزية، وقد شرح السير أوكلند في مقابلة شخصية بينه وبين وزير المالية سبب المعارضة التي كانت توجهها المراقبة إلى الوزارتين اللتين اشترك فيهما عرابي، فذكر أن ذلك يرجع إلى أن هاتين الوزارتين كان قيامهما خطرا على قانون التصفية، ولم يكن في الأمر أي اعتبارات سياسية أو دولية، ولما كان الخديو قد أسقط عرابي باشا؛ فقد أصبح من الأمور الهامة أن نستعيد ثقة البلاد، وأن نثبت للملأ أن المعارضة التي كان يوجهها من قبل ممثلو حكومة جلالة الملكة لم يقصد بها إلا العصابة العسكرية الذين كانوا يؤدون بسياستهم إلى القضاء على الوضع المقرر والإخلال بمالية الدولة! ولا يمكن أن تقصد بها وزارة تؤيد بولائها الخديو، وتجلس في كراسيها بإرادته! ويقول السير أوكلند كلفن: إن شرحه هذا قد صادف نجاحا كبيرا، ويرى أنه إذا لقيت الوزارة الحالية اعترافا من حكومة جلالة الملكة (دون أن يؤثر ذلك بالضرورة في حرية الخديو في العمل بشأن استمرارها أو تغييرها في المستقبل) أدى ذلك إلى تأثير حسن بوجه عام، وفي حالة ما إذا صادف هذا الرأي قبولا لديكم فإنه يقترح أن يسمح للرقيبين ثانية بحضور اجتماعات مجلس الوزراء».
12
وفي هذه البرقية الخبيثة أبلغ الأدلة على أن الحكومة الإنجليزية لم ترم إلا إلى القضاء على الحركة الوطنية القومية التي يمثلها عرابي، إن كان الأمر لا يزال يحتاج إلى دليل ...
لم تحفل الأمة بأمر الخديو القاضي بعزل عرابي، بل لقد زادها ذلك تمسكا به والتفافا حوله، وكان الناس يتجهون بوجوههم إلى السماء ويرفعون أكفهم كلما ذكر عرابي قائلين: «الله ينصرك يا عرابي».
وكره الناس انضمام الخديو إلى الإنجليز أعظم الكره، ونظروا إلى عرابي نظرهم إلى المدافع عن كيان البلاد في وجه الغاصب الذي لم يرع حرمة القانون والذي أطلق مدافعه على الإسكندرية في غير وازع من ضمير أو شرف ...
ولذلك أضاف الناس إلى ألقاب عرابي - رئيس الحزب الوطني، وقائد الجيش الوطني - لقبا جديدا هو «حامي حمى الديار المصرية»، وهذا ما خاطبته به الجمعية العامة ...
وفي هذا الذي فعلته الأمة المصرية دليل على أن الثورة القومية قد تغلغلت إلى أعماقها لا كما يقول بعض المؤرخين عن جهل مشايعين في ذلك كتاب الاحتلال ...
وأما عرابي فلم يعبأ بقرار عزله وقد وطد نفسه على الدفاع عن مصر ووقف في خطوط كفر الدوار معتمدا على تأييد الأمة وعلى عدالة قضيته وشرف جهاده في سبيل الحق والحرية ...
وأرسل عرابي إلى يعقوب سامي باشا ليدعو الجمعية العامة ثانية للنظر في الأمر واجتمع المجلس العرفي وقرر دعوة الجمعية إلى الانعقاد.
وفي يوم السبت الموافق الثاني والعشرين من يوليو اجتمعت الجمعية بوزارة الداخلية، وكان اجتماعا قوميا خطيرا أعظم وأشمل من الاجتماع السابق، فهو مؤتمر وطني عام شهده نحو خمسمائة من وجهاء الأمة المصرية وفي مقدمتهم ثلاثة من الأمراء هم: الأمير إبراهيم باشا ابن الأمير أحمد باشا، والأمير كامل باشا فاضل ابن الأمير مصطفى فاضل وهو ابن عم الخديو توفيق، والأمير أحمد باشا كمال ابن الأمير أحمد باشا ...
وشهده كبار علماء الأزهر وفي مقدمتهم شيخ الإسلام الإمبابي وقاضي قضاة مصر والمفتي ونقيب الأشراف، وكان من أبرز الحاضرين من العلماء الشيخ محمد عبده والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد عليش والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي ...
وشهده كذلك بطريرك الأقباط ووكلاء البطريكخانات وحاخام اليهود ...
وشهده وكلاء الوزارات والنواب وعدد كبير من الباشوات وكبار الضباط وكبار موظفي الدولة الإداريين والقضاة ومديرو الأقاليم ...
ومن الأهالي شهده كبار التجار والأعيان ورؤساء العشائر من الأقاليم ...
ومن أهم ما امتاز به هذا الاجتماع التاريخي العظيم هو تمثيل الأسر المصرية الكبرى فيه من معظم مديريات مصر صعيدها وريفها.
13
فقد شهده من كل إقليم عدد من كبار العمد كانوا هم في الوقت نفسه عمداء أسرهم وكبراء الجهات التي ينتمون إليها، وبذلك كانت مصر كلها ممثلة في هذا المؤتمر الوطني العظيم ...
وفي ذلك أبلغ رد على الذين يزعمون أن الحركة القومية في مصر كانت فتنة عسكرية لم تؤيدها الأمة المصرية فها هي ذي الأمة المصرية بجميع طوائفها تقول قولها الفصل في موقف من أعظم مواقف الثورة، موقف الجهاد والذود عن كيان البلاد تحت راية زعيم الثورة أحمد عرابي باشا.
وكان الاجتماع برئاسة حسين باشا الدرمللي وكيل الداخلية ، وتولى قراءة المكاتبات الشيخ محمد عبده، وقد تليت في الاجتماع فتوى شرعية من المشايخ حسن العدوي ومحمد عليش ومحمد أبو العلا الخلفاوي مؤداها أن الخديو بانحيازه إلى العدو المحارب لبلاده يعد مارقا عن الدين ...
ثم تداول المجتمعون في الموقف الحربي وانتهوا إلى قرار خطير أجمعوا عليه؛ وذلك هو عدم الاعتراف بقرار الخديو الصادر بعزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية ... وهكذا تأكدت لعرابي زعامة الأمة ...
وهذا القرار الخطير في الواقع مضافا إلى فتوى مروق الخديو من الدين هو بمثابة خلع توفيق من منصبه ...
وسأل يعقوب سامي باشا أعضاء المجلس قائلا: «حيث قرر هذا المجلس المحترم عدم عزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية ورأى لزوم بقائه في الوظيفة فأرجو من المجلس أن يرى رأيه في أوامر الخديو التي تصدر لي من جنابه، وكذلك ما يصدر من حضرات نظاره المقيمين معه هل يلزمني قبولها وتنفيذها أم لا؟»
وتداولت الجمعية في هذا وأصدرت القرار الآتي: «بعد تلاوة الأوامر الصادرة من الخديو أولا وآخرا، وفيها الأمر الصادر بعزل أحمد عرابي باشا ... وتلاوة منشورات عرابي باشا، وبعد سماعنا ما عرضه وكيل الجهادية (بصفة هذه الوظيفة وكونه رئيس المجلس المشكل لإدارة أشغال الحكومة) على المجلس وهو هل وجود الخديو في الإسكندرية هو ونظاره تحت محافظة عساكر الإنجليز يقتضي عدم تنفيذ أوامره أم لا، وإذا صدرت له أوامر من الخديو هل يعمل بها أم لا، رأينا أن وجود العساكر في الإسكندرية والسفن الإنجليزية في السواحل المصرية، ووقوف عرابي باشا بمدافعة العدو يقتضي وجوب بقاء الباشا المشار إليه في نظارة الجهادية والبحرية مداوما على قيادة العساكر ومتبعا في أوامره المتعلقة بالعسكرية وعدم انفصاله من تلك الوظيفة، ورأينا وجوب توقيف أوامر الخديو وما يصدر من نظاره الموجودين معه كائنة ما كانت لأي جهة من الجهات وعدم تنفيذها حيث إن الخديو خرج عن قواعد الشرع الشريف والقانون المنيف، ويلزم عرض قرارنا هذا على الأعتاب العالية الشاهانية بواسطة وكلاء النظارات».
14
أما المجلس العرفي برئاسة يعقوب سامي باشا فكان هو الذي يتولى شؤون الإدارة العامة في البلاد وكان أشبه بمجلس الوزراء وقد أدى المجلس واجبه على خير ما يرجى من الهمة والوطنية، ومن أهم قراراته، وضع الرقابة على الصحف والتلغراف، ومنع السفر إلى الخارج ما دامت الحرب قائمة ...
وكان الفيضان عاليا في تلك السنة فبذل المجلس همة عالية في حراسة ضفاف النيل حتى لا يدهم البلاد خطر الغرق في وقت الحرب ...
هذا إلى ما أمد به الجيش في خطوط الدفاع بالذخيرة والرجال والعتاد في نشاط وحمية وإخلاص، وما أظهره من كفاءة في حفظ الأمن والنظام داخل البلاد ... •••
وكان نفوذ الخديو لا يعدو الإسكندرية، بل إنه في الواقع لم يكن له شيء من النفوذ هناك؛ فقد كان الأمر كله للإنجليز، ولم يعد الخديو إلا اسما يستترون خلفه ويصدرون قراراتهم وأوامرهم منسوبة إليه ...
ونشط السير بوشامب سيمور كما زعم في المحافظة على النظام والقضاء على الفوضى حتى لقد عاقب ثلاثة من الوطنيين وواحدا من اليونانيين بالقتل رميا بالرصاص بتهمة إثارة الفوضى، ولكنه فاته أن يؤدب جنوده الإنجليز الذين يستعين بهم على إقرار النظام والذين جاءوا مصر للقضاء على عرابي وأصحابه من العصاة؛ فقد سرق هؤلاء الإنجليز قصر الخديو بالرمل وانطبق عليهم بذلك المثل القائل: «حاميها حراميها».
أبرق كارتريت إلى جرانفل في السادس والعشرين من يوليو يقول: «تلقى الخديو كتابا من الرمل بالأمس فيه أن جندا بريطانيين اقتحموا قصر سموه وعاثوا في أنحائه للسرقة، وقد توجه إلى هناك فورا الميجور جنرال سير أ. أليسون الذي أخبر بهذا الحادث لتحقيق المسألة ... وقد أخبرني صباح اليوم الميجور أردغ الذي رافق الجنرال أنه يعتقد أن القصة لا أساس لها، وظهر أن مدخلا فتح خلال شباك في الطابق الأسفل وقد أفرغت محتويات الصناديق والصواوين جميعا، ولكن ليس هناك من ريب في أن هذا عمل بضع ساعات وأنه وقع قبل وصول فرقنا».
15
وانظر إلى هؤلاء الإنجليز كيف يهونون الأمر هنا وينفونه عن جنودهم بنفس الأسلوب الذي يتبعونه حين يهولون ويسرفون في محاولة إلصاق تهمة لا دليل عليها بالمصريين، وبعرابي بوجه خاص ...
وتولى رئاسة البوليس في الإسكندرية شارلز برسفورد، وقد أذن للتجار فتح دكاكينهم ليلا، كما حتم على كل شخص يسير بالليل أن يحمل مصباحا وإلا قبض عليه، وذلك ريثما تعود شركة الغاز إلى عملها ...
وأخذت الحياة تعود إلى المدينة شيئا فشيئا، وبذل البوليس جهدا كبيرا في إزالة الأنقاض ودفن جثث القتلى، ولم ينته شهر يوليو حتى أضيئت المدينة بالغاز كما كانت وفتحت القنصليات أبوابها ...
على أن أشد ما خوف الإنجليز والأجانب عموما هو تناقص الماء الآتي من ترعة المحمودية؛ فقد سدها الجيش بالقرب من جهة كنج عثمان، ولذلك أصدر البوليس بطاقات لتوزيع الماء من الصهاريج حسب الحاجة، ويتبين مبلغ خوف الإنجليز من سد الترعة في برقية أرسلها كارتريت بهذا الشأن في العشرين من يوليو، يقول فيها: إن ذلك سوف يؤدي إلى هجرة الوطنيين إلى داخل البلاد وإلى التجاء الأوربيين للسفن ليشربوا من ماء الأسطول ... وكذلك أبرق سيمور يبدي تخوفه من هذا العمل، ولعلهما بذلك كانا يستحثان حكومتهما لإعداد الحملة على مصر ... •••
وأما تركيا، فقد ظلت على حالها من التلكؤ والتردد، ولم تصدر شيئا بشأن توفيق ولا بشأن عرابي، على أن (درويش باشا) الذي غادر مصر خفية في اليوم التاسع عشر من يوليو، قد أعرب عن استيائه من موقف الخديو حتى من قبل أن ينضم صراحة إلى الإنجليز، وذلك فيما أرسله إلى كارتريت في اليوم العاشر من يوليو ردا على تحميله تبعة سلامة الخديو؛ فقد قال درويش بعد أن استعرض قضية الضرب كلها في صراحة وقوة وأظهر تعسف الإنجليز وتنكبهم طريق الصواب: «أما عن دعوتك إياي أن أعمل بكل ما في قوتي على ضمان سلامة سمو الخديو فيجب علي أن ألاحظ أنه ليس من سلامة المنطق أن يفرق بين الذات الفخمة، ذات سمو توفيق باشا، وبين حكومته، وإنه من الأمور الطبيعية أن يشغل الخديو نفسه بضمان أمن البلاد التي يحكمها وسلامتها أكثر مما يشتغل بما يهم شخصه».
16 •••
وقبل أن نختم هذا الفصل نشير إلى خدعة ثانية أراد بها الخديو أن يتصيد بها عرابي أو يبث في صفوفه التردد والانقسام؛ وذلك أنه أرسل إليه على لسان علي مبارك باشا أحد أعضاء الوفد الذي أرسلته الجمعية العمومية إلى الإسكندرية عقب اجتماعها الأول يقترح تأليف لجنة للصلح ممن ينتدبهم عرابي من رؤساء الجند لتنضم إليهم لجنة أخرى من الأعيان ...
وكانت خطوة علي مبارك باشا خدعة لا ريب فيها، وإن ذهب بعض المؤرخين إلى أنها كانت رغبة منه في إصلاح ذات البين، بل إنا لنقول في غير إسراف: إن عمله بالنسبة إلى عرابي وأصحابه من قادة الثورة القومية يعد ضربا من الخيانة، وإنا لنشعر بعظيم الأسف؛ إذ نثبت هذا عن رجل له جلائل أعماله وله مكانته في نهضة مصر الحديثة، ولكن الحق فوق كل اعتبار، وحسبنا أن نورد ما يأتي من الأدلة على سوء ما فعل ...
أبرق كارتريت إلى جرانفل في الرابع والعشرين من يوليو يقول: «أتشرف بإبلاغكم أن علي مبارك باشا وزير الأشغال السابق في وزارة رياض نجح في الوصول إلى الإسكندرية من القاهرة، كان يسود الهدوء في القاهرة وقت مغادرته إياها، ولكن هناك قدرا من القلق بين الناس، وعند كفر الدوار رأى عرابي باشا وهو يصف وصفا حيا ما رأى هناك من الأمور، أعلنت الحرب المقدسة، بتأثير الشيوخ، ويأتي إليه أعداد كبيرة من المتطوعين القرويين، ويوزع السلاح على القادمين ويبلغ المجموع الكلي للقوات الآن 30000 رجل، وتتوفر لديه الأقوات والخيل، ويقول ضباط عرابي: إن رغبة إنجلترا هي طرد عرابي باشا نفسه وتسريح الجيش، وتكوين فرق أجنبية أو تركية تحل محله ولكن هذا لن يكون ... ويقول علي باشا مبارك: إن العلاقات بين عرابي والبدو ليست متينة، وقد علمت من مصدر آخر أن البدو اعتزلوا معسكره كلية».
وأبرق كارتريت بعد ذلك بيوم يقول: «إيماء إلى رسالتي بالأمس بشأن التقارير التي تلقيناها من القاهرة وكفر الدوار، أبلغكم أن علي مبارك باشا الذي جاء بها زار سير أ. كلفن صباح اليوم، وأفهمه أن عرابي باشا وطلبة باشا يترددان في الواقع في السير في الطريق التي يسلكانها الآن ... بل لقد استحثاه بصفة شخصية أن يجس نبض الإنجليز بشأن شروط للصلح، وقد أجاب سير أ. كلفن بأنه لا يملك عمل شيء، وأنه يصح أن يذهب علي باشا مبارك إلى الأدميرال السير بوشامب سيمور، ولكن الأمر على كل حال بيد المؤتمر ولا يستطيع الأدميرال أن يعمل إلا عمل الوسيط، وبعد سماع هذه التحفظات استمر علي باشا مبارك في كلامه فقرر ما يأتي: «إنه يظن أنه بعد أن يزال في الحال السد من ترعة المحمودية كدليل على الإخلاص سوف يقترح العصاة على السير بوشامب سيمور أن يسرح الجيش وأن يعود الجميع إلى مواطنهم ويكتفي بنفي القادة المحرضين، فقال السير أ. كلفن: إن كان ثمة من شروط تقترح، فيجب ألا يضيع شيء ما من الوقت؛ لأن قوات عظيمة تعد الآن، ولما كان كل مخرج ممكن من البلاد محاصرا فإن خاتمة المحرضين قد فرغ منها ... وأضاف إلى ذلك أنه إذا ابتدأ القتال فإنهم سيسلكون الطريق التي رسموها ...
ورد علي باشا مبارك فأفصح عما في نفسه بالتحديد قائلا: إن معظم الضباط وفيهم طلبة يتلهفون إلى ضمان سلامتهم، وإنهم إذا نجحوا في الحصول على شروط لأنفسهم بانسحابهم عن عرابي، فإنه وأشياعه الأقربين مهما يبدو من إصرارهم سوف يضطرون في عزلتهم إلى طلب الصلح، ويعتقد أنه بهذا يمكن بعثرة الجيش وبذلك تنتهي المقاومة ... وأكد له سير أ. كلفن ثانية أن كل مقاومة سوف لا تجدي، وأنه لا يترتب على أعمال التحطيم إلا خراب مصر؛ لأنه لا بد من فرض غرامة عليها، وانصرف علي باشا مبارك مصمما أن يتصل بطلبة باشا، ولكن السير أ. كلفن كان حريصا فلم يذكر أي اقتراحات عما تكون عليه الشروط ولا عما عسى أن يتوقع إذا قبلت شروط من أي نوع ما ... وقد علم السير بوشامب سيمور بما حدث، ومن الخير أن ترسل إليه بعض التعليمات ليهتدي بها في حالة الضرورة».
ورد جرانفل في نفس اليوم فقال: «تؤيد حكومة جلالة الملكة بقوة لغة السير أ. كلفن في هذا الأمر، ولكنها ترى ألا يشار إلى شيء من هذا في المؤتمر في المرحلة الحالية، وحكومة جلالة الملكة على استعداد أن تنظر في أي مقترحات من جانب عرابي على شرط أن يكون أساسها الإخلاص، ولكن يجب أن يكون مفهوما بأنها لا تقبل إلا الخضوع التام ... على أنه إذا فتحت ترعة المحمودية فسوف تعد هذه الخطوة من جانبه علامة على حسن مقاصده، ولما كانت حكومة جلالة الملكة واثقة من ثبات السير أ. كلفن فإنها تسند كثيرا من الأمور إلى حكمته، وفي الوقت نفسه فإن حكومة جلالة الملكة لن تتراخى في تدبيراتها الحربية، اتصل بالأدميرال بشأن موضوع هذه الرسالة».
17
هذا ما صنعه علي باشا مبارك الذي يؤسفنا أشد الأسف أن يكون مثله من دعاة التردد والهزيمة، وأن يكون طليعة هؤلاء الذين سوف يكونون أشد خطرا على عرابي من أعدائه الإنجليز ... •••
وعظمت دهشة عرابي أن يكون اقتراح الصلح على أساس قبول عرابي ما جاء في المذكرة المشتركة الثانية التي استقالت بسببها وزارة البارودي، ولذلك بادر برفض هذا الاقتراح السخيف معلنا أنه لا يجوز تأليف لجان بعد قرار الجمعية العمومية.
وأذاع عرابي من فوره بلاغا إلى داخل البلاد حتى لا تثمر هذه الخدعة ثمرتها من الانقسام والتخاذل؛ وذلك إذ يعلم الجيش وتعلم البلاد أن عرابي يطلب الصلح وقد جاء في هذا البلاغ أن الخديو انضم إلى الإنجليز فلا طاعة له على الناس واختتم بلاغه بقوله: «وها نحن بجيشنا المظفر المنصور في مراكز الحرب قد بعنا أنفسنا في حياة بلادنا وحفظها من الأعداء، ولا يردنا عن ذلك إلا الظفر والنصر أو ارتحال العدو من مياه الإسكندرية بأساطيله ورجاله، وإلا فإننا نقابل القوة بمثلها ولا نسلم البلاد لأحد وفيها ذو روح يتنفس، والله يؤيد بنصره من يشاء».
18
وكان يقرأ الناس هذا البلاغ فيرددون كلمتهم التي ألفوها والتي صارت شعار البلد كله: «الله ينصرك يا عرابي».
كفر الدوار
رابط عرابي عند كفر الدوار، وهذا المكان هو ما يعرف في الثورة باسم الميدان الغربي، ولقد اختاره عرابي عند انسحاب الحامية من الإسكندرية، كما ذكر محمود فهمي باشا في محضر استجوابه، وكما ذكر عرابي في التقرير الذي كتبه لمحاميه وهو في سجنه، قال محمود فهمى باشا: «توجهنا إلى كفر الدوار ... وطلعنا إلى المحطة ومنها إلى كنج عثمان وتقابل معنا حسن بك ابن كنج عثمان فوجدنا هناك تلا قديما، فسأل عرابي عن اسم هذا التل فقال له حسن بك: اسمه تل الناصر، فالتفت إلى عرابي وقال: إن ابتداء استحكاماتنا يكون هنا، وأمرني بإنشاء استحكامات، وحرر بطلب العساكر وطلب الأنفار للعملية».
وقال عرابي: «وجرت مناقشة فيما عسى أن نفعل إذا عاد الأدميرال الضرب؟ وإلى أي مكان ينسحب الجيش إذا اضطررنا لإخلاء المدينة؟ وسمحت لمحمود باشا فهمي وخليل بك كامل أن يذهبا إلى المحمودية ويفحصا الجهة ابتداء من حجر النواتية إلى كفر الدوار ويضعا رسما للموضع الذي يريانه أليق من غيره».
1
وقال في مكان آخر: «أمرت قوادهم أن يتجهوا بفرقهم صوب ترعة المحمودية ... وعند الغروب بلغت جسر السكة الحديد الذي يعبر الترعة وهنالك وراء الجسر مباشرة اخترت مكان المعسكر، وتوافد الجند من الإسكندرية والرمل أثناء الليل، وكانت الساعة الثانية صباحا حين وصل الجند الذين تركتهم بالإسكندرية؛ فقد تأخروا بسبب الزحام الشديد من الناس والدواب والعربات في الطريق ... وفي الصباح وجدنا أن معسكرنا معرض للضرب من السفن فانتقلنا مبتعدين بجنودنا إلى مكان يسمى عزبة خورشيد على بعد نحو خمسة آلاف متر من محطة الملاحة».
2
ويعزو بلنت اختيار هذا الموضع إلى محمود فهمي باشا ويصف المكان في قوله: «وكان الفضل في اختيار هذا المكان المنيع الواقع على الخط الحديدي إلى القاهرة والذي تكتنفه من الجهتين بحيرة مريوط الضحلة وبعض المناقع راجعا فيما أعتقد إلى مهارة محمود فهمي الهندسية، ولم يكن في وسع عرابي أن يصنع خيرا من اتخاذه هذا المكان مستقرا لمعسكره الجديد، لقد كان بعيدا البعد الكافي عن مدافع سيمور، ولم يكن يستطيع جيش مهاجم أن يبلغه إلا عن الطريق الضيق الذي مهده خط السكة الحديد، وبهذا لم يكن يمكن اقتحامه من جهة الإسكندرية في حين أنه من جهة الأرض كانت الدلتا مفتوحة للجيش بإمداداتها التي لا تكل، وكان الجيش حر الاتصال بالقاهرة، وهنا استطاع الجيش المصري أن يثبت أمام الإنجليز بنجاح نحو خمسة أسابيع، يصد كل الهجمات بل يدفع العدو بهجمات مضادة إلى ما يقرب من أبواب الإسكندرية، ولو لم يكن هناك باب آخر لدخول مصر غير كفر الدوار لظفرت الحركة القومية بالنجاح».
3
وقال عرابي في مذكراته المخطوطة: «أن الاستحكامات في كفر الدوار كانت تمتد من عزبة خورشيد إلى كفر الدوار، وأنشأوا في كفر الدوار استحكامات من ترعة المحمودية إلى الملاحة وحفروا خندقا عرضه أربعة أمتار، وجعل خط الدفاع في المقدمة عند عزبة خورشيد على طول الخط من المحمودية إلى الملاحة، وجعل ما وراء هذا الخط من التلال والمرتفعات مواقع حصينة ركبت فيها مدافع كروب، وكذلك التلال الكائنة بين المحمودية وسد أبي قير ... وقد تم إجراء هذه الأعمال الدفاعية بمعرفة المهندس الحربي العظيم محمود باشا فهمي ورجال الهندسة الحربيين ومساعدة خمسة آلاف رجل من الأهالي من مديريات البحيرة والغربية والمنوفية».
وممن كان لهم عظيم فضل في بناء هذه الاستحكامات الميرالاي محمد بك شكري أحد الضباط المصريين النابهين في أركان حرب الجيش المصري.
وكانت خطوط الدفاع في هذا الميدان ثلاثة، يبعد كل واحد عن الذي يليه بأربعة آلاف أو خمسة آلاف متر، وكان بين كل خطين خندق عمقه 15 قدما، وبنيت على جميع المرتفعات الصالحة قلاع وضع فيها نحو 50 مدفعا. •••
وأقام عرابي خيمته عند كنج عثمان، وكان يفد إليه فيها - غير ضباطه وأركان حربه - الأعيان والعلماء وكبار التجار وغيرهم من ذوي المكانة والجاه، وكانت خيمة فخمة هائلة، وحسبك أنها خيمة سعيد باشا نفسه، تفضلت أرملته فقدمتها إلى عرابي هدية قومية مشفوعة بأصدق أمانيها أن يؤيده الله بنصره.
4
وكانت مصر كلها حينذاك في قبضة عرابي، تدين له طوعا لا كرها، شعارها: «الله ينصرك يا عرابي»؛ لأن انتصار عرابي كان في نظر الأمة خلاصها من جشع الأجانب ومن استبداد الترك والشراكسة.
واستجابت الأمة لا بالدعاء فحسب، لهذا الفلاح من أبنائها الذي يقف موقف الشرف والكرامة، وأمدته بسخاء بما طلب من مال وعتاد ورجال.
وقل أن نجد في تاريخ الحروب حربا كهذه الحرب التي لم ينفق فيها قرش واحد من خزانة الدولة، والتي قامت على ما بذل الشعب طائعا من أقواته وأمواله ودمه.
وإن المرء ليتملكه شعور الإعجاب والفخار تلقاء هذه الصفحة المشرقة التي هي بحق أنصع صفحة في تاريخ هذه الحرب، والتي نسوقها دليلا جديدا على قوة روح هذه الأمة وكرم عنصرها، وعلى أن ثورتها القومية كانت منبعثة من أعماق القرى، وأنها كانت تهز مشاعر أبنائها هزا، وتنفض عنهم سبات القرون الطويلة.
هؤلاء فلاحون يعملون في خطوط الدفاع، إلى جانب جند فلاحين من إخوانهم، يقودهم مثلهم فلاحون، وجميعهم تحت إمرة فلاح مثلهم من قرية صغيرة، ولم يكن أبوه من الباشوات ولا كان يفتخر بنسب شركسي أو تركي، وإنما كان هو محمد عرابي شيخ بلدة هرية رزنة.
وكان هؤلاء الفلاحون يدافعون عن مبدأ استشعرته أنفسهم وإن لم يدرك أكثرهم كنهه كما يدرك المتعلمون منهم والمثقفون، وكانوا في حملتهم أشبه حالا بأبناء فرنسا أيام ثورتها الكبرى فالبذل والتطوع كان قوام الحركتين، ولكن ثوار فرنسا كان وراءهم تاريخ طويل من المعرفة والثقافة، في حين لم يكن وراء ثوار مصر إلا ما عانوه وما عاناه آباءهم وأجدادهم زمنا طويلا من الجهل والمذلة، على أن ذلك لن يضير المصريين شيئا، بل إنه ليحسب لهم لا عليهم، فحسبهم أن يقفوا وقفتهم هذه ونهضتهم بنت الأمس ...
وقال الشيخ محمد عبده في تقريره الذي كتبه لمستر برودلي وهو بالسجن: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيا صرفا بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان؟ فكان يتألب المسلمون والأقباط والإسرائيليون لنجدته بحماس غريب، وبكل ما أوتوه من حول وقوة؛ لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنجليز ... إني لم أعلم أنه قيل: إن الخديو كان يحارب جيشه، بل المعروف عند الناس أن الحرب وقعت برضاه وبأمره، وقد رسخ هذا الاعتقاد عندما علم الناس أنه أقال عرابي من منصبه؛ لأنه لم ينفذ أمره؛ بالاستمرار على المقاومة وتحصين بعض المراكز؛ اتقاء لنزول غزاة من البحر ...
وفي أثناء ذلك طفق العلماء يقرأون البخاري في الأزهر ومسجد سيدنا الحسين، ويدعون بالنصر لعساكر عرابي والهزيمة للإنجليز، وكان إمام الخديو الشيخ الصالح العالم الإبياري في طليعة الملتهبين غيرة ووطنية، فنشر قصيدة إبراهيم دريد في غارة التتار على بغداد في أيام الخليفة العباسي المعتصم، وهي عبارة عن دعاء وابتهال وقد أضاف إليها أبياتا من نظمه فكان من الناس من يقرأها ويتلوها بعد قراءة البخاري ...
وقد تبرع الأمراء والأعيان والعلماء وسائر أفراد الحاشية الخديوية، حتى النساء، بالخيل والحبوب والنقود والميرة اللازمة للجيش، وأظهر المديرون والموظفون - على اختلاف طبقاتهم - والكتبة غيرة وحمية في جمع الميرة المطلوبة وحشد المتطوعين للجيش ولسائر الأشغال العسكرية ...
وقد رأيت الناس من فلاحين وبدو ذاهبين إلى الحرب برضاهم واختيارهم، متشوقين لقتال الإنجليز، وقد شمل هذا الحماس الأقباط، وكان يشجعهم على ذلك رؤساؤهم، وكان شبان القاهرة يمرحون في المدينة ليلا يتغنون بمديح عرابي، وفي أي اجتماع ذكرت فيه الحرب كان الناس يدعون الله طالبين النصر لجيوشنا».
5
وقال نينيه: «كانت ترد كل يوم إلى كفر الدوار إعانات الشعب من المال والقمح والشعير والبقول والسمن والخضر والفاكهة والخيل والماشية، وقد أبدى أعيان الوجهين البحري والقبلي شهامة عظيمة في إمداد الجيش، وفي مقدمتهم أحمد باشا المنشاوي زعيم طنطا الوطني، الذي أنقذ من الموت في حوادث 13و14 يوليو عددا من المسيحيين واليهود، وقد بدا من الأهالي ما يدل على شدة تعلقهم بالدفاع عن وطنهم وظهروا بمظهر الشرف».
6
وقال عرابي في مذكراته المخطوطة تحت عنوان: «كرم المصريين وسخاؤهم»: قامت هذه الحرب الشعواء وليس في خزانة الحكومة درهم؛ لأن المراقب الإنجليزي المستر كلفن أخذ الأموال من خزينة المالية، وأنزلها في الدوننمة الإنجليزية قبل إعلان الحرب بأيام، وكذلك الأموال الموجودة في صندوق الدين العمومي، وقد حملها أعضاء قومسيون الصندوق إلى السفن الحربية حيث أمنوا عليها ...
وبناء على ذلك أرسل المجلس العام إلى المديريات بتحصيل الأموال من الأهالي عشرة قروش عن كل فدان، ومن شاء أن يتبرع بشيء إعانة للجند المجاهدين في سبيل الدفاع عن الوطن وحفظ الكرامة والشرف يقبل منه مع إعلان الشكر ...
ولما أعلن ذلك للعموم جادت الأمة على اختلاف طبقاتها بالمال والغلال والخيل والجمال والأبقار والجاموس والأغنام والفاكهة والخضروات، حتى حطب الحريق ...
وقد تبرع موسى بك مزار الرجل الوطني ب 1300 ثوب من البفتة و30 عجل بقر عن طيب خاطر، ووالدة الخديو إسماعيل تبرعت بجميع خيول عرباتها، وجاراها في هذا المضمار باقي أفراد العائلة الخديوية، وكذلك حرم خيري باشا رئيس الديوان الخديو، وحرم رياض باشا، وكثير غيرهم من الذوات رجالا ونساء، كل ذلك فضلا عما مدوا به الجيش من الأقمشة والأربطة اللازمة لتضميد جروح الجند وغيرهم، وتبرع بعض الأهالي بنصف ما يملكونه من الغلال والماشية، ومنهم من خرج عن جميع مقتنياته، ومنهم من عرض أولاده للدفاع عن الوطن لعدم قدرته على الدفاع بنفسه، وبالجملة فإن الأمة المصرية عن بكرة أبيها قدمت من التبرعات وأظهرت من النخوة والغيرة ما لم يسبق له عهد في القرون الماضية، أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجزي الأمة خير الجزاء وأن يرد لها حريتها واستقلالها».
7
وجاء في كتاب أرسله عرابي من منفاه إلى صابونجى في يوليو سنة 1883، قوله: «أرجو أن تذكر صديقنا المستر بلنت، فضلا عما كتبناه إليه بتاريخ 15 الحالي أن جميع النفقات التي لزمت لمائة ألف جندي مصري أثناء الحرب كانت كلها تبرعات من الأمة المصرية بغير تمييز بين العقائد؛ فقد بدأت الحرب ولم يكن هناك أكثر من عشرة آلاف جندي تحت السلاح، ولا أكثر من ألف ومائتي حلة عسكرية في المخازن، وحتى هذه لم تكن كاملة، ولم يكن لدينا أكثر من ألف وخمسمائة عدل من الحبوب، ولكنه عند نهاية الحرب كان لدينا في مستودعات الجيش وفي المديريات المختلفة والمخازن ما يزيد قيمته على مليون من الجنيهات من المال والمنتجات الزراعية والبقر والجاموس والغنم والأقمشة، وكل ذلك قدم هدايا من الأمة لجيشها المدافع عن وطنها ... ولم ينفق على الجيش اثناء القتال درهم واحد من خزانة الحكومة».
8
وتجلت حماسة الأمة للثورة والحرب فيما ألقاه نفر من أبنائها من الخطب وما كتبوه من المقالات وما نظموه من الشعر وكلها ناطقة بنضج هؤلاء وحرصهم على الحرية والدستور ونفورهم من الاستبداد والعبودية، وإن الذي يقرأ ذلك ليوقن أنه حيال حركة صادقة قوية جديرة بكل ثناء وإعجاب، ولو اتسع المجال لأوردنا طائفة منها، فلنكتف بذكر أسماء نفر من أصحابها، وقد كان في مقدمة هؤلاء عبد الله نديم خطيب الثورة وكاتبها الأشهر وصاحب جريدة «الطائف» لسان حال الثورة ومرآتها، والشيخ محمد عبده أحد أفذاذ الحركة الأعلام، والأستاذ الشاعر الشيخ أحمد عبد الغني من علماء الأزهر، والشيخ علي المليجي، والشيخ محمود إبراهيم خطيب أسيوط، والشيخ محمد أبو الفضل خطيب مسجد الحنفي، والشيخ حميدة الدمنهوري، والشيخ عبد الوهاب أبو عسكر، والشيخ محمد فتح الله، والملازم علي أفندي غالب، والشيخ أحمد سيف الباري، وغيرهم من الخطباء ورجال القلم ... •••
وكان جيش مصر العامل تحت السلاح عند بدء الحرب لا يزيد عن عشرة آلاف كما ذكر عرابي، ولعل عرابي يقصد القوات التي كانت في كفر الدوار؛ فقد ذكر الشيخ محمد عبده في مذكراته إحصاء عدد الجيش فقال: «كان الجيش مؤلفا من 8000 منظمة مع 80 مدفعا من كروب، وكان يوجد في أبي قير ثلاثة آلاف وخمسمائة، وألفان وخمسمائة في رشيد، وخمسة آلاف في دمياط، المجموع أحد عشر ألفا، أما الخيالة فلم يكن لهم وجود إلا قليلا».
9
وإحصاء الشيخ محمد عبده قريب من إحصاء عرابي؛ لأنه كان يقصد بالثمانية آلاف التي ذكرها أولا الجيش القائم في كفر الدوار، فإذا أضيفت هذه إلى تلك الآلاف الإحدى عشرة الموزعة على النحو الذي ذكر كان الجيش في مجموعه نحو تسعة عشر ألفا.
ويقول بلنت: إن الجيش المصري لم يكن يزيد عن ثلاثة عشر ألفا من الجنود النظامية، كان منهم ثمانية آلاف في كفر الدوار ...
وذكر نينيه أن الجيش النظامي لم يكن يزيد عن تسعة عشر ألفا، كان منهم ثمانية آلاف في كفر الدوار، وثلاثة آلاف وخمسمائة في أبي قير، وألفان وخمسمائة في رشيد، وخمسة آلاف في دمياط، ويتفق هذا الإحصاء مع ما ذكره الشيخ محمد عبده.
أما الصحف الإنجليزية، فقد بالغت في عدد الجيش، حتى كانت ترتفع بهذا العدد أحيانا إلى ما يقرب من خمسين ألفا ...
وانضمت إلى الجيش النظامي أعداد من المتطوعين لم يتوصل إلى حصرهم، ولعل هذا هو السبب في اختلاف الآراء في إحصاء عدد الجيش المصري وقت القتال، والواقع أن المتطوعين كانوا أضعاف النظاميين وقد وزعوا على أعمال مختلفة تتصل بالجهاد ...
وقد عين عرابي باشا محمود فهمي باشا رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش المصري عقب ضرب الإسكندرية، وكان محمود باشا فهمي من أكفأ رجال الهندسة الحربية في مصر، وقد تخرج في مدرسة المهندسخانة ببولاق، ونبغ في الفنون الهندسية أثناء التحاقه بالجيش المصري، ثم عين أستاذا لعلم بناء الاستحكامات والفنون العسكرية في المدارس الحربية في عهدي سعيد وإسماعيل باشا، وقد عهد إليه بتحصين الشواطئ المصرية الشمالية، فأكسبه ذلك خبرة عملية، كما أنه اشترك في حرب البلقان التي نشبت بين تركيا وروسيا سنة 1876، فاكتسب مرانا وخبرة ...
وقد وضع محمود فهمي باشا خطة حكيمة للدفاع عن مصر كانت كفيلة بأن تصد الإنجليز وتنقذ مصر من تدبيرهم وسوء مكرهم، وسنرى مبلغ ما دخل على هذه الخطة من عوامل أضعفتها وأحبطتها في النهاية ...
عين محمود باشا خمسة مواقع رئيسية للدفاع، أولها في كفر الدوار، وثانيها في رشيد، وثالثها بين رشيد وبحيرة البرلس، ورابعها في دمياط، وخامسها في الصالحية والتل الكبير، وكان الغرض من هذا الأخير صد هجوم الإنجليز من ناحية قناة السويس.
وقد سد محمود باشا ترعة المحمودية بالقرب من كنج عثمان ووضع المدافع على السد لحمايته، كما أشار بسد ترعة الإسماعيلية لمنع المياه العذبة عن الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وبسد قناة السويس نفسها لمنع اتخاذها قاعدة عسكرية للإنجليز ...
أما القيادة، فقد عين طلبة عصمت باشا قائدا لفرق كفر الدوار تحت إمرة عرابي، وخورشيد باشا طاهر على رشيد وأبي قير، وعلي باشا الروبي على مريوط، وعبد العال باشا حلمي على دمياط، ومحمود باشا سامي البارودي على الصالحية، والفريق راشد باشا حسني لخطوط الدفاع في الميدان الشرقي.
وبعد ... فهذه أمة ممثلة في مؤتمر وطني وقد نهضت نهضتها بالأمس القريب، وهذا جيش أمة يقوم على تطوع أبنائها، وهذا قائد أمة يذود عنها في وجه إنجلترا صاحبة الإمبراطورية العظمى، ومالكة الأساطيل الضخمة، وذات النفوذ السياسي العظيم ...
وقد واتت إنجلترا الفرصة لتحقيق حلمها الذي ساورها منذ إخراج حملة نابليون من مصر، والذي بدده محمد علي سنة 1807 حين أجبر فريزر على الانسحاب بعد أن أحبط كيده وقد كان يمني نفسه أن ينضم إليه بعض زعماء المماليك كما ينضم الخديو إلى سيمور اليوم ... والذي عاد يغازل خيالها حين فتحت قناة السويس وصار فيها النفوذ لفرنسا، والذي باتت منه اليوم على قيد خطوات بعد ضرب الإسكندرية واحتلالها ...
ونحب من الذين لا يزالون ينكرون الحرب على عرابي أن ينظروا في هذا الذي نقول، وأن يذكروا ما قدمناه في صفحات هذا الكتاب من الأدلة على أن نية إنجلترا في الاستيلاء على مصر كانت سابقة لعهد عرابي، وأن يستعيدوا ما قلنا في أكثر من موضع؛ إنه لو لم يوجد عرابي لعمل الإنجليز على خلقه ...
وليذكر هؤلاء حقيقة أخرى لا يخلق بمصري أن يجهلها، وهي أن الإنجليز حاربوا الحركة القومية الدستورية في مصر؛ لأنها قامت في أواخر عهد إسماعيل لتنقذ مصر من دسائسهم ومن شباكهم المالية، ولأنهم أيقنوا أنهم لو تركوها وشأنها استعصى عليهم بعد ذلك قمعها وضاعت فرصة اصطياد مصر من أيديهم!
ونظن أنه لم يعد في مصر من يماري في هذه الحقائق، وعلى ذلك فمن لغو القول ومن تفاهة التفكير وسخفه أن يردد إنسان في مثل نغمة الصبية قول الجاهلين بحقيقة هذه الثورة القومية وحقيقة أطماع الإنجليز في مصر: إنه لولا عرابي وثورته ما دخل الإنجليز مصر ...
ما سعى عرابي إلى هذه الحرب، ولكنه لما رأى أن إنجلترا قد ساقت البلاد إليها بسياستها، وأيقن أن الأمر بات أمر كرامة وشرف ودفاع عن حرية يراد بها أن تخنق، لم يجد بدا من خوض غمرتها كما ذكرنا فإما نصر يتحقق به كل شيء، وإما هزيمة تذهب بكل شيء إلا الشرف والكرامة، ولم يكن ينتظر من وراء التسليم بلا قتال كما ذكر بلنت شيء يخالف ما حدث فعلا بعد الحرب، وعلى هذا فضلت مصر أن تقف موقف الكرامة، وما حملها عرابي على هذا الموقف كرها وإنما كان ممثل إرادتها وقائد ثورتها ...
وقد حاول عرابي ورجال الحزب الوطني أكثر من مرة أن يقنعوا جلادستون بعدالة قضيتهم، وبأن العدوان عليهم ليس طريق الصواب، وكان سفيرهم في هذا السعي صديقهم مستر بلنت، ولكن المسألة - كما ذكرنا - في أكثر من موطن في هذا التاريخ لم تكن مسألة إقناع وإنما هي نية مبيتة، والإنجليز في سبيل إمبراطوريتهم ومطامعهم الاستعمارية لا يبالون بشيء ...
وكانت آخر محاولة من عرابي في هذا السبيل ما أملاه على صابونجي ليرسله إلى بلنت كي يحمله هذا إلى جلادستون، وكان ذلك في اليوم الثاني من يوليو أي قبل العدوان الغادر على البلاد بتسعة أيام ... قال عرابي بعد أن أنذر بسوء ما يترتب على نية إنجلترا في الشرق الإسلامي كله: «لقد سمحت الحكومة الإنجليزية لنفسها أن يخدعها وكلاؤها، فكلفها ذلك مكانتها في مصر، وستجد إنجلترا نفسها أنها عملت بنصح أسوأ إذا حاولت أن تستعيد ما فقدته بالقوة الوحشية، قوة المدافع والحراب ... ومن الناحية الأخرى فإن هناك وسائل إنسانية ودية إلى هذا الغرض، إن مصر على استعداد، بل إنها لترغب، في أن تصل إلى تفاهم مع إنجلترا على أساس أن تكون صديقتها وأن تحمي مصالحها في مصر كما تحمي طريقها إلى الهند، وتكون حليفتها، ولكن يجب على إنجلترا أن تظل في حدود ما تخوله لها القوانين، فإذا آثرت إنجلترا أن تظل على انخداعها وأن تتباهى علينا وتهددنا بأساطيلها وفرقها الهندية فلها أن تختار ما تشاء، ولكن على ألا تقدر وطنية الشعب المصري قدرا ينزل بها عن حقيقتها، أن ممثليها لم يطلعوها على التغيير الذي طرأ علينا منذ أيام طغيان إسماعيل.
وإن الأمم في عصرنا هذا لتخطو خطوات مفاجئة هائلة في طريق التقدم، وجملة القول : أنه ينبغي أن تكون إنجلترا على يقين من أننا عقدنا العزم على أن نحارب، وأن نموت شهداء أوطاننا كما يقضي بذلك ما جاء به رسولنا، أو ننتصر فنعيش سعداء مستقلين، وإن السعادة في الحالين هي ما نوعد به، وإن أمة تؤمن بهذا لن يعرف لشجاعتها حد».
10
واختارت إنجلترا سبيل القوة وضرب أسطولها الإسكندرية واعتدت عدوانها الغادر على مصر والمؤتمر الدولي الذي انعقد في الآستانة - والذي قرر أن يكون للسلطان وحده حق التدخل في مصر- لا يزال قائما لم ينفض ...! •••
اختلقت إنجلترا الظرف القاهر الذي اتخذته ذريعة لضرب الإسكندرية، ثم فعلت ذلك في غير تحرج من شناعة ما تفعل، والآن بعد أن خطت الخطوة الأولى وأنزلت جنودها بالإسكندرية، اتجهت سياستها إلى إتمام ما بدأت وتحقيق حلمها القديم باحتلال مصر ...
وانحصر همها الآن في أن تصل بسياستها إلى أحد أمرين: إما أن تظفر من المؤتمر بتفويضها بدخول مصر وبذلك يلغي قراراته جميعا، وإما أن تفعل ذلك دون مبالاة بالمؤتمر كما فعلت حين ضربت الإسكندرية ...
وكان الخطر - الذي زعمت أنه محدق بالأجانب - هو الذي خوفت به المؤتمر بالأمس، فبماذا تخوف المؤتمر اليوم وقد رحل الأجانب عن داخل البلاد وبقي منهم من بقي بالإسكندرية؟ ولكن هل يعدم الإنجليز حيلة؟ لقد راحوا يخوفون المؤتمر وينذرونه بويل جديد هو الخطر المحدق بقناة السويس ...
وأحست إنجلترا أن أمامها صخورا يجب أن تتجنبها في حذق ويقظة، فهي لا تأمن أن تراجع فرنسا نفسها فيما فعلت فتطرح حيادها، وهي لا تأمن جانب الدول الأخرى كروسيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي لا تستبعد أن توافق تركيا على الانضمام إلى المؤتمر، وقبول قراره الذي أصدره في اليوم السادس من يوليو وإرسال قوة تركية إلى مصر بناء على هذا القرار ...
لذلك عادت إنجلترا إلى مراوغاتها، وقد أعدت لكل أمر حسابه، وسوف تعتمد هنا كذلك على سياسة الأمر الواقع، تلك السياسة التي نبغت في اتباعها، والتي تسبقها بمفاوضات ومراسلات تقصد بها إلى التمويه، ثم تباغت بالخطوة المبيتة، كما تفعل سفنها؛ إذ تثير الدخان من حولها ثم تضرب ضربتها ...
ما كاد يفرغ سيمور من ضرب الإسكندرية حتى أرسل جرانفل إلى دوفرين بيانا مطولا ليفضي به إلى زملائه، وفيه تفصيل للحوادث التي أدت إلى ضرب الإسكندرية واختتمه بقوله: «إن حكومة جلالة الملكة لا ترى الآن غير اتباع القوة للقضاء على حال لن تطيق بعد صبرا عليها ... وإنها ترى أن أصلح وضع وأقربه إلى مبادئ القانون الدولي والعرف أن يكون الجيش الذي يؤدي هذا الغرض هو جيش الدولة صاحبة السيادة، فإذا لم يتيسر ذلك لتردد السلطان صار من الضروري النظر في طرق أخرى ... ولا تزال حكومة جلالة الملكة عند رأيها الذي أبدته في منشورها بتاريخ 11 فبراير ومؤداه أن كل تدخل في مصر يجب أن يكون مظهرا لإرادة أوربا وتضامنها».
11
إذن ترى إنجلترا الاستمرار في الحرب ولكن ماذا تقصد «بالطرق الأخرى؟» ذلك ما سوف تتكشف عنه سياستها، وهل تكون الطرق الأخرى غير انفرادها بدخول مصر كما انفردت بضرب الإسكندرية؟
وفي اليوم الخامس عشر من يوليو، أي بعد ضرب الإسكندرية بأربعة أيام اجتمع المؤتمر لاستئناف أعماله فبلغت المهزلة في تاريخه أقصى ما تبلغه؛ ففي ذلك اليوم تلقى أعضاء المؤتمر اعتماد حكوماتهم للمذكرة المشتركة وأرسلت إلى تركيا الدعوة للاشتراك في المؤتمر وإرسال جيش عثماني إلى مصر؛ تنفيذا لقراره ...
وتباطأ السلطان وتلكأ وصار يقدم رجلا ويؤخر أخرى حتى بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد، ويبدو أن إنجلترا كانت واثقة من أن السلطان لن يقبل ما طلبت الدول؛ فقد أبرق جرانفل إلى دوفرين في اليوم التاسع عشر يطلب إليه إما أن يمهل السلطان اثنتي عشرة ساعة أو يشرع في البحث عن وسائل أخرى،
12
وأخيرا فاجأ السلطان المؤتمرين في اليوم التاسع عشر نفسه بأنه قبل الاشتراك في المؤتمر للمباحثة في إقرار الوسائل الكفيلة بإعادة الأمور إلى وضعها السليم! ...
ولعل تركيا كانت تتوقع أن تؤيدها ألمانيا فتضع العراقيل في سبيل إنجلترا؛ إذ كانت ألمانيا منذ مؤتمر برلين سنة 1878 تميل إلى ملاينة تركيا واستدراجها إلى جانبها ؛ تحقيقا لأطماعها في البلقان والشرق، ولكن بسمارك كان يرمي من جهة أخرى إلى الإيقاع بين إنجلترا وفرنسا؛ وذلك بإطلاق يد إنجلترا لتنفرد بالدخول في مصر فتثير بذلك فرنسا، كما أنه في الوقت نفسه كان يريد أن يوقع إنجلترا وحدها في سوء عملها ليحاسبها على ذلك عند الضرورة، ولهذا رأى بسمارك أن يترك إنجلترا وشأنها فلم يمنحها تفويضا كما فاوضته وساومته ولم يضع في وجهها العراقيل كما توقعت تركيا أن يفعل، ففي اليوم العشرين من يوليو أبرق دوفرين إلى جرانفل خلاصة حديث جرى بينه وبين القائم بأعمال السفارة الألمانية فقال: «إنه بعد انفضاض الاجتماع أعاد علي وعلى السفير الفرنسي، القائم بأعمال السفارة الألمانية ما سبق أن ذكره في اليوم السالف ومؤداه أن دول الشمال لن ترضى بتفويض ما، وأنه خير لنا أن نتقدم وحدنا من غير إبطاء، وأن كل إنسان يقر أن التحفظ الذي أثبتناه باسم الظروف القاهرة يشمل كل ما نضطر إلى عمله في مصر، وقد حذا حذوه السفير النمسوي في الاجتماع الأخير».
13
ولقد كان سفير النمسا أكثر صراحة من القائم بأعمال السفارة الألمانية؛ وذلك أنه قال: «إنه لا يعارض في أن تعمل إنجلترا أو فرنسا على شرط ألا يفهم من ذلك أنها تعمل بتفويض من أوربا».
14
ويبدو أنه لما يئست تركيا من ألمانيا وأحست ما كان بين مندوبها وبين دوفرين مالت أخيرا إلى الاشتراك في المؤتمر.
وكان عمل تركيا هذا خليقا أن يسبب ارتباكا شديدا للسياسة الإنجليزية، ولكن إنجلترا سوف لا تبالي به ولن تعدم أن تخلق شروطا ومباحثات مع تركيا حتى تباغتها بالأمر الواقع ...
ولم تنتظر إنجلترا ما عسى أن يفعل المؤتمر ولا ما عسى أن تفعل تركيا؛ فقد رأت في موقف ألمانيا والنمسا ما يسهل لها عملها تسهيلا كبيرا.
ففي اليوم الثاني والعشرين من يوليو شرح جلادستون سياسة الحكومة الإنجليزية في مجلس العموم حيال المسألة المصرية فأدلى بتصريح جلي وصل به إلى وضع المؤتمر أمام الأمر الواقع، وواضح أنه كان يقصد به إلى الرد على قبول تركيا دخول المؤتمر وتنفيذ قراره قال: «إننا نشعر أننا لم نؤد واجبنا إذا لم نحاول أن نغير الحال الداخلية القائمة في مصر الآن من الفوضى والفتن إلى السلام والنظام، وسوف ننظر فيما تبقى لدينا من وقت في تعاون دول أوربا المتمدنة وإيانا إذا كان سبيل ذلك التعاون مفتوحا أمامنا» ثم أضاف إلى ذلك بين هتاف النواب واستحسانهم قوله: «فإذا أعيتنا جميع الوسائل المؤدية إلى التعاون فإن هذا العمل سوف تضطلع به إنجلترا وحدها».
15
ولكن إنجلترا لم تكن تريد أن تذهب في معارضة تركيا إلى حد إغضابها؛ وذلك لأنها كانت تدخرها لأمر خطير ذلك هو أن يعلن السلطان عصيان عرابي فيذهب بذلك ما جاءه من مكانة في نفوس الناس من ناحية أنه المدافع عن حقوق أمير المؤمنين ... لذلك سوف تعمد إنجلترا إلى المراوغة والمصانعة حتى تظفر بهذا التصريح الخطير ثم تدير ظهرها لتركيا آخر الأمر في غير مبالاة وفي غير هوادة ...
وهل يمنع إنجلترا قبول تركيا تنفيذ قرار المؤتمر والاشتراك فيه عن إعداد حملتها على مصر والسير فيها إلى نهاية الشوط؟ كلا بل إن ذلك كان حافزا لها على سرعة البت لتضع تركيا وغيرها حيال الأمر الواقع ...
وما كانت معارضة تركيا سياسة إنجلترا لتغني عنها شيئا، وإن إنجلترا لتفهم ما بين الدول من تيارات خفية يصعب معها إجماع كلمتها على مناهضتها، وتدرك مبلغ استعداد كل منها للتدخل الفعلي في شؤون مصر ...
ومضت إنجلترا في سياستها، ففي اليوم السابع والعشرين من يوليو وافق البرلمان على المبلغ اللازم للحملة وقدره 23 مليونا من الجنيهات بأغلبية 275 عضوا تلقاء 19 من المعارضين ...
وأعد خمسة عشر ألفا من الرجال للسفر إلى مالطة وقبرص وأمر بإرسال خمسة آلاف من الهنود إلى مصر وعين السير جارنت ولسلي قائدا عاما للحملة الإنجليزية على مصر «ليقضي على ثورة عسكرية في تلك البلاد ورغبة في تأييد سلطة سمو الخديو كما قررتها الفرمانات السلطانية والعلاقات الدولية القائمة».
وكانت إنجلترا قد أخذت تعمل على وضع الصعاب في وجه تركيا منذ أن ثبت لديها أنها قبلت قرار المؤتمر فأرسل جرانفل إلى دوفرين في الحادي والعشرين من الشهر يطلب إلى السلطان: «في عبارات مناسبة أنه بعد المراسلات التي جرت والتباطؤ الذي حدث، لم يبق له من أمل به يستعيد ثقة حكومة جلالة الملكة إلا أن يعلن في الحال بلاغا في صالح الخديو وفيه قرار بأن عرابي يعد من العصاة».
16
وكانت إنجلترا ترمى بذلك إلى المراوغة كما ذكرنا ريثما تعد العدة لحملتها وتتبين سياسة الدول الأخرى ولعلها كذلك تظفر بهذا البلاغ الذي سوف تعيد الكرة للظفر به مهما كلفها ذلك من جهد ...
أما عن موقف فرنسا، فكان يتحكم في سياستها نحو المسألة المصرية عامل قوي؛ وذلك أنها كانت لا تستطيع إغضاب إنجلترا؛ لأن سياسة بسمارك كانت موجهة في نشاط إلى وضعها في عزلة سياسية، وكانت تدرك فرنسا بعد أن انضمت إيطاليا في مايو سنة 1882 إلى التحالف بين ألمانيا والنمسا، أن سياسة بسمارك في طريقها إلى النجاح، وأنه خير لفرنسا أن تحرص على مودة إنجلترا وروسيا، وهي لا تأمن إن شاركت إنجلترا في حملتها على مصر أن يؤدي ذلك إلى الخلاف بينهما، كما أنها بالضرورة لا تستطيع أن تقف منها موقف المعارضة لهذا الاعتبار.
وكان بسمارك لا يفتأ يلاين إنجلترا في المسألة المصرية؛ ليثير بذلك فرنسا علها تتدخل فيصيب بذلك غرضين: أن يجعل فرنسا في وضع لا يبعد فيه أن ينشب الخلاف بينها وبين إنجلترا ثم توزيع جزء من قواتها في مصر وقد وزع جزء منها في تونس منذ أحتلتها فرنسا سنة 1881.
لهذا انقسم الرأي العام في فرنسا قسمين: فريق يرى التدخل في شؤون مصر، وفريق يدعو إلى عدم إثارة ما يمس التحالف بين إنجلترا وفرنسا ... على أن كلا الفريقين اتفقا على وجوب اتخاذ الوسائل الفعلية للدفاع عن قناة السويس بقطع النظر عن دخول مصر.
وكان رئيس الوزارة المسيو فرسنيه يرى أن أسلم حل هو أن تتولى تركيا التدخل وفقا لقرار المؤتمر، وبذلك لا تنفرد إنجلترا باحتلال مصر ولا يكون هناك مجال للخلاف بينها وبين فرنسا ولكن أنى له أن يظفر بهذا الحل؟
وفي الثاني والعشرين من يوليو أرسل جرانفل إلى السفير الإنجليزي في باريس يقول له: «قدم هذه المقترحات إلى الحكومة الفرنسية:
أولا:
ما لم يرد من الباب العالي موافقة من نوع يمكن أن نعول عليه في الحال، ففي هذه الحال ترسل تعليمات إلى المندوبين الإنجليزي والفرنسي ليقولا لبقية السفراء أن إنجلترا وفرنسا لم تعودا تعتمدان على التدخل التركي، ولما كانتا تريان ضرورة العمل السريع لمنع أي خسارة جديدة في الأرواح ولمنع استمرار الفوضى، فإنهما تعتزمان - إذا لم يكن لدى المؤتمر خطة أخرى - أن تبحثا مع دولة ثالثة الوسائل المؤدية إلى حل.
ثانيا:
أن يطلب إلى إيطاليا أن تكون هي الدولة الثالثة.
ثالثا:
أن نتشاور في الحال في تقسيم العمل.
رابعا:
أن تكون قناة السويس ضمن المشروع العام لهذا العمل الائتلافي».
17
وفي الرابع والعشرين رد القائم بأعمال السفارة الفرنسية في لندن على هذه المقترحات «بأن الحكومة الفرنسية قد صممت على أن تفصل مسألة حماية قناة السويس عن المسألة التي عرفت بالتدخل في مصر ... وأنها ستبتعد عن أي عمل في داخل مصر إلا إذا كان لرد عدوان مباشر، وإذا كان الجيش الإنجليزي يرى من الملائم أن يضطلع بهذا العمل فليس له أن يعتمد على مشاركة فرنسا، وفي الوقت نفسه فإن مسيو فرسنيه يرغب أن يكون مفهوما أن الحكومة الفرنسية لا تعارض في إقدام إنجلترا على هذا إذا عزمت على الإقدام.
18
وبعد ذلك بيوم أرسل السفير الإنجليزي بباريس إلى جرانفل يقول: إنه قابل فرسنيه فقال: إن رد الحكومة الفرنسية «هو أنها في الوقت الحالي لا ترى الذهاب إلى ما هو أبعد من التعاون المحدود على حماية قناة السويس، ذلك الذي تم الاتفاق عليه» وأضاف السفير الإنجليزي أن فرسنيه لم يبد اعتراضا على اعتزام الحكومة الإنجليزية دعوة إيطاليا.
19
وكان غرض إنجلترا من دعوة إيطاليا في الواقع أن تتمادى في ادعائها أنها لا تريد الانفراد بالعمل، وأنها لما لم تجد عونا من فرنسا التمسته عند إيطاليا، وأنها تبذل ما في وسعها في سبيل التعاون الدولي الذي زعمه جلادستون في تصريحه بمجلس العموم؛ لكيلا يكون لأوربا بعد ذلك حجة على إنجلترا ...
واشتدت المعارضة في وجه فرسنيه في المجلس التشريعي الفرنسي على أثر اتصال بينه وبين السفير الألماني في باريس ذكر فيه ذلك السفير أن ألمانيا ترى أن خير وسيلة لحل المسألة المصرية هو التدخل التركي ...
ورأى الفرنسيون أن بسمارك يريد بذلك أن يسند وزارة فرسنيه، وعدوا ذلك تدخلا في شؤونهم الداخلية فغضبوا على وزارتهم أيما غضب.
وفي الوقت نفسه أرسلت إنجلترا إلى فرنسا تقول، في اليوم السابع والعشرين من يوليو: «إن حكومة جلالة الملكة وإن كانت تقبل اشتراك تركيا فيما يتعلق بالتدخل في مصر إلا أنها ستمضي فيما شرعت فيه من الوسائل».
20
لذلك حينما استمرت المناقشة في المجلس التشريعي الفرنسي في التاسع والعشرين من الشهر، خذلت الوزارة بأغلبية 416 عضوا حيال 75، فاضطرت إلى الاستقالة وخلفتها وزارة سوف تنفض يدها عما قريب من المسألة المصرية.
ففي اليوم التالي ردت الحكومة الإيطالية على اقتراح اشتراكها في التدخل برفضها هذا التدخل من جانبها تاركة إنجلترا تتحمل تبعة التدخل وحدها.
ومما يحمل على العجب أن إيطاليا كانت قد ثارت ثائرتها أول الأمر لرغبة إنجلترا في الانفراد بالعمل وحملت الصحف الإيطالية على سياسة إنجلترا حملة شديدة وحملتها تبعة ما وقع في مصر من ارتباك ونددت بمطامعها الاستعمارية، وكانت إيطاليا الطامعة في شمال إفريقيا حانقة على فرنسا التي استولت على تونس وزاد حنقها على إنجلترا التي همت بالتهام مصر، وكان من أسباب دعوة إنجلترا إياها لمشاركتها في مصر هذا الحنق، ووجه العجب أن تنفض يدها بعد ذلك من المسألة بهذه السهولة. •••
وأشارت روسيا على مندوبها بعدم حضور المؤتمر في نهاية يوليو؛ وذلك «لأنها اشتركت فيه على أن تكون قراراته ذات قيمة لا على أن يكون مسجلا لحقائق واقعة فحسب».
21
وبذلك أخلت جميع الدول سبيل إنجلترا للعمل بمفردها، وهي إن لم تظفر بتفويض من المؤتمر بتدخلها لن يضيرها ذلك ما دامت قد أطلقت يدها، وما كانت إنجلترا تعبأ يوما بالشكل دون الجوهر .
ولم تعد إنجلترا تحفل بتركيا، وإنما استمرت في خطتها التي راحت توهمها بها أنها جادة في دعوتها إياها للعمل على حل المسألة، حتى تظفر منها بإعلان قرار العصيان الذي ترمي عرابي به فتصميه، وتنال به منه أكثر مما تنال بجنودها وأسلحتها ...
ولندع المؤتمر عند هذا الوضع من مهزلته لنعود إلى خطوط الدفاع عند كفر الدوار، ولنا بعد ذلك عودة لنبلغ بمهزلة المؤتمر نهايتها ولنتتبع سياسة إنجلترا حتى نهاية الشوط ...
كان أول عمل من جانب المصريين هو سد ترعة المحمودية كما سلف الإشارة إليه لمنع المياه العذبة عن الإسكندرية، ولقد انزعج الإنجليز من هذا العمل وأخذتهم منه حيرة ...
وفي اليوم السادس عشر من يوليو أبرق كارتريت إلى حكومته أنه يخشى من هجوم ليلي على الإسكندرية، وأن الأدميرال أرسل سفينتين إلى أبي قير؛ مخافة أن يقطع عرابي الشاطئ ويدع ماء البحر ينساب، وقد سلفت إشارة منا إلى ذلك ...
بقي الحال على ذلك بقية شهر يوليو وإنجلترا تعد العدة لحملتها الكبرى وتبذل نشاطها السياسي في المؤتمر وفي العواصم الأوربية حتى أطلقت يدها في نهاية الشهر كما بينا ...
ففي اليوم الخامس من أغسطس بدأ الإنجليز هجومهم ببعض ما لديهم من الجند قبل أن يأتيهم المدد، فزحفوا من الرمل في نحو ألفي مقاتل من المشاة يقودهم الجنرال أليسون، فلما صاروا على بعد ألف وخمسمائة متر من الخطوط المصرية، تصدى لهم المصريون في أورطتين في مثل عددهم تحت قيادة البكباشين أحمد البيار ومصطفى حسان وأوقفوا زحفهم ... ثم جاء خورشيد باشا طاهر على رأس ثلاث بلوكات من الفرسان، وحمل المصريون على الإنجليز حملة قوية، وبعد ثلاث ساعات ونصف ساعة اضطر الإنجليز إلى التقهقر وفروا إلى الرمل مهزومين.
22
ويقول عرابي في مذكراته المخطوطة تعقيبا على هذه المعركة التي سماها واقعة أبي قير: «ولم يستشهد أحد من عساكرنا الأبطال، وكان ابتداء المحاربة الساعة الأولى من النهار وانتهاؤها في تمام الساعة الرابعة، فمدة القتال ثلاث ساعات ونصف ساعة، أبلت في خلالها رجالنا بلاء حسنا، بيد أنه لم تعرف خسائر العدو لرفعه إياها من الميدان أولا فأول».
23
عاد الإنجليز إلى الهجوم في اليوم التالي وقد أعدوا له عدة قوية هذه المرة، فتقدمت ميمنتهم بطريق السكة الحديد من القباري، وميسرتهم على ضفة الترعة المحمودية من الرمل، وتحرك القلب من طريق الجسر الذي يعبر المحمودية، وكان يقودهم أليسون.
وثبت لهم المصريون ثباتا خليقا بالإعجاب حقا، ودافعوا في هذه المعركة دفاعا مجيدا، وقد شهدها من المصريين طلبة عصمت الذي ولي القيادة بعد أحمد عبد الغفار، وكان على رأس الفرسان والبكباشية محروس ومحمد فودة وسليمان تعيلب ورزق الله حجازي والقائمقام أحمد عفت ...
وأبلى البكباشي محروس بلاء حسنا في صد ميسرة الإنجليز ولم يمنعه جرحه الشديد من أن يشد عليهم برجاله، وكذلك أظهر البكباشي محمد فودة بسالة وجلدا عظيمين في الهجوم على قلب الإنجليز وميسرتهم، وجاءه المدد مرات بقيادة أحمد عفت وتعيلب وحجازي، ثم جاء طلبة باشا ومعه فرقة الفرسان بقيادة أحمد عبد الغفار، وبعد ست ساعات من القتال الشديد، ارتد الإنجليز منهزمين ولحق بهم المصريون حتى حجبهم الظلام عنهم ...
وقد عقب عرابي على هذه المعركة بقوله: «فلما قربوا مسافة 800 متر اشتبكوا في القتال مع أورطة محروس أفندي البكباشي وأورطة المستحفظين حكمدارية محمد أفندي فودة الذي أظهر من الشجاعة ما يقصر اليراع عن وصفه، ولما اشتد القتال بن الطرفين، تقدم الرجل الشجاع أحمد بك عفت حكمدار المقدمة ومعه أورطة سليمان أفندي تعيلب وأورطة رزق الله حجازي البكباشي، وأصلوا العدو نارا حامية، ثم قام في الحال طلبة باشا عصمت قومندان فرقة كفر الدوار ومعه الآلاي برنجي سواري حكمدارية أحمد بك عبد الغفار، وحرك الأورطة جهة المقدمة فتقارب الجيشان واختلط الفريقان وتقاتلوا بالسلاح الآلي وجها لوجه، ولما أظلم الليل وضعفت قوة العدو قفل راجعا وعساكرنا في أثره تأخذ عليه الطريق وتضيق عليه السبل وتضربه حتى حال الظلام بين الفريقين ... وعند تفقد عساكرنا وجد من المستشهدين 29 من الأنفار والصف ضباط والملازم الشجاع أحمد أفندي علي، والجرحى البكباشي محروس أفندي الذي توفي بسبب جراحه واثنان من الملازمين و65 من الصف ضباط والأنفار ... •••
ولقد أبدى كل من الضباط والعساكر من الشهامة والثبات في هذه الموقعة ما يستحقون من أجله الثناء الجميل في الدنيا وعظيم الأجر في الآخرة ... وخسائر العدو كانت عظيمة وقد ترك عساكر الإنجليز بميدان القتال 17 جثة منها الملازم ديز وصار دفنه في جسر المحمودية، وقد شوهد الكثير من عساكر الإنجليز يحملون قتلاهم وجرحاهم، وفي اليوم الثاني كانت ساحة القتال مشوهة بالدماء وآثار جر الموتى ظاهرة في نقط عديدة».
ولما استيقن الإنجليز أنهم عاجزون عن زحزحة المصريين عن خطوطهم القوية انكفأوا راجعين إلى الإسكندرية لينتظروا هناك ما يأتيهم من المدد ...
أما عرابي وأصحابه فما زالت تسعى إليهم الوفود في خيمته عند كنج عثمان، حاملة للجيش ما جادت به البلاد من مال وثمار وماشية للدفاع عن الوطن وكرامته ...
وأما الخديو؛ فقد بادر بتهنئة الإنجليز على ما أصابوا من انتصار في المعركتين! كأنما يستحيل على توفيق أن يتصور الإنجليز إلا غالبين ولو كانت هزيمتهم أمرا محققا.
وفي الوقت نفسه أصدر توفيق بلاغا في اليوم السابع من أغسطس يحذر فيه المصريين من مشايعة عرابي، ورماه فيه بالعصيان والثورة وتوعد كل من يشايعه بعقاب شديد من لدنه.
24 •••
واستمر مجيء المدد إلى الإنجليز، فأصبح لديهم في الإسكندرية حوالى اليوم العاشر من أغسطس نحو أربعة عشر ألفا من المشاة، وثلاث فرق من الفرسان، ونحو ألف من رجال المدفعية، ونيف وخمسمائة من المهندسين، وعدد آخر من المختصين بأعمال الجسور وأسلاك البرق والخطوط الحديدية ...
وفي اليوم الثالث عشر من أغسطس وصل إلى الإسكندرية السير جارنت ولسلي القائد العام للحملة الإنجليزية ...
لنعد بعد ذلك إلى مهزلة المؤتمر أو إلى مراوغة السياسة الإنجليزية وانتصارها تحت سمع المؤتمر وبصره وسلوكها - وأنوف أعضائه في الرغام - سبيلا غير التي أرادوها من أول الأمر ...
انطلقت تركيا من جمودها آخر الأمر كما بينا وانضمت إلى المؤتمر وقبلت إرسال جند عثمانية إلى مصر، أي أنها قبلت أن تعمل بما كانت تلح به إنجلترا عليها من قبل، ولكن إنجلترا لن تسمح لها اليوم بشيء من هذا ...
في اليوم السادس والعشرين من يوليو أفضى سعيد باشا وزير الخارجية وعضو المؤتمر إلى الأعضاء بأن الجنود العثمانية على أهبة السفر إلى مصر، وفي الوقت نفسه أفصح للمؤتمر عن أمل حكومته في «أن التدخل الحربي بجنود أجنبية في مصر لم تعد له ثمة ضرورة».
ولو أن المؤتمر كان يريد الإنصاف لكان فيما تقدم به سعيد باشا أقرب وضع إلى الحل المنشود الذي وضع المؤتمر قراره في اليوم السادس من يوليو ...
ولكن الدول كما بينا تراجعت في صورة مضحكة مخجلة عن قرارها للأسباب التي بيناها وجنحت إلى ترك إنجلترا تعمل على مسؤوليتها مكتفية بأنها لم تعطها تفويضا بهذا، وهل كانت إنجلترا تطمع في أكثر من أن تعمل على مسؤوليتها؟
وليتدبر القارئ في رد إنجلترا على كلام سعيد باشا ولينظر مبلغ ما فيه من مناقضة لسياستها يعد من أكبر دواعي الخجل لو أن السياسة الإنجليزية كانت تعرف الخجل يوما ما، قالت إنجلترا في برقية إلى دوفرين في التاسع والعشرين من يوليو: «إن حكومة جلالة الملكة تقبل وصول قوات عثمانية إلى مصر، وتقبل التعاون معها على شرط أن تكون الصفة التي تأتي بها محددة تحديدا مقنعا، وأن تكون خالية من كل ما يجعلها تؤول تأويلين بسبب تصريحات السلطان السابقة».
25
وكانت ترمي إنجلترا بهذه العبارة: «خالية من كل ما يجعلها تؤول تأويلين» أن يصدر السلطان قرارا ضد عرابي ورجاله، وذلك أن الصدر الأعظم كان قد أخبر دوفرين قبيل ذلك «أنه ليس من الحكمة إصدار هذا القرار قبل بلوغ الجنود العثمانية مصر» وقد رد عليه دوفرين بقوله: «إذا كان السلطان يرغب في التعاون مع حكومة جلالة الملكة، فإن من الضروري أن يحدد في وضوح ما يعتزم اتباعه نحو عرابي وعصابة الثوار».
26
وفي نفس هذه البرقية قالت إنجلترا: «ترغب حكومة جلالة الملكة أن تخبر سعيد باشا والمؤتمر بأنها لا يمكنها سحب جنودها من مصر ولا التراخي في إعداد العدة».
وقالت كذلك: «إن قعود السلطان عن العمل ذلك القعود الذي طال أمره حيال وضع كهذا الذي تمثله الحال في مصر قد ألقى على عاتق إنجلترا عبثا تضطلع به الآن في سبيل الصالح العالم وفي سبيل صالحها كذلك، وإن حكومة جلالة الملكة ترغب في أن يكون معلوما لدى المؤتمر أنه حالما ينتهي العمل الحربي المراد فإنها ستستعين الدول في وضع نظام قويم لحكم مصر في المستقبل».
إذن فإما أن يعلن السلطان ذلك القرار الخطير الذي تريده إنجلترا فتقبل تعاونه معها في بلاده، وإما أن يحجم عن ذلك فتمضي إنجلترا إلى غايتها، وهكذا تستدرج إنجلترا السلطان خطوة فخطوة، ولسوف يضطر إلى قبول هذا الشرط ليظفر بتفضل إنجلترا عليه بقبول معونته إياها في بلد هو صاحبها الشرعي، ولكن هل تجود إنجلترا عليه بهذا الفضل حتى بعد قبوله ما تشترط؟ ذلك ما نرى الجواب عليه فيما يلي:
في اليوم الثاني من أغسطس تعهد سعيد باشا أن يعرض على المؤتمر صيغة قرار يعلن فيه السلطان أن عرابي من العصاة
27
وهكذا تخطو تركيا على رغمها خطوة أخرى في صالح السياسة الإنجليزية؛ وذلك كي يسمح لها بالتدخل في بلاد هي صاحبتها! ألا ما أشد وما أقسى ما يجلبه الضعف من مذلة، وهذا في الوقت نفسه هو عبد الحميد الذي لا يتنفس الناس في بلاده إلا بإذنه!
وردت إنجلترا على ذلك بأنها فضلا عن إعلان قرار العصيان الذي تعده ضمانا لأغراض السلطان، ترى من الأمور الضرورية أن يعقد مؤتمر حربي بين الدولتين للنظر في التعاون كيف يكون بينهما.
وأبلغ دوفرين حكومة الباب العالي في الخامس من أغسطس: «أنه ما لم يعد السلطان قرارا ذا صفة مرضية وما لم توافق الحكومة التركية على الدخول في مؤتمر حربي مع حكومة جلالة الملكة، لن يسمح للجنود العثمانية بالنزول في مصر».
28
ومن ذلك نرى أن إنجلترا حين رأت السلطان يقبل إعلان العصيان المنشود ذلك القرار الذي تصل به إلى ضالتها، ابتدعت المؤتمر الحربي لتؤجل تدخل تركيا حتى تفرغ هي من دخول مصر فلا يكون ثمة داع إلى جنود عثمانية ... ولا يمكن أن يكون في الصلات الدبلوماسية أكثر من هذا استهتارا من أمة قوية بأمة ضعيفة، كما لا يمكن أن يبلغ الضعف بأمة أكثر مما بلغ بتركيا التي يشبه موقفها هذا الاستجداء الذليل ...
وأبلغ دليل على ذلك هذه البرقية التي أرسلها جرانفل إلى دوفرين في الرابع من أغسطس أي قبل الاتصال بالباب العالي ينبئه فيها أنه أرسل تعليمات إلى سيمور، قال: «أرسلت تعليمات إلى الأدميرال سيمور أنه إذا قدمت أي سفينة تحمل جنودا تركية إلى بورسعيد أو إلى الإسكندرية أو إلى جهة أخرى فعليه أن يبلغ قائدها في أكثر الصيغ مودة ورفقا أنه ينتظر تعليمات من حكومته بشأن مؤتمر حربي بين تركيا وإنجلترا الغرض منه معاونة الأولى لنا في القضاء على العصاة، ولكنه لم يتلق أنباء بأن هذا المؤتمر قد عقد وبناء على ذلك فإن إرسال جنود تركية لا بد أن يكون عملا سابقا لأوانه أو بني على سوء فهم، وأن الأوامر التي لديه هي أن يطلب إلى القائد أن يواصل السير إلى كريت أو أي جهة أخرى وأن يخاطب الحكومة التركية لإرسال تعليمات أخرى؛ نظرا لأن الأدميرال سيمور لا يستطيع أن يدعوه إلى النزول في مصر ... وقد سمحنا لسيمور أن يمنع نزول الجنود إذا لم ينتصحوا بنصحه».
29
تلقاء هذا اضطرت تركيا أن تعلن في المؤتمر في السابع من أغسطس أن الباب العالي يقبل الدعوة إلى التدخل الحربي في مصر على أساس المذكرة المشتركة بتاريخ 15 يوليو بما تحتوي عليه من بنود وشروط».
ومعنى ذلك أن تركيا تقيدت بالشروط التي وضعها المؤتمر في السادس من يوليو والتي وافقت عليها الحكومات في الخامس عشر منه والتي كانت تركيا تعارض فيها أشد المعارضة،
30
وهي إذ تتقيد بهذه الشروط تلتزم في الوقت نفسه بأساس التعاون مع إنجلترا، أي أن التدخل الآن ليس لتركيا وحدها وإنما هو بصفتها شريكة لإنجلترا ولكن إنجلترا سوف لا تمكنها حتى من هذا الوضع الذي هو دون ما رفضته من قبل بمراحل ...
وفي التاسع من أغسطس أرسل قرار عصيان عرابي إلى دوفرين ليطلع عليه وفي العاشر منه قبلت صيغة القرار بعد إدخال بعض التعديل عليه.
وأخذت إنجلترا تتصل بتركيا بشأن المؤتمر الثنائي الذي يحدد طريقة العمل بينهما مع أنه يتعارض مع قرار المؤتمر العام الذي جاء فيه أنه إذا وافق السلطان كما ترجو الدول على هذا النداء الصادر من الدول الكبرى فإن نفاذ المواد والشروط الآنفة الذكر يكون موضع اتفاق آخر بين الدول الست وبين تركيا».
وكانت إنجلترا ترمي من وراء المؤتمر الثنائي، إلى الأخذ والرد بينها وبين تركيا حتى ينتهي الأمر كما ذكرنا وذلك ما سوف تؤيده الحوادث.
أما المؤتمر العام؛ فقد بلغت مهزلته منتهى سخفها، حين قرر في اجتماع عقده في اليوم الرابع عشر من أغسطس تأجيل انعقاد جلساته إلى أجل غير مسمى، وبذلك أسدل الستار على أسخف مهزلة في تاريخ المؤتمرات السياسية ... •••
ولنعد إلى مصر، فنجد عرابي في خطوط دفاعه تمده الأمة بما تجود به ويؤيده أبناؤها جميعا كبراؤها وفلاحوها، وتتطلع إليه القلوب في موقفه المجيد، وقد ازداد الناس أملا في النصر بعد ما كان بين الجيش المصري وبين الإنجليز من تلاحم أثبت فيه المصريون أنهم جادون وأنهم إذ يحاربون إنجلترا ذات الإمبراطورية الكبرى لا تنخلع أفئدتهم كما يظن أعداؤهم من فاجر الظنون.
وكان عرابي قد أرسل إلى السلطان برقية أورد نبأها دوفرين فيما أرسله إلى جرانفل في السادس والعشرين من يوليو؛ إذ قال: «علمت أن عرابي باشا أبرق مباشرة إلى السلطان يعبر عن ولائه للخلافة، ويقول: إنه وقد حمل حملا على الحرب يمتلك كل ما يلزم لقهر أعدائه وذلك بفضل المساعدة المقدسة وما تفيض به مصر من خير، وإنه لا يصدق ما يؤكده أعداء وطنه ودينه من أنه سيجد فرقا عثمانية في طريقه فإن ذلك سيضعه أمام الضرورة القاسية التي تجعله يعامل إخوانه في الدين معاملة الأعداء.
31
وفي اليوم الخامس من أغسطس أبرق جرانفل إلى دوفرين يقول: «نشرت جريدة الطائف في تأييد عرابي باشا تقول: إن الباب العالي أرسل برقية يهنئ بها الجنود المصرية على ما أبدوه من شجاعة أثناء ضرب الإسكندرية، كما ورد إلى تركيا في برقية كان قد أرسلها درويش باشا».
32
أما توفيق فإن يد السلطان مكفوفة عنه منذ قبوله المذكرة المشتركة الثانية في الخامس والعشرين من مايو، وقد بلغت به الجرأة أن أفضى إلى كلفن في الحادي والثلاثين من يوليو: «أنه شديد الخوف من دسائس الترك وأنه يثق من أن الترك سوف يراقبون مراقبة دقيقة».
33
ولقد كان السلطان يريد عزله وتعيين حليم مكانه، وتقدم بهذا الاقتراح إلى إنجلترا عقب ضرب الإسكندرية مباشرة ممتدحا حليم قائلا: «إنه يكون حاكما ممتازا» وإن تعيينه «يحقن الدماء ويرضي كل إنسان»، ولقد رفضت الحكومة الإنجليزية هذا الاقتراح رفضا باتا عاجلا وأبلغت السلطان أنه «يضيع الوقت فحسب بعرضه مثل هذه الاقتراحات».
34
في التاسع عشر من أغسطس أذاع الجنرال ولسلي البلاغ الآتي: «بأمر الحضرة الخديوية، إعلان للمصريين: يعلن الجنرال قائد الجيوش الإنجليزية بأن مقاصد الدولة البريطانية في إرسالها تجريدة عسكرية إلى القطر المصري ليست إلا لتأييد سلطة الحضرة الخديوية، وعساكرنا يحاربون فقط حاملي السلاح ضد سموه، فعموم الأهالي الذين في سلام وسكينة تصير معاملاتهم بكل ود وإنسانية ولا يحصل لهم أدنى ضرر، بل يحترم دينهم ومساجدهم وعائلاتهم، والأشياء التي تلزم الجيش يصير دفع ثمنها وعليه ندعو الأهالي لتقديم ذلك، وأن الجنرال قائد الجيوش يسر جدا من زيارة مشايخ البلاد وخلافهم ممن يرغبون المساعدة لردع العصيان الذي هو ضد الحضرة الخديوية الحاكم والوالي الشرعي على القطر المصري المعين من لدن الذات الشاهانية».
35
وفي نفس اليوم أعاد الإنجليز وقد جاءهم المدد هجومهم على خطوط كفر الدوار، وزحفوا هذه المرة بقوات كبيرة نقلتها القطارات المسلحة من جهة القباري وأعانتها قوات أخرى جاءت من جهة الرمل، والتحم الجيشان ودارت معركة شديدة استمرت ثلاث ساعات حتى غربت الشمس، وكانت قيادة المصريين لطلبة عصمت وكان معه رضا باشا ومصطفى بك عبد الرحيم وعيد بك محمد وأحمد عبد الغفار والقائمقام أحمد بك عفت، والقائمقام سليمان سامي داود وحكمدار المدفعية بدوي بك، وارتد الإنجليز إلى الإسكندرية بعد أن خسروا خسائر جمة.
وأعاد الإنجليز الكرة عقب ذلك أياما ثلاثة متوالية ، كانت تنشب فيها المعارك حامية بينهم وبين المصريين حتى الغروب، والمصريون يردونهم كل يوم إلى الإسكندرية بعد دفاع قوي مجيد.
وهكذا كانت وقائع كفر الدوار أو الميدان الغربي سجلا مجيدا لحرب الثورة، وحسب هؤلاء الفلاحين فخرا أن يخوضوا غمار المعارك لأول مرة في تاريخهم الطويل مدافعين عن مبدأ من أسمى المبادئ الإنسانية، ألا وهو مبدأ الحرية الزهراء، وحسب قائدهم أن يكون أول فلاح في مصر نادى بالحرية في قومه ثم وقف يذود عنها في ميدان من ميادين القتال، وإنه لأمر وايم الحق جليل.
ولكن توفيق رد على هذه الجهود الوطنية الرائعة بهذا البلاغ الذي جعل عنوانه: «إلى جميع أهالي وسكان القطر المصري» والذي قال فيه: «ليس خافيا ما أقدم عليه أحمد عرابي وشيعته الضالة من الأفعال المغايرة والتشبثات الفوضوية التي أخلت بنظام القطر وأضعفت الثقة به، بل أورثته الخسائر والأضرار الجسيمة ولا سيما بانضمام الجيش المصري إليه واتحادهم معه في البغي والمجاهرة بالعصيان لحكومتنا الخديوية حتى ارتبكت الأحوال وخيمت العواقب فبادرت الدول إلى عقد المؤتمر الدولي بالآستانة للنظر في المسألة وتقرير ما به حلها، وبالبحث والمذاكرة في ذلك استقر رأيهم على اتخاذ الطرق التي يترتب عليها عودة سلطتنا الخديوية وتأديب هؤلاء الخارجين لتستتب الراحة وتزول أسباب المفاسد حرصا على عمارية القطر واحترازا مما عسى أن يلم به من الدمار.
ولما كانت الدولة البريطانية الإنجليزية لها فيه المنافع الكبرى ولا سيما بالنظر إلى ترعة السويس التي هي طريقها الوحيد للخطة الهندية المهمة؛ فقد أخذت على عهدتها وتحت إمرتها التداخل الفعلي لقمع هؤلاء المفسدين ومحو آثار الفتن دون أن تمس حقوق السلطة ولا الامتيازات المصرية، ولتحققنا أن نيتها سليمة في الظاهر والباطن ليس إلا الإصلاح ولا غاية لها في الاستيلاء على البلاد ولا الفتك بأهلها لعداوة دينية ولا غير ذلك مما يذيعه العصاة تنفيرا منهم للعامة وتبغيضا لهم في الأمة الإنجليزية على حسن مقاصدها المذكورة، ولا يزال العاصون على حالهم من المقاومة وتجسيم الحال المؤدي إلى زيادة الخراب حتى اعترفتهم السلطنة السنية عصاة مخالفين للأحكام الشرعية فاستدراكا للأمر ومراعاة للمصلحة العامة قد رخصنا لحضرة القائد العام للجيش الإنجليزي بالتجول نحو جموع العصاة واستعمال الحيل القاهرة لتبديد شملهم وسرعة القبض على رؤسائهم لمحاكمتهم بما يستحقون من أشد العقاب ...
وبما أن العساكر الإنجليزية يعدون في هذه الحالة نائبين عنا في قطع دابر المفسدين وتطهير البلاد منهم؛ ليعود الأمن والراحة ويزول الشقاء عن العباد ومن كانت هذه صفتهم فإنهم جديرون بالمعاونة والمساعدة ولا ريب من جهتهم بوجه من الوجوه، فينبغي أن لا يرهب منهم أحد ولا يظن فيهم سوءا أو مكروها وألا يعاملوا بما يستوجب المنافرة، بل على كل مصري يحب وطنه ويخشى خرابه أن يعاملهم لقاء حسن نياتهم بالإكرام اللائق بهم ولا يتأخر أحد عن مساعدتهم في تقديم ما ربما يحتاجون إليه من المؤونة بأثمانها السائرة التي هم مستعدون لأدائها فورا فمن فعل ذلك؛ فقد وفى بما يجب عليه من حقوق الوطنية الصادقة واستوجب رضاء الله، ورضانا عنه فضلا عما يراه منهم من المكرمة، ومن أبى ...
التل الكبير
كانت التل الكبير مركز الميدان الشرقي في جهاد الثورة كما كانت كفر الدوار مركز الميدان الغربي، ولقد دارت في هذا الميدان الشرقي معارك في مجال أوسع وفي أعداد أكبر مما كان في كفر الدوار، وكانت في هذه المعارك الشرقية صفحات مشرقة يطرب لها قلب كل مصري وتتهلل أسارير وجهه وصفحات مظلمة يندى لها جبين كل مصري وتتلون صفحة محياه ... كانت فيها البطولة الباهرة إلى جانب الخيانة السافرة الغادرة، وكان فيها الإخلاص المتين للوطن المستصرخ أحاط به العدو من كل ناحية إلى جانب الأثرة الحقيرة على حساب هذا البلد المسكين، نكب بفريق من الخائنين كانوا أشد عليه من أعدائه، والحق أنه قلما نجد في تاريخ الحروب معركة جمعت بين النقيضين كهذه المعركة التي لم ير فيها العدو طريقا توصله إلى غرضه إلا سلكها مهما كان فيها من عدوان على الفضيلة والحق، ولم يتورع فيها الخونة المستضعفون على اقتراف كل ما ينزل بالإنسان عن مرتبة الإنسانية ...
في هذه المعركة استشهدت الحركة القومية، ووضعت الأغلال في عنق الحرية وفيها اختتم أسوأ خاتمة جهاد زعيم أحاط به من الخيانة ما لم يحط قط بزعيم من قبله ولا من بعده، أجل ... ولكن ترك فيها الأحرار من دمائهم ومن أشلائهم ما قدموه مهرا غاليا للحرية الزهراء، وما وضع به التاريخ حركتهم - وإن غلبوا - في صف الحركات التي طبعها بطابع الخلود والمجد والتضحية والفداء ... •••
كان أكبر أخطاء عرابي وأركان حربه فيما أعتقد إهمالهم هذا المنفذ الشرقي إلى مصر إهمالا قل أن نجد له نظيرا، وصرف همهم كله إلى كفر الدوار، ولعل مرد ذلك فيما أفهم من حوادث هذه الحرب إلى خطأ آخر لا يقل خطره عن هذا الخطأ الأول ألا وهو اطمئنان عرابي وأصحابه إلى حيدة قناة السويس وحرصهم على إرضاء الدول بالمحافظة عليها ... ولنأت بالحديث على سرده حتى يتبين لنا في هذه القضية وجه الحق ...
ما كاد الإنجليز يفرغون من ضرب الإسكندرية حتى أخذوا يخوفون الدول بما زعموا من خطر محدق بقناة السويس، وتأهبوا ليلعبوا نفس الدور الذي لعبوه في ضرب الإسكندرية ...
وكانوا يريدون من إثارة المخاوف - كما أسلفنا - أن يزعموا أمام دول المؤتمر أن الظرف القاهر الذي يستلزم التدخل الحربي في شؤون مصر لا يزال قائما على الرغم من رحيل الأوربيين ...
وهم من جهة أخرى يتخذون من إذاعة هذه المخاوف المزعومة ذريعة لخطوات يخطونها في الناحية الشرقية تتصل بخطتهم الحربية العامة، دون أن يظهروا تلك الخطة؛ إذ إنهم لا يزالون يموهون على الدول أنهم لا يبتغون تدخلا بمفردهم وأنهم ينتظرون رد تركيا على قرار المؤتمر الذي زعموا أنهم يحترمونه كل الاحترام ...
وهكذا توصل الإنجليز إلى السير في خطتهم الحربية المرسومة عقب ضرب الإسكندرية في غير إبطاء؛ إذ كانت سياسة الأمر الواقع هي معولهم الذي حرصوا عليه ليواجهوا بها الدول والوطنيين على حد سواء ...
والواقع أن إنجلترا بدأت تظهر ما تزعمه من مخاوف عن القناة منذ أواخر شهر يونيو، كما يتبين فيما أرسله جرانفل إلى سفير إنجلترا في باريس في الرابع والعشرين من يونيو ليخبر فرسنيه بأن «حكومة جلالة الملكة تلقت أنباء مزعجة لديها من الأسباب ما يحملها على تصديقها مؤداها أن خططا وضعت ضد القناة نفسها».
1
وزادت إنجلترا في إثارة المخاوف عقب ضرب الإسكندرية مباشرة؛ فقد أرسل جرانفل في الثاني عشر من يوليو إلى سفراء إنجلترا في كل من باريس وبرلين وروما وفينا وبطرسبرج والقسطنطينية ليخبر كل منهم الدولة المقيم فيها بما يخشى من خطر على القناة، ويسألها ماذا تراه من «علاج لحالة قد تفضي إلى كارثة بالتجارة الدولية».
2
ودارت بعد ذلك الاتصالات بين فرنسا وإنجلترا للنظر في اتحاد الدولتين على ما يعمل لحماية القناة، حتى استقالت وزارة فرسنيه عل نحو ما ذكرنا من قبل، بعد أن أظهرت من التردد حيال هذه المسألة مثل ما أظهرت حيال ضرب الإسكندرية.
وكذلك اتصلت إنجلترا بإيطاليا، وطلبت معونتها في هذا الأمر حتى نفضت إيطاليا يدها من المسألة المصرية كلها ...
ومهدت إنجلترا بهذه التعمية المقصودة لانفرادها بالعمل هنا كذلك على نحو ما فعلت في ضرب الإسكندرية، وفي الثاني والعشرين من يوليو عادت إنجلترا إلى نغمتها السمجة في الشكوى من تحصينات تقام على الساحل غربي بورسعيد، في طابية الجميل على مدخل بحيرة المنزلة، ومن ثم أصدرت الحكومة الإنجليزية أمرها إلى الأدميرال العظيم بوشامب سيمور فاتح الإسكندرية باحتلال بورسعيد والإسماعيلية.
وفي السادس والعشرين من يوليو اخترق الإنجليز قناة السويس غير مبالين بشيء ولا حاسبين لقانون حسابا، أوليسوا يدافعون عن القناة مما يحدق بها من خطر لينقذوا التجارة الدولية من كارثة محققة؟!
اقتحمت القناة في هذا اليوم من الشمال السفينة الحربية أوريون بقيادة فتزوري، وفي اليوم التالي وقفت في بحيرة التمساح على 800 متر من الإسماعيلية.
وفي التاسع والعشرين منه، وصل إلى السويس على مقربة من مدخل القناة من الجنوب الأدميرال هوت يقود أربع سفن حربية ووصل إلى بورسعيد على مقربة من مدخل القناة من الشمال الأدميرال هوسكن، وكان فتزوري كما رأينا في بحيرة التمساح على مرأى من الإسماعيلية ...
وفي اليوم الثاني من أغسطس أنزل الإنجليز عساكرهم في السويس واحتلوا ثكناتها التي أخلاها الجيش المصري بغير مقاومة ...
ولا ريب أن إخلاء السويس على هذه الصورة كان من أكبر العيوب في هذا الميدان، على أنه جزء من العيب الشامل ألا وهو إهمال تحصين المدخل الشرقي إلى مصر، كله ...
وأرسل جرانفل إلى دوفرين في السابع من الشهر يقول: «في حالة ما إذا سئلت عن شرح لاحتلال السويس يمكنك القول إن حكومة جلالة الملكة لم ترسل تعليمات بهذا الشأن، ولكن أدميرال سير و. هوت، وكانت لديه السلطة أن ينزل جنودا حيثما وجد الضرورة تدعو إلى ذلك، ولقد فعل ذلك بناء على ما تعرضت له المدينة من خطر ووافقته حكومة جلالتها على ما فعل، وقد كان يعمل لصالح الخديو الذي أعطى قائد القوات البحرية البريطانية السلطة ليتخذ من الخطوات ما يراه ضروريا لحماية القناة باسم سموه».
3
ولينظر القارئ مبلغ ما في هذه البرقية مما يشبه حال اللص؛ إذ تعوزه الحجة ومبلغ ما فيها من استغلال اسم الخديو واتخاذ الإنجليز انضمامه إليهم وسيلة لتحقيق خطتهم في التهام مصر ... •••
ومما يعجب له المرء أن الإنجليز كانوا بعد هذا الذي بلغوه من سيطرة على القناة يزعمون أنهم لم يعتدوا عليها بشيء وإنها لفي قبضتهم الآن في واقع الأمر وإن لم يمنعوا دخول السفن فيها بعد كما سيفعلون، تجد هذا الزعم في قول جرانفل في آخر هذه البرقية: «وأحب أن أشير إلى أن مدينة السويس تعد خارجة عن القناة» ...
يفسر موقف عرابي من قناة السويس إهماله وأركان حربه تحصين الميدان الشرقي، ونقصد بموقف عرابي من القناة أنه ارتكب خطأ من أكبر أخطائه بإحجامه عن ردم القناة حتى ضاعت الفرصة واحتلها الإنجليز، ونحن نوافقهم كل الموافقة على رأيهم هذا في غير تردد فما كان غرضنا من كتابة هذه السيرة إلا وجه الحق مجردا من كل محاباة، ولكنا نحالفهم كل المخالفة في أمور أحاطوا بها هذا الخطأ فأسرفوا فيها إسرافا شديدا وخاصة كتاب الإنجليز ممن دافعوا عن الاحتلال.
نخالفهم في أن دي لسبس كان يخدع عرابي وأن عرابي جازت عليه الخدعة ونخالفهم في أن عرابي لم يفطن بسبب جهله إلى أهمية ردم القناة كوسيلة من وسائل الدفاع، ونخالفهم في أن عدم ردم القناة كان السبب الأساسي للهزيمة، ونخالفهم في أن عرابي أحجم بسبب جبنه عن ردم القناة، ونخالفهم في أن العمل كان من السهولة كما يصفون ... أجل، نخالفهم في ذلك كله مستندين إلى ما نقدم من أدلة نثبت بها ما نقول ...
ومن الصعب على المرء أن يمحو من الأذهان فكرة استقرت فيها بفعل السنين منذ أن أذاعها خصوم عرابي مهولين في الأمر قبل يوم الناس هذا بنيف وستين عاما، ولم نجد ردا عليها طوال هذه المدة كأنها من الحقائق المقررة التي لا تحتاج إلى نظر، وإنك لتتحدث إلى الناس في سيرة عرابي فتسمع فيما تسمع قولهم: لقد كان عرابي ساذجا خدعه دي لسبس وغرر به فصدقه، أو على حد تعبيرهم العامي: «ضحك عليه» فلم يردم القناة ...
ولكن الخطب يسير إذا نظر المرء في هذا الأمر نظرة مجردة من المزاعم السالفة جاعلا غايته الوصول إلى الحق في غير محاباة لعرابي ولا تجن عليه ...
في التاسع عشر من يوليو ذكر كارتريت فيما أبرق به إلى جرانفل قوله: «أتشرف بإبلاغكم بوصول المسيو دي لسبس إلى الإسكندرية، ويظهر أنه في مقابلته للخديو لم يتحدث كثيرا عن الموقف السياسي، ولكن مجيئه إلى مصر الآن يعد من سوء الحظ».
4
وفي الثلاثين من الشهر أبرق جرانفل إلى سفير إنجلترا بباريس يقول: «إيماء إلى الطريق الذي يسلكه المسيو دي لسبس فيما يتصل بحماية قناة السويس، أرغب أن تبسط للمسيو دي فرسنيه أن حكومة جلالة الملكة ترى من المسلم أن المسيو دي لسبس لم يعط سلطة ليتكلم أو يعمل باسم الحكومة الفرنسية، وعليك أن تطالب برد سريع بحقيقة الأمر ويسر حكومة جلالة الملكة أن تتلقى الضمان قبل أن ينفض يديه كلية من مقاليد الحكم».
5
وفي الرابع من شهر أغسطس أبرق جرانفل البرقية الخطيرة الآتية إلى نفس السفير يقول: «أرغب أن تبسط للحكومة الفرنسية أن حكومة جلالة الملكة وصل إلى علمها أن المسيو دي لسبس يعارض معارضة قوية أعمال حكومة جلالة الملكة في مصر، وذلك بتهديده بتعطيل القناة إذا أنزلت جنود بريطانية في أي مكان في القناة أو على مقربة منها، وحكومة جلالة الملكة لا ترغب الآن أن تتخذ شيئا لقاء ما حدث منه؛ نظرا لأنه من رجال فرنسا ذوي المكانة؛ ولأنه رئيس مجلس إدارة الشركة، إلا إذا ألجأتها الضرورة الملحة إلى ذلك، وأن الحكومة لتأمل أن تتجنب هذه الضرورة وذلك بما تبسطه الحكومة الفرنسية للمسيو دي لسبس مما يصرفه عن مسلكه، وأن حكومة جلالة الملكة لواثقة من أن لها أن تتوقع هذا من الحكومة الفرنسية؛ نظرا لما بين الدولتين من علاقات الصداقة ولاتفاق مصالحهما في القناة وفي شؤون مصر بوجه عام».
6
وفي الخامس من أغسطس عقد مجلس إدارة الشركة اجتماعا غير عادي وكان مما أعلنه فيه تمسكه بحياد القناة وانضمامه تبعا لذلك إلى رئيسه فيما يدافع به عن حقوق الشركة المهددة ووجه الثناء إلى هذا الرئيس وقد خالف هذا القرار العضو الإنجليزي مستر ستاندن.
7
من هذا يتبين أن دي لسبس كان جادا في المحافظة على حيدة القناة، وأنه كان يخشى من سياسة الإنجليز أن تؤي إلى سدها أو تحطيمها بأيدي الوطنيين، ولذلك كان شغله الشاغل أن يحمل بمعارضة الإنجليز حكومته على التدخل لحماية القناة ...
وإذا رجعنا إلى سياسة فرسنيه وجدنا أن دي لسبس كان على حق في انتظار تأييد حكومته، ولذلك وقف من الإنجليز موقف الجد والصرامة، فإن فرسنيه وإن لم يوافق على التدخل في مصر إلا أنه كان لا يعارض في مشاركة إنجلترا في حماية قناة السويس كما بينا؛ إذ إنه فصل المسألتين إحداهما عن الأخرى وقد خطا فعلا خطوات في هذا السبيل واعتمد له المجلس التشريعي المال اللازم، وأرسلت التعليمات إلى الأدميرال الفرنسي ببورسعيد ليتفق مع هوسكن على ما ينبغي عمله.
8
لكن سقوط وزارة فرسنيه في آخر يونيو ذهب بهذه السياسة؛ إذ كان برنامج خلفه الابتعاد عن المسألة المصرية كلها ومن ثم ضعف دي لسبس، وتنمرت الحكومة الإنجليزية وأبلغت فرنسا التهديد الذي أشرنا إليه.
ولا يمكن مع هذا الذي ذكرناه من الحقائق أن يكون دي لسبس مخادعا لعرابي، فليس في الأمر خديعة وإنما غلب دي لسبس على أمره بسياسة الأمر الواقع ...
والحق أن عرابي لم يحج عن ردم القناة منخدعا بأقوال دي لسبس وإنما كان هناك اعتبار على قدر عظيم جدا من الأهمية يشغل ذهن عرابي، وذلك هو ما كان يحيط به من ظروف ...
كانت إنجلترا تصور عرابي وأنصاره أنهم عصاة مخربون، وإن لم يعملوا شيئا ما يبرر هذه التهمة النكراء، فكيف يكون الحال لو أن عرابي أقدم على ردم القناة والمؤتمر منعقد بالآستانة، ومجلس إدارة الشركة خائف يترقب؟ ولقد رأينا كيف خوفت إنجلترا الدنيا مما زعمته من خطر محدق بالقناة قبل أن يحدث أي شيء ...
للقارئ أن يصور لنفسه مبلغ ما كان يصيب الحركة القومية في مصر من سوء السمعة، الأمر الذي كان ينفر عرابي منه أشد النفور؛ لأنه كان شديد الحرص على أن يظهر للملأ أن حركته عادلة سليمة وأن لا يبدأ بالعدوان أحدا وإن كان لا يحجم عن رد ما يوجه إليه من عدوان.
وليت الأمر كان يقتصر على سوء السمعة، بل إن الدنيا كلها كانت تصبح عدوة لعرابي وحركته، وحسبه ما كان يلاقيه من إنجلترا التي لم تدع وسيلة لتشويه حركته إلا أذاعتها ...
وليس لأحد أن يقول: وماذا صنع المؤتمر بإنجلترا وقد خرجت على قراره وضربت الإسكندرية؟ لأن هذا قياس مع فوارق بينة، فإنجلترا فعلت فعلتها الآثمة بحجة الدفاع عن مصالح الأوربيين في مصر وأرواحهم، وإنجلترا تستند إلى قوتها وأسطولها ونفوذها السياسي، وإنجلترا تزعم أنها تعمل عملا مشروعا لتأديب قوم تعدهم من العصاة، وأين هذا كله من عرابي الذي لم يجد أحدا يعطف عليه وهو المظلوم، فكيف إذا ظهر بمظهر الطاغية الذي يردم القناة ويعطل تجارة الدنيا؟!
ولسنا نريد بذلك أن نبرر عدم ردم القناة وإلا فما كان هناك مجال لأن نناله باللوم، وإنما قصدنا أن نبين سبب تردده وإحجامه وأن ننفي أنه كان في ذلك ساذجا جازت عليه خدعة دي لسبس التي زعمها المبطلون أو الجاهلون ...
وقد أحسن جون نينيه تلخيص هذه القضية في كتابه «عرابي باشا» في قوله: «فلما حل موعد المعركة لم تركن إنجلترا إلى قوانين القتال وقواعد الحرب، ولم تأبه بحيدة القناة التي تضمنها الدول بل أسرجت خيول سان جورج،
9
وأطلقتها في ميدان السبق لتحرز نصرا قائما على الغدر والخيانة ومستندا إلى الدسيسة والرشوة ... وقد وقع نزاع خطير في فرنسا حول الدفاع عن قناة السويس؛ وذلك لكى ينفذ دي لسبس ما وعد به عرابي، فإنه تعهد لزعيم الثورة المصرية وقائد الجيش المصري بأن تقاوم قوة حربية إلى جانبه إذا نزلت جنود إنجلترا في الإسماعيلية أو اعتدت على حياد القناة الدولية ... ولم يكن دي لسبس كاذبا، ولكن السياسة عرضة للكذب؛ فقد تقدم مسيو دي فرسنيه إلى المجلس التشريعي بفتح اعتماد لإعداد الحملة الحربية للدفاع عن القناة فلم يجبه المجلس إلى طلبه فاستقال في أول أغسطس سنة 1882».
10
وقال عن عرابي بعد أن أشار إلى نصحه إياه بردم القناة: فلم يجبه المجلس إلى طلبه فاستقال في أول اغسطس وذوو عقول مدبرة وعلى جانب عظيم من فنون الحرب والهندسة، ولكن عرابي باشا لم يستمع لنصحهم، فكان يخشى بالوهم ما يسميه الرأي العام الأوربي، ولطالما أفهمته أن هذا الرأي العام حديث خرافة، وأن أوربا طامعة في الشرق كله» ...
ونحب أن نورد ما كتبه الشيخ محمد عبده في هذا الصدد وما ذكره بلنت في تعقيبه على رسالة من رسائل عرابي إلى دي لسبس، قال الأستاذ الإمام: «عرابي اعتمد على دي لسبس في حماية القنال، وكان يظن أن مس القنال يهيج عليه جميع الأمم لهذا ترك هذه الناحية عوراء، وعندما أحس دي لسبس بأن الجيش المصري قد يتحرك ناحية القنال كتب تلغرافا لعرابي يقول له: من المستحيل أن عساكر الإنجليز تمر من القنال ... وبعد واقعة مهمة في ناحية كفر الدوار جاء الخبر عقبها بأن اثنتين وثلاثين سفينة توجهت إلى القنال فورد تلغراف من دي لسبس يقول: لا تسرع في شيء يمس القتال، لا يمر عسكري إنجليزي إلا ومعه فرنسي، أنا مسؤول عن كل ما يحدث. فأجيب بأن هذا غير كاف وتقرر إرسال جيش، ثم أرسل الجواب ببطء، وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القنال، كان الجيش الإنجليزي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش 15 ساعة في إبلاغ دي لسبس، ويظهر أنه كان في الحاضرين خونة نقلوا الأخبار وأخطأوا في التبليغ».
11
وأوجه نظر القارئ إلى قول الأستاذ الإمام: «وكان يظن أن مس القنال يهيج عليه جميع الأمم لهذا ترك هذه الناحية عوراء» وإلى قوله: «فأجيب بأن هذا غير كاف وتقرر إرسال جيش» ففي هاتين العبارتين ما يلخص المسألة كلها ويقطع بأن الأمر أمر تردد له سببه الوجيه لا أمر خدعة طال فيها كلام العائبين ...
أما بلنت؛ فقد أورد في كتابه أحد ردود عرابي على دي لسبس وهذا نصه: «لما كنت أحترم حيدة القنال احتراما كليا وخاصة أنها عمل من الأعمال العظيمة ولأن اسم سعادتكم سوف يقترن بها في التاريخ، فإني أتشرف بإبلاغكم أن الحكومة المصرية سوف لا تعتدي على هذه الحيدة إلا عند الضرورة القصوى وفي حالة ما إذا ارتكب الإنجليز بعض الأعمال العدوانية في الإسماعيلية وبورسعيد أو في أي جزء آخر من القنال».
ويعقب بلنت على ذلك بقوله: «هنا نجد المبدأ قد وضع وضعا طيبا في وضوح ولكن موضع الضعف فيه يرى في أنه يدع للعدو أن يقترف أول خطوة عدائية بدل أن يحول بينه وبين ذلك من قبل ويمنعه».
وأين الخديعة في كلام عرابي مع هذا التحفظ الذي يبديه في كتبه وفي كلامه؟ إلا أن العيب كله ينحصر في التردد الذي أضاع الفرصة وهو ما استحق عليه عرابي اللوم بلا مراء، لا في الغفلة التي حاول زورا أن يلصقها به المغرضون ...
أما قصته مع دي لسبس فأمرها هين وإن ألقى عليها المغرضون شبهات من الأهمية والخطر ... يقول عرابي في مذكراته: «في 14 يوليو سنة 1882 ورد لنا تلغراف من المسيو دي لسبس مدير شركة القنال المذكور يستعلم عن رأينا في القنال بالنسبة للحركات الحربية فأجبته في التاريخ المذكور بالتلغراف أيضا: إننا نعتبر القنال حرا للمنافع العامة الدولية، ولذلك فإننا لا نتعرض له بضرر إذا أمكنه منع السفن الحربية الإنجليزية من خرق حرمة الحياد واحترامها لقانون الشركة وإلا فنكون أحرارا في مقابلتهم بالمثل ...
فورد تلغراف في اليوم المذكور يفيد أنه ضامن ومتكفل بمنع الإنجليز عن اختراق القنال ما دام فيه عرق ينبض؛ ظنا أن فرنسا تدافع عن حقوقها وتحافظ على حرية القنال ولا تلدغ من جحر مرتين».
واستمرت الرسائل بين عرابي ودى لسبس، ونكتفي منها بما أرسله عرابي في 27 يوليو و4 أغسطس و25 منه، و3 أخرى بغير تاريخ، وكلها تبين لدي لسبس ما يقف عليه عرابي من حركات الإنجليز العدوانية في منطقة القنال، وقد تساءل عرابي في بعضها: أهذا ما يريده دي لسبس بحياد القنال؟ ... ومعنى ذلك أن عرابي كان على بينة من ضعف دي لسبس أمام الإنجليز وأنه لم يخدع بأنه قادر على منعهم من دخول القنال، وأنه إنما تردد لذلك الاعتبار الدولي الذي بيناه ...
وقد حصل بلنت على هذه المكاتبات من دي لسبس أثناء المحاكمة وأثبتها في آخر كتابه، وقد أرسلها إليه دي لسبس مع كتاب منه جاء فيه: «إني أرسل إليك الترجمة الفرنسية لتلك الرسائل التي من شأنها أن تشرف متهما يحملك كرمك على الدفاع عنه».
12
وأخيرا، لما لم يجد عرابي بدا من العمل خرج من تردده وأصدر أمره بردم القناة ولكن بعد أن ضاعت الفرصة وهو ما عددناه من أكبر أخطائه بلا جدال ...
ولم يكن عرابي يجهل أهمية هذا العمل في الدفاع عن مصر كما زعم خصومه؛ فقد نصح به محمود باشا فهمي في خطته التي ذكرناها، ونصح به جون نينيه إلى عرابي أكثر من مرة كما ذكر في كتابه؛ إذ قال: «فأحجم عرابي عن سد القناة في حينه وتمسك برأيه على الرغم مما كانت تقضي به الخطط الحربية الفنية، وعلى الرغم مما ذهب إليه زملاؤه وما ذهبت إليه أنا وكررته له عشر مرات، تارة بشديد الكلام، وتارة بالكتابة ... على الرغم من ذلك كله ظل عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلي نصرا من أسهل ما عرف في تاريخ الحروب»
13
حيث قال في موضع آخر: «لن يجد الإنجليز صعوبة في احتلال القناة فهم لا يبالون بالمعاهدات والقوانين ولا يعنيهم إلا مصالحهم، وإذا بلغوا الإسماعيلية فمعنى ذلك أن الحملة بلغت النهاية».
14
ومما يزيدنا ثقة في أن عرابي كان يدرك أهمية هذا العمل أنه صرح به لمراسل إحدى الصحف بالإسكندرية قبل ضربها قائلا: «سوف نحترم القناة ما دام العدو يحترم استقلالنا، ولكن إذا نشبت الحرب فإننا سنهدم القناة مؤقتا عند أول طلقة من مدفع، وسأفعل ذلك آسفا؛ لأن القناة من طرق التجارة المحايدة».
15
وكذلك نجد دليل على هذا في ذلك الكتاب الذي أملاه عرابي على صابونجي ليرسله إلى بلنت كي يحمله إلى جلادستون والذي ذكرنا طرفا منه في الفصل السابق؛ فقد ذكر فيه عرابي أن «الحرب تجعل مصر في حل من الالتزام بالعهود والمعاهدات وأنها سوف تحطم جميع القنوات وتعطل كل المواصلات».
16
وأما قول القائلين: إن عدم ردم القناة كان السبب الأساسي للهزيمة، فينفيه ما حدث في معركة القصاصين الثانية؛ إذ كان المصريون على قاب قوسين من النصر، ولولا الخيانة كما سنبينه في حينه لتغير وجه الحرب كلها ... ولكان اليوم لعرابي تماثيل في كبرى العواصم ... وكل ما يمكن أن يقال هو أن دخول الإنجليز من القناة قد سهل عليهم إلى مدى عظيم النجاح في خطتهم بوجه عام.
وأما أن عرابي أحجم عن ردم القناة لجبنه فرأي سخيف؛ لأن تردده لذلك الاعتبار السياسي الذي فصلناه فسر بالجبن، وفرق بين أن يجبن الإنسان عن تحمله تبعة فعل من الأفعال وبين أن يقارن بين فعله وتركه فيرى حينا أن تركه أجدى عليه وعلى قضيته من فعله فيقف زمنا موقف الحيرة بين الرأيين ...
وأما أن ردم القناة كان من السهولة كما يصوره خصوم عرابي في نعيهم عليه أنه لم يفعله في الحال، فذلك ما ينفيه الواقع؛ وذلك أن الإنجليز ما كادوا يفرغون من ضرب الإسكندرية حتى اتجهوا إلى حماية القناة، وكان على عرابي أن ينشئ خطوط كفر الدوار ليصد الإنجليز الذين دخلوا الإسكندرية فعلا، فإذا ذكرنا أنهم فرغوا من ضرب الإسكندرية في اليوم الثاني عشر من يوليو، وأنهم سيطروا على مدخلي القناة قبل نهاية الشهر، واحتلوا السويس في اليوم الثاني من الشهر التالي، وأن جانبا من أسطولهم كان يستطيع الانتقال فورا إلى بورسعيد - إذا ذكرنا ذلك كله أدركنا مقدار ما كان يواجه عرابي ورجاله من صعوبة إذا هم أقدموا على عمل جبار كردم قناة السويس.
وليس معنى ذلك أنه كان يستحيل عليهم هذا العمل وإلا سقط عنهم اللوم وذلك ما لم نقله، وإنما كان الأمر صعبا وقصاراهم أنهم كانوا يستطيعون أن يوزعوا جهودهم بين كفر الدوار وقناة السويس، ولا يخفى ما يكون في ذلك من خطر على الميدان الغربي.
والواقع أن سرعة الإنجليز ورسمهم خطة محكمة من زمن بعيد هو الذي أوقع المصريين في الحيرة، ولا يصح أن يقال: إن عرابي ملوم على كل حال؛ لأنه كان عليه أن يبادر بالعمل من قبل ذلك، ولقد رددنا على مثل هذا الكلام عما وجه إليه من لوم بشأن حصون الإسكندرية.
والقضية كلها تتلخص في كلمة، فطالما كان عرابي وزيرا في وزارة يملك الخديو إسقاطها في أي وقت، وطالما كان الخديو في صف الإنجليز، فلن يستطيع عرابي أن يتأهب للحرب فضلا عن إقدامه على عمل كردم قناة السويس، وما كان يستطيع عرابي أن يفعل شيئا إلا بعد سقوط الوزارة وبعد عجز توفيق عن إقامة وزارة غيرها واضطراره إلى إبقاء عرابي في وزارة الجهادية، والمدة بين عودة عرابي إلى الوزارة وبين ضرب الإسكندرية هي شهر ونصف انشغل فيها عرابي بالأمن وقضيته، ومأساة الإسكندرية وما جرته في أعقابها، ودرويش وبعثته ودسائسه مما لم يدع له مجالا للاستعداد ولو سرا، هذا إلى أن عملا كردم القناة لا يكون إلا في موقف له مبرراته، أعني لا يكون إلا عند نشوب الحرب أو توقع نشوبها بين حين وحين وهو ما لم يخطر ببال أحد في مصر على هذه الصورة من السرعة وخاصة بعد انعقاد مؤتمر الآستانة ... •••
ولم يقتصر نشاط الإنجليز في المنطقة الشرقية من مصر على ما فعلوه بشأن قناة السويس، وإنما لجأوا كذلك إلى أسلوب فيه أقوى الأدلة على مبلغ ما للشرف البريطاني عندهم من رعاية واحترام، ويتضح هذا فيما فعله الأستاذ بالمر وشريكه الكابتن جل ... وفيما استعان به الإنجليز بعد ذلك من رشوة خسيسة ودس دنيء ...
كانت إنجلترا تدرس خطة احتلال مصر منذ أوائل سنة 1882، أي قبل نفاذها فعلا بنحو ستة أشهر، وقد أشرنا إلى حديث جرى بين مستر بلنت والجنرال ولسلي في 15 مارس تحدث فيه ولسلي عن أسهل الطرق إلى القاهرة وأبدى اهتماما بالصحراء الشرقية.
وفي منتصف شهر يونيو، أي عقب مذبحة الإسكندرية قررت وزارة الحرب بالاتفاق مع الأدميرالية تمهيد السبيل للحملة وذلك بالاعتماد على رشوة واسعة النطاق وخاصة بين البدو في المناطق الشرقية.
17
واستدعت إدارة الأدميرالية البريطانية إدوار بالمر أستاذ اللغات الشرقية في كمبردج، وقد رأت في هذا الرجل خير من يصلح لأداء العمل المراد لمعرفته اللغة العربية ولخبرته بالمنطقة المقصودة؛ إذ تصادف أنه كان من قبل عضوا في جمعية كشف فلسطين.
وتحدث إليه اللورد نورثبروك وعرض عليه أن ينهض بهذا العمل الوطني المشرف - كما قال - ألا وهو ضمان انضمام البدو شرقي القناة إلى الجيش الإنجليزي وذلك بالإفادة من قابليتهم للرشوة، وقدم له نورثبروك 500 جنيه غير نفقات الرحلة ووعده بمكافآة عظيمة إذا اتفق له النجاح ...
وكان المستر بالمر معسرا فقبل الاضطلاع بهذا العمل الوطني المشرف، وتهيأ للسفر وهو يرجو لعمله هذا النجاح، ويقول بلنت: إنه مر به قبل سفره وتظاهر أنه عين مراسلا لجريدة «أستاندارد» وطلب منه أن يزكيه لأصحابه من رجال الحزب الوطني في مصر، وكان ذلك ليخفي - كما يذكر بلنت - العمل الذي كلف بأدائه.
أما التعليمات التي ألقيت إليه فهي أن يذهب إلى الإسكندرية حيث يتشاور في خطته مع سيمور، وبعد ذلك عليه أن يذهب في غير إبطاء إلى يافا حيث يتنكر في زي عربي ويزور الصحراء جنوبي غزة وغربيها، ويتصل بقبيلتي الطياحة والطرابين ...
وقد اطلع بلنت على يوميات بالمر وأورد منها بعض فقرات كقول الأستاذ: «أعطاني الأدميرال مسدسا وبندقية وكثيرا من الطلقات» وقوله عن الأدميرال: إنه قال: «يهنأ الوطن بوجود رجل قدير مثلي يضطلع بمثل هذا العمل الصعب».
وانطلق بالمر إلى يافا على ظهر قارب بخاري فوقه العلم البريطاني وكان معه في القارب بحاران، وهناك اتصل بالقنصل الإنجليزي، وأرسل القنصل ابنه إلى غزة ليمهد السبيل للرحلة، واشترى بالمر الملابس العربية المطلوبة وبدأ بعد ذلك رحلته الصحراوية متظاهرا أنه من تجار الإبل ...
واستمر بالمر في رحلته وقد ذكر في يومياته أنه اتصل ببعض مشايخ الطرابين وأنه تعاقد مع الطياحة، وأنه قطع شوطا كبيرا صوب النجاح، وأن البدو كانوا يحبونه ويقبلون عليه ويدعونه عبد الله أفندي، وكان يسمعهم الشعر العربي فيطربون له وقد أكل معهم الخبز واللحم كعهد بينهم وبينه أن يحمي كل منهما الآخر حتى الموت.
وفي أول أغسطس بلغ بالمر السويس واشترك مع الجند الذين احتلوها ثم خرج إلى الصحراء ثانية؛ ليعمل على قطع أسلاك التلغراف وإحراق الأعمدة؛ لتنقطع المواصلات بين عرابي وتركيا ...
وبعد ذلك بيومين التقى بالكابتن جل وقد أعطاه هذا عشرين ألف جنيه لتوزيعها على البدو ولقي بالمر حتفه في السابع من أغسطس هو وجل وإنجليزي آخر؛ إذ صادفهم في صحراء سيناء عدد من البدو من قبيلتي الحوايات والحويطات، فعرفوا أن معهم مالا كان يحمله بالمر إلى الطياحة، فأوثقهم البدو وأخذوا المال وقتلوهم رميا بالرصاص في وادي صدر.
ولم يقل نشاط جل غربي القناة عن نشاط بالمر شرقيها؛ فقد اتصل باثنين من أكبر مشايخ البدو، هما سعود الطحاوي في جهة الصالحية ومحمد البقلي في وادي الطميلات كما جاء في يومياته، ويذكر جل في هذه اليوميات أنه تلقى هذين الاسمين من الخديو نفسه وقد كتبهما الخديو بخط يده، وكان آخر ما كتبه جل في اليوم السادس من أغسطس، أي قبل مصرعه بيوم، قال: «يسرني أني تخلصت من العشرين ألف جنيه؛ إذ إنني أعطيت هذا المبلغ لبالمر ليوزعه على البدو» ... •••
ونرى قبل أن نتكلم عن وقائع الحرب في الميدان الشرقي أن نذكر ما كان من سعي الخديو واتصالاته في هذه الجهة، وذلك لما كان لفعله هذا من عظيم الأثر في نتيجة الحرب ...
كان من أكبر أعوان الخديو في هذا الميدان أولا الكابتن جل؛ فقد أرسله توفيق إلى الشيخين البدويين الطحاوي والبقلي وكان الإنجليز يعينون رسل الخديو من المصريين كذلك ويمدونهم بما يطلبون من سلاح ومال ...
ويلي الكابتن جل في هذا المضمار محمد سلطان باشا الذي كان رئيس الحزب الوطني قبل رئاسة عرابي إياه والذي لقب يوما ما أبا المصريين، والذي نراه اليوم يسعى سعيه جنديا متحمسا للخديو وللإنجليز ...
قال الشيخ محمد عبده في مذكراته: «مركز الدسائس والمخابرات كان في الإسكندرية في مكتب يسمى قسم المخابرات العسكرية اجتمع فيه كثير من الإنجليز من موظفي الحكومة المصرية ومن المقيمين بمصر، وكان روح الجميع سلطان باشا، عرف سلطان باشا أن توزيع النقود باسم الإنجليز لا يفيد، وعرف مقدار سلطة النقود على الأرواح، فأخذ في التوزيع باسم الخديو والسلطان واختار لبث الأفكار الحاوي الطحاوي أحد ثقاة عرابي».
وقال أيضا: «في 27 أغسطس جاء بلاغ بأن فارسين خرجا من الإسكندرية وتوجها من الناحية الشرقية من البحيرة وهما بدويان من قبيلة أولاد علي من عائلة مشهورة بالفيوم فقبض عليهما عند مرورهما من قرب معسكر كفر الدوار ووجد معهما منشورات من سلطان باشا، ورسائل منه إلى رؤساء القبائل وبعض الضباط يدعوهم إلى ترك عرابي والالتحاق بالجيش العثماني الذي جاء لإخضاع العصاة ... استجوبا فاعترفا بكل شيء، وذكر أن جنديا بحريا إنجليزيا يسمى جيل حمل 30 ألف جنيه من سيمور ليلحق بالأستاذ بالمر يستميل معه عرب غزة وحمل معه رسائل من توفيق ومن سلطان باشا إلى رؤساء العرب في الشرقية، وأن مبلغا لا يقل عن المبلغ السابق سيصحب القائد الإنجليزي إلى الزقازيق، وبعد أن سلم الضابط أوراق المرور إلى القائد ذهب إلى السويس لمقابلة بالمر وقد قطع سلك التلغراف الذي يصل بين مصر والآستانة ».
وقال بلنت: «ولم يكن ذلك الشخص غير زعيم حركة الفلاحين القديم الذي لم يساوره الخجل وقد ألقى بنفسه في أحضان الإنجليز كلية، أن يبذر بذور الشقاق بين أولئك الذين لا يزالون يتمسكون بوطنيتهم، ولقد يبدو من الصعب على الجيل الحديث في مصر أن يفهم كيف يهوي رجل اتصف بصفة عالية هي صفة الوطنية إلى ذلك السبيل الوضيع ... وقد أرسل كتبا إلى عدد من أصدقائه السابقين في القاهرة يشرح لهم فيها أن التحالف بين الخديو والإنجليز إنما هو ضرورة مؤقتة، ويقول: إن الجنود الإنجليز لن تبقى بمصر بعد إعادة سلطة الخديو، وإن عرابي قد فقد ثقة السلطان، وأن المقاومة المستمرة في القاهرة أمر ينقم عليه المسلمون ... وقد أحدثت أثرها هذه الكتب التي أحكم توزيعها، ولعب المال مرة ثانية دوره القوي ...»
وقال في موضع آخر: «لقد وجدت هذا مكتوبا في يومياتي عن سنة 1887
18
13 فبراير، زارني عبد السلام المويلحي من مؤسسي الدستور وعضو مجلس سنة 1882، وأخبرني أنه كان صديقا حميما لسلطان باشا ومن أعوانه وأنه كان أحد الذين انضموا إليه في خصومته لعرابي، ولكن الأسف يتملكهم جميعا الآن أن لم يتحدوا، وهو لا يقر مسلك سلطان أثناء الحرب؛ فقد خدع مالت سلطانا الذي غرر به ليفعل ما فعل واعدا إياه وعدا واضحا أن حقوق البرلمان المصري سوف تحترم، وقد وعد مالت هذا الوعد شفويا وطلب سلطان أن يكتب له هذا ولكن الخديو صرفه عن الإلحاح في هذا الطلب قائلا: إن كلمة الوكيل الإنجليزي لها قيمة الصك، ولما رأى الرجل الشيخ بعد الحرب مبلغ ما خدع به حزن حزنا شديدا ومات وهو يأمل أن يسامحه عرابي وألا ينتقل اسمه في الأعقاب موصوما بالخيانة لوطنه».
وقال نينيه في كتابه: «وكان بجانب الأمناء في جيشنا بالشرقية فريق من الخونة يسوقهم الإنجليز ويمدونهم بالمال ويحرضهم توفيق باشا ويعدهم، وفريق من الشراكسة الباشوات الذين يحقدون على الفلاحين المصريين، ومن هؤلاء علي يوسف الشهير بخنفس، وقد زعم البعض أنه من صميم المصريين والحق أنه من حثالة الأتراك، وكان مع الأسف الشديد قائد قلب الجيش المصري وهو الذي اشترى سلطان باشا ذمته للإنجليز، فانسحب بفرقته فأفسح الطريق لجيش ولسلي».
وكان سلطان باشا أثناء القتال يرافق الجيش الإنجليزي نائبا عن الخديو؛ فقد أصدر الخديو أمرا بتعيينه نائبا عنه لمرافقة الجنرال ولسلي في زحفه على العاصمة.
19
من هذا الذي ذكرناه عن سلطان، يتبين لنا مبلغ ما بذل من نشاط في صفوف المدنيين والعسكريين، ومبلغ ما أدى من خدمة لجيش الاحتلال على حساب وطنه؟ ولقد كوفئ بعد الحرب بلقب السير من الإنجليز وبعشرة آلاف جنيه قبضها من الخديو ... ألا بئس ما باع به نفسه ووطنه ...
أما من اشتراهم سلطان بالمال، فمن أشهرهم سعود الطحاوي من البدو، وعلي يوسف خنفس، وعبد الرحمن حسن قائد فرقة الاستطلاع السواري، وراغب ناشد، وهو قائمقام في المقدمة، وسيأتي من عظيم الأسف والخجل الكلام على خيانة كل من هؤلاء في موضعها.
وممن عمل غير سلطان من المصريين مثل عمله عثمان بك رفعت ياور الخديو الذي وصفه بلنت بالمهارة والذكاء وقال: إنه أحدث تأثيرا كبيرا في نفوس عدد كبير من الضباط وخاصة من كانوا من أصل شركسي؛ إذ راح يريهم أن لا فائدة من المقاومة وأن الخير للشخص منهم أن يتجنب سوء العاقبة قبل فوات الوقت وسبيل ذلك هو الولاء للخديو، وكان عثمان بك يعرف فريقا من الضباط فاستطاع أن يتصل بهم سرا ويغريهم ...
ومما يبعث على الأسف أن بعض الضباط المصريين من الموالين للخديو غير من اشتراهم سلطان من الذين أخفوا خيانتهم في أنفسهم حتى يحين الوقت، قد رافقوا الجيش الإنجليزي وأرشدوه وأعانوه بالاستطلاع والتجسس بأمر الخديو؛ وهم: الأميرالاي زهراب بك، والقائمقام يوسف ضيا بك، واليوزباشي توفيق أفندي.
20
وسوف نرى أن السبب الأساسي للهزيمة كان مرده إلى هذا السعي الأثيم الذي قل أن يوجد له نظير في تاريخ بلد من بلاد العالم ...
كانت الخطة الأساسية للحملة الإنجليزية غزو مصر من الشرق كما ذكرنا، وكان ذلك يقتضي اقتحام قناة السويس واتخاذ الإسماعيلية قاعدة للزحف على القاهرة.
وقد رأينا ما كان من نشاط الإنجليز في هذه المنطقة حتى أوائل شهر أغسطس وما كان من إهمال المصريين إياها حتى ذلك التاريخ، وفي اليوم التاسع عشر من أغسطس أبحرت الحملة الإنجليزية من الإسكندرية إلى بورسعيد تحت قيادة سيمور وكان الإنجليز قد حصنوا مدخل الإسكندرية تحصينا قويا؛ خشية أن يدخلها الجيش المصري من كفر الدوار وربطوا بينها وبين بورسعيد من البحر بأسلاك التلغراف.
وفي الأسبوع الأول من أغسطس كان عرابي قد أرسل محمود فهمي باشا لبناء ما يمكن بناؤه من الاستحكامات عند التل الكبير والصالحية، وبعض المواقع الأخرى، كما أرسل بعض القوات فرابطت على مقربة من الإسماعيلية.
وفي العشرين من أغسطس بلغت السفن الإنجليزية المقلة للحملة بورسعيد، وكان عدد رجال الحملة نحو 30 ألفا، وفي هذا اليوم احتل الإنجليز بورسعيد واقتحمت السفن الحربية قناة السويس رغم أنف القانون وعلى حيادها ألف سلام، ومنعت السفن التجارية من دخول القناة من الشمال ومن الجنوب ...
واحتلت جنودهم الإسماعيلية كذلك في هذا اليوم، وشرعوا في إنزال عتادهم بها ليتخذوها قاعدة لزحفهم على القاهرة، وتحقق لهم بذلك خطوة هامة من خطوات حملتهم، فبين الإسماعيلية والقاهرة ما لا يزيد عن 159 كيلو مترا في حين أن بين الإسكندرية والقاهرة نيفا ومائتي كيلو مترا ... هذا؛ وإن الطريق في الصحراء أسهل منه في الدلتا حيث الترع التي تعوق سير الجيش وحيث يخشى قطع الجسور وتهديد مؤخرة الجيش الزاحف، من القرى والمدن.
وأرسل عرابي إلى دي لسبس في هذا التاريخ يقول: «حيث إن الإنجليز اعتدوا على حياد القناة؛ فقد صارت مصر مضطرة إلى سدها وتعطيلها لمنع عدوانهم عليها».
وحاول الجيش تنفيذ هذا العمل فلم يستطع؛ إذ حرس الإنجليز بسفنهم ومدفعيتهم شواطئ القناة فكان كلما قرب العمال من مكان أبلغت طلائع الإنجليز عنهم فأقبلت القوارب بمدافعها تصليهم نار قذائفها فيولون الأدبار، ولم يتسن للمصريين إلا سد الترعة العذبة فمنعوا وصول الماء إلى السويس والإسماعيلية ...
وكانت السفن الإنجليزية منذ وصولها لا تزال تضرب نفيشة أول معسكر للمصريين بقنابلها لتشغلهم عن العمل في ردم القناة ولتلقي الرعب في نفوسهم، ولا تبعد نفيشة عن الإسماعيلية إلى الغرب إلا بنحو 3 كيلو مترات ...
بلغ ولسلي الإسماعيلية في 21 أغسطس، وبدأ يعد العدة للزحف على الصحراء، وفي هذا اليوم وصلت القوات الهندية إلى السويس ...
يقول عرابي في مذكراته: «في 21 أغسطس توجه الفريق راشد باشا حسني إلى الخط الشرقي ومعه فرق من البيادة والطوبجية والسواري تحت قيادة خالد باشا نديم، ومحمد عبيد بك الميرالاي، وعبد القادر بك عبد الصمد الميرالاي، ثم صار وضع أورطة في محطة فايد، وأخرى في نفيشة، وجعلوا المركز العمومي في المسخوطة بواسطة الأهالي المتطوعين وسد الترعة الحلوة».
وفي 23 من الشهر التحم الإنجليز والمصريون أول التحام في الميدان الشرقي، وبعد قتال شديد ارتد المصريون عن نفيشة فاحتلها الإنجليز ...
وفي اليوم التالي هاجم الإنجليز موضع سد الترعة الإسماعيلية وكان يسمى المجفر واحتلته جنودهم ...
ودارت معركة عنيفة بين الجيشين في المسخوطة في 25 أغسطس، وقد أبلى راشد باشا بلاء حسنا في هذه المعركة، ولكن تكاثر العدو عليه اضطره إلى الانسحاب فسقطت المسخوطة.
وفي هذه المعركة أصيب الدفاع الوطني بضربة من أشد الضربات وخسر خسارة كبيرة وذلك بأسر رئيس أركان حرب الجيش وكبير مهندسيه محمود فهمى باشا كأنما قدر على الجيش المصري أن يصادفه النحس في أولى خطواته.
وبيان ذلك أنه خرج في المساء وكان يرتدي ملابس مدنية ومعه ياوره فترك الياور في قرية هناك وسار وحده حتى بلغ قمة تل غير مرتفع على الجانب الآخر من وادي الطميلات ليلقي نظرة على الصحراء في اتجاه الإسماعيلية وتصادف أن كانت ثلة إنجليزية صغيرة بهذا المكان فأحاطت به وظنته يتجسس، ولكنه أوهم هؤلاء أنه مالك من أصحاب الأرض في القرية القريبة وكادوا يصدقونه ويطلقونه، ولكن رئيس هذه الثلة رأى أن يأخذه إلى معسكر الإنجليز، ربما كان في الأمر شيء، وبقي الياور في القرية لا يدري ماذا وقع لرئيس أركان حرب الجيش؟ وهكذا لحقت الجيش المصري خسارة فادحة في أيسر صورة.
ولهذا ظن عرابي الظنون بمحمود فهمي باشا وحسب أنه فعل هذا ليقع أسيرا في يد الإنجليز؛ فقد قال في مذكراته: «وأما محمود فهمي باشا فإنه لم يرد أن يرجع مع العساكر وآثر الوقوع في الأسر على البقاء في الجيش لشدة ما هاله من منشور السلطان بعصياننا
21
وطمعا منه في قبوله لدى الخديو بسبب استسلامه إلى الإنجليز ولذلك خالف خالد باشا وثبت على موقفه مع خادمه حتى قبض عليه الإنجليز بصفة كونه نفر بسيط».
واستولى الإنجليز على المحسمة في نفس اليوم الذي استولوا فيه على المسخوطة وهي على مسافة 22 كيلو مترا من نفيشة ونحو 24 كيلو مترا من التل الكبير، وكانت خسائر المصريين في المحسمة 7 مدافع كروب وكمية كبيرة من البنادق وقطار محمل بالذخيرة ...
ودخل الإنجليز القصاصين بعد مقاومة صغيرة، فأصبحوا على مسافة 15 كيلو مترا من التل الكبير وعند ذلك رأى عرابي أن ينتقل إلى الميدان الشرقي فسافر إلى هناك من كفر الدوار بالقطار يصحبه عدد من الضباط وقوة من الحرس، وكان معه عبد الله نديم خطيب الثورة وكاتبها وقد جاء يستنهض الهمم بأحاديثه وخطبه بين صفوف الجيش.
واستقبل عرابي في الزقازيق استقبالا حارا؛ فقد خف للقائه الأعيان والعمد والموظفون وأرباب الطرق الصوفية وحيته الجموع المتزاحمة لرؤيته بالدعاء المعروف: «الله ينصرك يا عرابي» وكانت النساء والصبية على خط السكة الحديد يرددون أغنية أولها: «يا مولانا يا عزيز، أهلك عسكر الإنجليز!» ثم يهتف أحد الشباب قائلا: «الله ينصرك» فتردد جموع الشباب قائلة: «يا عرابي» وتألف من هذا مظاهرة شعبية جميلة فيها الدعاء وفيها الرجاء ...
وأقيمت لعرابي بالتل الكبير خيمة سعيد باشا التي كان يقيم بها في كفر الدوار، وأحيطت بالحرس؛ خوفا من كيد الكائدين.
وتشاور عرابي وكبار رجاله في الموقف الحربي فتقرر اتخاذ خطة الهجوم في الحال، وقد وصل إلى الميدان الشرقي من القاهرة علي فهمي باشا يقود الآلاي الأول من المشاة، ثم وصل بعد ذلك عيد محمد بك بآلايه من كفر الدوار، وكذلك أحمد عبد الغفار بك، وعبد الرحمن بك حسن ومعهم الفرسان، ووصل من دمياط خضر بك خضر ومعه أورطتان من السودانيين.
على أن مجموع هذه القوات لم يكن يزيد في الميدان الشرقي عن 13 ألفا من الجنود النظامية، أما المتطوعون والأنفار والعمال فكان عددهم يزيد كثيرا عن ذلك.
وفي 28 أغسطس تهيأ المصريون للهجوم وقد اشتعلت الحماسة في نفوسهم على الرغم مما انبث فيها من أسف على أسر محمود فهمي باشا ...
يقول عرابي في مذكراته: «ثم عقد مجلس حربي تحت رئاستنا تقرر فيه الهجوم على العدو، وعرف الرؤساء كيفية ترتيب الجيش وسيره وأعطي لكل واحد منهم رسم الشكل الحربي مبينا فيه الدقيقة التي يلزم أن توجد الفرق فيها على خط النار أمام العدو؛ حيث كان معسكرا في القصاصين، وكان الترتيب على هيئة شكل مقعر يكتنف العدو من كل جهة فكانت أورطة محمد أفندي الرملاوي في الجناح الأيمن للترعة الحلوة، ومعه أورطة من السواري ومدفعان وجانب من العربان، وفي هذا الجناح من يسار الترعة أجى آلاي بيادة حكمدارية أحمد فرج بك وخلفه مدفعان، وفي القلب ثلاث أرط يتقدمها 8 مدافع من الكروب وخلفها أورطة من البيادة و6 مدافع والجميع تحت حكمدارية علي فهمي باشا، والطوبجية تحت حكمدارية حسن رأفت بك، وفي الجناح الأيسر 6 أرط من السواري تحت حكمدارية أحمد بك عبد الغفار، وأورطتان من البيادة ومدفعان تحت حكمدارية عيد بك، وقومندان هذا الجيش هو راشد باشا حسني، وكذلك محمود باشا سامي حكمدار الجيش المعسكر في الصالحية وهو مكون من 12 ألف عسكري، يقوم بجيشه ليلا بحيث يصل إلى يسار جيش رأس الوادي عند مطلع الفجر، ويحيط بميمنة العدو والقوة التي على يمين الترعة تحيط بميسرته والعربان يقتحمون الترعة من خلفه وتقطع عليه خط الرجعة، وبذلك لا يتمكن العدو من الفرار، وقد كان مع العدو الدوق أوف كنوت ثالث أنجال ملكة الإنجليز، وانفض المجلس على ذلك».
وهي خطة محكمة كما نرى، وقد نفذت كذلك بإحكام فهجم المصريون على مواقع الإنجليز في القصاصين في 28 أغسطس بقيادة راشد باشا حسني الشهير بأبي شنب فضة، ودار قتال شديد جدا وتحمس المصريون وقويت روحهم المعنوية وكأنما تذكروا المبادئ التي يحاربون في سبيلها، فشدوا على الإنجليز مستبسلين، وعظمت قوة هجومهم، فأجلوا الإنجليز عن مواقعهم الأمامية واستولوا عليها ...
واستعاد الإنجليز قوتهم وهجم فرسانهم بقيادة الجنرال لو، وبعد تلاحم شديد استردوا مواقعهم من المصريين، وقد هبط الليل والحرب سجال بين الجانبين، وقتل من الإنجليز في المعركة 8 منهم ضابط وجرح واحد وستون، منهم 10 من الضباط ... وهذا هو إحصاء الإنجليز أنفسهم
22
وتعرف هذه المعركة بمعركة القصاصين الأولى.
أما التقرير الرسمي الذي أعلنه وكيل الجهادية بناء على ما ورد إليه من ميدان القتال، فيقول: إن المصريين أسروا 70 إنجليزيا، وإن جثث الإنجليز في ساحة المعركة بلغت 800 «وجدوهم مجندلين بأسلحتهم وألبستهم وذخيرتهم، وهم غير الذين سيعثر عليهم فيما بعد، وغير الذين تمكن العدو من حملهم إلى مراكزه أو إحراقهم؛ فقد ورد إلينا من علي فهمي باشا أنه رأى حريقا في جهة الكبرى فأرسل إلى تلك الجهة من يستكشف خبر هذا الحريق فظهر أنه حريق قتلى الهنود من جيش الإنجليز وقد استشهد من عساكرنا في هذه المعركة 60 شهيدا، وجرح 85».
أورد عرابي في مذكراته تقريرين للإنجليز عن هذه المعركة، ومما جاء في أولهما: «وكان العرابيون بعدد عظيم لم تقو عليه الفرق الإنجليزية فوردت إليها نجدة من المحسمة، ثم اشتد القتال واستمر إلى أول الليل فتشتت شمل العرابيين وتكبدوا خسائر جسيمة منها عدة مدافع غنمها الإنجليز ... أما خسائر الإنجليز فكانت قتيلا واحدا و6 جرحى من الضباط و19 قتيلا و52 جريحا من الجند».
ومما جاء في التقرير الثاني وهو للجنرال جراهام قائد هذه المعركة: «ففي الظهر أطلق العصاة علينا نارا شديدة من مدافع العيار الأول فلم يلحق بنا أقل ضرر وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أمرت رجالي بالرجوع إلى مراكزهم، فعادت فرقة الخيالة إلى المحسمة وكانت قد وفدت علي إمدادات ونجدات، وفي الساعة الرابعة تقدمت نحونا فرقة من المشاة من الأعداء وحاولت التغلب على ميمنة الجيش وإكراهه على التسليم» ... ولم يشر هذا التقرير إلى القتلى والجرحى ...
ويتبين من هذه الروايات على كل حال، تكافؤ الجانبين في المعركة، ولا نجد أحسن من هذا نرد به على الذين يتحدثون عما ليس لهم به علم، أو الذين أضلهم الاحتلال فقالوا: إن المصريين لم يحاربوا فما هو إلا أن رأوا الإنجليز حتى فروا هاربين! وليت شعري ماذا يريد هؤلاء بترديد تلك الأباطيل عن جيش أمنهم؟! هل لكي ينكروا الجهاد على عرابي؟ ألا ما أشد ما لقي هذا الرجل من نكران للجميل؟!
ويجدر بنا أن نلاحظ أمرا على جانب عظيم من الأهمية؛ وهو أن الإنجليز الذين كانوا يوالون الزحف إلى الأمام قد توقفوا بعد هذه المعركة أياما، ولم يستأنف القتال إلا بعد أن هجم المصريون عليهم مرة ثانية في 29 سبتمبر؛ وذلك لأن دسائس سلطان وأعوانه لم تكن قد نجحت بعد، فخشي الإنجليز التقدم دون أن يستعينوا بهذا السلاح الدنيء ... سلاح الرشوة والخيانة والغدر، كما أنهم كانوا يعدون لعرابي الضربة القاصمة وهي إعلان قرار عصيانه، وحسبنا هذا دليلا على خوف الإنجليز من خطوط المصريين وعلى أنهم قد عرفوا ثبات المصريين واستبسالهم في هذه المعركة؛ حيث تبين لهم أن الأمر جد وما هو بالهزل.
والحق أن المصريين منذ معارك كفر الدوار حتى نهاية معركة القصاصين الأولى، قد خلا جهادهم المشرف من كل شائبة، وهو حتى هذا الطور خليق بكل ثناء وإعجاب فحسب المرء أن يبذل ما في وسعه في سبيل النجاح وفي سبيل الشرف، أما إدراك النجاح فعلا فقد يفلت من أعظم القواد كفاءة ومن أقوى الجيوش بأسا لأمور لم تجر لأحد في حساب ...
لا بد لنا قبل أن نتتبع أدوار الحرب، من أن ننظر فيما كان من أمر تركيا والمؤتمر الحربي بينها وبين إنجلترا، ومساعي الإنجليز كي يصدر السلطان قراره بعصيان عرابي ...
أرادت تركيا أن يظل المؤتمر العام منعقدا؛ أملا في أنه ربما جد خلاف بين الدول، ولذلك لم توافق على التأجيل وأعلنت احتفاظها بحقها في دعوة المؤتمر في أي وقت، ولكن مساعيها ذهبت هباء، وذهب كذلك المؤتمر إلى غير رجعة ...
ووجهت تركيا همها إلى المؤتمر الحربي الثنائي بينها وبين إنجلترا، وكان السلطان يتحرق شوقا إلى اليوم الذي تنجح فيه مساعيه للاشتراك مع إنجلترا في الحملة على مصر وذلك بالسماح له بإرسال جنود إلى مصر التي هي جزء من سلطنته!
واستغلت إنجلترا هذا الاهتمام الشديد لتظفر ببغيتها ألا وهي «قرار العصيان» وراح دوفرين يتوعد تارة، ويصانع تارة أخرى أثناء المناقشة في الشروط المقترحة للعمل المشترك، وهو في الحالتين إنما يمثل على الحكومة التركية ويعاملها معاملة الشيخ الخبيث الماكر، لحدث لا يحيط بشيء مما حوله؛ بغية اكتساب الوقت والظفر «بقرار العصيان» فحسب ...
وكان السلطان راغبا عن هذا القرار؛ لما يكون من سوء أثره في العالم الإسلامي، ولأنه يوقن أن عرابي إنما يدافع عن حقوقه في مصر، وأراد السلطان أن يظهر شيئا من الغضب فمنع إرسال عدد من البغال اشترتها إنجلترا لجيشها في مصر، ولكن ما كاد دوفرين يحتج على ذلك في عنف حتى تراجع السلطان وأرسل إليه رسولا خاصا يبلغه أنه يأمر بإرسال البغال المطلوبة ...
واغتنم دوفرين الفرصة فأبلغ رسول السلطان بأن الحالة في مصر تستدعي عملا حاسما وهو يشير بذلك إلى القرار المطلوب، وفي 23 أغسطس زار دوفرين سعيد باشا، وبعد مناقشة في أحد بنود المؤتمر المطلوب عقده؛ إذ كان السلطان يريد أن تنزل جنوده بالإسكندرية بينما كانت إنجلترا - ضياعا منها للوقت - تقترح غير جادة أن يكون ذلك في أبي قير، ورشيد، ودمياط، أشار دوفرين إلى قرار العصيان، وأجاب سعيد باشا بأن حكومته ترى أنها خطوة ليس من الميسور اتخاذها لأول وهلة، وتريد أن تستبدل بها قرارا آخر يقوم على النصح لعرابي ومناشدة ولائه مناشدة أخيرة، وإذ ذاك نهض دوفرين غاضبا معلنا أنه من المستحيل أن يعود ثانية إلى التحدث مع تركيا بشأن المؤتمر أو في أي أمر آخر.
23
وأحدثت هذه الغضبة أثرها؛ إذ رافقه سعيد باشا، وقاسم باشا إلى أسفل الدار ثم إلى الشارع معتذرين، وقالا: إنهما تقدما بهذا الاقتراح على غير مشيئتهما، ورد دوفرين في صلف: إنه لن يوقع على قرار عقد المؤتمر إلا إذا وصله قرار العصيان باللغتين العربية والفرنسية.
وفي 25 أغسطس أرسل دوفرين إلى حكومته يقول: إن السلطان عاد يضع العقبات في سبيل ما يعده التجار لإمداد الإنجليز بما يريدون إرساله إلى جيشهم في مصر وإنه يهدد بالسجن أي تركي يرافق الحيوانات المزمع إرسالها بقصد المحافظة على حياتها ...
وفي اليوم نفسه أبرق مالت إلى جرانفل يشكو من أن عمل السلطان من شأنه ألا يجعل العصاة يصدقون أنه سوف يساعد الحملة؛ لذلك فإن الحملة لن تحصل منه على التأييد الأدبي المطلوب، ويقول: إن شريف ورياض يعارضان في مجيء جنود تركية إلى مصر ويخشيان مما ينجم من المتاعب بسبب ذلك فيما بعد.
24
وفي 27 أغسطس عاد سعيد باشا يلح وقد أفضى إلى دوفرين بأن تركيا مستعدة لقبول الشروط التي تراها إنجلترا لعقد المؤتمر وأن قرار عصيان عرابي يصدر عقب التوقيع على الاتفاق الأخير ...
ووافقت إنجلترا على شرط أن يعلن قرار العصيان حالا وهو في الواقع ما كانت تبتغيه إنجلترا بهذه الاتصالات وعلم ذلك في مصر في 31 أغسطس على إثر برقيته إلى مالت، وعاد السلطان يبذل آخر محاولة لأن تنزل جنوده بالإسكندرية وذلك في ضراعة وتوسل يدلان على مبلغ ما انحدر إليه هذا الطاغية المستبد في قومه أمام الإنجليز من هوان؛ فقد أرسل دوفرين يقول: «إن السلطان جاث على ركبتيه وإني لأجرؤ على أن أتقدم إلى حكومة جلالة الملكة في إخلاص أن تقبل تضرعاته»
25
وزاد دوفرين على ذلك: «إن السلطان يعد في نظير ذلك أن يعمل كل شيء تريده إنجلترا بشأن القرار ضد عرابي، وأن يأمر الصحف بتغيير لهجتها».
وعلى الرغم من هذه المذلة في الرجاء لم تقبل الحكومة الإنجليزية نزول الأتراك بالإسكندرية التي هي من أملاك السلطان! وفي اليوم السادس من سبتمبر أعد السلطان القرار ونشر في الصحف قبل أن يرسل إلى دوفرين.
وما إن ظفرت إنجلترا بتوقيع السلطان على القرار، حتى راحت في لؤم، ليس له مثيل، تتنصل من وعدها بقبول المؤتمر بحجة أن قرار العصيان لم يكن في الصيغة التي أرادتها إنجلترا تماما!
واستؤنفت بعد ذلك الاتصالات بين الدولتين في صورة مملة حسبنا منها هذا القدر لنعود إلى الحرب في مصر. •••
في 9 سبتمبر وقعت معركة القصاصين الثانية وكانت آخر معركة أثبت فيها المصريون شجاعتهم وكاد جيش مصر رغم قلته يظفر بالجيش الإنجليزي رغم كثرته، ولكن وا أسفاه، كانت الدسائس قد أفرخت؛ فحيل بين المصريين وبين الظفر وهم منه على خطوة، ولذلك كانت هذه في الوقت نفسه أول معركة سجل فيها نفر من المصريين على أنفسهم عار الخيانة في أقبح صورها وأشنعها، وبسبب هذه الخيانة الغادرة حلت الهزيمة السوداء حين التمعت بوارق النصر ...
كانت لا تخرج خطة هذه المعركة في جوهرها عن خطة المعركة الأولى، وكان المصريون هنا كذلك البادئين بالهجوم على الإنجليز، وهي ظاهرة تسجل لهم بالحمد؛ إذ كان عمل المصريين في كفر الدوار قاصرا على الدفاع ...
وقد وصف بلنت هذه المعركة بقوله: «إنها كانت أفضل فرصة أتيحت للمصريين لصد تقدم الإنجليز وآخرها، ولم تكن بعيدا جدا من النجاح» ...
ويقول بلنت: «ولو أنها نجحت فليس يعرف ما كانوا لا يحصلون عليه من الاعتراف بهم ومصالحتهم؛ وذلك لأن الرأي العام في إنجلترا كان قد تغير فعلا في هذا الوقت بالذات وأخذ الناس يشعرون بالخجل من حرب تشن على الفلاحين الذين يحاربون؛ ليخلصوا حريتهم من استبداد قديم».
وكان قد وصل في 31 أغسطس كما ذكرنا إلى مصر، نبأ موافقة السلطان على إصدار قراره بعصيان عرابي، ونشرت صحف الآستانة هذا النبأ وتناقلته الصحف الإنجليزية والصحف المؤيدة للخديو، وقد طرب لهذا النبأ توفيق باشا وأعوانه أيما طرب، وهرول سلطان باشا إلى الإسماعيلية؛ ليعمل على الاتصال ببعض ضباط الجيش المصري بعد معركة القصاصين الأولى، ورأى أن الفرصة سانحة ليوهم بعض المستضعفين أن حياتهم تتوقف فيما بعد على ما يفعلون الآن ...
قال عرابي في مذكراته: «ولما بلغ الخديو هول هذه الواقعة أرسل وفدا إلى الإسماعيلية مؤلفا من محمد سلطان باشا، وعمر لطفي باشا، وفريد باشا، وزكي بك ابن أخت يعقوب باشا سامي، وعثمان بك رأفت، ومعهم مقادير عظيمة من نسخ الجوائب المندرج فيها منشور السلطان بعصياننا، ومنشور الخديو القاضي بمساعدة الإنجليز وإنه لا مطمع لهم في بلادنا، وقد انضموا إلى زهراب بك المعين مع الجيش الإنجليزي من قبل ليبثوا العيون والجواسيس على جيشنا وليتفقوا مع بعض الضباط المصريين الذين فسدت ضمائرهم، وضعفت عزيمتهم ويوزعوا عليهم تلك المنشورات ... وقد كلف بعض رجال الوفد المذكور بالتنقل في البلاد الريفية لدعوة العمد والأعيان لطاعة الإنجليز ومساعدتهم وفقا للمنشور الخديو وقد انخدع وانضم إليهم في هذه الخيانة السيد أفندي الفقي من مديرية المنوفية وأحمد أفندي عبد الغفار عمدة تلا، وغيرهم من المصريين الذين انخلعت قلوبهم من منشور السلطان المندرج بالجوائب المشار إليها».
أحكم مستر بلنت: أن السير شارلز ولسن أحضر لي خطة المعركة حين كنت بالسجن في القاهرة وسألني عما إذا كانت من رسم يدي؟ فأجبته: نعم. فأخبرني كيف حصلوا عليها، ثم قال: إنها خطة جيدة وربما كنتم بها تنتصرون علينا».
ولكن ما جدوى إحكام الخطة مع الخيانة في أشنع صورها وقد أحدثت دسائس سلطان أثرها في بعض صغار النفوس فهووا إلى موضع يتندى وايم الله جبيننا خجلا إذ يذكره! وأي شيء يخجل منه مصري يتحدث عن تاريخ وطنه هو أشد وأفظع من أن يقول: إن مصريا من بني وطنه أرسل - وا أسفاه - خطة المعركة بحذافيرها إلى العدو، بل لقد سرق النسخة الأصلية التي رسمها عرابي بيده فأضاف إلى جريمة الخيانة فضيحة السرقة فكانت خيانة على خيانة؟ وكان هذا المصري الخائن هو علي يوسف خنفس الذي وقف بآلايه في ميسرة خط القتال، وأي فضيحة في تاريخ الحروب أفظع من هذه الفضيحة الفاضحة؟
قال عرابي فيما تحدث به إلى بلنت: «إن الخطة أفشيت للعدو على يد علي يوسف خنفس الذي أرسل الرسم الأصلي الذي رسمته بيدي إلى الجنرال ولسلي، وكان هو وغيره من رجال الجيش قد أفسدهم أبو سلطان الذي كان يعمل لصالح الخديو».
وقال الشيخ محمد عبده: «في واقعة القصاصين كان الرسم كما ينبغي وكانت العساكر المصرية يجب أن تزحف في الساعة الثانية بعد منتصف الليل على الجيش الإنجليزي، وما راع القواد المصريين إلا وجود الفرق الإنجليزية زاحفة وأخذة جميع الطرق في الساعة الواحدة وكانت الخيانة وصلت والنقود قد وصلت إلى قلب الجيش وإلى كثير من الضباط بسعي سلطان باشا ومراسلة العربان».
وليس فيما يذكره المتحدثون عن فنون القتال من شيء هو أشد خطرا على جيش محارب من أن تكون خطته معروفة لعدوه؛ ذلك لأنه بنى هذه الخطة على أساس مفاجأة العدو وأخذه من حيث لا يدري، فإذا عرف العدو الخطة انقلب الوضع وفوت على عدوه قصده وكان هو المباغت، هذا فضلا عما يحدثه انكشاف الخطة في النفوس من ذعر وقت القتال ...
قاد الجيش المصري في المعركة الفريق راشد باشا حسني، وقد بدأ الهجوم في الثلث الأخير من الليل، والتحم الجيشان والعدو على علم بالهجوم فلم يباغت وإن كان قد فوجئ بابتداء المعركة؛ لأن علمه بخطتها ساعد على ثباته حتى ينجلي النهار، وأسفر الصبح والمعركة حامية بين الجيشين، والمدفعية من الجانبين ترسل قذائفها في سرعة وقوة، وتكافأ الفريقان على الرغم من تفوق الإنجليز في العدد ...
وتلفت قواد المصريين يتوقعون دخول محمود باشا البارودي الميدان قادما بجيشه من الصالحية ليكر على ميمنة العدو، ولكنه تأخر عن موعده فلم يدخل في غبش الفجر كما كانت تقضي به الخطة، ولما كان الإنجليز على علم بمقدمه؛ فقد رصدوا له قوة من المدفعية حالت بينه وبين الوصول إلى موضعه من المعركة، ومما يذكر مع عظيم الأسف أن رجال سعود الطحاوي هم الذين أضلوه عن وجهته في الصحراء فتأخر وصوله ...
ومضت ساعات ونار الحرب مستمرة، وقد توالى الجزر والمد بين الجيشين، وثبت كل من البطلين المصريين علي فهمي باشا وراشد باشا حسني بطولة فذة طول النهار ومن حولهم الجيش المصري لا يتزحزح ولا يهن ...
ولكن المعركة قد انقلبت من أولها بسبب الخيانة إلى معركة دفاعية بعد أن كانت خطتها هجومية، قال مستر بلنت: «بناء على أقوال الجانب المصري عن المعركة قد فوجئ العدو بالهجوم، وظلت المعركة زمنا طويلا غير معروفة العاقبة، وأوشك دوق كنوت في وقت ما أن يقع أسيرا». ثم أشار بلنت إلى تأخر البارودي وسببه بما لا يخرج عما ذكرناها إلى أن قال: «ومن المؤكد أن أحد القواد المصريين وهو علي بك يوسف قد خان رفقاؤه عن قصد».
وظل القتال على أشده طول النهار، ولكن القدر أبى إلا أن يصيب المصريين بمصيبة لا تقل شأنا عن أسر محمود فهمي باشا، كأن لم يكفه ما أحاط بهم من خيانة، وذلك أن كلا من بطلي المعركة: علي فهمي، وراشد حسني قد تلقى رصاصة في جسمه أقعدته، الأول في ساقه، والثاني في قدمه، فخرجا من المعركة، وبخروجهما ضعف هجوم المصريين وانقضى اليوم ولم يظفر بالنصر هؤلاء ولا هؤلاء.
قال عرابي في مذكراته: «وأما راشد باشا حسني وعلي باشا فهمي ومن معهما من الجيش، فقد ثبتوا ثبات الأبطال إلى آخر النهار، حتى إذا جرح راشد باشا حسني في قدمه برصاصة، وعلي باشا فهمي برصاصة أيضا في ساقه، وخسر كل من الجيشين خسارة كبيرة من ضرب البنادق والمدافع التي كانت مقذوفاتها كالمطر المنهمر في الميدان، وكانت هذه المعركة أشد حرب نشبت بيننا وبين الإنجليز؛ إذ كانت قوة الجيشين عظيمة وثباتهم نادر المثال، تراجع الجيشان بانتظام».
قال الأستاذ محمد رفعت بك في كتابه تاريخ مصر السياسي في الأزمنة الحديثة: «وقد أبلى المصريون بقيادة الفريق راشد حسني باشا - المعروف بأبي شنب فضة - في هذه الواقعة بلاء حسنا، فأوقعوا خسائر جمة بصفوف الإنجليز وزحزحوهم عن مواقعهم، وكادوا يظفرون بالنصر إلى أن جرح راشد حسني جرحا بليغا، فذاع الخبر بين المصريين وبدأوا يتقهقرون».
وإن وقفة المصريين على هذه الصورة الرائعة في معركة القصاصين الثانية على قلة عددهم بالنسبة لعدد الإنجليز؛ إذ كان هؤلاء يقربون فيها من ضعفهم، لتجعلنا نعتقد في غير تردد أنه لولا الخيانة لأحاط المصريون بجيش ولسلي فهزموه في صحرائهم، وهم القادرون على شمسها وحرها في شهر سبتمبر، ولولد في هذا المكان عصر جديد في تاريخ مصر، ولازدانت ميادين عواصمنا بتماثيل عرابي منقذ مصر ... •••
أرسل البطلان الكبيران علي فهمي وراشد حسني إلى القاهرة مع جرحى المعركة في القطارات الخاصة التي أقلتهم، وهكذا خلا الميدان الشرقي من ثلاثة رجال هم من أعظم قواد عرابي خبرة وبسالة.
وأخذ ذلك يحدث أثره في نفوس المصريين، فليس بالأمر الهين غياب رجال من المعركة تعقد عليهم الآمال في النصر، وليس يخفى ما يكون لشهرة القواد ولأسمائهم من وقع في نفوس الجند، تشتد به عزائمهم وتنتعش آمالهم.
على أن أعظم ما أثر في النفوس وبث فيها التردد الذي هو مقدمة الهزيمة، إنما هو ما سعى به سلطان وأعوانه من تخويف الجند والضباط من عاقبة بقائهم على الولاء لعرابي، وقد جاءوا في ساعة الفصل يوهمونهم أن النصر للإنجليز، ولن يشفع لأحد بعد ذلك شفيع، وسبيل الخلاص من العقاب الشديد هو ترك جانب عرابي على الفور قبل أن يحصى العصاة الثائرون على الخديو، وأن حسابهم في الغد لعسير ...
ومن أكبر ما كفل النجاح لسلطان هو إذاعة قرار الخليفة بعصيان عرابي، ذلك القرار الذي بذلت إنجلترا ما بذلت من جهد للحصول عليه من عبد الحميد الذي يعد بفعلته هذه شريكا فيما وقع من خيانة؛ فقد طعن بهذا القرار عرابي من وراء ظهره بعد الذي أبداه من عطف عليه وعلى حركته، ولئن كان بالأمس قد أنعم عليه بالوسام المجيدي الأكبر، فها هو ذا اليوم يثبت في ظهره الخنجر ...
ولقد نشط سلطان ومن أخذ مأخذه من أعوان الخديو في نشر أنباء القرار بمجرد أن وافق عبد الحميد على إصداره، وراحوا يوزعون على الجند والضباط، كما بينا، أعدادا من الصحف التي نشرت هذا النبأ منذ نهاية أغسطس، بل لقد أرجفوا به قبل ذلك، وما زالوا يرجفون حتى أصبح إرجافهم حقيقة، فلما نشر القرار في اليوم السادس من سبتمبر، وأذاعت نصه جريدة الجوائب، استحضر الإنجليز آلافا من نسخ هذه الجريدة، وشمر سلطان وفريقه سواعدهم فوزعوا هذه النسخ على الجيش قبيل معركة التل الكبير ...
ومن السهل أن ندرك مبلغ ما كان لهذا القرار من أثر في نفوس الجند الذين كانوا يعتقدون أن جهادهم كان وطنيا دينيا في وقت واحد، فهم جند مصر وجند السلطان خليفة المسلمين الذي يعتدي الإنجليز الكفرة على حقوقه.
وكان نص هذا القرار ما يأتي: «إن الدولة العلية السلطانية تعلن أن وكيلها الشرعي بمصر هو حضرة فخامتلو دولتلو محمد توفيق باشا، وأن أعمال عرابي باشا كانت مخالفة لإرادة الدولة العلية، ثم التمس من جناب الخديو العفو فعفا عنه، ونال أيضا من الحضرة السلطانية العفو العام، وأن الشرف الذي ناله أخيرا من الحضرة العلية السلطانية، إنما كان من تصريحه بالطاعة لأوامر السلطان المعظم الخليفة الأعظم.
وقد تحقق الآن رسميا أن عرابي باشا رجع إلى زلاته السابقة واستبد برئاسة العساكر بدون حق، فيكون قد عرض نفسه لمسؤولية عظيمة لا سيما أنه تهدد أساطيل دولة حليفة للدولة العلية السلطانية ...
وبناء على ما تقدم يحسب عرابي باشا وأعوانه عصاة ليسوا على طاعة الدولة العلية السلطانية.
وأن تصرف الدولة العلية السلطانية بالنظر إلى عرابي باشا ورفقائه وأعوانه يكون بصفة أنهم عصاة، ويتعين على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم أن يطيعوا أوامر الخديو المعظم الذي هو في مصر وكيل الخليفة وكل من خالف هذه الأوامر يعرض نفسه لمسؤولية عظيمة، وأن معاملة عرابي باشا وحركاته وأطواره مع حضرة السادات الأشراف هي مخالفة للشريعة الإسلامية الغراء ومضادة لها بالكلية».
26
والواقع أن هذا المنشور كان ضربة شديدة لعرابي، بل إنا لا نسرف إذا قلنا: إنه قد فعل وحده بجيش عرابي ما لم تفعله الجنود الإنجليزية مجتمعة ...
قال عرابي: «ولما نشر منشور السلطان بعصياننا ومن معنا بجريدة الجوائب؛ إرضاء للإنجليز أرسل منه مئات الألوف إلى الهند والأفغان والحجاز والعراق والترك ومصر والمغرب الأقصى وجميع بلاد الإسلام بواسطة أبي سلطان باشا ومن معه من المخدوعين - كما أسلفنا - وتذمر بعض أمراء العسكرية وقالوا: إننا إذن عصاة على السلطان مخالفين لكتاب الله وسنة رسوله كما فعل محمد علي باشا رأس العائلة الخديوية وابنه إبراهيم باشا ومن مات منا مات عاصيا لا أجر له مثل الذين ماتوا من المصريين في قتال الدولة العلية، فنصحناهم بأن هذا المنشور مخالف لأحكام الدين الإسلامي؛ لأننا إنما نقاتل أعداء المسلمين الذين يريدون أن يستولوا على بلادنا الإسلامية، وأن الجهاد في سبيل حماية الدين والمال والوطن فرض واجب علينا وأن سلطان المسلمين لا يسمح بمثل هذا المنشور وإنما هو دسيسة إنجليزية تمكنوا من إنفاذها بواسطة الرشوة، ولو فرض وصدر مثل ذلك من سلطان المسلمين لوجب على المسلمين خلعه لمخالفته لأحكام الدين ...
إلا أن تلك النصائح لم تؤثر في الذين يجهلون أحكام الدين مثل أحمد بك عبد الغفار قومندان السواري، وعبد الرحمن بك حسن حكمدار 2 جي آلاي سواري وعلي بك يوسف ميرالاي 3 جي بيادة، ولكنهم أظهروا قبول ما أوضحناه لهم وأسروا الغدر والخيانة، والحساب على الله». •••
واشتدت حيرة عرابي بعد إصابة علي فهمي وراشد حسني، من يخلفهما على القيادة، وكان عبد العال حلمي خير من يصلح لهذا، ولكنه كان بدمياط مع الآلاي السوداني للدفاع عن هذا الموضع العام؛ مخافة أن ينزل الإنجليز به فرقا بقصد تطويق التل الكبير ...
واستدعى عرابي علي باشا الروبي من مريوط، فكان حضوره قبل معركة التل الكبير بيوم واحد، ولذلك لم يستطع أن يدرك حقيقة الحال في الميدان إدراكا تاما، ولم يكن له في الواقع مثل منزلة علي فهمي أو راشد حسني في القيادة ولكنه كان من أكبر المخلصين لعرابي.
لم تكن خطوط الدفاع في التل الكبير متينة كخطوط كفر الدوار؛ لأنها أنشئت على عجل، وقد عمل في إنشائها آلاف الفلاحين بإشراف محمود باشا فهمي قبل أسره، وكانت عبارة عن خنادق جافة تمتد نحو ستة كيلو مترات من الجنوب إلى الشمال وتتراوح أعماقها بين متر ومترين واتساعها بين مترين وثلاثة أمتار.
وكان مركز الجيش المصري على هضبة وراء هذه الخطوط يبلغ ارتفاع قمتها نحو 30 مترا وتنحدر انحدارا بطيئا نحو الشرق والشمال، وعلى المنحدر الشرقي للهضبة وراء مركز الجيش أقيمت خيمة عرابي على بعد أربعة آلاف متر من الخطوط الأمامية.
وكان جيش عرابي لا يزيد عن 12 ألف جندي من الجنود النظامية
27
وكانت بقية الفرق النظامية في كفر الدوار بقيادة طلبة عصمت وفي دمياط بقيادة عبد العال حلمي ... على أن عرابي استحضر أورطتين من الآلاي السوداني بدمياط فانضمتا إلى جيش التل الكبير ... وكانت مدفعية هذا الجيش تتألف من نحو 70 مدفعا.
أما جيش ولسلي فكان يتألف من 13 ألف حسب ما جاء في تقريره الذي أرسله إلى حكومته عن الواقعة وكان معه نحو 60 مدفعا.
وكان سعيد الطحاوي لا يفتأ يلقي في روع عرابي أن الإنجليز لم يعدوا العدة للزحف بعد، وكان كلما سأله عرابي عن حركات الجيش الإنجليزي أملت عليه خيانته أن يهون أمرها، ويوحي إلى عرابي أن بين الإنجليز وبين الزحف أيام. ويقبض ثمن هذا الكلام، ثم يذهب إلى المعسكر الإنجليزي فيطلع ولسلي على كل ما يهمه معرفته ويبسط يده لذهب الإنجليز ولا ينسى نصيبه كذلك من سلطان ...
وفي اليوم الثاني عشر من سبتمبر أرسل علي يوسف من المقدمة إلى عرابي يقول: إن الإنجليز لن يتحركوا اليوم، فركن الجيش إلى الراحة بأمر قواده ...
وإن بعض المؤرخين ليعيبون على عرابي أنه لم يضع في مقدمة الجيش طلائع ترشده عن حركات العدو، وأنه يحق للمرء أن يعجب من إنكار الحقائق على هذه الصورة، فهل كان هؤلاء يريدون أن ينسبوا الخطأ إلى عرابي، أم كانوا يريدون أن يخفوا خيانة علي يوسف؟
وفي مساء ذلك اليوم نفسه 12 سبتمبر تأهب ولسلي للزحف، واختار الليل كي يتقي حر النهار وكي يتخذ من الليل ستارا لخطته القائمة على المباغتة التي هيأ لنجاحها سعيد الطحاوي وعلي خنفس!
وزحف الجيش في سكون بعد منتصف الليل بساعتين، وقد شدد ولسلي التحذير وأمر بألا يرتفع صوت أو توقد نار، إلا نار المعسكر الإنجليزي التي تركوها وراءهم؛ إيهاما للجيش المصري بأنهم لا يزالون قائمين في خطوطهم لا يتحركون ...
وكان يرشد الجيش الإنجليزي في الصحراء ضباط من بحارة الأسطول ممن يعلمون الاهتداء بالنجوم، ولكن علمهم لم يغنهم شيئا فكان اعتماد ولسلي على نفر من الضباط المصريين الموالين للخديو تقدم ذكرهم، وعلى فريق من عرب الهنادي اشترى الإنجليز ذممهم بالمال، إن كان لهم ثمة من ذمم ...!
وتقدم جيش ولسلي مطمئنا لا يتهيب طلائع الجيش المصري، ولكن فيم التهيب وقد كان في مقدمة الطلائع عبد الرحمن حسن قائد فرقة الاستطلاع السواري ، ثم يليه من ورائه خنفس؟ وكان عبد الرحمن قد انضم إلى الإنجليز والخديو، كما انضم خنفس، وقبل الرشوة كما قبلها خنفس، ولم يعرف مقدار ما أخذ عبد الرحمن، أما خنفس فإنه بعد الحرب لم يخجل من أن يشكو؛ لأنه لم ينل سوى ألف جنيه ولأنه لم يمنح ما وعد به، وهو عشرة آلاف جنيه،
28
كأنما كان يريد أن يكون نصيبه مثل نصيب سلطان نفسه كبيرهم الذي علمهم الخيانة!
وكان عبد الرحمن يحرس الطريق الآتي إلى الصحراء من الشرق، فاتجه بفرقته إلى الشمال، وترك الجيش الإنجليزي يمر في سلام وأمن وليت شعري كيف تبلغ خيانة هذا الإنسان مبلغها هذا، وفي أي معارك الدنيا نعثر على مثيل لها؟!
ومر الجيش الإنجليزي حتى كان على مقربة من موضع خنفس، فكان هذا أعظم خيانة من سلفه فإنه لم يكتف بترك الجيش الإنجليزي يمر، بل وضع له الفوانيس على المسالك التي يخترقها في يسر، وإنا لنحتقر أن نعقب على ما فعل خنفس بكلمة ...
وكان المصريون نائمين في خطوطهم فما راعهم إلا أصوات البنادق والمدافع والرصاص يحصدهم في صورة وحشية مروعة، وكان ذلك في الساعة 4 والدقيقة 45 صباحا ...
وكان هجوم الإنجليز على نصف دائرة فأحاطوا بميمنة المصريين وميسرتهم وتقدمت فرقة من المدفعية حتى صارت وراء خطوطهم وفتكت بنادق الإنجليز ومدافعهم بالمصريين فتكا ذريعا، ولم تكن هذه في الواقع معركة ولكنها كانت قرصنة في الصحراء لا ندري كيف يجعلها الإنجليز من مفاخر ولسلي فينعمون عليه من أجلها بلقب اللورد وكان خليقا بهم أن يدركوا أنها من مخازيهم ومخازيه، فهذا السطو القائم على الخيانة والغدر أقرب إلى عمل اللصوص منه إلى عمل الجند، وإن تبجح العسكريون بأن الحرب تبرر كل شيء ...
وفر أكثر الجيش المصري مذعورين، ولكن الميدان في هذه المحنة وفي هذه المباغتة التي تطيش فيها الأحلام لم يخل من نفر من المصريين حفظوا شرف قومهم من الانهيار، فأثبتوا في مستنقع الموت أرجلهم والهول محيط بهم والموت يأتيهم من كل مكان، وإن جلال عملهم هذا ليمحو من النفوس شيئا كثيرا مما تركته فيها خيانة خنفس ومن حذا حذوه من الخزي والألم، وهؤلاء الأبطال الميامين البواسل هم: الشهيد البطل الميرالاي محمد عبيد، وأحمد بك فرج، وعبد القادر بك عبد الصمد، وحسن أفندي رضوان.
وقف هؤلاء الأربعة بفرقهم مستبسلين وكان مجموعها لا يزيد عن ثلاثة آلاف، وكان أكثرهم بسالة وإقداما، محمد عبيد بطل الهجوم على قصر النيل يوم أن أخرج عرابي وصاحبيه من سجنه؛ فقد صمد هنا للإنجليز برجاله السودانيين وأوقف زحفهم وقاتلهم قتالا شديدا مات فيه معظم رجاله فتقدم واستقبل الموت راضيا مرضيا، وذهب شهيد وفائه وبطولته.
ويلي محمد عبيد في البسالة حسن رضوان قومندان الطوبجية الذي أصلى الإنجليز نارا حامية بمدافعه وأوقع بهم رغم تفوقهم خسائر جسيمة حتى سقط جريحا في الميدان، ولما حمل أسيرا إلى ولسلي وأقبل يقدم له سيفه لم يشأ أن يأخذه منه؛ احتراما له، وأثنى على بسالته.
واستمرت المعركة بين هؤلاء البواسل وبين الإنجليز نحو 40 دقيقة، وكان القتلى من المصريين نحو ألفين، أما الجرحى فلم يحص عددهم لفرارهم، وأما الإنجليز؛ فقد قتل منهم 57، منهم 9 ضباط، وجرح 204، منهم 27 من الضباط.
وأما غنائم الإنجليز فكانت مدافع الجيش المصري ومهماته وذخائره ومؤونته جميعها ...
وأما عرابي فكان يؤدي صلاة الفجر فانتبه على صوت المدافع وكانت خيمته على نحو ألف متر من المعركة، وأرسل إليه علي الروبي لينتقل إلى موضع آخر حيث إن الإنجليز أوشكوا أن يحيطوا بالجيش ...
وأدى عرابي الصلاة ولبس ملابسه العسكرية وركب جواده واتجه إلى حيث كان يوجد نحو ألفين من الرجال على مقربة من خيمته فدعاهم ليذهبوا معه صوب المعركة ولكن كان أكثرهم من الاحتياطي فولوا الأدبار خائفين، فاتجه صوب المعركة إلى حيث كان يقف محمد عبيد، فرأى الفارين قادمين في ذعر، وعبثا حاول أن يحملهم على الوقوف، وكانوا يلقون أسلحتهم وما منهم إلا من يجري على ساقي نعامة!
واقترب الإنجليز حتى صاروا على نحو 600 متر من خيمته وأطلقوا عليها قذيفة اقتلعتها وأطاحت بها في الهواء، وألح على عرابي خادمه محمد سيد أحمد
29
أن ينجو بنفسه؛ إذ لا فائدة بعد ذلك من القتال ولوى عنان فرسه بالقوة وما زال يتوسل إليه حتى أطاعه.
ويذكر جون نينيه في كتابه أن الذي حمل عرابي على طلب النجاة هو طبيبه لا خادمه قال: «ونجا كل الخونة؛ لأنهم دبروا فرارهم قبل خوض غمار المعركة الصورية المزيفة ليعلنها الإنجليز نصرا مؤزرا، وهم يعلمون أنها كانت تكون لهم هزيمة منكرة لو لم يلجأوا إلى الخيانة والرشوة ... وكنت بجانب عرابي وبيدي بندقية، ولما أوشك الإنجليز أن يطبقوا على عرابي رجوته في الثبات فاستعد للموت والاستشهاد، ولكن طبيبه الدكتور مصطفى بك نصح له بالفرار على صهوة جواده».
30
وفي قول جون نينيه أبلغ رد على الذين يقولون: إن عرابي ما كاد يعلم نبأ ما حدث في المعركة حتى ركب جواده ولاذ بالفرار ...
أما بعض من لا تمتلئ قلوبهم سخيمة على عرابي، فيقولون: إنه كان خيرا له لو أنه استشهد في معركة التل الكبير، ونحن نميل إلى رأيهم هذا فلو أنه قتل في المعركة؛ لتخلص من السجن ومن النفي إلى سيلان ومما تقول عليه المبطلون من الفرار والجبن وما إليهما، كما كان خيرا لنابليون لو أنه قتل في وترلو ولم يذهب إلى سانت هيلين ...
ولكن نعجب أشد العجب من جرأة الذين يجترئون على الحق بقولهم: إنه فر من خوف ويأس، فإن من الحقائق الثابتة بالأدلة كما سنبين ذلك في موضعه أنه عجل بالذهاب إلى القاهرة ليدافع عنها قبل فوات الوقت وقبل أن تؤثر في نفوس أعضاء المجلس العرفي أنباء الهزيمة.
وأدعى من هذه الجرأة إلى العجب إنكار الذين ينكرون عليه محاولته الدفاع عن القاهرة، وأن هؤلاء لمن الذين يكتبون التاريخ كما تشاء أهواؤهم لا كما حدثت حوادثه؛ وذلك لأنهم يريدون بالكتابة غرضا في أنفسهم.
يقول عرابي عن معركة التل الكبير ما يأتي: «وطلبنا علي باشا الروبي قومندان مريوط ليتولى قيادة جيش رأس الوادي فحضر في عصر يوم الثلاثاء الموافق 28 شوال سنة 1299 / 12 سبتمبر سنة 1882 وتوجه توا إلى المقدمة فأمر بانتقال آلاي علي بك يوسف (خنفس) وعبد القادر بك عبد الصمد من الجناح الأيسر الذي كان مائلا إلى الوراء على شكل زاوية منفرجة ليحمي العسكر من هجوم العدو، ووضعهما على استقامة الخط المستحكم الممتد من الترعة الحلوة إلى الجهة الشرقية، وأمرهما باتخاذ دروة خفيفة من التراب في أثناء الليل، فعمل عبد القادر بك عبد الصمد خط استحكام خفيف بعساكره حيث كان في نهاية الجناح الأيسر، وأما علي بك يوسف فإنه جمع عساكر آلايه في هيئة القول، ولم يجر عمل شيء يقيهم قاذفات العدو إذا هجم على الجيش، وتقدم أحمد بك عبد الغفار وعبد الرحيم بك حسن بعساكر السواري إلى الأمام على بعد ألفي متر ليمنعوا تقدم العدو إذا أراد الهجوم على معسكرنا، ولكن وا مصيبتاه خاب الأمل فيهما.
وفي يوم 29 شوال سنة 1299 / 13 سبتمبر سنة 1882 كنت في صلاة الفجر؛ إذ سمعت ضرب بالمدافع والبنادق بشدة، فخرجت ونظرت فوجدت ضرب النار على طول خط الاستحكام، ورأيت بطارية طوبجية سواري على مرتفع من الأرض تبعد عن الخيمة التي كنت فيها بنحو 600 متر صبت مقذوفاتها على مركزنا العمومي، وكان مركزنا المذكور خلف الاستحكامات بأربعة آلاف متر ولم يكن هناك إلا الأهالي المتطوعون مع الشيخ محمد عبد الجواد وأخيه الشيخ أحمد عبد الجواد، وجابر بك من بندر ببا بمديرية بني سويف، وكانوا نحو ألفي نفر فدعوناهم للهجوم معنا على تلك البطارية فامتنعوا، ودهشوا، فذكرناهم بحماية الدين والعرض والشرف والوطن، ولم يجد ذلك نفعا، بل تفرقوا فرارا، فجاء ضابط من طرف علي باشا الروبي القومندان الجديد يخبرني باتخاذ مركز آخر، ثم نظرت فوجدت الميدان مزدحما بالخيل والجمال والعساكر، مشتتين ومولين ظهورهم للعدو، فذهبت إلى القنطرة التي على الترعة هناك لأمنع العساكر عن الفرار، وصرت أناديهم وأحرضهم على الرجوع والثبات والصبر على قتال العدو، وأذكرهم بالشرف الإسلامي والعرض والوطن، فما كان من سميع ولا بصير، فألقوا بأنفسهم في الترعة وسبحوا إلى البر الغربي، فذهبت إلى بلبيس لجمع المنهزمين هناك واتخاذ مركز آخر لمنع العدو من الوصول إلى القاهرة، وكان معي أخي السيد صالح عرابي وخادمي محمد إبراهيم وجاويش بررجي يدعى عطية محمد، فقط، وكان قاذفات الطوبجية السواري تتساقط علينا من كل جهة حتى تركنا حدود التل الكبير، فلما وصلت إلى بلبيس وجدت علي باشا الروبي سبقني إليها، فسألته عما دهاهم؟ فلم يزد على قوله: إنه خذلان، وكان على أثرنا فرقة من خيالة العدو فهجوما علينا، فأرخينا للخيل العنان حتى وصلنا إلى محطة أنشاص، فوجدنا هناك قطارا فركبناه وذهبنا إلى القاهرة لاتخاذ الوسائل اللازمة لحفظها من الأعداء قبل وصولهم إليها، وأسباب هذا الخذلان هو أنه في خلال تلك الأيام كانت الرسائل تبعث من قبل الخديو إلى كبراء الضباط بالوعد والوعيد معلنة لهم أن الجيش الإنجليزي لم يحضر إلى مصر إلا بأمر من السلطان خدمة للخديو وتأييدا لسلطته وكانت توزع تلك الرسائل بواسطة محمد باشا أبي سلطان رئيس مجلس النواب ومن معه الذين هم مع الإنجليز، في الإسماعيلية بأمر الخديو وبواسطة الجواسيس من المصريين كأحمد عبد الغفار عمدة تلا والسيد الفقي العضوين في مجلس النواب عن مديرية المنوفية، وأثروا على قلوب علي بك يوسف قومندان الآلاي الثالث، وأحمد بك عبد الغفار قومندان السواري؛ لشدة ضغط ابن عمه عليه، وعبد الرحمن بك حسن حكمدار آلاي السواري الثاني وحسن بك رأفت قومندان الطوبجية.
واستمر ذلك إلى أن كانت ليلة الأربعاء 13 سبتمبر سنة 1882، فأشاع علي بك يوسف أنه علم من الجواسيس أن الإنجليز لا يخرجون في هذه الليلة من مراكزهم، ولذلك لم يفعل ما أمر به علي باشا الروبي من عمل خط استحكام من التراب، وجمع عساكره في نقطة واحدة في شكل قول وكانت العساكر الإنجليزية قد سارت من أول الليل وفي مقدمتها بعض ضباط أركان حرب من المصريين الذين انحازوا إلى الخديو بطرف الإنجليز، وأمامهم عربان الهنادي يرشدونهم إلى الطريق واستمروا سائرين إلى أن بلغوا المقدمة في آخر الليل، وكانت من السواري تحت حكمدارية أحمد بك عبد الغفار وعبد الرحمن بك حسن ، فبدل أن تناوش العدو القتال وتوقف سيره رجعت أمامه كأنها تقوده إلى أن بلغوا محل آلاي علي بك يوسف الذي كان خاليا من عساكره فمروا بين العساكر بلا مانع يمنعهم، وأطلقوا النار على الاستحكامات من الخلف والأمام، وأوقعوا بالجند على حين كان راقدا، فدهشت العساكر وتولاها الذهول، حيث رأوا ضرب النار عليهم ومن خلفهم وأمامهم، فألقوا أسلحتهم وفروا طالبين النجاة لأنفسهم، إلا آلاي المشاة الأول حكمدارية أحمد بك فرج وآلاي محمد بك عبيد وآلاي عبد القادر بك عبد الصمد، فإنهم ثبتوا في مراكزهم وقاتلوا أعداءهم حتى النهاية فاستشهد منهم من استشهد وجرح من جرح، وصار الميدان ظلاما من دخان البارود، واختلط الجند المنهزم بالحيوانات المنتشرة في تلك الصحراء الواسعة، واشتعلت النار بعربات السكة الحديد التي بها الذخيرة الحربية وما جاورها من عربات المؤونة من قاذفات الطوبجية السواري التي عمدت إلى ضرب المركز العمومي ... وهكذا تم استيلاء الإنجليز على مركز التل الكبير ومهماته وذخائره، وبه كانت نهاية الحرب والخسارة عظيمة بسعي الخديو ومن انحاز إليه من المصريين الذين نشأوا تحت ضغط الاستبداد، واستمرأوا عيش الاستعباد، وبمساعدة المنافقين من عمد وأعيان المنوفية وعرب الهنادي بالشرقية الذين كافآهم الخديو، خصوصا الشيخ أحمد أبو سلطان وإخوته من عربان الهنادي القاطنين بالشرقية، فإن الخديو أقطعهم خمسة آلاف فدان في رأس الوادي مكافآة لهم على خيانتهم للدين والوطن الذي نشأوا فيه» ...
وقال في حديثه الذي أفضى به إلى صديقه بلنت بعد عودته من المنفى: «أديت الصلاة وأسرعت بجوادي إلى حيث كان يوجد الاحتياطي، وناديتهم ليذهبوا معي، ولكنهم كانوا جماعة من الفلاحين فحسب، وكانت القذائف تتساقط بينهم فولوا هاربين، فاتجهت وحدي بجوادي إلى الأمام ولم يكن معي إلا خادمي محمد، فحينما رآني وحيدا وأدرك أني ذاهب إلى الموت المحقق أمسك بجوادي وتوسل إلي أن أرجع، ولما رأيت أننا خسرنا المعركة وأن الجميع كانوا يفرون، رجعت ومعي محمد، وعبرنا الوادي عند التل الكبير وسرنا في محاذاة ترعة الإسماعيلية حتى بلغنا بلبيس، وهناك كونت معسكرا جديدا ورأيت عليا الروبي قد سبقني إلى هناك، فاتفقنا على الوقوف في بلبيس، ولكن ما إن وصل فرسان دروري لو ، حتى هم الجميع بالفرار ولم يرض أحد أن يقف، فتركنا كل شيء وركبنا قطارا إلى القاهرة». •••
من مهازل السياسة حقا أن تركيا كانت حتى ذلك اليوم - يوم التل الكبير - لا تزال تفاوض إنجلترا في شروط إرسال جيش عثماني إلى مصر، وكان السلطان في نفس هذا اليوم قد دعا إليه دوفرين في قصره فمكث عنده 11 ساعة في أخذ ورد ...
ولما بلغت أوربا هزيمة التل الكبير كانت فرنسا أول من أشار على إنجلترا بأنه لم تعد ثمة حاجة إلى ذلك المؤتمر الثنائي المزمع عقده، وكانت فرنسا لا تميل إلى وجود جند عثمانيين بمصر؛ وذلك جريا وراء ميلها من أول الأمر ...
وأفضى الخديو إلى مالت «أنه إن كان ثمة شيء من شأنه أن يزيد قيمة النصر، فذلك أنه قد قضى على كل حجة للتوقيع على مؤتمر مع تركيا، وإنه لينظر إلى الماضي والحزن ملء نفسه؛ إذ يفكر فيما كان عسى أن يحيق بمصر من خطر لو أن السلطان استطاع بجنوده أن يتدخل في شؤون مصر».
31
لذلك أبرق جرانفل عصر ذلك اليوم المشؤوم إلى دوفرين يقول: «إن حكومة جلالة الملكة ترى - وقد قضي الأمر - أن صاحب الجلالة السلطان لم يعد يجد هناك حاجة لإرسال جند إلى مصر»، وانقطعت بذلك المفاوضة بين الدولتين، وأسدل الستار هنا كذلك على مهزلة من أسخف مهازل السياسة.
وبادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة جرانفل وهنأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار، ولم تدر فرنسا أن هذا الانتصار هو خيبة كبرى لسياستها في مصر، أو لعلها كانت تتبع مثل أسلوب النعامة، ورد جرانفل بقوله: «إن واقعة التل الكبير إنما هي انتصار لأوربا؛ فلو أن الجيش الإنجليزي قد هزم فيها لكان ذلك كارثة على جميع الدول التي يقلقها التعصب الإسلامي».
32
وهنأ مسيو دوكلرك رئيس وزراء فرنسا السفير الإنجليزي بباريس قائلا: «إن انتصار الإنجليز على العرب في مصر أمر طيب النتائج لفرنسا في كل من تونس والجزائر».
33
والمسألة كلها من جهة فرنسا مسألة جشع استعماري لا أقل ولا أكثر، والحق أن المرء قلما يقع على ما هو أقبح وأرذل من جشع فرنسا في الاستعمار؛ تلك الدولة التي تزعم أنها موطن الحرية وبلد الديمقراطية، إلا أنها أوهام انخدع بها الشرق زمنا فسهل التهامه، ثم أخذ يتعلم المدنية والحرية على أيدي آكليه! عقب روثستين في كتابه المسألة المصرية على انتصار إنجلترا بقوله: «وهكذا صدقت الأحلام، إننا إذا جرينا على رأي أنصار الاحتلال قلنا: إن مصر إنما صارت إلى الإنجليز مصادفة واتفاقا، ولكن الذين يكونون قد قرأوا هذه القصة بشيء من التنبه والالتفات يقولون معنا: إن السياسة البريطانية والجمهور البريطاني لم يهملوا قط الانتفاع بكل حادث من شأنه تسليم مصر إلى إنجلترا، وإنهم كانوا إذا ما أعوزتهم الحوادث خلقوها بالكيد والاحتيال، وإن إنجلترا في جميع علاقاتها بمصر لم تخفف عنها الوطأة لحظة واحدة، بل كانت - على العكس - تجتهد في شد الوطأة عليها ما استطاعت وفي إحلال نفسها محل فرنسا التي كانت تنافسها وتباريها، وإنه لم يكن من سبب لجميع عدائها لإسماعيل باشا، ثم لعرابي من بعده غير خوفها بحق أن مصر إذا كانت دستورية سهل عليها الإفلات من قبضتها، وإنها لم يمنعها أن تغلظ على مصر ويضطرها إلى استعانة الباب العالي غير ظنها أن كل محاولة منها لضم مصر توقعها في حرب مع أوربا، أو على الأقل في مشاكل لا يستهان بها، وإنها عندما رأت أن هذه المخاوف لا أساس لها اغتبطت بتلك المفاجأة اللذيذة. ولا يفوتنا أن نذكر أنها هي نفسها إلى هذا كله كانت عاملا فعالا في الأمر؛ فقد سعت إلى تلك «المفاجأة» عندما برزت إلى حومة الوغى وتحدت بضربها الإسكندرية دون أوربا كلها.
34
أودت الخيانة بعرابي
«الولس كسر عرابي» ... هذه هي الكلمة الجديدة التي حلت في أفواه المصريين وا أسفاه محل الكلمة السالفة «الله ينصرك يا عرابي» ولا يزال الناس في القرى حتى يومنا هذا كلما استفظع أحد الغش أو الخيانة وأراد أن يعبر عن سوء عاقبتهما قال في جد وألم: «الولس كسر عرابي» ...
وها نحن أولاء نرى بعد معركتي القصاصين الثانية والتل الكبير مبلغ ما في هذه العبارة من صدق.
ولسنا نريد بذلك أن الخيانة وحدها هي التي أدت إلى الهزيمة؛ فقد كان للهزيمة عاملان آخران على قدر كبير من الأهمية ألا وهما إهمال الميدان الشرقي، وانضمام الخديو إلى الإنجليز من أول الأمر، وإنما نريد أن نقول: إن العامل الجوهري في الهزيمة كان الخيانة، بمعنى أنه لو لم ينكب بها الجيش لكان من المرجح نجاحه في رد الغزو عن البلاد، وبعبارة أخرى لو فرضنا أن المصريين كانوا حصنوا حدودهم الشرقية كما حصنوا خطوط كفر الدوار، وردموا القناة، ثم وقعت الخيانة على الصورة الشنيعة التي ذكرناها لانحلت العزائم ووقعت الهزيمة ولو بعد حين ...؛ إذ إنه ليس من الضروري أن تفعل الخيانة فعلها أثناء القتال فحسب، فمن الميسور إحداث فتنة داخلية أثناء الحصار تؤدي إلى انهيار الدفاع كله، وكنا نرى الهرب والخوف وقطع المدد عن الجيش في الخطوط وما إلى ذلك من عوامل الفشل، وما كان سلطان ومن معه يغفلون عن هذه الناحية التي بدأوا بعض خطواتهم الأثيمة نحوها فعلا، والتي أغناهم عنها ما حدث في صفوف الجيش ...
ولقد رأينا مبلغ اهتمام الإنجليز والخديو بهذا السلاح فجاءت الخيانة على عدة صور فقبائل البدو في الصحراء قد أفسدها بالمر، وجل، وسلطان، وبعض ضباط الجيش أصبحوا في جانب العدو إلى درجة لم يعرف لها نظير في تاريخ الحروب، والسلطان نفسه يعلن عصيان عرابي في الساعة الفاصلة، وليت شعري ماذا كان يصنع بونابرت نفسه لو أنه أحيط بما أحيط به عرابي؟!
وثمة صورة أخرى من صور الخيانة أحاطت بعرابي، ألا وهي حقد بعض رجاله عليه؛ إذ رأوه - وقد كان دونهم - يغدو رجل الأمة ومناط رجائها، ولعل ذلك هو ما أحفظ سلطان عليه وجعله يسعى سعيه ضده ...
ولكن خطر هذا الحقد كان في صفوف الجيش، وقد أشار بلنت إلى ذلك في قوله: «ولو أن طبقات الجيش الدنيا قد اتبعت عرابي في ولاء وحماسة شديدين، إلا أنه أثار حقدا ليس بالقليل بين رجال طبقته العليا من الضباط؛ وذلك لأنهم كانوا يعدون أنفسهم كجند أكفأ كثيرا منه».
1
وذكر بلنت في موضع آخر فيما أورده في يومياته سنة 1884، أن الأمير كامل
2
قال له: «إن عرابي قد خانه كل من كانوا حوله، وقد خانه بعضهم ابتغاء الحصول على الذهب، وبعضهم بدافع الحقد، وقد كان محمود سامي يحقد على عرابي ولذلك أفسد معركة القصاصين الثانية؛ فقد كان عليه أن يتقدم من الصالحية ولكنه لم يصل في الموعد الذي اتفق مع علي فهمي عليه».
ولقد شك بلنت في يعقوب سامي نفسه رئيس المجلس العرفي وقال عنه: إنه تأثر كذلك بمسعى الخديو آخر الأمر، ولو أن الخديو نفاه مع من نفوا إلى سيلان: «وأن الأوراق لناطقة بالأدلة القوية على حقده على عرابي، ومن الممكن أنه بعد أن عجز علي فهمي بسبب إصابته، أن يكون بذل أقصى ما في وسعه ليضع عرابي في عزلة؛ كي يعجل انهياره في التل الكبير، فإنه بدلا من أن تعطى القيادة لعبد العال أعطيت لرجل موال ولكنه غير كفء لها وذلك هو علي باشا الروبي».
ومن السهل على المرء أن يرى الهزيمة ماثلة في جيش هذا حاله، وأن يدرك استحالة النصر على قائد تحيط به مثل هذه المهلكات التي تكفي واحدة منها للقضاء عليه.
نقول: من السهل أن يدرك المرء ذلك حتى ولم لم يعلم ما حدث من خيانة سافرة غادرة أثناء القتال، وحسب المرء أن يذكر من هذا إرسال الخطة إلى العدو في معركة القصاصين الثانية على يد علي يوسف خنفس، وقد زاد الأمير كامل على ذلك فيما تحدث به إلى بلنت في ذلك الذي أثبته في تلك اليوميات المشار إليها «أنه حدث أثناء هذه المعركة أن كانوا نحو 18 ألفا من المصريين على مقربة من نحو 2500 من الإنجليز فيهم دوق كنوت، ولو أن علي يوسف الذي كان يقود القلب تقدم لسحق الإنجليز وأسر الدوق، ولكنه تأخر برجاله وترك العدو يحيط بالجناحين ».
ولقد رأينا كيف كانت خطة هذه المعركة محكمة الوضع ورأينا كيف أثنى عليها أحد قواد الإنجليز أنفسهم قائلا: إنه كان يمكن بها أن يتحقق للمصريين النصر ...
ولولا خيانة علي يوسف وتأخر البارودي بسبب خيانة الطحاوي لكان من أقرب الظنون إلى اليقين أن يولد في القصاصين عصر جديد في تاريخ مصر.
قال الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية» عن الجنرال ولسلي: «لم يكن الجنرال ولسلي من القواد الذين اشتهروا بالكفاءة العالية في القيادة ولا ممن امتازوا في معارك سابقة بالنبوغ في الفنون الحربية، بل كل ما عرف عنه أنه اشترك من قبل في حرب القرم وفي بعض الحملات الاستعمارية الإنجليزية، وكان لم يزل برتبة قائمقام جنرال حين تولى قيادة الحملة على مصر سنة 1882، فلما انتهت بهزيمة العرابيين في التل الكبير واحتلال العاصمة انهالت عليه ألقاب الشرف والتكريم، فنال لقب لورد «فيكونت» ولسلي أوف كايرو، ورتبة جنرال وغير ذلك من علامات التقدير، على أنه تولى فيما بعد سنة 1882 قيادة الحملة على قوات المهدي في دنقلة، فانتهت بإخفاقها ومقتل غوردن باشا، وتولى سنة 1903 قيادة الجيش الإنجليزي في حرب البوير بالترنسفال فباء بالهزيمة والخسران، وعدته حكومته مسؤولا عن النكبة التي حلت بالجيش الإنجليزي، فعزلته عن قيادته وعينت بدله الجنرال اللورد روبرتس، من هذا يتضح لك أن قيادة الجيش الإنجليزي وذات الجيش الإنجليزي الذي هاجم مصر سنة 1882 لم يكونا كافيين للظفر بها واحتلالها، لولا الانقسام الذي أضعف قوة الدفاع عنها».
والواقع أن ما يخرج به المرء من أنباء معركة القصاصين الثانية، هو شعوره بأن المصريين لم يكن بينهم وبين النصر على الإنجليز إلا خطوة فكيف لو لم تقع الخيانة؟
أما في التل الكبير فكان مثل المصريين كمثل قوم ناموا في دارهم ووضعوا على بابهم حارسا يوقظهم إن قرب منها عدو، ولكن الحارس سار مع العدو جنبا إلى جنب حتى وقف به على رؤوس النائمين وقال له: اضرب من تشاء في غير خوف ...
لقد أحيط بجيش نابليون في وترلو ولم يكن ذلك على حين غفلة كما أحيط بجيش عرابي في التل الكبير، ففر الفرنسيون البواسل، وطلب نابليون الموت ففاته حتى الموت، ففر نابغة الحروب ونادرة العصور مع الفارين عسى أن يملك الدفاع عن باريس ... وكذلك الحال في كل جيش يحاط به فإما الفرار أو التسليم أو الموت ...
ولعل معركة التل الكبير - التي كانت في الحقيقة مذبحة - هي أروع مثل في تاريخ الحروب للخيانة كيف تودي بجيش من الجيوش، وماذا بعد أن يؤخذ القوم وهم نائمون؟!
هكذا كسبت إنجلترا المعركة بالذهب، وليته كان ذهبا خالصا؛ فقد كان رصاصا يغطيه الذهب كما ذكر الأمير كامل للمستر بلنت، وقد ظهر في القاهرة بعد الحرب فأسرعت الحكومة إلى شرائه من السوق وكان الجنيه يباع بخمسة فرنكات أو عشرة وقد كسر الأمير بعض هذه القطع ورأى ما فيها من رصاص فكأنما تأبى إنجلترا إلا أن تخون حتى في أداة الخيانة!
تبقى بعد ذلك مسألة يوردها خصوم عرابي ساخرين منه بها جاعلين منها سببا من أكبر أسباب هزيمته وذلك لكي يقللوا من شأن الخيانة أو لكي يصرفوا عنها النظر ويحصروها فيما زعموه من أخطاء عرابي، ألا وهي أنه سهر طول ليلة المعركة في حلقة ذكر مع جيشه وفي قراءة الأدعية مع رجال الطرق الصوفية، فلم ينم العساكر وبذلك لم يستطيعوا الحرب في الصباح.
ولسنا ندري أبلغ الاستخفاف بعقول الناس هذا الحد، فجعل هؤلاء الخراصين ينتظرون أن يجوز كلامهم هذا على الناس، أم أنهم كانوا هم البلهاء فصدقوا ما يذيعونه في الناس ...؟!
وبعد، فليتهم صدقوا! وليت العساكر قد قاموا الليل يذكرون الله إذن لما استطاع العدو أن يدهمهم وهم نيام، وكيف يجتمع مثل هذا العدد في حلقة ذكر مع قائد الجيش وقد كان بين خيمته وبين خطوط الدفاع الأولى نحو أربعة آلاف متر؟
وإذا صح أن عرابي قد استدعى عددا من رجال الطرق الصوفية أو أنهم هم الذين قدموا عليه، فأرسلهم إلى الفرق في مراكزها يستحثونهم ويستنهضونهم ويثيرون حماستهم في الله والوطن وهذا ما نعتقد أنه ما حدث، فما عيب هذا ؟ وأي عيب في أن يقرأ عرابي القرآن في خيمته ويدعو الله مع نفر من رجال الدين ؟ هل جعل ذلك كل عدته للجهاد فدعا الله أن يمده بالملائكة مسومين ليضربوا له العدو ثم نام؟! ألا خسئ الخراصون الأفاكون.
وأي فرق في جوهر الأمرين بين أن ينشد رجال الدين بين الفرق أناشيدهم الدينية يقصدون استنهاض هممهم وإثارة حماستهم، وبين الأناشيد التي يهتف بها الجند في كافة الجيوش الحديثة؟ وما الغرض من الموسيقى الحربية والخطب والنشرات؟ أليست كلها وسائل تبعث الروح المعنوية في الجند وتهز عواطفهم النبيلة للفداء والنضال؟ وإذا لجأ عرابي إلى الوسائل التي كانت تتفق مع البيئة ومع العصر الذي كان يعيش فيه وهي لا تخرج في جوهرها وفي الغرض منها عن وسائل الجيوش الحديثة فكيف يعد ذلك مما يسخر به منه ولا يعد مما يسجل له الالتفات إلى كل معنى يراد به بث الحمية في قلوب الجند؟
إن مرد المسألة كما قلنا إلى الرغبة في صرف الأنظار عن الخيانة وإلى الرغبة في قلب محاسن عرابي كلها مساوئ بطريقة مدبرة محكمة، جاز أكثر مفترياتها زمنا على البسطاء.
ومن أحسن ما يذكر في هذا الصدد أن هذه الحملة الإنجليزية بالذات قد أقيمت لها الصلوات عند خروجها من إنجلترا وباركها كبير الأساقفة مع عدد من رجال الدين، وقد أورد ذلك هربرت سبنسر في كتابه «أصول علم الاجتماع» أثناء كلامه على الدين وأثره في حياة المجتمعات، ومن أجمل ما علق به على ذلك قوله: «إن هذه الحملة كانت موجهة إلى قوم يحاربون في سبيل الحرية والاستقلال».
ألا إنها الخيانة الغادرة السافرة هي التي أودت بعرابي، وكانت كفيلة بأن تودي بأي قائد غيره في مكانه، وفي التاريخ شواهد كثيرة على أثر الخيانة في انهيار الجيوش ولعلنا لم ننس الأمس القريب حين كان الجنرال ويفل في صحرائنا الغربية يجمع بقلته المتهيبة جموع الطليان جمعا فيأسرهم بلا قتال؛ لأنهم كانوا فريقين: أحدهما في صف الملك، والثاني في صف الزعيم، كما كان المصريون فريقين: أحدهما في صف الخديو ، والثاني في صف عرابي.
والخيانة مسألة تكمن في النفوس، ولن يستطيع أن يعرف الخونة ليردهم عن وجهتهم الآثمة قائد، وما لم يكن له وازع من ضمائرهم فإن خطرهم في الساعة الفاصلة شديد، وعلى ذلك فلن يلام عرابي على وجود الخيانة في جيشه وقد رأينا كيف تمكن اثنان أو ثلاثة من هؤلاء المنافقين من القضاء على ذلك الجيش وهم يظهرون له الولاء والفداء، وما حيلته أو حيلة غيره في نفوس تشترى بالمال كما يشترى الرقيق؟!
بعد وترلو
ما أشبه حال عرابي بعد التل الكبير بحال نابليون بعد وترلو، كلاهما هرول إلى عاصمة بلاده بعد أن حلت الهزيمة بجيشه على غير انتظار، وكلاهما دعا قومه إلى مواصلة الجهاد ولكنهم خذلوه، وخلعوا طاعته في غير خوف وقد زال عنه سلطانه بزوال النصر، أو على الأصح بحلول الهزيمة، وهما موقفان تتمثل في كل منهما مأساة من مآسي التاريخ سوف تبقيان في فرنسا وفي مصر بقاء الزمن ...
مضى عرابي إلى القاهرة فبلغها قبل الظهر وبصحبته علي الروبي وقصد من فوره إلى قصر النيل، وكان المجلس العرفي منعقدا منذ الصباح ينتظر أنباء من التل الكبير، ولكنه لم يتلق شيئا فساور الأعضاء كثير من القلق، وكان يعقوب باشا قد تلقى وهو في مكتب التلغراف كثيرا من الأنباء ولكنه لم يفض بشيء منها إلى أحد حتى فاجأ الحاضرين بقوله: إن عرابي باشا قادم بعد حين إلى القاهرة، فوجمت الوجوه وعرف الأعضاء ما حدث وإن لم يزد يعقوب باشا شيئا على هذه الكلمة.
وبلغ عرابي مقر المجلس العرفي فتلقاه الأعضاء واجمين، وكان الأسف الشديد باديا على محياه، ولبث لحظة لا يدري ماذا يقول؟ ثم أظهر المجلس على كل شيء وشكا كثيرا من الخيانة ومن تفرق كلمة الجند وفرارهم لا يلوون على شيء وهو يدعوهم فلا يستجيبون له ...
وانضم إلى المجلس العرفي بعض الأمراء والكبراء، وتشاوروا فيما يعملون؟ أيسلمون القاهرة للإنجليز أم يدافعون عنها؟ ...
وكان عرابي يستحثهم على الدفاع ذاكرا لهم إنه من الوجهة الحربية لم يزل الأمل قويا فهناك حامية القاهرة في القلعة بمدفعيتها، وهناك حامية دمياط بقيادة عبد العال، وفي إمكانها التحرك أثناء الدفاع عن القاهرة لرفع الحصار عنها وكذلك هناك حامية كفر الدوار وفي استطاعة طلبة أن يرسل المدد المطلوب، فبالثبات والصبر يمكن معالجة الأمر، فليس طريق الإنجليز سهلا كما ظن البعض.
ونهض الأمير إبراهيم باشا أحمد ابن عم الخديو وأهاب بالحاضرين أن يثبتوا وأن يقاوموا وقال: «إن مصر غاصة بالجند والمخازن مليئة بالمؤن والذخائر، والأسلحة ومعدات الدفاع متوفرة فالواجب علينا إذن الدفاع ما دام فينا بقية ... فأجاب الجميع بالموافقة».
1
وأخذ شبح اليأس يبتعد عن عرابي ونهض من فوره ليعد العدة للدفاع، وكان قد ترك في بلبيس عددا من التلغرافات في مكتب التلغراف يستنهض بها البلاد لترسل المدد لمقاومة زحف الإنجليز، ومضى عرابي إلى العباسية ومعه بعض الفنيين لإنشاء خط استحكامات هناك للدفاع عن القاهرة ...
وفي هذا الذي فعله عرابي ما يثبت الكذب الوضيع على الذين عابوا عليه فراره من التل الكبير قائلين: إنه فعل ذلك لينجو بنفسه لا ليستأنف الجهاد الذي كان ممكنا لو أنه أراده، ومما يملأ النفس أسى وألما أن يعمد هؤلاء إلى إنكار الحقائق وهم يعلمونها، وأمرهم في ذلك عجيب، فإننا نفهم أن يخطئ المرء فهم حقيقة أو أن يؤولها بدافع الغرض والهوى تأويلا يساير هواه، ولكنا لا نفهم كيف يعمد إنسان إلى قلب الوضع قلبا تاما فيقول في موقف كهذا شهدت به أكثر المصادر: إن عرابي هرب لا ليقاوم ولا ليدافع عن القاهرة ولكن لينجو بنفسه فحسب! ...
ولم يكن الاستيلاء على القاهرة بالأمر الهين لو وجدت من يدافع عنها، قال المسيو بيوفيس: «ولم يكن الجنرال دروري لويسير في زحفه في طريق آمنة؛ إذ لم يكن معه سوى عدة مئات من الجند، وكان أمامه مدينة آهلة بالسكان تدافع عنها حامية قوية كبيرة العدد ترابط في العباسية والقلعة وفي المعاقل التي بنيت أخيرا فوق جبل المقطم، وأمامه ذكريات الثورات الهائلة التي سببت المتاعب والخسائر الكبيرة لنابليون وكليبر خلال الحملة الفرنسية، ولكن جبن الرؤساء العرابيين قد أخرجه من المأزق»
2 ...
قال عرابي: «ثم استقر الرأي على إنشاء خط دفاعي في ضواحي المحروسة ، وبناء على ذلك ذهبت إلى العباسية ومعي محمود باشا المرعشلي باشمهندس الاستحكامات ومحمود باشا رضا لواء الخيالة وحسن باشا مظهر لواء مأمور تشهيل إرسال الذخائر الحربية إلى مركز الجيش، وتقرر اتخاذ الخط الدفاعي أمام المطرية شرقي عين شمس يستند يمينه على الجبل ويمتد شمالا إلى ترعة الإسماعيلية ثم ينعطف غربا على الترعة المذكورة إلى النيل عند فم رياح الترعة المذكورة بالقرب من شبرا ... ثم ذهبنا جميعا إلى مركز الطوبجية وأردنا استعراض العساكر الموجودة هناك فلم نجد إلا نحو ألف رجل من خفراء البلاد بدون ضباط ونحو 40 نفرا من السواري في مركز مساكن الخيالة مع الأميرالاي أحمد بك نير، فقال الأميرالاي المذكور: إنه يقف في وجه العدو ويقاتله برجاله الأربعين حتى يموت معهم» ...
أين الجند وأين الضباط؟ هنا أدرك عرابي مرة ثانية ما فعلته الخيانة وما فعله قرار السلطان بإعلان عصيانه؛ فقد انحلت العزائم وهرب الرجال وأصبح هم كل امرئ الدفاع عن نفسه، وعاد اليأس فأحاط بعرابي من كل ناحية ووقف وحده لا يجد من يمد يد المعونة إليه ...
والإنجليز زاحفون على القاهرة في غير إبطاء، ولندع عرابي يقص علينا نبأ هذه المحنة، قال: «فلما شاهدنا كل ذلك رأينا أن الأولى حقن الدماء وحفظ القاهرة من غوائل الخراب والدمار كما حدث في الإسكندرية ما دامت المقاومة لا تجدي نفعا، وفضلنا تقديم أنفسنا فداء عن الأمة المصرية السيئة الحظ، فرجعنا إلى المجلس سالف الذكر وبلغناه بما عن لنا، ثم قلنا: حيث إن الإنجليز يحاربوننا الآن باسم الخديو لانحيازه إليهم ففي إمكانه إيقاف هذه الحرب وعدم خراب القاهرة وغيرها ويصنع بنا بعد ذلك ما هو أهله ...
فلم يجد أرباب المجلس المذكور أفضل من رفع عريضة باسمنا إلى الخديو نعترف فيها بوقف الحرب ونلتمس منه الوساطة لدى الإنجليز بعدم دخولهم القاهرة؛ حفظا عليها من الخراب بعد تقديم الطاعة له والخضوع، فحرروا العريضة وأرسلوها إليه بعد أن ذيلتها بإمضائي مع بطرس باشا غالي ورؤوف باشا وعلي باشا الروبي ويعقوب باشا سامي رئيس المجلس العسكري في قطار خاص، وكان ذلك في يوم الخميس الموافق غرة ذي القعدة سنة 1299 / 14 سبتمبر سنة 1882 فلم يجدهم ذلك نفعا؛ فإن مساعيهم أخفقت وآمالهم خابت بأن أبى الخديو قبول العريضة وإجابة الالتماس وأمر بإلقاء يعقوب باشا سامي وعلي باشا الروبي في السجن فسجنا في الإسكندرية».
ودخل الإنجليز بلبيس والزقازيق في نفس اليوم الذي وقعت فيه معركة التل الكبير، وفي اليوم التالي 14 سبتمبر بلغ الجنود الإنجليز العباسية في نحو الساعة 4 مساء ... وتلقى عرابي نبأ ذلك في الساعة 6 وكان في منزل علي باشا فهمي ولم يكن علي باشا قد شفي من جرحه بعد، فأرسل عرابي إلى قائد ثكنات العباسية يأمره بالتسليم ...
ونصح جون نينيه - وكان في منزل علي باشا فهمي - لعرابي ولطلبة عصمت - وكان هذا قد جاء إلى القاهرة - ولمحمود سامي بتسليم أنفسهم أسرى حرب للجيش البريطاني؛ خوفا عليهم مما يحل بهم على يد توفيق، واستصوب رأيه عرابي وطلبة ورفضه البارودي قائلا: «إني ذاهب إلى منزلي فإن أرادوني فإنهم يعرفون أين يجدونني» ...
وذهب عرابي إلى منزله وارتدى ملابسه العسكرية، وتقلد سيفه وتأهب ومعه طلبة للتسليم، قال يصف ذلك: «وفي عصر يوم 15 سبتمبر سنة 1882، ورد تلغراف من الجنرال لو، خيالة الإنجليز بالعباسية إلى إبراهيم بك فوزي مأمور ضبطية القاهرة بأنه يريد مقابلتي بالعباسية ومقابلة طلبة عصمت باشا، فتوجهنا إلى العباسية واجتمعنا بالجنرال المذكور، فابتدرنا بقوله: هل تقبلون أن تكونوا أسرى حرب لجلالة الملكة؟ فقلنا له: نعم، نريد ذلك حقنا للدماء، فلو أن عندنا من القوى الحربية ما يمكننا بها إطالة زمن القتال والدفاع عن البلاد لما قبلنا ذلك، ولكنا قاتلنا حتى يقضي الله بيننا، ولكن حيث علم لنا أن الإنجليز لا مطمع لهم في الاستيلاء على بلادنا، وما كان مجيئهم إلى مصر إلا ليؤيدوا السلطة الخديوية ويسلموا البلاد إلى الخديو ثم يعودوا إلى بلادهم فنحن كففنا عن القتال ورضينا بأن نسلم سيوفنا إلى قائد الجيش الإنجليزي واثقين بعدالة الأمة الإنجليزية أن تعاملنا كأسرى حرب. وسلمنا سيوفنا، وقضينا تلك الليلة داخل غرفة من غرف قشلاق الطوبجية لا فراش فيها ولا غطاء، وكان الجنرال في غرفة أخرى مثلها.
وفي عصر يوم السبت قمنا من العباسية بكوكبة من خيالة الهنود وضابط إنجليزي إلى قشلاق عابدين فوجدناه محتلا بآلاي حرس ملكة الإنجليز حكمدارية الميرالاي تين من منزل شريف في أحرار الإنجليز، فقابلنا الميرالاي المذكور وقال لنا: أنتما أسيرا حرب عند جلالة ملكة الإنجليز فلا بأس عليكما ... وأقمنا في غرفة مقابلة للغرفة التي هو فيها وكان، أميرا كريم السجايا يأتي إلينا كل يوم ويعزينا على ما أصابنا ويعترف بظلم الإنجليز لنا، وأن الاستبداد لا يزال كامنا في قلوب الإنجليز أكثر من كل الأمم ... وبعد ذلك وصلت جيوش الإنجليز إلى القاهرة أفواجا أفواجا، وكانت نساء رجال حكام المصريين المستبدين يحيين عساكر الإنجليز عند مرورهم في الشوارع بلباسهم الأحمر وأسلحتهم السوداء على عواتقهم، بالزغاريد؛ تقربا إليهم وشكرا لهم على إطفاء شعلة الحرية المصرية» ...
وعصف الغضب برؤوس بعض المدنيين من سكان القاهرة وثارت النخوة في نفوسهم، ولم تكن الرشوة قد فعلت بهم ما فعلته بالجيش فتجمعوا من باب الشعرية والحسينية وتهيأوا للثورة، وكادت القاهرة ترى ما رأته أيام نابليون وكليبر، ولكن محافظ المدينة بذل أقصى جهده للقضاء على الفتنة في مهدها، مبينا للثائرين أن عملهم لا يجدي نفعا وليس وراءه إلا سفك الدماء ...
وفي نفس اليوم 15 سبتمبر دخل الجنرال ولسلي القاهرة وكان يصحبه سلطان باشا نائبا عن الخديو، ونزل ولسلي في سراي عابدين وقد أعدت له بأمر الخديو.
وكان الإنجليز قد استولوا على القلعة من طريق الجبل في اليوم الذي بلغوا فيه القاهرة، وقد سلمهم مفاتيحها مغتبطا علي خنفس منتظرا ما وعد به من الذهب قبل معركة التل الكبير، ولكن الإنجليز أداروا له ظهورهم، فلم تعد بهم حاجة إليه ...
واحتل الإنجليز قصر النيل، كما احتلوا القلعة، والعباسية، وهكذا أخذوا القاهرة من أطرافها، وصح حلمهم الذي ساورهم منذ عهد محمد علي ...
وبعد؛ فهذه قصة تسليم عرابي، لا نرى فيها شيئا مما افتراه المفترون من مذلة وهوان، فالقانون العسكري يقضي بأن يسلم القائد المغلوب سيفه ، ولقد سلم عرابي سيفه للجنرال لو، قائلا: إنه يفعل ذلك على الرغم منه فلو أنه استطاع مواصلة القتال ما سلم ...
وماذا كان في وسع عرابي غير هذا، ولم يكن أمامه إلا الفرار والهرب إلى بلد آخر أو التسليم للجيش المنتصر، ولو أنه هرب ثم قبض عليه وجيء به إلى مصر، أو لم يقبض عليه وظل طريدا شريدا أكان ذلك يعجب خصومه؟
لست أفهم ماذا كان هؤلاء يريدون؟ هل سلم سيفه والجيش من حوله يستطيع المقاومة والدفاع؟ أم أنه فعل ذلك حين هرب الرجال فلم يجد حوله إلا 40 رجلا في خطوط الاستحكامات؟
غلب نابليون على أمره بعد أن وضع إحدى قدميه في مدريد والأخرى في موسكو، فكتب إلى الأمير الوصي على عرش إنجلترا يقول: «يا صاحب السمو الملكي، رأيت أن أختم حياتي السياسية إذ رأيتني معرضا للخلاف الذي يفرق بني وطني شيعا، وللعداء الذي تناصبني إياه دول أوربا الكبرى فجئت كثموسكليز لألقي بنفسي في جوار الشعب الإنجليزي، وإني أضع نفسي في حماية قوانينه وأرجو من سموكم الملكي أن تمنحوني هذه الحماية حيث إنكم أقوى أعدائي وأعظمهم مصابرة وكرما».
3
وصعد نابليون إلى ظهر إحدى السفن التي كانت تراقب الشاطئ فحيا ضابط هذه السفينة برفع قبعته الأمر الذي لم يكن يفعله كثيرا من قبل تلقاء الملوك والقياصرة، فهل يعاب على نابليون ويتهم بالجبن والمذلة من أجل كتابه ومن أجل تسليمه نفسه على هذه الصورة؟
ولكن الذين كتبوا سيرة عرابي عقب الاحتلال من أعدائه لم يدعوا ناحية من هذه السيرة إلا شوهوها؛ لكى تبث في أذهان الجيل القادم الصورة التي وضعها الاحتلال لعرابي فجعله رجلا جاهلا طائشا لم يحارب من أجل مبدأ من المبادئ وإنما كانت تحركه أطماعه الشخصية، وما زال يخبط في حماقته وجهله حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يسلم سيفه صاغرا إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي.
وأما أن يكون عرابي ضحية مبادئ سامية حارب في سبيلها حتى لم يبق في قوسه منزع، وأما أن يكون أول فلاح في مصر نادى بالحرية والدستور وأول زعيم وطني وضع جهاد وطنه على أساس قومي فافتتح بذلك فصلا جديدا في تاريخ هذا الوطن، فذلك ما لا يطيق أن يسمعه الاحتلال أو يسمح حتى أن يهمس به ...
توفيق يدخل العاصمة
انتظر توفيق بضعة أيام ريثما تسلم بقية المعاقل كي يدخل القاهرة دخول الظافر، ولسوف يدخلها في حماية الإنجليز كما دخل البربوني لويس الثامن عشر باريس في حماية الحلفاء بعد هزيمة نابليون مما جعل الفرنسيين يقولون: إن جلالته جاء في الحقائب في عربة البضاعة.
توقفت حاميات «أبو قير» و«مريوط» و«رشيد» بعض الوقت عن التسليم، ولعل ذلك لأنهم لم يصدقوا نبأ الهزيمة، وتوقف عبد العال باشا عن تسليم دمياط مدة أسبوع، ثم لم يجد بدا من التسليم فسلم وقبض عليه وأرسل إلى القاهرة، أما معاقل كفر الدوار؛ فقد تركها الضباط والجند منذ أن رحل طلبة باشا إلى العاصمة واستولى الإنجليز عليها ونسفوا ما فيها من الحصون ...
وفي 25 سبتمبر أي بعد 12 يوما من معركة التل الكبير سافر الخديو بقطاره الخاص من الإسكندرية إلى القاهرة وفي معيته كبير وزرائه شريف باشا والوزراء إلا رياض الذي كان في القاهرة يعد العدة لاستقباله ...
زينت العاصمة بالأعلام على جانبي الشوارع وفي الشرفات والمنافذ، ولكن الناس كانت ترتد أبصارهم خاسئة؛ إذ يرون بين الرايات المصرية هنا وهناك راية جديدة، هي راية الجيش المحتل ...
ولم ير المصريون - وا أسفاه - على جانبي الشوارع أولئك الجنود المصريين والسودانيين الذي ألفوا رؤيتهم في مثل هذه المناسبة؛ فقد ألغى الخديو الجيش المصري بجرة قلم، وإنما رأوا نمطا عجيبا من الجند حمر الوجوه طوال الأجسام يضعون فوق رؤوسهم القبعات ويبعث منظرهم الرهبة في قلوب المصريين، ويشعر المصريون حيالهم بالاشمئزاز والكره الشديدين، ولكنه شعور خفي مكبوت لا يجرؤ أن يظهره أحد.
وقد بلغ عدد هؤلاء الجنود الحمر المقبعين نحو 5000 اصطفوا من المحطة إلى سراي الإسماعيلية، ليمر من بين صفيهم الطويلين خديو مصر القادم إلى مقر حكمه.
وبلغ القطار القاهرة في منتصف الساعة العاشرة صباحا، ونزل توفيق فتقدم لتحيته الأمراء ثم ولسلي قائد جيش الاحتلال ودوق كنوت نجل الملكة فكتوريا، وإدوارد مالت المعتمد البريطاني، ثم محمد سلطان باشا ورياض باشا وكبار المصريين من العلماء ورجال الدولة والأعيان ...
وتقدم الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري بين يدي الخديو ودعا له بالتأييد والنصر وكان يردد الحاضرون دعاءه ...
وكانت المحطة مفروشة بالبسط مزينة بالرايات والرياحين، وقد حشد فيها رياض ما أمكنه حشده من أعيان البلاد وهتف رياض باشا عند مرور الخديو من بينهم: «يعيش الجناب العالي مؤيدا بالنصر والإجلال» وردد الحاضرون هتافه، ويعلم الله كم كان فيهم من انبعث هتافه من قلبه، وكم كان فيهم من أيقن مع ما كان يرى حوله أن هذا نصر وأن هذا إجلال ...
وكانت مدافع المحطة ترسل طلقاتها مدوية؛ تكريما للخديو الظافر، وكانت تجاوبها مدافع القلعة، كما كانت الموسيقى تصدح بالسلام الخديو ...
وجلس عن يسار الخديو في مركبته دون كنوت وجلس أمامه ولسلي ومالت وأحاطت بهذه المركبة كوكبة من الفرسان الإنجليز، ومن خلفهم مركبات الأمراء والوزراء ورجال الدولة ...
ونظر أهل القاهرة ساخطين إلى فاتحة عهد الاحتلال، ولسوف يبقى هذا السخط كامنا في نفوسهم الجريحة حتى يأذن الله ببعث من يثور على الاحتلال ...
وظن توفيق أنه استعاد سلطانه ولكنه لن يلبث حتى يجد نفسه مجردا من كل سلطان، وحسب أن له السيادة اليوم ولكنه لن يلبث حتى يرى أن هذه السيادة تتمثل في مظاهر كاذبة ... في حرس يحيط به، وفي موسيقى تصدح أمام قصوره، وفي ألقاب التمجيد تضاف إلى اسمه، أما فيما عدا ذلك فالسيادة للإنجليز، ولقد بدأ كبار المصريين يولون وجوههم قبل من أصبح لهم السلطان الحقيقي في البلاد ...
ففي 28 سبتمبر ذهب سلطان إلى رياض ومعه وفد من عمد البلاد وأعيانها، فأبلغ الوزير أن هؤلاء الأعيان يريدون تقديم هدايا من السلاح الفاخر إلى سيمور، وولسلي ولو شكرا لهم «على إنقاذ البلاد من غوائل الفتنة العاصية» ...
وأعدت الهدايا بعد سفر هؤلاء الثلاثة وأرسلت إليهم في إنجلترا، إلى سيمور مخرب الإسكندرية، وولسلي بطل مذبحة التل الكبير، ولو، أول من دخل القاهرة من الإنجليز وآسر عرابي ...
وأرسل هؤلاء كتب الشكر لسلطان باشا ومن انضم إليه من الإمعات وطلائع أعوان الاحتلال، قال عرابي في مذكراته: «وفي 28 سبتمبر سنة 1882 وفد على نظارة الداخلية محمد سلطان باشا وأحمد بك السيوفي وغيرهما من المخدوعين، وأبلغوا رياض باشا بأنهم يعتزمون أن يقدموا نوعا من الأسلحة الفاخرة المحلاة بالجواهر الثمينة هدية منهم للأدميرال سيمور قائد الدوننمة الإنجليزية وللجنرال ولسلي قائد الجيش الإنجليزي، وللجنرال لو، الذي كان أول قادم إلى القاهرة بعد سقوط التل الكبير، فاستحسن رياض باشا منهم تلك الأريحية ورخص لهم في تقديم الأسلحة الفاخرة المذكورة للقواد المومأ إليهم، وكانوا قد عزموا قبل ذلك على أن يؤلفوا لجانا من كل جهة ينشؤون فيها اكتتابا لجمع نقود كافية لإنفاذ هذا الغرض ولكنهم فشلوا في ذلك واكتفوا بشراء الهدية من مالهم الخاص فأعطوا الجنرال ولسلي سيفا مجوهرا، وكذلك الجنرال لو، سيفا، وأما الأميرال سيمور فأهدوه طبنجة مجوهرة بالماس مكافأة لهم على احتقارهم للأمة المصرية وإذلالها» ...
وفي 30 سبتمبر سنة 1882، اصطف الجيش الإنجليزي في ميدان عابدين، في المكان نفسه حيث وقف عرابي قبل ذلك بعام، وقفته المشهورة ومعه الجيش المصري في 9 سبتمبر سنة 1881 يسمع الخديو مطالب الأمة ويعلن إليه مشيئتها ...
ولا تقع عينا توفيق الآن على جنود يتحدونه بل تقع على جنود يحيونه ويحييهم رافعا يده بالسلام العسكري وكم أثلج فؤاده أن يرى هذه القوة التي ظن أنها تسند عرشه، ولو أنه فكر قليلا لفطن إلى أنها كانت تمتهن ذلك العرش!
وكان الخديو في المقصورة التي أعدت له يرتدي ملابسه الرسمية، وكان يحيط به الوزراء والكبراء بملابسهم وأوسمتهم الرسمية ...
وكان الجنرال ولسلي والدوق كنوت على ظهر جواديهما إلى جانب مقصورة الخديو، وسارت فرق الجيش الإنجليزي أمامه حتى انتهى عرضها في ساعة ونصف ثم أبدى الخديو سروره وإعجابه وأثنى على الجيش ورؤسائه.
وقد جاء في عدد الوقائع الصادر في أول أكتوبر سنة 1882 أنه قد «انشرحت صدور الحاضرين وأعجب الجناب الخديو المعظم بما رآه من مهارة رؤسائهم وضباطهم وحسن انتظام العساكر وكمال نظامهم وشكر الكل لهم ما قاموا به من إخماد فتنة العصاة وإطفاء ثورتهم».
ومما يدعو إلى أعظم الأسف ما نشر عن احتلال العاصمة في هذه الجريدة في 31 سبتمبر أي في اليوم التالي للعرض وقد جاء فيه: «حضرت العساكر الإنجليزية إلى العباسية في غروب يوم الخميس غرة ذي القعدة فسلمت العساكر التي كانت مجتمعة فيها أسلحتها وتوجهوا إلى بلادهم من غير أن يمس أحد منهم بسوء، ثم دخلوا مصر ليلة الجمعة واحتلوا الأماكن العسكرية كالقلعة وقصر النيل وقشلاق عابدين فسلمت العساكر التي فيها أيضا أسلحتها وتوجهوا إلى بلادهم آمنين، وبعد هذا قبض على الشقي أحمد عرابي، ومشت العساكر الإنجليزية في شوارع المحروسة بالهدوء والسكينة ولم يظهر واحد منهم أدنى شيء ينفر منه طبع أحد المصريين خلافا لما كان يزعمه ويشيعه أحمد عرابي العاصي وأتباعه الأشقياء، ولهذا لم نر شيئا تعطل من المصالح ولا من الأعمال لا في المحروسة ولا في ضواحيها».
وفي ليلة 3 أكتوبر أقام الخديو مأدبة كبرى وحفلة سمر باهرة ساهرة في سراي الجزيرة؛ تكريما للقواد والضباط الإنجليز، وكان في مقدمة من شهدها سيمور وولسلي ودوق كنوت ومالت ولو، وفي هذه الحفلة الكبرى أنعم الخديو على 60 من هؤلاء الإنجليز بالأوسمة المختلفة.
يقول عرابي في مذكراته: «وكانت تلك النياشين التي حضرت من الآستانة بطلب درويش باشا المندوب السلطاني لأجل إعطائها للضباط المصريين».
ثواب وعقاب
بالقضاء على الثورة الوطنية وبدخول توفيق العاصمة في حماية جيش الاحتلال بدأ في تاريخ مصر عهد من أسوأ العهود التي يمنى بها تاريخ أمة من الأمم، فهو العهد الذي ينطوي فيه الأباة على ما في أنفسهم؛ خوف النكال والهلاك، والذي يمالئ المستضعفون فيه الأقوياء إما جلبا لمنفعة أو دفعا لضرر، والذي ينتقم فيه من خصومه من واتته الفرصة للانتقام، والذي يرتزق فيه حثالة الناس بوشاية بعضهم ببعض، والذي يتسلط فيه المستبدون فيأخذون بالظنة؛ رغبة في إظهار جاههم وسلطانهم فحسب، والذي يضيع فيه الحق في ضجيج الباطل فلا سميع ولا شفيع ...
هذا هو العهد الذي اختفت فيه روح الوطنية وتوارت شعلة الحرية، والذي وئد فيه الدستور وهو في مهده، وقتلت القومية المصرية وهي لا تزال تحبو، والذي نفي فيه عن مصر أباة الرجال، وتسلط فيها الاحتلال ...
وهذا هو العهد الذي بدأ فيه الإنجليز يبثون في النفوس هيبة الاحتلال وهيبة جيش الاحتلال، وأخذوا يعلمون الوزراء وكبار الموظفين من المصريين وعلى رأسهم الخديو - إن كانوا في حاجة إلى تعليم - أن السلطة للإنجليز، والطاعة للإنجليز، وأن نصائح المعتمد البريطاني في مصر واجبة الاتباع.
وقد افتتح هذا العهد بما يشاكله من الثواب والعقاب، أما الثواب فللذين عدهم الخديو من الموالين له والذين سماهم المصريون الخائنين، وأما العقاب فللذين كانوا في رأي الخديو عصاة ثائرين وإن عرفهم بنو مصر مجاهدين في الله والوطن صادقين ...
وكان أول من حظى بالثواب محمد سلطان باشا الرئيس الأول للحزب الوطني والذي سماه الناس من قبل كما ذكرنا أبا المصريين وقد أنعم عليه توفيق بالوسام المجيدي من الدرجة الأولى؛ جزاء له على بث روح الخيانة في الجيش المصري، ثم منحه فوق ذلك عشرة آلاف من الجنيهات ذهبا لا زيف فيه؛ وذلك كما قال الخديو: «لما أظهره من الصداقة لحكومتنا الخديوية ومعارضته للعصاة في جميع أمورهم وعزائمهم بالمخاطرة على حياته وما حدث له بسبب ذلك من الضرر والتعدي منهم على شخصه وأقاربه وإتلاف موجوداته ومقدار جسيم من مزروعاته» ...
أما الإنجليز؛ فقد جعلوه السير محمد سلطان فأنعمت عليه ملكة إنجلترا بوسام سان ميشيل وسان جورج مكافأة له على ما بذل في سبيل نجاح معركة التل الكبير ...
وظهر الثواب بعد ذلك في المناصب بصورة واسعة ومن أمثلة ذلك إعادة إبراهيم أدهم باشا مديرا للغربية وإعادة الشيخ محمد العباسي المهدي شيخا للجامع الأزهر بعد إقالة الشيخ الإمبابي وذلك علاوة على منصب الإفتاء الذي كان يشغله وقد تجلت هذه الروح في تأليف وزارة شريف فرأينا فيها عمر لطفي ورياض ومبارك ومدحت.
وأما العقاب؛ فقد بدأه الخديو بإلغاء الجيش المصري جملة بحجة أنه انضم إلى العصاة، وكان هذا توطئة لمحاكمة قواده وضباطه إلا من انحاز أثناء الحرب إلى الخديو ...
وكان سلطان باشا يأمر بالقبض على من يشاء وإلقائه في السجن، ولذلك تم الكثير من الاعتقالات بأمره، قال عرابي في مذكراته: «إنه أمر بسجن جميع الضباط وجميع رجال الملكية والعلماء وخطباء المساجد والتجار والأعيان إلا من كان من الجواسيس والمنافقين حسب ما هو مندرج بسجلات الخديو، فسجنوا جميعا إلا علي بك يوسف وأحمد بك عبد الغفار وعبد الرحمن بك حسن مكافأة لهم على خيانتهم وغدرهم في التل الكبير، وكذلك صار سجن جميع الذين بالمديريات والمحافظات من المستخدمين والموظفين والعمد والأعيان والقضاة والمفتين وغيرهم من عامة الناس حتى غصت بهم السجون بما يربو على ثلاثين ألفا من المصريين».
1
وللمرء أن يتصور مبلغ ما كان يرتكب من المظالم في حال كهذه يقع فيها القبض على الناس بغير حساب ولا رقابة من قانون أو عرف، وما أشبه هذا الموقف بعهد الإرهاب الأكبر في فرنسا أيام ثورتها، يقول عرابي: «وانتهز حكام المديريات من رجال الاستبداد فرصة القبض على وجوه البلاد وأعيانها وانتزفوا مادة ثروتهم حتى أثروا وامتلكوا الأراضي الواسعة ومن ضن عليهم بماله كان جزاؤه الإعدام بدعوى أنه من العصاة وأنهم مصرون على الانتقام» ...
وقد اعتقل كبار رجال الجيش من الثوار وجميع زعماء الثورة من المدنيين إلا عبد الله نديم؛ فقد اختفى ولم يعرف له مقر، وعدد كبير من العلماء في مقدمتهم الشيخ محمد عبده والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد الخلفاوي والشيخ محمد عليش، وعدد من كبار الموظفين كان بينهم أحمد رفعت بك مدير المطبوعات وأحمد بك ناشد مدير الشرقية ويعقوب بك صبري مدير الفيوم وعدد من النواب وعدد من الأعيان والتجار ...
كما قبض على حسن باشا الشريعي وزير الأوقاف في وزارتي البارودي وراغب، وعبد الله باشا فكري وزير المعارف في وزارة البارودي؛ وذلك لاستنكارهما انضمام توفيق إلى الإنجليز وعزله عرابي وهو بكفر الدوار ...
هذا عدا من أشرنا إلى القبض عليهم من الكافة في القاهرة والإسكندرية وطنطا وغيرها من جهات الأقاليم، مما فزعت منه البلاد زمنا كان في مصر حقا عهد الإرهاب.
وكان السيد حسن موسى العقاد والقائمقام سليمان سامي داود قد فرا على ظهر إحدى السفن إلى كريت، فعلمت الحكومة بمقرهما فأرسلت إلى الحكومة التركية تطلب تسليمهما فأرسلا إلى الإسكندرية مقبوضا عليهما في 9 نوفمبر سنة 1882.
وأصدر الخديو أمره بتأليف لجنة للتحقيق بالقاهرة وذلك في 28 سبتمبر سنة 1882، وكانت تسمى القومسيون أو اللجنة المخصوصة، وقد تكونت من 10 أعضاء برئاسة إسماعيل أيوب باشا، وكلفت باستجواب كل من اتهم بجريمة العصيان أو التعدي على سلطة الخديو أو إتيان أي عمل فيه إهانة للجناب العالي، سواء كان المتهم فاعلا أصليا أو شريكا لغيره، وكان من سلطة هذه اللجنة القبض على أي شخص بمجرد أن تبلغ ذلك إلى وزير الداخلية، ولها أن تقدم من ترى أنه مدين إلى المحكمة العسكرية التي تؤلف للحكم في هذه التهم وإيفاد مندوب من قبلها لإقامة الدعوى أمام هذه المحكمة.
وتألفت من هذه اللجنة لجنة فرعية لتحقيق التهم المنسوبة لأهل الأقاليم والمدن ...
وصدر أمر من الخديو في نفس الوقت بتأليف محكمة عسكرية لمحاكمة من ترى اللجنة تقديمهم إليها، وجعل رئيسها محمد رؤوف باشا وهو من الموالين للخديو وكان أعضاء المحكمة - إلا واحدا - من أصل تركي أو شركسي وكانوا جميعا من الناقمين على عرابي وحركته القومية وممن يدركون حق الإدراك ماذا يريد الخديو؛ لأنه اختارهم على هذا الأساس. •••
وألفت محكمة عسكرية بالإسكندرية تعاونها لجنتان لتحقيق حوادث الإسكندرية وطنطا على نحو ما يحدث في القاهرة واختير أعضاء اللجان جميعا بالضرورة لا من المحايدين الذين يريدون وجه الحق ولكن من أنصار الخديو المملوءة قلوبهم غيظا وحقدا على عرابي وعلى الثورة ...
وكان رياض باشا من أشد الناقمين على عرابي وزعماء الثورة، يتطلع في صبر فارغ إلى اليوم الذي يرى فيه وهو وزير الداخلية جسد عرابي متدليا في حبل المشنقة أو ممزقا برصاص الجند ...
وكان شريف باشا كذلك ساخطا على هؤلاء جميعا منذ أن أخرجوه من الوزارة بسبب أزمة الميزانية ولئن ظل حريصا على الدستور كمبدأ للحكم إلا أنه قد أمتلأ قسوة وغيظا على الثوار ، وقد كان بطبعه يكره التطرف ولذلك نظر بمنظاره إلى عرابي وأنصاره فكانوا عنده من أشد المتطرفين وإن لم ينكر بينه وبين نفسه أنهم طلاب دستور وحرية وأنهم من حيث المبدأ كانوا في الواقع يتجهون اتجاهه القائم على محاربة الاستبداد والنفور منه ...
البطل السجين
ظل عرابي معتقلا في قشلاق عابدين حتى 5 أكتوبر، ثم أسلم إلى الحكومة المصرية، فألقت به مع زعماء الثورة وعدد كبير من المعتقلين في بناء الدائرة السنية الذي أحالته إلى معتقل عام، وجعلت فيه حجرة للجنة التحقيق.
وبانتقال عرابي إلى سجنه هذا بدأ عهد إهانته على صورة لولا أننا نريد أن نوفي هذا التاريخ حقه ما ذكرناها؛ لفرط ما نحس من مجرد ذكرها من خزي وألم ...
قال عرابي في مذكراته المخطوطة: «وصار نقلنا من قشلاق عابدين إلى سجن الدائرة السنية المذكورة لأجل المحاكمة ومعي طلبة باشا عصمت، وسجن كل منا في غرفة منفردة أسوة بمن فيها من المسجونين، ثم أغلقوا المنافذ ومنعوا عنا السراج ليلا بعد أن فتشونا وأخذوا ما معنا وأهانوا البعض منا خصوصا عبد العال حلمي».
وقال فيما كتبه وهو في سجنه لمحاميه المستر برودلي: «بعد ذلك أسلمنا إلى السلطات المصرية ووضعنا في السجن المصري يوم 5 أكتوبر، وكان ذلك من أيامي الحزينة التي لا تنسى؛ فقد فصل بيني وبين صديقي طلبة باشا، وألقي بي في حجرة ليس فيها شيء - حتى الكرسي - وأغلقوها علي، وجاء خادمي إلي ولكن الحراس لم يسمحوا بإدخال شيء إلي سوى بساط وملحفة ...
وعقب ذلك أقبل فريق ممن أرسلوا لإهانة السجناء وتهديدهم كما تبين من أمرهم، وفتشوني وأخذوا كل ما لدي من الأوراق الخاصة التي طلبتها لجنة التحقيق، وبعد هذا جاء فريق ثان ومعظمهم من موظفي الخديو وكان بينهم عثمان بك القائم على شؤون خيله، وحسين أفندي فوزي وله صلة بشؤون الخديو المنزلية الخاصة ومعهما أغا تركي هو الذي يركب أمام سموه حيث إنه أحد رجال حرسه الخاص، وقد أعاد هؤلاء تفتيشي حتى إنهم نزعوا قميصي، ولكنهم لم يجدوا شيئا إلا تميمة كنت ألبسها فانتزعها أحدهم بقوة، ولما قلت: إني أخلعها بنفسي صاح أحدهم قائلا: كلا لقد أمرت أن أفعل ذلك وأن أخلع حتى حذاءك لتفتيشه ...
وبعد ساعة جاء ليزورني بشارة تكلا محرر جريدة الأهرام، وظننت أنه قدم ليعزيني وليبدي عواطفه نحوي، وقد كان ممن يدينون بمبدئنا قبل الحرب وقد أقسم بدينه وشرفه أنه واحد منا وأنه يعمل لحرية وطننا، وقد عددناه في الحق من الوطنيين، ولكنه لما دخل علي توقح أشد التوقح، ثم قال: أي عرابي ماذا صنعت وماذا حل بك؟ ورأيت أن الرجل خائن ولا شرف له، ولما لم أجبه أدار ظهره وانصرف.
وما هي إلا دقيقة ثم جاء فريق ثالث معظمهم من خدم الخديو وأتباعه وفيهم أتراك وجند من حرسه، وفتشوا بساطي وملحفتي وقلبوهما ظهرا لوجه ثم انصرفوا، وأقاموا طول الليل على باب غرفتي حراسا علي وعلى السجناء».
1
هذا ما عومل به عرابي أول يوم أدخل فيه السجن، ولكن خصومه لم يروا في ذلك ما يشفي ما في نفوسهم من غل، فأوفدوا إليه بعد 4 أيام من ألحق به - وهو السجين الذي لا يملك الدفاع عن نفسه - إهانة يؤسفنا ويخجلنا أن نذكرها ولندع عرابي يصف ما حدث:
قال: «في 9 أكتوبر سمعت الباب يفتح حوالي الساعة التاسعة والنصف وقد خلعت ملابسي واضطجعت لأنام ودخل علي جماعة تتألف من 10 و12 شخصا، ولما كان الظلام حالكا لم أستطع أن أتبين منهم أحدا، وصاح أحدهم فجأة: آه ... عرابي، ألا تعرفني؟ وحسبت أنه قادم ليقتلني فنهضت قائلا: كلا لست أعرفك ... فصاح بي: أنا إبراهيم أغا، ثم أخذ يقسم الأيمان متوعدا وقال لي: أيها الكلب ... أيها الخنزير، وبصق علي 3 مرات، فوقفت ساكنا في هدوء، ثم تبينت شيئا فشيئا أنه إبراهيم أغا حقا توتونجي الخديو».
2
وقد أعاد عرابي ذكر هذا الكلام لمحاميه يصف به الحادث الشنيع وذلك فيما كتب له من تقرير عام وكان قد صرح به حين زاره لأول مرة، وسلمه ورقة جاء فيها ما يأتي: «لقد سلمت سيفي وشخصي إلى الجنرال لو، ممثل القائد العام للجنود البريطانية ، وكان ذلك مني ركونا إلى شرف إنجلترا ... وفي 5 أكتوبر ألقي بي في سجن مصري حيث ألحقت بي إهانة على صورة تظل صارخة في وجه الشرف البريطاني ووجه كل إنجليزي» ثم أورد عرابي الحادث بما لم يخرج عما سلف واختتم ورقته بقوله: «إن مسلكا كهذا لا يمكن أن يرضي شرف إنجلترا وسمعتها، وخاصة نحوي أنا الذي أسلمت نفسي مصدقا بشرف الشعب الإنجليزي».
ولم يكن عرابي وحده مصدر هذه الرواية حتى يمكن أن يقال: إنه اختلقها أو أسرف فيها؛ فقد عرفها بلنت بين ما عرف من صديق له لا يمكن أن يتطرق الشك إلى معلوماته ألا وهو المستر بيمان ترجمان مالت، والذي اختاره ليحضر التحقيق نائبا عنه وكان بيمان يجيد اللغة العربية وكان قائما بأعمال مالت القنصل العام في الأسابيع التي سبقت ضرب الإسكندرية. وقد أرسل هذه المعلومات في 6 نوفمبر، ويقول بلنت: إن المعلومات التي أخذها عن بيمان على أعظم جانب من الأهمية التاريخية، قال بيمان عن حادث إبراهيم أغا: أحسب أن حادث إبراهيم أغا وحده كاف ليظهر الخديو على حقيقته، ولقد سمعت القصة كلها من القصر مباشرة، وكيف أن توتوتجي حامل غليون الخديو قد لثم يد الخديو ورجا منه أن يسمح له بأن يبصق في وجوه السجناء، وكان ذلك هو ما استقصى عنه السير شارلز ولسن
3
ووجده صحيحا، وعلى الرغم من تبينه صحة الحادث فقد أغفله؛ وذلك لأنه كان للخديو قطعة قذرة جدا من القماش يجب أن تغسل في هذا الموضوع،
4
ولقد اقترحت إذ رأيت الشهود جميعا يحنثون في أيمانهم أن يحلفوا يمين الطلاق الثلاث، وكان السير شارلز ولسن يميل إلى ذلك، ولكن مقترحي ما لبث أن أسكت، وأن أسرة سموه لا تستطيع الآن أن تنكر فيما بينها وقوع هذا الحادث، وبعد؛ فهذا هو الرجل الذي من أجله جئنا إلى مصر».
5
ويقول بلنت: «إن حادث إرسال توفيق أعوانه لإهانة زعماء الحركة القومية في السجن قد ذكره الشيخ محمد عبده الذي كان من أوائل المقبوض عليهم، والذي كان من ضحايا الحادث، وقد ذكر ما لقي في السجن في تصريح قدمه إلى السير شارلز ولسن في 29 أكتوبر، ولكنه لم يرد في الكتاب الأزرق».
6
وقد ذكر مستر برودلي في كتابه: «كيف دافعنا عن عرابي؟» أنه زار كلا من علي فهمي وعبد العال حلمي، والشيخ محمد عبده في حجراتهم، وأن عبد العال ذكر له «أن إبراهيم أغا توتونجي الخديو دخل حجرتي ومعه 3 أشخاص وقال لي: يا عبد العال أتعرف من أنا؟ فقلت: كلا لست أعرفك. فقال: أنا إبراهيم أغا توتونجي الخديو، ثم دنا مني وبصق على وجهي وضربني بقلم كان في يده على وجهى مرتين وقال: انتظروا لقد وقعتم يا أولاد الكلب سأريكم».
وقال الشيخ محمد عبده: «إني أعلن مع عظيم احترامي لسمو الخديو - حفظه الله - أن إبراهيم أغا توتونجي حضر إلي في الخامس من هذا الشهر وأهانني، وكان معه بعض أتباع الخديو، وقد فتشوني وأخذوا مني 3 مجلدات، 2 منها هما كتاب العقد الفريد، والثالث عن الفرنسية ... ولما سألتهم: لماذا يأخذون الكتب؟ ألكي يعيدوها إلى بيتي؟ قال لي: ألك بيت؟ فرأيت أن أسكت».
وأحسب أن هذه الفضيحة لا تحتاج إلى تعقيب سوى الإشارة إلى ما نحسه من الحسرة والخجل من أن ينزل الناس في الخصومة إلى مثل هذا الحد، وأن يعامل رجال كهؤلاء - هم بنفوسهم وجهادهم سادة أعزة وفي مقدمتهم زعيم ثورة وقائد جيش ووزير دولة - معاملة لا تليق بأصغر الناس وأحقرهم شأنا.
وكان عرابي يقضي أيامه في سجنه على هذه الحال من سوء المعاملة وليس في حجرته كرسي واحد كما ذكر هو وكما شهد محاميه ولم يجد فيها محاميه مستر برودلي وزميله مستر نابيير عندما سمح لهما بزيارته إلا البساط والملحفة وحشية ووسادتين ومصحفا وبعض الآنية من الخزف والنحاس.
وكان عرابي يلبس سروالا حربيا وقميصا أبيض، وسترة - كان يستبدل بها أحيانا - إستامبولية سوداء أو معطفا تركيا، وكانت في يده مسبحة صغيرة لا تفارقها إلا نادرا كما ذكر مستر برودلي.
ويقول محاميه: إنه بناء على طلب السير شارلز ولسن قد أحضر له ولزميليه منضدة وبعض الكراسي .
وكان لا يزيد اتساع الحجرة عن 14 قدما في مثلها وكانت مرتفعة السقف، وكان ينفذ إليها بعض النور من نافذتين صغيرتين تطلان على الشارع، أما بالليل فكانت حالكة الظلمة؛ حيث لم يسمح بمصابيح أو شموع لأحد من السجناء ...
ولهذه الظلمة قصة؛ فقد طلب عرابي على لسان محاميه أن يسمح له بالنور ليلا فرفضت إدارة السجن؛ لأنها علمت أن الخادم أراد أن يدخل له النفط ليحرق السجن، ومن أجل ذلك منع الخدم من أن يدخلوا الطعام إلى السجناء، وقد غضب عرابي لهذه التهمة التي أشارت إليها جريدة التيمس غضبا شديدا، وكتب إلى مراسلها بالقاهرة تكذيبا لها قائلا: إنه لم يسمح له برؤية خادمه منذ يوم 5 أكتوبر، وإنه ليس هناك ما يدعوه إلى أن يحرق نفسه ويموت ضد القانون؛ فهو لم ييأس يوما من براءته مما نسب إليه».
وكان مما يؤلم نفس عرابي في سجنه أسلوب سجانه في تقديم الطعام له، وحق له أن يتألم وأن يأسى، قال يصف هذه المعاملة: «منذ أن ألقي بي إلى السلطات المصرية يأخذ أحد الحراس - وهو تركي - الطعام من خادمي متى حضر، ويفتح الباب دقيقة ويلقي بالطعام أمامي ثم يغلق الباب في غلظة كما لو كنت وحشا في قفص».
وقد شكا عبد العال إلى برودلي مخاوفه وقص عليه قصة محاولة قتله بالسم منذ بضعة أشهر مما دعا برودلي إلى تصديقها ولذلك طلب من السير شارلز ألا يكون مقدمو الطعام للسجناء أتراكا أو شراكسة. •••
ولندع عرابي في سجنه لننظر كيف أتيح له أن يدافع عنه برودلي وزميله، فإن لهذا قصة، هي قصة الوفاء والنجدة والمروءة ...
لم يكن يجرؤ أحد من المصريين بالضرورة في مثل تلك الأيام أن يفكر في الدفاع عن عرابي وإلا عد من العصاة والجناة وقبض عليه وأودع السجن، وربما كان مصيره الموت، وحسب كل امرئ أن ينجو بنفسه من هذا الإرهاب الذي يكاد يحصي على الناس أنفاسهم ...
وكان توفيق يريد رأس عرابي بأية صورة، وقد عقد العزم على ذلك وإنه ليتطلع منذ أشهر إلى هذا اليوم الذي يظفر فيه برأس خصمه وكان رياض يذهب مذهب توفيق ولا يقل عنه حنقا وتطلعا ...
وكان الإنجليز يريدون التخلص من عرابي بالموت، ويقرر مستر بلنت أنهم كانوا لا يترددون في رميه بالرصاص في موضعه لو أنهم أسروه في التل الكبير، ويقول: إن هذا ما عقد ولسلي عليه العزم ولم يرده عن رأيه إلا السير جون أداي وهو قائد أكبر سنا وأكثر تجربة من ولسلي وقد بين له ما يكون في مثل هذا العمل من عار؛ إذ كيف لا يظفر قائد جيش نظامي استدعى مجيء 20 ألفا من الإنجليز لمحاربته، بما يظفر به كل قائد في مثل ظروفه حسب قوانين العالم من معاملة شريفة عادلة؟
7
وسنرى فيما وقف عليه بلنت من معلومات أثناء سعيه للوصول إلى تحقيق عادل والسماح لمحام إنجليزي بالدفاع عن عرابي، أن الحكومة الإنجليزية نفسها كانت ترمي إلى التخلص من عرابي بالموت على أن يأتي ذلك على يد توفيق، وما أسلم عرابي إلى السلطات المصرية إلا لهذا الغرض، ولنأت بهذه القصة، قصة محاولات بلنت على سردها ...
يقول بلنت: إن أخشى ما كان يخشاه بعد هزيمة عرابي أن يعمد جلادستون إلى تغطية مذبحة التل الكبير وذلك بأن يجعل عرابي كبش الفداء عن هذه الخطيئة فيقتله ويجد ما يعتذر به عن ذلك فيما يزعمه من أنه قصاص عادل من ثائر عاص لا يمكن أن يعامل معاملة زعيم وطني أو قائد جيوش نظامية ...
وبعد أن أورد بلنت ما علمه من اعتزام ولسلي - الذي أشرنا إليه - وعن موقف السير جسون أداي قال: «وكان جلادستون مصمما على هذا الاتجاه تصميم جرانفل أو أي شخص آخر من لوردات الهويج في مجلس الوزراء» ثم ذكر بلنت أن برايت - الوزير الذي استقال محتجا على ضرب الإسكندرية - قد أسمع جلادستون احتجاجه على هذه النية التي تنويها الحكومة، وأن الضغط الشديد من جانب الرأي العام البريطاني هو الذي صرف الحكومة الإنجليزية عن أن تجعل عرابي يؤدي بحياته الفداء عن جريمتها السياسية ...
واستعان بلنت بصديق له من رجال الصحافة هو مستر بتن مراسل جريدة التيمس، وبحسن مسعى هذا الصديق نشرت التيمس أنه لن يعدم عرابي أو أحد من رفاقه إلا بعد موافقة الحكومة الإنجليزية وأنه سوف يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم على يد محام كفء.
وتوصل بلنت بهذا إلى أن يضع الحكومة الإنجليزية، كما قال، في نظر الرأي العام في وضع كريم بحيث يصعب عليها أن تتراجع عن عمل إنساني نسب إليها ...
ثم زار بلنت مستر برودلي في منزله في 19 سبتمبر، أي بعد التل الكبير بسبعة أيام وكان لا يزال عرابي في معتقله بعابدين، واتفق معه على أن يكون هو محامي القضية وجعل له أجرا على ذلك 800 جنيه غير ما يلزم من مصروفات ...
وكتب بلنت في اليوم عملا بمشورة برودلي كتابا مطولا إلى جلادستون وكان مما ذكره فيه أنه يخشى من عدة أمور في التحقيق مع عرابي، فأعضاء المحكمة العسكرية لا بد أن ينحازوا إلى الخديو، وإذا فرض أنهم لن يفعلوا ذلك فإن الشهود من الوطنيين سيؤدون أقوالهم تحت تأثير الخوف، وسيعمد الكثيرون إلى التزوير، أما الشهود من الأوربيين فسيتكلمون عن ضغن وحفيظة، وسيكون المندوب الإنجليزي نفسه في لجنة التحقيق تحت تأثير الاتجاه السياسي الذي يتسلط الآن على الموقف في القاهرة، وإذا أضيف إلى المحكمة العسكرية ضباط من الإنجليز كما نأمل أن يحدث، فإن جهلهم باللغة العربية سيحول بينهم وبين تتبع أقوال الشهود وسيكون اعتمادهم على المترجمين الذين لا يؤمن جانبهم ... وبناء على ذلك فإنه لن تتحقق العدالة ما لم تتبع خطوات خاصة نحو هذا الغرض ...
ثم ذكر بلنت أن العلاج الذي يراه هو أن يسمح بأن يدافع عن المتهمين محام إنجليزي كفء، وأن يصحبه بلنت إلى مصر ليجمع له المعلومات، وأن يرافقهما صابونجي الذي يجيد عدة لغات منها العربية والإنجليزية والذي يعرف الكثير عن أحوال المتهمين وأشخاصهم ... واختتم كتابه بوعد منه ألا يتدخل في السياسة أثناء ذلك، وأفصح عن عظيم رجائه أن ينال مقترحه قبولا لدى جلادستون وأن يأتيه منه رد سريع على كتابه ...
وتلقى بلنت ردا من دوننج ستريت في 22 سبتمبر، مؤداه أن جلادستون قرأ كتابه، وكل ما يستطيع قوله في الوقت الحاضر أنه سوف يعرض هذا الكتاب على اللورد جرانفل؛ ليرى فيه رأيه كي يشاوره فيه، ولكنه لا يمكنه أن يؤكد أنه سوف ينتهى به الأمر إلى القبول ...
وكتب بلنت إلى عرابي كتابا في 22 سبتمبر يقول له فيه: إنه خليق أن يدرك وهو الجندي الوطني لماذا لم يكتب له أثناء الحرب، ثم ذكر له أنه وقد انقضت الحرب سوف يرى أن صداقته له أعظم من أن تكون كلاما فحسب، ويخبره بما اتخذ من خطوات في سبيل الدفاع عنه، ويطلب إليه أن يرسل تفويضا بذلك إلى محاميه - الذي اكتتب عدد من العلية الأحرار في دفع أجره - ويؤكد له أنه سوف يعنى بأسرته أثناء اعتقاله، ويدعو له الله أن يهبه الشجاعة ويكون في عونه ...
وأرسل بلنت كتابه هذا إلى صديقه عن طريق السير إدوارد مالت، ولكن ما كان أشد أسفه وألمه؛ إذ رد مالت إليه ذلك الكتاب مشفوعا بكلمة قصيرة جافة مؤداها أنه يفعل ذلك بأمر الحكومة الإنجليزية، ويقول بلنت: إنه ليس أدل على ما كانت تنوي الحكومة أن تفعل بعرابي وأصحابه من هذا الذي صنعه مالت ...
وسافر برودلي إلى تونس وقد طال انتظاره البت في الأمر، ورأى بلنت أن يبقى في إنجلترا حتى يستطيع أن يفعل شيئا؛ لأنه في مصر لن يظفر بشيء مما يريد ما لم يكن لديه ما يشق به طريقه من سلطة يحصل عليها من الحكومة الإنجليزية ...
وزاد لغط الصحف بتوقع الحكم على عرابي بالموت، ولم يرتفع بالاحتجاج على ذلك إلا أصوات خافتة ضئيلة وتلقى بلنت من صديق إنجليزي من ذوي المكانة بالقاهرة كتابا يقول فيه: «إني أشك أكبر الشك في أنه سوف يسمح بشيء من قبيل التحقيق العادل فإنهم يعلمون حق العلم أنهم إن فعلوا ذلك أدى إلى إدانتهم هم، وأن رجال السياسة أشد مكرا من أن يدفعهم أحد إلى شيء من هذا القبيل، وعلى أية حال فإنك على حق في محاولتك الوصول إلى تحقيق عادل».
ولم يجد بلنت مناصا من أن يكتب ثانية في 27 سبتمبر إلى جلادستون يسأله عن مصير كتابه الأول وعن رأيه ورأي جرانفل في الأمر بعد تشاورهما، ويشكو إليه مما فعل مالت من رد كتابه إلى عرابي إليه ويخبره أنه اتفق فعلا مع أحد المحامين النابهين لهذا الغرض، وأنه قرأ في جريدة التيمس برقية من القاهرة مؤداها أن المحكمة العسكرية سوف تعقد غدا وأن الخديو وشريف ورياض يصرون بشدة على أن الضرورة القصوى تقضي بالحكم بالموت على زعماء المجرمين، ويقول شريف باشا وهو من اشتهر بسماحة خلقه: إنه يرى ذلك لا لأنه يحمل أي ضغن لهم ولكن لأنه أمر حتمي كي يضمن الأمن لكل من يريد أن يعيش في هذه البلاد، واختتم بلنت كتابه الثاني بقوله: إن إلحاح الضرورة هو ما يجعله يرجو ردا عاجلا ...
ولكن هذا الكتاب الثاني لم يصل جلادستون في موعده؛ وذلك لسفره إلى خارج لندن، وقد أحاله الموظف القائم على شؤون رسائله إلى وزارة الخارجية، وكتب إلى بلنت يبلغه أنه سوف يتلقى ردا رسميا من جرانفل عما قريب وفهم بلنت من ذلك أن جلادستون خرج عن لا ونعم، بإحالة الأمر إلى جرانفل، ولم يتلق من جرانفل شيئا؛ إذ كان هذا كذلك خارج لندن، ولكن ما لبث أن أبلغه أحد الموظفين أن اللورد جرانفل اطلع على كتابيه وأنه يأسف ألا يستطيع الدخول معه في مراسلات بشأن هذا الموضوع ...
وهكذا ذهبت محاولات بلنت عبثا، ولكن اليأس لم ينل منه؛ فقد ظل ما نشرته جريدة التيمس يلزم الحكومة أدبيا، ولذلك عاد بلنت يستعين بصديقه بتن ووعد بتن وقد كانت له مكانة ممتازة لدى شنري رئيس تحرير جريدة التيمس، بأن ينشر ثانية ما يفيد قضية بلنت وأن يلح حتى يحمل اللورد جرانفل على الاتجاه صوب تحقيق عادل مع عرابي وأصحابه.
وعول بلنت على أن يبرق إلى برودلي في تونس ليكون على أهبة للسفر إلى القاهرة، وطفق يبحث عن محام آخر يسبق بلنت إلى مصر ليعمل باسمه حتى يحضر فوقع على رجل هو خير من ينهض بهذا الأمر وذلك هو مارك نابيير؛ فقد كان نايبير لبقا ذا همة وعزم، يفهم ألاعيب السياسة كما كان ضليعا في القانون يجيد اللغة الفرنسية ويحسن المجادلة والمخاصمة ...
وسافر نابيير ليطلب إلى مالت السماح له بالاتصال بعرابي بصفته محاميه، وقد طلب إليه بلنت أن يحتج ما وسعه الاحتجاج إذا رفض مالت طلبه وألا يدع وسيلة لإثبات هذا الرفض إلا سلكها، وكان نابيير خفيفا إلى غايته ليس في يده إلا حقيبة صغيرة كانت كل متاعه ...
أما بلنت فقد صمم أن يستأنف المعركة في وزارة الخارجية وفي الصحف، وقد نمى إليه أن خطة الخديو وحكومته هي أن يقدم المتهمون إلى محكمة مصرية تنظر في أمرهم في مدى يومين ثم تقضي بإعدامهم وقد تبين لها أنهم عصاة، وألا يسمح لمحامين من الإنجليز بالدفاع عنهم؛ لأن هذا يعد تدخلا من الأجانب لا يسمح به في الوضع التشريعي للبلاد.
وما زال أحد اللوردات من أصدقاء بلنت وهو اللورد دي لاوور حتى حصل من جرانفل على تصريح يؤكد به أن الخديو سوف يتيح كل فرصة معقولة للدفاع عن المتهمين، وهو تصريح مبهم لا يفيد المرء منه شيئا، ولكن بتن لعب دور الصحفي اللبق فنشر في جريدة التيمس ما يأتي: «كتب اللورد جرانفل بأن يمنح المساجين في مصر وأصدقاؤهم كل ما من شأنه أن ييسر لهم الوصول إلى محامين يدافعون عنهم» وغضب جرانفل مما كتبته جريدة التيمس ولكنه لم يستطع أن يتراجع فيكشف سياسته وسياسة حكومته، فاضطر إلى السكوت الذي هو نوع من الرضاء ... وقد رأى بلنت أنه كسب المعركة على هذه الصورة بوسيلة هينة ...
وأبرق بلنت إلى برودلي ليسافر إلى القاهرة في الحال واتجهت نية الحكومة الإنجليزية إلى إنجاز المحاكمة في سرعة لتتم قبل أن يصل برودلي إلى القاهرة، ولم يكن لديها علم بنابيير واشتراكه في الدفاع ...
وصدرت الأوامر بنقل عرابي من معتقل الجيش البريطاني إلى السلطات المصرية؛ حيث تحول بينه حكومة الخديو وبين أية صلة بالعالم خارج السجن وتكون الحكومة الإنجليزية بعيدة بذلك عن اللوم، ثم أوعز إلى الحكومة المصرية أن تعلن أنه لن يسمح لأحد بالمرافعة إلا باللغة العربية ...
واختارت الحكومة الإنجليزية رجلين ليمثلاها في التحقيق هما: السير شارلز ولسن، والمستر بيمان، وكانا كلاهما صديقين لبلنت، ويشهد بلنت أنهما من ذوي الضمائر الحية والقلوب الرقيقة وأن اختيارهما كان من المصادفات الطيبة.
ولم يظفر نابيير من مالت بأكثر من اعترافه بشرعية موقفه كمحام من عرابي وأصحابه، وظل يطلب منه السماح له بمقابلة عرابي في غير جدوى؛ إذ كان يحيله على رياض باشا، وكان رياض يماطل ويراوغ حتى أدرك نابيير أنه يعبث به، ثم رأى الحكومة المصرية تستعجل التحقيق كي يتم قبل أن يبت في مسألة قبول المحامين الإنجليز ...
وفي 18 أكتوبر تلقى بلنت من اللورد دي لاوور، أنه بناء على معلوماته «ما لم تتخذ خطوات عاجلة حاسمة فإن حياة عرابي في خطر عظيم: وأسرع بلنت إلى بتن فأفضى إليه بهذا النبأ السيئ، ووجد لديه من المعلومات ما يتفق مع هذا النبأ كل الاتفاق، وصمم الرجلان على الاحتكام إلى الرأي العام في صورة قوية أخاذة ...
وكتب بلنت كتابا إلى جلادستون يحمل فيه على جرانفل وسياسته ويذكر جلادستون بعطفه ذات يوم على زعيم الحركة القومية في مصر، ويشير إلى تبعة الحكومة البريطانية فيما ينوي الخديو عمله في المحاكمة.
وطلعت جريدة التيمس صباح الجمعة ومقالها الافتتاحي يدور حول هذه المسألة، وذكرت أن المحاكمة سوف تكون يوم السبت، وأن الحكم سوف يصدر يوم الاثنين، وأن إعدام عرابي سيعقب الحكم مباشرة، فأيقظت الرأي العام ونبهت شعوره في صورة اهتم بها جلادستون وحكومته أشد الاهتمام ...
وذهب الوزير المستقيل الحر مستر برايت وأفضى شخصيا إلى جلادستون برأيه وصارحه بأنه سوف يقرن اسمه بالعار في صفحات التاريخ لانحرافه عن مبادئه الإنسانية بإقراره مثل هذه الجريمة الكبرى.
وكللت مساعي بلنت بالنجاح؛ إذ لم يجد جرانفل بدا من أن يبرق إلى مالت بقرار الحكومة الإنجليزية القاضي بالسماح بدفاع إنجليزي عن المتهمين ...
وقد عقب بلنت على قصة سعيه بقوله: «لقد وجدت الضرورة تقتضي أن أفصل قصة محاكمة عرابي؛ وذلك لأنه بهذه الوسيلة وحدها يمكن أن أقضي على تلك الأسطورة السخيفة الكاذبة التي نجمت في مصر ومؤداها أنه كان هناك من أول الأمر شيء من التفاهم السري بين جلادستون وعرابي على حفظ حياته، وإني لأستطيع أن أؤكد أن جلادستون قد بلغ من بعده عن الرثاء لحال «كبير العصاة» أو التفاهم وإياه على أي صورة ما إنه قد اتحد مع جرانفل في العمل على موته وذلك بأيدي أعوان الخديو المتأهبين لهذا العمل، بعد محاكمة صورية، من شأنها ألا تثير أسئلة، وبهذا يتحقق لهما أضمن وسيلة وأسرعها للوصول إلى السكون ولتبرير أخطائهما الأدبية الهائلة أثناء الأشهر الستة الأخيرة في مصر، ولم يكن تأثم جلادستون هو الذي منعه عن السير في خطته إلى النهاية، ولكن الذي منعه عن ذلك هو صوت الرأي العام المفاجئ الذي أخافه وأنذره أن في ذلك خطرا على ما ذهب له من الصيت، وهذه هي حقيقة المسألة في بساطتها، مهما بلغ ما يضيفه إليها المدافعون عن جلادستون وعن سمعته الإنسانية، ومهما يكن من خيال كتاب فرنسا السياسيين الذين أرادوا أن يجدوا سببا لتسامح مستر جلادستون حيال عرابي بعد الحرب، فلم يبد للمسألة عندهم وجه مفهوم إلا أن يكون هناك تفاهم سري سابق بين رئيس الوزارة البريطانية وزعيم الثورة المصرية».
8 •••
بلغ نابيير القاهرة في 7 أكتوبر، أي بعد نقل عرابي إلى سجن الدائرة السنية بيومين، وفي القاهرة أشرك نابيير معه أحد رجال القانون من أصدقائه المشتغلين بالاستشارات القضائية ويدعى المستر ريتشارد إيف، وظل نابيير يسعى سعيه لدى مالت كما ذكرنا عدة أيام دون أن يظفر بشيء سوى أنه كان يحيله على رياض باشا.
وحاول نابيير أن يظفر بشيء من السير شارلز ولسن ولكن هذا كان يحيله كذلك على رياض باشا، وتخلص منه رياض باشا بقوله: إنه سوف يتصل بالسير إدوارد مالت.
وقدم نابيير مذكرة كتبها صديقه إيف ، إلى رياض باشا يطلب فيها إيف بصفته مستشار عرابي أن يسمح له بالاتصال به في سجنه ليتفق معه على أوجه الدفاع عنه في التهم المنسوبة إليه، ولكن رياض لم يرد على هذه المذكرة، وذكر لهما السير إدوارد مالت أن رياض لن يقبل إلا محامين وطنيين وأنه سيتصل بوزارة الخارجية يسألها عما إذا كان لديها تعليمات أخرى ...
وكتب نابيير احتجاجا على منعه من الاتصال بعرابي وعلى موقف رياض باشا منه على الرغم من أنه أعلنه مرارا أنه قدم للدفاع عن عرابي، وعلى عدم إبلاغ عرابي حتى ذلك الوقت بمجيء محام للدفاع عنه ...
وفي 14 أكتوبر جاءهما السير شارلز ولسن بالنبأ السار، ألا وهو السماح لهما بالدفاع عن عرابي وقرب مقابلتهما إياه.
وكتبا من فورهما طلبا قدماه إلى رياض باشا ليدخلا على عرابي، ولكن ولسن ما لبث أن جاءهما مرة ثانية يخبرهما بأن الحكومة المصرية عدلت عن موافقتها.
وفي اليوم التالي علما أن مجلس الوزراء المصري انعقد بضع ساعات وأنه يؤثر الاستقالة على السماح لهما بالدفاع عن عرابي وأصحابه ...
وذهبا إلى مالت واليأس ملء نفسيهما فأخبرهما بأن التحقيق لن يبدأ إلا بعد أن يريا عرابي والمتهمين، وأنه سوف يسمح لهما بالوقت الكافي لإعداد دفاعهما عنه.
وفي 18 أكتوبر بلغ برودلي القاهرة وسمع من نابيير هذه الأنباء وأعجب بنشاطه ونشاط صاحبه وأثنى على حسن مسعاهما ...
وفي 21 أكتوبر أرسل السير شارلز ولسن برقية صغيرة إلى برودلي جاء فيها هذه العبارة: «اسمح لي أن أقدم إليك نجل عرابي باشا».
وشكا محمد بن عرابي باشا إلى مستر برودلي ما تلقاه أسرته وزوجته من سوء المعاملة والإهانة، وخاصة منذ أن نقل عرابي باشا إلى سجنه الحالي بالدائرة السنية، ولكن محمدا ما لبث أن طاب نفسا حين علم أن برودلي وصاحبيه ذاهبون من فورهم إلى لقاء أبيه في سجنه توطئة للدفاع عنه، ولم يستطع الفتى أن يحبس دمعه من الفرح ...
ودخل المحامون على عرابي يصحبهم السير شارلز ولسن، يقول برودلي: «ولما أن ظهر الكيرنل ولسن نهض رجل طويل قوي البنية من فوق سجادة كان يجلس عليها في ركن إلى جوار النافذة وأقبل يحييه ... وقدمنا إلى عرابي وطلب السير ولسن منضدة وبعض الكراسي ... وبعد أن انصرف السير شارلز ولسن قدمت إليه كتابا من المستر بلنت أحضره معه المستر نابيير واستأذننا في قراءته ...
وبينما كان يفعل ذلك أتيحت لي فرصة نادرة لأدرس وجه رجل هو ملء أسماع أوربا كلها، ورأيت أنه في حال سكونه ترتسم على محياه تقطيبة ثابتة ويخالطها عبوس فيلقيان في روع المرء الشعور بما لصاحبهما من جهامة، ولكني لم ألبث أن وجدت أن ذلك يرد إلى التفكير الطويل العميق أكثر مما يرد إلى الجفاء أو عنف المزاج، ولقد جعل اعتياد عرابي التفكير الدائم عددا كبيرا من الناس أعداء له، وهؤلاء ممن يحكمون على الأمور بمظاهرها ... فإذا تهلل محياه كان التغير الذي يطرأ على وجهه من العجب بحيث يصعب عليك أن تتبين أنه الرجل نفسه، وإن عينيه لتمتلئان بالذكاء، وإن في ابتسامته كثيرا من الجاذبية، ويرى محياه أرق من محيا ابنه، ولكن أنفه الأفطس الذي يبلغ في ذلك حدا كبيرا، وشفتيه البالغتي الغلظ يحولان دون أن أصفه بالملاحة، ويزيد طوله عن ستة أقدام ويتناسب عرضه مع هذا الطول، وقد تغير منظره ماديا أثناء وجوده في السجن؛ وذلك بإطلاق لحيته الشهباء، ويدور حول معصمه وشم أزرق على عادة الفلاحين، ولا يدع من يده مسبحته السوداء الصغيرة إلا نادرا، ويدير حباتها بين أصابعه أثناء الحديث، وقد انقشعت شيئا فشيئا سحب القلق التي أحاطت به وكاد يعود إلى بشاشته قبل أن تنتهي مدة سجنه.
وكان عرابي يبتسم غالبا أثناء قراءته كتاب المستر بلنت، وكان يرفع يده إلى جبينه علامة الشكر، وعرفان الجميل وكانت هذه العادة التي تظهر من عرابي في تناول رسائله تروعني دائما بما تنم عليه بصورة خاصة من كرم السجية، وكانت وداعته على الصورة الخاصة به تؤثر دائما فيمن لهم به صلة.
وبعد أن فرغ عرابي من قراءة الكتاب استأذنني أن يستعمل المداد والأقلام التي أحضرناها معنا ليكتب كلمة شكر للمستر بلنت وزوجته، ولما فرغ من ذلك أشار عليه المستر إيف أن يكتب توكيلا للمستر نابيير ولي لنكون محامييه، وقد أجاب هذا الطلب في الحال وختم على التوكيل بخاتمه ... ثم طلبت من عرابي أن يثق فينا كل الثقة، وأن يتكلم في غير تحفظ عما يدافع به عن نفسه، فكان أول ما ذكره - وذلك كما فعل من قبله كثير من القواد غيره ممن فاتهم النجاح - أنه وضع سيفه وشرفه بين يدي الجنرال لو، وقد فعل ذلك واثقا كل الثقة أن أعداءه في الميدان لا خصومه السياسيين هم الذين سوف يكونون قضاته، وقال: إنه حفظ النظام، وراعى أصول الحرب عند الأمم المتمدنة وعامل السجناء بالرفق والإنسانية ... وحق له في الواقع أن يطلب أن يعامل معاملة خيرا مما لقي على أيدينا، أوليس في مجيئنا اليوم إليه على الرغم من أعدائه ما يدل على أنه لم يكن يعد مخطئا من الجميع؟ لقد قاد المصريين في جهادهم من أجل الحرية، وقطع شوطا في طريق النجاح قبل أن توقف جنودنا تقدمه، ثم تحطمت مطامحه التي كان يظهرها للملأ بإرادة الأمة كلها وذلك بهزيمته في التل الكبير، ثم سحقها سحقا لا أمل معه ما أعقبها من قسوة الأتراك والشراكسة ...
وقال عرابي: «إنكم إذا بحثتم فسوف تجدون أن مصر كلها كانت إلى جانبي، وسوف يمكنكم إقامة الدليل على ذلك، فكانت تؤيدني عائلة الخديو ورجالها القدامى الباقون من عهد محمد على، كما كان يؤيدني العلماء والجيش والفلاحون، ولكن في حالتنا الراهنة من القبض والسجن والإرهاب من يعترف بي الآن؟ إني لن أعجب إذا أنكرني أولادي أنفسهم تلقاء وجهي إذا مثلوا أمام لجنة التحقيق» ...
وذكر عرابي ما لحقه في سجنه قائلا: «إنه إذا كان يعامل هذه المعاملة فماذا عسى أن يبقى لأتباعه وخاصة الطبقة المتواضعة من أمل؟ ثم ذكر أن أتباعه في طول البلاد وعرضها قد ألقي بهم في السجون، وأن كل من يعرف هذه البلاد يدرك ما يكون لهذا من تأثير في عقول الناس، ولقد استجوبته اللجنة، ولكن لم يكن له حيلة إزاء ما سمته أدلة ذكرتها، وإنه ليخشى مما رأى أن يجبن أقوى أتباعه جنانا من أمثال محمود سامي ويعقوب سوف يكونون قضاته، وقال: «إنه حفظ النظام، وراعى من عجز في وضعهم الحالي ...
وفيما يتصل بسلوكه هو فإنه يحسب أن لديه دفاعا جيدا عنه، وقال: «إني أقسمه قسمين: ما حدث قبل 11 يوليو، وما حدث بعده، ولن أعد عاصيا في هذا ولا ذاك، فلقد وافق الخديو على رأينا في وجوب الرد على نيران الإنجليز، وعبر السلطان مرات عن رضائه عن أعمالي، وبعد ذلك أصبح الخديو أسيرا عندكم، وبقيت أنا أنفذ أوامر مجلس الوزراء التي أيدتها الأمة كلها وأكسبتها مشروعيتها، والتي ظل السلطان يقرها، وإذا كان الخديو والسلطان رئيسي فإني أكون عدوا لكم ولكني لن أكون عاصيا لهما، وإني آمل أن أستطيع إقامة الحجة على ما أقول، ولست أخشى شيئا طالما أنه لم تكن لي صلة بفتنة الإسكندرية في يونيو ولا بما أعقب ضربها من نهب وتخريب».
ووعد عرابي أنه حالما يستطيع مقابلة ابنه سوف يمدنا بما يفيد قضيته من أوراق، وقال: إنه يتوق إلى أن يضع بين أيدينا تعليمات تتصل بالدفاع عنه، ولا ينقصه إلا أن يسمح له ببعض أدوات الكتابة ...
وأفصح عرابي عن أمله ألا ننسى إخوانه المسجونين، حتى ولو وجدناهم أجبروا على أن يرموه بالتهم أو يشركوه معهم فيما يتهمون به، وكل ما طلبه فيما يتصل بالسجن هو أن يسمح له بالنور ليلا، وأن يسمح لخادمه بإحضار الطعام إليه حتى مكانه، ثم شرح لنا وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى ما يتعرض له الطعام من خطر بمروره بين أيدي الحراس الشراكسة، وقص علينا كيف أوشك صديقه عبد العال أن يموت مسموما في مرحلة مبكرة من مراحل الحركة القومية، ولهذا ليس مما يدعو إلى العجب في مثل هذه الظروف أن يطلب إلينا عرابي أن يوضع حراس من الإنجليز داخل السجن كما يوضعون خارجه.
وغادرنا السجن وفي نفوسنا شعور طيب جدا تركه فيها حديث موكلنا ذي الصيت الذائع، وما رأيناه من ثباته وتجمله».
9
هذا ما ذكره برودلي عن عرابي في سجنه والحق أنه لمما يدعو إلى الإعجاب بزعيم الحركة القومية، ولكم يروقنا هذا الوفاء الذي يتجلى في توصيته بإخوانه حتى ولو آذوه وذلك مع ما هو فيه من محنة، وهكذا شأن عظماء النفوس وأحرار الشمائل ...
ولقد أثنى بلنت على شجاعته وقوة روحه وحرصه على كرامته قائلا: «إنه كان يمتاز إلى درجة عالية بالشجاعة الأدبية وإن الفرق كان عظيما بينه في تجمله وثباته وبين أكثر الذين سجنوا مثله، ولم تخب قط شجاعته في أن تحمل على الإعجاب به كل من رآه، وذكر بلنت من أدلة شجاعته ما كتبه بلا تردد في سجنه من تقرير أثبت فيه تاريخ الحركة القومية في صراحة وأسلوب أخاذ ...
ولقد جاء في هذا التقرير ما يدل حقا على إباء نفسه وشجاعة روحه وعلى أنه فطر على الشمم والقوة، ومن أمثلة ذلك قوله: «دخل الخديو الإسكندرية وأسلم نفسه وقد أخليت المدينة من الجيش ومن الناس، ولم يكن تبعا لقوانيننا مما يليق بحاكم أمة ولا مما يسمح به أن يفعل ذلك فينحاز إلى أمة تحاربنا، أمة عقد هو نفسه العزم في مجلس موقر على مقاومتها، وإن قانون الإنسان وإن كلمة الله لينهيان عن هذه الأعمال الهادمة للشرف، ولا يمكن أن يكون مثل هذا الرجل مسلما ولا أن يحكم فريقا من المسلمين».
وقوله عن الحرب: إنه يدهش كيف أن دولة عظيمة الصيت كإنجلترا تقول: إنها صديقة الإنسانية وإنها تحرر العبيد وتحترم القوانين التي تبين الحق من الباطل، كيف أن دولة كهذه تقدم على محاربة أمة كل جريمتها أنها قاومت حاكمها حين رأته لا يحترم قانون شعبه ولا حقوق هذا الشعب.
ومن أدلة شجاعته كذلك في هذا التقرير ذكره ما لحقه من إهانة في سجنه وتعقيبه في ذلك بما أشرنا إليه من قوله: إن هذا يصرخ في وجه الشرف البريطاني وفي وجه كل إنجليزي ...
وهذا التقرير تلخيص أمين حسن السياق للحركة القومية وأطوارها والحرب وأدوارها، وقد كتبه عرابي في سجنه مع ما كان يحيط به من آلام، وبغير أن يرجع إلى كتاب أو مذكرة وفي ذلك برهان قوي على خصوبة ذهنه وحسن إلمامه بما يجري حوله ...
وبعد فهذه قصة الدفاع عن عرابي نبسطها صفحات مشرفة ونقذف بها على باطل الذين يكتبون التاريخ بلا علم والذين يكتبون عن هوى فيقولون: كيف يليق بزعيم وطني أن يدافع عنه محاميان إنجليزيان؟ فهل غاب عن هؤلاء صفة المحكمة العسكرية التي ألفت لمحاكمته، وهل غاب عنهم ما كان يريده توفيق ورياض به في غير وازع من ضمير أو رادع من قانون؟ أم أنهم يعلمون ذلك ومع علمهم هذا يطلبون من الرجل أن يسلم نفسه إلى من يريد قتله بأي ثمن فلا يدافع عن نفسه دفاعا ينقذ به شرفه حتى ولو لم ينقذ به حياته؟ وإذا قيض الله له هذه الدفاع على يد صديق مد له يد المعونة في محنته، أكانوا يريدون منه أن يرفضه؟ وأين كان يجد عرابي الدفاع الوطني عنه؟ أكان يجرؤ أحد من المصريين حتى على أداء الشهادة الحق عنه وسيف الطغيان مسلط على الأعناق؟ وأين هم المصريون ومنهم 30 ألفا في السجون؟
الحق أننا في حيرة مما يقول هؤلاء الجاهلون والمغرضون وفي عجب. كيف لم يدعوا ناحية من حياة عرابي إلا شوهوها بالباطل، وحاولوا طمس حقائقها باللغو، ولكن الباطل لا يعيش، واللغو لا يجدي شيئا ولن يموت الحق ولا مناص من أن يظهر وإن طال احتجابه.
ومن أسخف أنواع البهتان وأدلها على جهل هؤلاء الذين كتبوا عن عرابي كتابة هوى وحقد، قولهم: إن الإنجليز كانوا يعطفون عليه، وإن جلادستون كان يهتم بحياته، وإنه كتب في السجن يتملق الحكومة الإنجليزية، وإن ذلك من أشد ما يعاب على زعيم وطني. ولن يعترف هؤلاء له بالزعامة الوطنية إلا حين يبتغون أن ينالوا منه بإفكهم، وما ينالون إلا من أنفسهم ولكن لا يشعرون! ولقد بينا مبلغ ما بين أقوالهم هذه وبين الحق من بعد وفصلنا كيف آن للتاريخ أن ينصف عرابي على الرغم من باطل هؤلاء المبطلين وجهل هؤلاء الجاهلين ...
ويؤلمنا قبل أن ندع الكلام عن البطل السجين أن نشير إلى ما حل ببيته وأهله، وهو من أشد الأدلة على ما بلغ بالطاغين من روح الطغيان وعلى مبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط في الخصومة، بل من بعد عن الإنسانية.
كان أول ما شكا منه محمد أحمد عرابي إلى برودلي ما يتعرض له هو وأمه وأسرته من إهانات متصلة على أيدي بعض خدم الخديو وأتباعه، وقد أشار إلى ذلك برودلي - كما أسلفنا - عند كلامه على لقائه نجل عرابي.
وذكر بلنت في صدد الكلام عن أوراق عرابي أن زوجته وأهله لم يسمحوا لمحاميه ومن معه بالبحث عنها إلا بعد لأي؛ وذلك لأنهم فيما كان يحيط بهم من إرهاب قد سبقت لهم كذلك بعض «الزيارات» من جانب خدم الخديو وأعوانه ...
ويذكر برودلي في كتابه ما يأتي: «عند دخولنا القاهرة كان قد تحطم أثاث عرابي كله أثناء البحث عن أوراق تثبت إدانته وخيانته، وقد تمزقت الفرش والوسائد، وكانت الليدي سترانجفورد قد طلبت أن تأخذ المنزل، وأعطاها الخديو إياه، ولست أدري كيف استولى عليه؟ وكانت حجراته الفسيحة المرتفعة - التي كانت قبل ذلك بثلاثة أشهر تزدحم بالمعجبين - ملائمة كل الملاءمة لما استعملت فيه الآن».
وكانت هذه السيدة قد أحالت بيت عرابي إلى مستشفى، وقد امتلأت حجراته بالجرحى من ضباط الإنجليز وعساكرهم، ومما يذكره برودلي أن بعض خصوم عرابي قد خوفوا هذه السيدة من قطة سوداء كبيرة ذات ذيل أبيض كانت لا تزال تغشى البيت كأنما تبحث عن سكانه السالفين، وكانوا يحدثونها عما بثه عرابي في المنزل من الأرواح الشريرة، ولكن عرابي - وقد علم بذلك من برودلي - أرسل إليها صورته وشكرها على عملها الإنساني قائلا: إنه ليس أحب إليه من أن يستعمل بيته فيما استعمل فيه ...
وقالت أخت الخديو ذات مرة لصديقة من صديقات الليدي سترانجفورد: ليت عرابي يصيبه المرض فينقل إلى هذا المستشفى لنعطيه فنجانا من القهوة على الطريقة الشرقية ...
وامتدت قسوة خصوم عرابي إلى المرضى والأطفال المرضى؛ فقد أصاب المرض طفلا له، فلم يجرؤ طبيب وطني على التقدم لعلاجه. ونحب أن ينظر في هذا الذين أنكروا منه أن يستعين بمحامين من الإنجليز ...
ولما ضاقت السبل بنجله محمد، ذهب إلى مستر برودلي وشكا إليه هذا الاضطهاد، وأرسل برودلي إلى طبيب إنجليزي صديق كما أرسل نابيير إلى طبيب الليدي سترانجفورد، فذهبا من فورهما لمعاجلة الطفل وأديا هذا العمل الإنساني الذي أحجم عنه الأطباء المصريون، فكان إحجامهم مثار للغط جديد من جانب القصر؛ إذ قال شيعة الخديو: إن في ذلك لدليلا على أن عرابي ليس يحبه أحد ...
أما الذين يشايعون عرابي؛ فقد رأوا كما يذكر برودلي في هذا العمل دليلا على قسوة خصومه ... وتجادل الطبيبان على صفحات الجريدة الطبية الإنجليزية فيمن كان له منهما شرف معالجة ابن عرابي، وتخاصما في ماهية المرض الذي ألم به.
واهتمت جريدة التيمس نفسها بالأمر فنشرت كلمة بعنوان «طفل عرابي» قالت فيها: «ترى الصحيفة الطبية الإنجليزية أن طفل عرابي الذي أصيب بمرض قيل: إنه خطير - والذي أحجم الأطباء المصريون لأسباب سياسية عن معالجته - مصاب بتهيج في الجلد، وقد تبين ذلك بعد عرضه للعلاج على أطباء بريطانيين».
ولا يستطيع المرء أن يتصور كيف تصل القسوة ببعض بني الإنسان إلى حد أن يجعلوا إسعاف طفل مريض عملا يجلب الغضب على صاحبه، ولولا أن رأى الأطباء المصريون ذلك ما أحجموا عن معالجة هذا الطفل المسكين، وفي هذه المسألة وحدها ما يكفي لبيان مبلغ ما كان يحيط بعرابي وأهل عرابي من اضطهاد ومبلغ ما كان يشيع في مصر كلها من إرهاب.
وهكذا يتنكر الناس لعرابي عدا الفلاحين والعامة؛ فقد كانت قلوبهم معه وإن لم يملكوا له عونا، وكثيرا ما كانت تطوف جماعات منهم بسجنه، يتطلعون ولا يتكلمون ولا يرون شيئا إلا الحراس من الإنجليز، فينصرفون وهم يدعون الله أن ينقذه من الموت ...
زاره ذات صباح مستر برودلي فوجده في شغل بكتابة مذكراته التي كان يكتبها في ثبات ويقين ونشاط، يقول مستر برودلي: «ثم وجه عرابي الحديث إلي فجأة قائلا: أتحب أن أريك برهانا على أن شعب مصر كان معي؟ انظر هنا ... وأخذ بذراعي وقادني إلى نافذة فرأيت خلال ثقوبها عددا من النساء والصبية يبكون على الجانب الآخر من الشارع، وكان يزداد الازدحام شيئا فشيئا كل يوم، حتى ليضطر الحراس إلى تشتيتهم، ولم أر عرابي أكثر ضيقا مما رأيته عند ذاك».
ويقول برودلي: إن كثيرا من الأوربيين كانوا يعطفون على عرابي في سجنه، وقد أرسل محاميان: أحدهما إنجليزي، والثاني فرنسي، إلى برودلي يقترحان بعض أوجه الدفاع عنه، وكانت سيدات أمريكيات يتنافسن بغية الحصول على صورته، وكن يرسلن إليه تحياتهن، راجيات له الخلاص من أعدائه.
مهزلة المحاكمة
عقدت لجنة التحقيق، أو القومسيون المخصوص كما كانت تسمى، أولى جلساتها في 10 أكتوبر برئاسة إسماعيل أيوب باشا، وبدأت أعمالها باستجواب أحمد عرابي باشا، وقد استغرق استجوابه ثماني جلسات، وامتد بضعة أيام، وكان مما تريد اللجنة أن تلصقه بعرابي من التهم تدبيره مذبحة الإسكندرية ثم إحراقها بعد إطلاق مدافع الإنجليز على الطوابي، وعدم مراعاة القانون الحربي الخاص برفع الراية البيضاء، وعصيان الخديو ...
واستجوبته اللجنة أياما فلم تستطع أن تقحمه في مسألة واحدة، وإن من يطلع على محاضر استجوابه، ليزداد إعجابا به وإدراكا لحقيقة شخصيته، فلم يتنصل عرابي من حادث، وترفع أن يكذب أو يداجي، أو قل إنه بطبعه لم يستطع أن يكذب، هذا إلى حضور ذهنه وقوة بديهته ومتانة حجته وشجاعة قلبه، ولولا أن هذه المحاضر تقع في قرابة مائتي صفحة ما تركنا منها كلمة واحدة إلا أوردناها، وقصارانا أن نلم بأهم ما جاء فيها ...
ناقشته اللجنة في الجلسة الأولى في مظلمته إلى رياض باشا بشأن عثمان رفقي، فأجاب بما لم يخرج عن كلامه وقت تقديم هذه المظلمة، وكذلك كان الحال في إجابته عن حادث قصر النيل وقال: إن الخديو أصدر عفوه عما وقع فكأنه لم يكن ...
وسئل عن ذهابه بالجند إلى قصر الخديو «ولماذا تجاسر على هذا الفعل المضاد للنظام العسكري» يوم عابدين؟ فأجاب بقوله: «إن الأسباب التي دعت لذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات شأن البلاد التي لم يكن فيها قوانين، أو فيها قوانين ولم يراع فيها الإجراء على مقتضاها، فلذلك اعتمد أعيان البلاد على أبنائهم رؤساء العسكرية وتاقت أنفسهم إلى تشكيل مجلس نيابي بالبلاد يحفظ لهم حقوقهم ويدفع عنهم ما ألم بهم من المظالم ... فأجمعوا أمرهم على ذلك وتحرر منهم بذلك عرضحالات وختم عليها نحو ألف من عمد وأعيان وتجار وغيرهم، ولخوفهم من البطش بهم أنابوني مع إخواني الضباط في عرض طلباتهم؛ لأننا إخوانهم وأبناؤهم وهم أهلونا يضرنا ما يضرهم وينفعنا ما ينفعهم».
ووجهت إليه اللجنة سؤالا في غاية السخف هذا نصه: «لو فرض أن الحضرة الخديوية لم تسلم بهذه الطلبات فماذا كان يحصل؟» وما أعجب وأغرب أن يسأل المرء عن شيء لم يحدث! وأن هذا في سخفه ليذكرنا بقصة الخجول الذي سأل عروسه أيحب أخوها التفاح؟ فلما ذكرته أن ليس لها من أخ عاد فسألها: «أقصد إذا كان لك أخ أكان يحب التفاح؟!»
ورد عرابي على سؤال اللجنة بقوله: «لا لزوم للفرض والتقدير لأننا واثقون بكرم الخديو ووفائه بوعده» ...
واتهمته اللجنة بأنه نادى مع المنادين بخلع الخديو في اليوم التالي لسقوط وزارة البارودي، فانظر إلى إجابة هذا الرجل الذي رماه خصومه بالجبن قال: «مما توضح يعلم أنه لشدة تأثير اللائحة المذكورة التي قبلها الجناب الخديو، ما كان يمكن قبولها ولو أدى ذلك إلى خلع الخديو وكنت أنا وكل الناس على هذا الرأي» ...
وسئل لماذا لم يغادر مصر مع علمه بقبول الخديو اللائحة، فأجاب في شجاعة بقوله: «إن أفكار الناس وقتها وحالة البلاد وشرف الأمة منعتني من ذلك، وأما ما ذكر من لزوم موافقة النظار للحضرة الخديوية لما لها من الامتيازات الخاصة فذلك لا يكون أمرا لازما في الحكومات الشورية، خصوصا وأن جنابه الكريم أوجب على نفسه جعل الحكومة شورية وأن يشترك مع نظاره ونواب البلاد في الرأي، ولحرص النظار على تلك الامتيازات وما رأوا في قبول تلك اللائحة من التدخل في الأمور الإدارية ومس الامتيازات المصرية لم يصر قبولها كما تقدم الإيضاح بالأجوبة السابقة».
وسئل عن رفضه ما شار به عليه درويش باشا من الذهاب إلى الآستانة فقال: «قلت له: إني أود ذلك، بل هو أعظم شيء أتمناه، ولكن لتعلق الناس بي وازدحامهم علي في كل وقت بحيث إنهم لا يمكنونني من تناول غذائي الذي هو من ألزم ضرورياتي المعيشية إلا بمشقة، أخشى أن يحولوا بيني وبين ذلك إذا علم لهم أني أريد السفر إلى خارج القطر لما يتوقعونه مما يحيق بهم من الضرر في المستقبل ويترتب على ذلك حدوث فتنة داخلية».
وانتقلت اللجنة إلى مأساة الإسكندرية فاتهمت عرابي بأنه أرسل تعليمات إلى وكيل الجهادية بإبعاد الشبهة عن الأهالي والعساكر وهذا ما يفهم منه أن الحادثة «إما أن تكون بأمركم أو بتعليماتكم» ...
ونفى عرابي أن يكون حادث كهذا من تعليماته وهو الذي يحافظ على الأمن؛ حرصا على سمعة مصر، وكان اتهام اللجنة ضعيفا جدا في هذا الحادث فلم تجد لديها إلا كتابا من عرابي كان قد أرسله إلى وكيل الجهادية المنتدب في لجنة تحقيق ذلك الحادث فتلته عليه وسألته هل لي علم به وكيف يقول مع ذلك: إنه لم يرسل تعليمات؟
والذي يدعو إلى الدهشة حقا أن هذا الكتاب مما يصح أن يقدمه عرابي دليلا على براءته وهذا مما يدل على تخبط اللجنة، وأنها كانت تريد مجرد الاتهام لعلمها أن الحكم في نهاية الأمر معروف، فلم يكن الغرض الوصول إلى الحق وإنما هو تحقيق صوري فحسب ...
وقد جاء في هذا الخطاب قول عرابي: «ولا تقبلوا كل ما يقال في جانب الوطنيين والحكومة من غير تدقيق وبحث طويل وتحقيق تعرفون صدقه وعدم تصنعه، ولا تميلوا بجانبكم لأحد من أعضاء اللجنة؛ خشية أن يخدعكم ويستميلكم لأمر ظاهره الإصلاح وباطنه الفساد ... وأما ما يلزم للمراقبة العامة فيلزم أن تلاحظوا البلد وأخبارها وتتأكدوا مما تسمعونه وترونه وتبادروا بإبلاغنا أولا بأول عن جميع الأعمال».
وأجاب عرابي بقوله: «نعم صدر مني هذا الخطاب الذي هو عبارة عن الأخذ بالحزم في إظهار الحقيقة والعمل بالحق وليس فيه ما ينكر عليه» ...
وسئل عن سبب اصراره على عدم إبطال التجهيزات بالطوابي وعدم امتثاله لأمر الخديو فقال: «إنه على حسب العادة السنوية كان جاري ترميم بعض طوابي الإسكندرية، ولما ورد تلغراف من الحضرة السلطانية إلى الحضرة الخديوية بناء على تبليغات سفير إنجلترا بالآستانة بإبطال إنشاء تجديد استحكامات الإسكندرية؛ إذ يعد ذلك تهديدا للمراكب الحربية الإنجليزية، وصدر أمر الخديو بذلك ففي الحال صار إبطال الترميمات وتعيين من لزم من رجال المعية لمشاهدة إبطال العمل».
ومن أهم ما سئل عنه في الجلسة سبب رفضه أمر الخديو وعدم مجيئه إلى الإسكندرية، وتلي عليه كتاب الخديو الذي استدعاه فيه، فأجاب عرابي في صراحة وشمم قائلا: «إن الحرب التي حصلت لم يسبق لها مثيل؛ إذ هي خارجة عن حد القياس؛ حيث إن الحرب المذكورة ما صار إجراؤها إلا بمقتضى قرار من مجلس مؤلف من النظار والذوات الاختيارية تحت رئاسة الحضرة الخديوية بحضور أعضاء الوفد العثماني، فكان إجراؤها على مقتضى الحق والقانون، ثم بعد خروج العساكر من الإسكندرية توجه الجناب الخديو من سراي الرمل إلى داخل الإسكندرية التي تركها أهلها والعساكر، فلما بلغنا ذلك تحقق لنا أن انتقال جنابه العالي إلى الإسكندرية مع حدوث المناوشات الحربية بين مقدمات العساكر المصرية والعساكر الإنجليزية إما أن يكون لأخذه أسيرا وإما لانحيازه إلى الطرف المحارب لبلاده، فمن أجل ذلك كتبنا لوكيل الجهادية يعقوب باشا سامي بما حدث للمشاورة مع رجال الحكومة في هذا الأمر الذي لم يسبق له مثيل.
وبناء على ذلك صار عقد اجتماع عام من وكلاء الدواوين والمديرين والأمراء والعلماء وشيخ الإسلام، والقاضي السيد السادات والسيد البكري وأعيان التجار والعمد وغير ذلك، تشاوروا فيما بينهم في هذا الأمر الذي دهم البلاد، واستقر رأيهم جميعا على إعطاء قرار بعدم استماع أوامر الحضرة الخديوية وتوقيفها عن الأعمال؛ حيث إنه توجه للطرف المحارب للبلاد وعرضوا ذلك تلغرافيا للحضرة السلطانية ببيان أسماء الشاهدين من أعضاء ذلك المجمع العام».
وفي الجلسة الرابعة سئل عن صلته بنديم وهل يعلم أنه سافر الإسكندرية قبيل المذبحة فأثار فيها الفتنة وعما كان يكتبه بجريدته «الطائف». وأجاب عرابي بأنه لم يعلم بإثارة الفتنة ولم يكن له أن يمنع نديم عن كتابة ما يشاء في جريدته ...
وسئل عن سبب اختفاء حسن موسى العقاد فأجاب بقوله: «يؤخذ من هذا السؤال أني أسال عن كل من غاب من الناس ولو يوجد، مع أني لست بمأمور عليهم ولا مسؤول عنهم!»
وسئل عن صلته بحليم باشا وهل وصلت إليه من الآستانة صورته؟ فأجاب «بأنه وصلته صورة منه وأن كثيرا من الناس وطنيين وأجانب كانوا يرسلون إليه صورهم ...
ووجهت إليه اللجنة هذا السؤال: «لما كنت بكفر الدوار هل صدر منك تلغراف إلى كل من راشد باشا قومندان خط الشرق ومحمود فهمي باشا رئيس أركان حرب بردم قناة السويس المالح وسد الترعة الحلوة؟»
وأجاب عرابي بقوله: «التلغرافات التي تداولت بيني وبين المسيو دي لسبس تعلن وتؤكد احترام قناة السويس ما دامت على الحياد ولم تتخذ فيها أعمال حربية، فلغاية دخول السفن الحربية الإنجليزية في قناة السويس وحدوث الضرب منها في الإسماعيلية على العساكر التي كانت بجهة نفيشة كان قد حدث احترام القنال المذكور، ومن بعد ذلك حيث اتخذ القنال المذكور ميدانا للحرب - ولنا الحق في كل ما أمكن إجراؤه من الأعمال الحربية - إذ ذاك تحرر لرئيس أركان حرب محمود فهمي باشا بتلك الجهة باتخاذ ما أمكن إجراؤه من التدابير الحربية وسد الترعة الحلوة لما صار إعلان المسيو دي لسبس بأن الحالة الحربية أرغمتنا على ذلك لعدم احترام الإنجليز لحياد القنال».
وسئل عرابي عن المجلس العرفي من شكله فلم يتنصل منه وقال: إن الذي شكله وكلاء النظارات بموافقته.
وأهم ما وجه إليه في الجلسة الخامسة أن ما سماه مساعدات من جانب الأمة لم يكن إلا إجبارا لها على ذلك بالقوة فأجاب: «قد قلت في أجوبتي المتقدمة في هذا الخصوص: إنه لا يتصور أحد أصلا حصول تهديدات بمجلس مؤلف من أعيان الأمة المصرية ورؤسائها ونبهائها يزيدون عن 400 نفس، كما أن المساعدات والتبرعات التي كانت ترد للجيش المدافع عن البلاد مدافعة شرعية لم تكن بتهديدات أيضا، بل من الناس من تبرع بنصف ماله ومن الناس من تبرع بماله كله ابتغاء مرضاة الله وغيرة على الوطن، ومنهم موسى بك مزار تبرع من ماله بثلاثة آلاف إردب غلال و30 رأس من الخيل وألف ومائتي ثوب بفتة تبرعا لمساعدة الجيش؛ إذ إن الحرب الشرعية إما أن تكون بالنفس والمال، أو بالمال فقط أو بالرأي، ومنهم حميد بك أبو ستيت تبرع ب 1500 إردب غلال، ومن ضمن من تبرع وافتتح باب المساعدة دوائر العائلة الخديوية وفي مقدمة الجميع دائرة والدة الخديو السابق وأغلب الذوات تبرعوا أيضا، ولو استكشفت التلغرافات التي كانت ترد من جميع أهالي المديريات حتى من مديرية إسنا بدون واسطة مديرياتهم تعلم أن الأمة المصرية كلها كانت محاربة بمالها ونفسها، ورأيها متفق على ذلك، ولو استكشفت قوائم التبرعات لعلمت أنه لم يتأخر أحد من أولي الرئاسة في المساعدة، ومن ضمنهم دائرة سعادة خيري باشا حالة كونه لم يشهد الحرب بل كان في الإسكندرية مع الخديو عند الإنجليز، ومن ضمنهم دائرة دولتو رياض باشا وغير هؤلاء، فهل كل هذا كان رغما عن الناس؟ ومن ذا الذي كان يرغمهم؟!
إن هذا الأمر حق تعرفه أهل البصائر الثاقبة والضمائر الحية، وأما الذين وجدوا مسجونين في القلعة فأظنهم لا يزيدون عن مائة نفس من أرباب الجنايات المحكوم عليهم بالحبس ومحضرين من المديريات وإنه لم يصدر مني أصلا أمر بسجن أحد في القلعة أو غيرها، وأما طلب إبراهيم باشا أدهم فذلك مبني على ما حدث بطنطا بين مهاجري الإسكندرية وبين الأوربيين، كما أن شاكرا باشا وغيره لم يكن عزلهم من المديريات التي كانوا بها إلا بأمر المجلس الإداري لا بأمري».
وفي الجلسة السادسة اطلع عرابي على كتاب وقع عليه بأنه رئيس الحزب الوطني وسألته اللجنة سؤالا يدل على تعسفها ولغوها قالت: «تعلمون أنه بالممالك المنتظمة ووجود الحضرة الخديوية بمقر الحكومة، لا يجوز وجود أحزاب حتى تمضوا تلك المكاتبة بصفة رئيس الحزب الوطني فهل صرح لكم من الحضرة الخديوية بذلك؟ وإذا كان لم يصرح لكم فهل جعل نفسكم رئيسا لحزب داخل الحكومة لا يعد عصيانا؟ وإن كنتم تركنون على عدم وجود وظيفة لكم وقت تحرير هذا الخطاب أفما كان يمكن أن توضعوا في الإمضاء ناظر الجهادية سابقا كالجاري فيمن يرفتون من مأموري الحكومة؟» وأجاب عرابي بقوله: «من المعلوم بداهة أن مصر آهلة بأجناس وعناصر مختلفة وكل عنصر منهم يعتبر نفسه حزبا كما أن أهل البلاد وهم حزب قائم بذاته يعتبر عند الآخرين منحطا عنهم ويطلقون عليه لفظ فلاحين؛ إذلالا لهم وتحقيرا وأولئك هم الحزب الوطني وهم أهل البلاد حقيقة، وحيث إنهم أنابوني عنهم في طلب ما يكفل لهم الحرية في حفظ الحقوق وكنت أنا القائم بطلب ذلك ولم تكن لي صفة في الحكومة في ذلك الوقت فوضعت إمضائي بذلك لما لي من حق الرئاسة على الحزب الوطني، وليكون ذلك أدعى لاجتناب ما يخل بأمر الراحة العامة - كما هو واضح بالكتاب المذكور - ولا يعد ذلك عصيانا؛ لأن كل أمة من الأمم المتمدنة الراقية فيها أحزاب مختلفة قائمون بحفظ حرية بلادهم والدفاع عن حقوقهم».
وفي الجلسة السابعة وجه إليه السؤال الآتي: «قد وجد في الأوراق التي ضبطت ورقة محرر فيها صورة سؤال استفتاء من العلماء عن جواز عزل الخديو لأسباب تمويهية مخترعة في تلك الصورة فها هي الورقة المذكورة اطلع عليها وأجب».
ونفى عرابي معرفته بهذه الورقة وقرر أنها ليست بخطه وقال: إنه ربما كانت مع أحد الناس وتركها على المنضدة التي كانت عليها الأوراق ...
وسألته اللجنة هذا السؤال: «منذ أيام سقوط وزارة محمود سامى كنتم جارين تحرير محاضر بمنزلكم بعزل الخديو، وجارين إحضار الأهالي والعلماء لتختيمهم عليها رغما منهم، واستحضارهم لمنزلكم كان بواسطة ضابطين من الآلايات وأشخاص من مستخدمي الضبطية كما هو واضح من التحقيقات التي جرت بهذا القومسيون فأفيدوا عن أسباب ذلك».
وأجاب عرابي: «لما تقدمت اللائحة المقدمة من قنصلي دولتي الإنجليز وفرنسا وقبلها الخديو ولم تقبلها الوزارة، وحضر أعضاء مجلس النواب وأشيع ذلك بين الناس توافدوا أفواجا وجماعات من المديريات والمحافظات ومصر والإسكندرية لرفض اللائحة المذكورة ورفض من يقبلها محررين بذلك عرائض ومحاضر، فهل كذلك كان كل هذا رغما من الناس؟ وكنت أنا مرغما لهم؟ الحق أن جميع المسلمين تأثروا لقبول هذه اللائحة وأنكروها، بل إن جميع المصريين أنكروها؛ لما فيها من تدخل الأجانب في أمور بلادهم الداخلية» ...
وسألته اللجنة: «إلى أين توافد الناس؟ هل إلى منزلكم أو أي جهة؟ وهل كانت المحاضر التي يحررونها ترد إليكم مختومة أو تختم بمنزلكم؟ وما الذي أجريتموه في ذلك؟»
أجاب بقوله: «كانت تأتي المحاضر مختومة، وكان حضور الناس بها جهرة لا خفية وبحضور الجميع لمنزلي ولمنزل رئيس النظار محمود باشا سامي، وكانوا يأتون بها ويقدمونها إلينا إعلانا بعدم قبولهم اللائحة المذكورة ومن يقبلها، وكان ذلك بحضور كثير من أعضاء مجلس النواب وكلهم موافقون على ذلك، وكما قلنا أولا: إن الأمة المصرية لم تختلف في هذه الكارثة، وكانت تلك المحاضر باقية طرف أربابها وبحضور دولتو درويش باشا وتشكيل وزارة راغب باشا وصدور العفو العام صرف النظر عن هذا وذاك».
ولم يكن في الجلسة الثامنة شيء ذو بال، وعلى ذلك انتهت اللجنة من التحقيق، ومنه يتبين أن ما وجه إليه لم يعد حد الاتهام، فلم تستطع اللجنة أن تثبت عليه شيئا مما حاولت أن تلصقه به من عصيان أو فتنة أو حريق، ولو أن هذا التحقيق أجرته لجنة عاجلة لما وجدت فيه ما يدعو إلى إرسال المتهم إلى المحكمة ...
واستدعت اللجنة عددا كبيرا من المتهمين ومن الشهود، وليس يعنينا إلا أقوال زعماء الحركة من أصدقاء عرابي وهم: علي فهمي وعبد العال حلمي ومحمود سامي ويعقوب سامي وطلبة عصمت ومحمود فهمي ... وقد نفوا جميعا ما حاولت اللجنة إلصاقه بعرابي من التهم وخاصة فتنة الإسكندرية وحرقها ...
أما تهمة العصيان التي وجهتها اللجنة إليهم جميعا، فكانت تتلخص في أنهم أطاعوا عرابي بعد أن علموا بقرار عزله، وكان إجاباتهم عن ذلك قوية؛ إذ إنهم عللوا ذلك إلى رأي الأمة ممثلة في المجلس العام الذي قرر بقاء عرابي واستمرار القتال وعدم إطاعة أوامر الخديو.
وكانت إجابات كل من علي فهمي وعبد العال حلمي قائمة على تصوير الوقائع صورة شرعية لا أثر فيها لعصيان الخديو، ولكن لم يحاول أحدهما أن يسيء إلى عرابي أو إلى الجند بشيء ...
أما البارودي؛ فقد أساء إلى الحزب العسكري بأن نسب إليهم العنف والإرهاب وقال: إن إرهابهم تناوله هو كذلك بالذات، ولكن البارودي لم يذكر عرابي بسوء ولا اتهمه بشيء ...
ولما سئل البارودي عما يعلمه عن حريق الإسكندرية أجاب بقوله: «هذه المسألة شنيعة جدا وكل الناس وبالجملة أحمد عرابي استقبحها».
ومما يعاب على البارودي أنه حاول التنصل من مسألة اعترف بها أكثر المتهمين ولم يجدوا فيها ما يدعو إلى التنصل منها وهي مسألة القسم الذي أدوه بقشلاق عابدين، والذي تلا عليهم صيغته الشيخ محمد عبده، ولما واجهته اللجنة بالشيخ محمد عبده قال البارودي: إن الشيخ محمد عبده يكذب، ولما واجهته بيعقوب سامي باشا عاب عليه يعقوب باشا إنكاره وذكره بأنه كان حاضرا وأقسم مع من أقسموا، فاضطرب البارودي وناقض أقواله السالفة ...
واعترف محمود فهمي بأنه أسلم نفسه للإنجليز طائعا، وهذا يتفق مع رأي عرابي في هذا الحادث، قال محمود باشا: «أما أنا وخادمي فمسكنا ضفة الترعة البحرية قاصدين المحسمة، فسألني خادمي عن قصدي فقلت له: إننا سنتوجه لطرف الإنجليز، وأمرته بقطع غابة وتعليق منديل أبيض فيها، وحدث ذلك وتوجهنا ودخلنا عند الإنجليز في مقدمة جيشهم فقابلني ضابط إنجليزي يعرف الفرنسية ولما رآني أرتدي ملابس ملكية قال لي: «أنت شيخ البلد؟ فقلت له: نعم».
وسألته اللجنة: «لماذا كنت ترتدي ملابس ملكية؟»
فأجاب بقوله: «لأني لم أكن أريد الحرب، فلو كنت أريد الحرب كنت ارتديت ملابسي الرسمية وطبنجتي وحاربت» ...
ولما سئل محمود باشا فهمي عما يعرف عن حريق الإسكندرية، شهد أن عرابي اهتم بالأمر ولم يرض عنه، وأرسله في طلب سليمان سامي، فلما حضر سليمان نهره عرابي وقاله له: «إني بريء مما فعلته».
ومما يجدر بنا الإشارة إليه في هذا المقام بعض أقوال الشيخ حسن العدوي - وكان شيخا يشرف على الثمانين فلم تقل السن ولا السجن من شجاعته شيئا - ولندع برودلي يقص علينا ما شهده من بسالة هذا الشيخ الجليل الذي يسجل له ولأمثاله ما يشهد له التاريخ المصري ...
قال برودلي: «وفي صوت كصوت الرعد سأل إسماعيل أيوب باشا الشيخ الضعيف الطاعن في السن: ألم يوقع ويختم بخاتمه على قرار يقضي بأن سمو الخديو توفيق باشا يستحق العزل؟ وظهر على حسن العدوي كأنما استعاد حمية شبابه، واتكأ على المنضدة وبسط يده وثبت نظره في وجه إسماعيل أيوب وقال: أيها الباشا لم أر الورقة التي تتحدث عنها ولا يمكنني أن أقول شيئا عما إذا كنت وقعت عليها أو ختمتها بخاتمي، ولكني أقول لك ما يأتي: إنك إذا أحضرت إلي ورقة تحتوي على مثل المعنى الذي ذكرته فإني أبادر بالتوقيع عليها وختمها بخاتمي في حضورك الآن، وهل إذا كنتم مسلمين هل تستطيعون أن تنكروا أن توفيقا باشا - وقد خان بلاده وذهب إلى الإنجليز - لم يعد يصلح للحكم؟»
ولو أن قذيفة ألقيت فجأة وسط الحجرة ما أعقبت من الوجوم والغم مثل ما أعقبته كلمات ذلك الشيخ، لقد ظهرت الصفرة في وجنتي إسماعيل أيوب السمراوين ولم ينبس أحد ببنت شفة، ثم طلب إلى الشيخ في رفق أن يبرح الحجرة، ولم يفكر أحد بعدها في استجوابه قط، وبعد بضعة أيام أطلق سراحه على شرط أن يذهب إلى قريته حيث لا تكون له صلة بعد بتاريخ مصر».
1
وكذلك يخلق بنا أن نشير إلى جرأة أحمد رفعت بك وحسن دفاعه، ولندع كذلك برودلي يتلو علينا بعض ما رأى من ذلك، قال: «... وبعد تبادل التحيات وتقديم القهوة والسجائر، دخل رفعت، وكان يبدو في حالة عصبية شديدة، وجلس على كرسي بجانبي، وأظن أني أسأت إلى ولاء الأعضاء بمصافحته، ولن أنسى أبدا التماع الشر في عيني إسماعيل أيوب حين تناول عددا قديما من جريدة «الطان»
2
كان يحتوي على مقارنة صريحة لا مجاملة فيها بقلم أحمد رفعت بين المدنية الفرنسية والرصاص الإنجليزي، وقال رئيس اللجنة يخاطبني: يا صديقي العزيز ، أظن أنه يجب أن تتنحى عن الدفاع عن مثل هذا الرجل بعد هذا، وألقى إلي بالصحيفة، وقرأت المقال وكتبت على ورقة صغيرة: «لو أنني كنت في مكانه لفعلت مثل ما فعل» ...
وسأل رئيس اللجنة المتهم عن برقية في تلك الصحيفة فيها دفاع عن عرابي إذا كان هو مرسلها؟ فقال رفعت بك: «نعم ... وذلك بأمر مجلس الأمة الذي كنت أنت نفسك عضوا فيه» ...
وقال الرئيس: «إني أنفي نفيا قاطعا أني كنت حاضرا أثناء بحث هذه المسألة».
وأجاب رفعت، فكان مما جبه به الرئيس قوله: «لست أتذكر ما إذا كنت سعادتك قد وقعت على سجل الجلسات، ولكني أذكر أنك ذهبت معي يوم الجمعة 18 أغسطس في قطار خاص وكان بصحبتنا رؤوف باشا، وعثمان باشا فوزي وحسين باشا الدرمللي، إلى عرابي بكفر الدوار لتعبر له عما ترجوه له من نجاح» ...
وقال الرئيس محتدا: إني أمنعك عن الكلام لولا أنك تتكلم عني، وعاد رفعت يذكره أنهم جميعا تناولوا الغداء مع عرابي، وأن طلبة طاف بهم على خطوط الدفاع وأنه - أي الرئيس - تمنى وهو الجندي القديم لو أتيح له الاشتراك في القتال، وفطن الرئيس إلى ما يرمي إليه رفعت في دهاء وكياسة، فقال: إن كل إنسان يعلن أني ذهبت إلى هناك بما في ذلك الخديو، وكان هذا بدافع حب الاستطلاع ...
وأحس الرئيس كذلك أنه صار في مثل موقف المتهم فتدارك الأمر وسأل رفعت عما إذا كان ما جاء في البرقية من أفكاره، وأجاب رفعت بقوله: «نعم من أفكاري، كما أنها من أفكار كل امرئ سواي».
وسأله الرئيس: كيف سمح وقد كان مديرا للمطبوعات أن تنشر جريدة «الطائف» مقالات فيها طعن على الخديو، فكان مما أجاب به رفعت: «إن ما قالته جريدة الطائف وما قالته غيرها من الصحف كان نتيجة لقلق الرأي العام من مسلك الخديو بعد انعقاد المجلس العام مرتين بوزارة الداخلية، وإن جريدة الطائف عبرت عما اعتاد أن يقوله حتى الصبية في الشارع»، وسأله الرئيس: هل معنى ذلك أنه يقر ما جاء بتلك الجريدة؟ فأجاب رفعت في شجاعة: «لقد تقرر في المجلس العام الذي انعقد بوزارة الداخلية والذي شهده العلماء والقواد والأعيان أن الخديو خرج على الشرع المقدس، وحيث إني مصري فلم يكن في وسعي أن أخرج على ما أجمع عليه الناس فأعاقب جريدة الطائف مخالفا بذلك ما في نفسي»، ووجه إليه الرئيس هذا السؤال: «لقد ذكرت من قبل أن الخديو أمرك أن تحضر بعض السجلات، وأنك آثرت أن تتبع أوامر عرابي فكيف تفسر ذلك؟»
وكان مما أجاب به رفعت قوله: «حيث إن عرابي كان ناظر الجهادية والبحرية، وكانت السجلات المذكورة تتصل بعمله؛ فقد ذهبت إليه لأبلغه بأمر الخديو، ثم أسلمها لسموه، ولكن عرابي باشا أمرني ألا أسلمها له قائلا: إني مسؤول شخصيا إذا فعلت ذلك. فكتبت في الحال لمحمد بك خليل أبلغه بذلك ولم أتلق إلا جوابا شفويا».
وبعد يومين استؤنف استجواب رفعت بك، ويذكر برودلي أنه دخل قاعة الجلسة هذه المرة وليس يبدو عليه شيء من الاضطراب ...
وأطلعه الرئيس على صور لبرقيات أرسلت إلى الآستانة وسأله عنها، فقال رفعت: إن المجلس العام كان يريد إبلاغ الباب العالي بكل شيء، وإن برقية منها كتبت بموافقة رؤوف باشا
3
وإنه يعتقد أنها لم تصل إلى غايتها بسبب قطع الأسلاك.
وسأله الرئيس عما إذا كان ما جاء بهذه الأوراق يتفق مع آرائه، أم أنه أرغم على إرسالها؟ وعاد رفعت يؤكد أن البرقيات إنما أرسلت بقرار من المجلس الذي كان يمثل الرأي العام فيه أعضاء يرجع صيت بعضهم إلى عهد محمد علي، وأنه لم يرغم على شيء ...
وقال الرئيس: إنه يرى من إحدى البرقيات أنه تقرر ردم قناة السويس فهل كان ذلك من رأي المتهم؟ وأجاب رفعت بك بأنها كانت ضرورة قضت بها الحرب وأنه يأسف لذلك ...
ووجه إليه الرئيس هذا السؤال: «جاء في إحدى البرقيات المرسلة إلى القسطنطينية أن المجلس العام أمر محافظ السويس بأن يبلغ الأدميرال الإنجليزي أن المجلس القائم بالقاهرة هو وحده الحكومة الشرعية في مصر، فهل كانت هذه عقيدتك؟»
وأجاب رفعت بشجاعة: «لقد قلت في اليوم السابق أن قوة سمو الخديو قد أوقفت بمقتضى قرار المجلس العام الذي عقد في القاهرة، والذي تألف من كبار المصريين من العاصمة ومن البلاد، وبناء على ذلك أصبح هذا المجلس هو الحكومة الحقيقية لمصر، وقد أيدته وعضدته الأمة كلها واضطلع بالدفاع عن الوطن».
وسأله الرئيس: «هل وقعت على هذا القرار؟ وهل كان هذا باختيارك؟» فقال رفعت: «وقعت عليه بمحض إرادتي ولم أجبر أنا ولم يجبر أحد غيري على التوقيع».
ورفعت الجلسة على أن تعقد في اليوم التالي، وكان أحمد بك رفعت قد أدلى بأقوال للجنة قبل مجيء مستر برودلي فيها مطاعن واتهامات لرجال الجيش بأنهم لجأوا إلى العنف والتهديد وأنه كان مرغما على ما فعل ...
فلما عقدت اللجنة في الموعد المحدد، سأله الرئيس عن سبب تناقض أقواله وطلب إليه أن يبين وجه الحق فقال: «إذا سمحت لي أن أتكلم في صراحة فإني أشرح هذا التناقض، وأن هذا حق يسمح به لأي مجرم عادي وأنا أطالب به».
وقال الرئيس: «يمكنك أن تفعل ذلك إذا التزمت بالمسائل التي يدور حولها الكلام».
وأجاب رفعت: «لقد عوملت أسوأ معاملة في السجن فإن إبراهيم أغا توتونجي ...»
وقاطعه الرئيس قائلا: «كف عن هذا ... ليس هذا هو الموضوع، ونحن نعلم جميعا أنه لم يشك من توتونجي إلا عرابي وعبد الغفار».
ورد السير شارلز ولسن قائلا: «ليس الأمر كذلك وإني أشعر أن واجبي يقضي علي أن أقول: إنه أثناء زياراتي الأسبوعية سمعت من جميع المسجونين تقريبا شكواهم من زيارات هذا الرجل ومن إساءاته».
واستدعى الرئيس المسيو برودلي المستشار القضائي للحكومة وسأله مستر برودلي عما إذا كانت المحكمة ملزمة بأن تسجل إجابة المتهم كلها، وأجاب بورني أنها ملزمة ولكن يجب عليه أن يوجز.
ومضى رفعت فقص على اللجنة ما لقيه من إهانة وتهديد بالموت في سجنه وقال: إنه عقب ذلك استدعي للوقوف أول مرة أمام لجنة التحقيق. •••
قضت اللجنة نحو شهر ولم تضع يدها بعد هذه الاستجوابات على شيء تدين به عرابي، وكانت أكثر أسئلتها للمتهمين جميعا ترمي إلى إدانة عرابي وبعد ذلك يحق عليهم بالتبعية ما حق عليه ...
وكان برودلي ذات ليلة عقب الفراغ من استجواب رفعت عند عرابي، فقص عليه عرابي أن شيئا ذا بال حدث في مقر اللجنة، وذلك أنه بعد مغادرة السير شارلز ولسن السجن عاد أعضاء اللجنة فاجتمعوا بعد أن كانوا قد تفرقوا وأقاموا في هذا المبنى حتى ساعة متأخرة من الليل، واستطاع عرابي أن يسمع أن اجتماعا عقد في الحجرة المجاورة وأنه استمر بضع ساعات، كما استطاع أن يرى من بين ألواح الخشب في نافذته أن رسلا من القصر كانوا يجيئون ويذهبون
4 ... وارتاب عرابي في أن شيئا يدبر ...
وسمع برودلي مثل هذا الذي ذكره عرابي من رفعت ومن سجين آخر هو خضر بك خضر، وظل في حيرة إلى أن علم من الحراس أن سليمان سامي استجوب في مقر اللجنة ساعات متوالية، فطلب برودلي من المسجونين أن يكتبوا له ما سمعوا وانطلق إلى مسكنه ضائق النفس بما أيقن أنه يدبر في الخفاء ...
وكان سليمان سامي قد أحضر من كريت فوصل إلى الإسكندرية في 9 نوفمبر، وظل تحت مراقبة أعوان الخديو منذ أن بلغ الإسكندرية حتى دخل السجن في بناء الدائرة السنية فلم يتصل به أحد قط، وذلك أنه اتفق معه على أن يكون شاهد إثبات!
فقد طلعت جريدة الإجبشيان جازيت بعد 3 أو 4 أيام من حضوره تعلن للناس نبأ مدهشا، وذلك أن سليمان بك سامي اعترف بأنه أحرق الإسكندرية وأنه فعل ذلك بأمر من عرابي باشا ألقاه إليه على مرأى ومسمع من بعض الناس، واعترف كذلك بأمر أعظم خطرا، ألا وهو أن عرابي أرسله ليقتل الخديو بقصره في الرمل، ولكنه قابل وهو في طريقه إلى القصر، كلا من سلطان باشا وحسن باشا الشريعي، وحالما رأى هذين الرجلين ثاب إلى رشده وندم على اعتزامه ما اعتزم واعترف لهما به، ثم عاد أدراجه ...
قال برودلي: «وكان لدى ما قاله في التحقيق كل من سلطان وحسن الشريعي فلم أجد فيه أقل إشارة إلى شيء من هذا الذي لو أنه حدث لذكره سلطان على الأقل إذا كان لديه أي سبيل لتأكيده».
وكتب برودلي إلى إسماعيل أيوب باشا يحتج ويذكر أن ما حدث في غير حضوره يخالف ما اتفق عليه، ولذلك فهو لا يتقيد بهاتيك الأقوال التي جاءت على لسان سليمان ويعدها كأن لم تكن.
وفرح رجال القصر وأعوان الخديو فرحا عظيما، ولكن فرحتهم لم تطل، فإن جميع من ذكرهم سليمان سامي في كلامه عندما واجهوه في اليوم التالي أمام اللجنة رفضوا أن يشايعوه فيما ذهب إليه، وأنكر حسن الشريعي - وكان سجينا - رواية سليمان، كما أنكرها سلطان باشا كل الإنكار ...
يقول برودلي: «وكان أحد الأوربيين من أشد الناقمين على الحركة القومية حاضرا عندما جاء وفد من قبل اللجنة يسأل سلطانا في داره عن رواية سليمان، ونفى سلطان نفيا باتا حدوث ما سئل عنه فقال زائره الأوربي: يا للأسف ... إن إجابة مخالفة لهذه كانت تحسم الأمر كله».
ويعقب برودلي على ذلك بقوله: «فهل كانت تؤلم بقية من الضمير عقل سلطان باشا في أواخر أيامه؟ إني أظن ذلك».
وكان يرد إلى برودلي رسائل من مجهولين، مما يدل على مقدار ما كان يساور الناس من خوف، ومن أعجبها رسالة يعزوها برودلي إلى أحد الأعضاء الماسونيين، قال مرسلها: «عزيزي الأخ: النصر للحق! أتشرف بإبلاغك أن سلطان باشا ينفي أنه رأى سليمان سامي في طريقه إلى قصر الرمل، وقد أفضى إلى كثير من الناس أخيرا بأن عرابي لم يحرق الإسكندرية ولا أصدر أمرا بإحراقها، وذكر أيضا أنه تحقق من ذلك بنفسه حينما ذهب إلى عرابي ليتحدث إليه بشأن الجند الذي أحاطوا بقصر الرمل يوم 12 يوليو، فإنه وجد عرابي خارج الباب الشرقي يسخط بأعلى صوته على أعمال النهب والحريق ويعنف الجند على ما حدث، حتى لقد أخذ من أيدي بعض الجند ما نهبوه وأمر بإحراقه، وسأله سلطان من فعل هذا؟ فأجاب عرابي: إنهم يقولون: إنه سليمان سامي ... أرجو منك أن تزور سلطان، فإن لديه الكثير مما يريد أن يقوله لك ... حقا إنه في انتظارك، وسوف يؤكد لك ما أقوله الآن ... احرق هذا ولك الفضل ... من أخيك؟»
ويقول برودلي: «أما عرابي فلم يبد عليه أنه اهتم كثيرا بما اتهمه به سليمان ولم يؤلمه إلا شدة شعوره بما يحيط به من خيانة وهو ضحيتها ... قال: إني لم يعلم عني قط أني أسات أو ألحقت الضرر بأي مخلوق، وقد كنت أحرس الخديو في القاهرة مدة ثلاثة أشهر حراسة شديدة يوما بعد يوم، ولو كنت أردت مرة أن أقتله لكان ذلك في وسعي في أية لحظة، فلماذا أفكر في قتله في الوقت الذي كنت أعده من أسوأ أوقاتنا جميعا؟» •••
هذا ما كان من أمر التحقيق وقد كان ما تبتغيه اللجنة إثبات التهم التي ذكرناها على عرابي، ولكن برودلي كان من ناحيته يعد كل ما في وسعه للدفاع لا عن عرابي وحده، بل عن كبار أنصاره ...
وأول ما وجه إليه برودلي اهتمامه هو الحصول على أوراق عرابي، ففي 23 أكتوبر زار برودلي عرابي في سجنه، وطلب إليه ما أخفى من أوراق، ويقول برودلي: إنه تحدث إليه طويلا فيما يلزم من ثقة تامة بين المحامي وموكله، وفيما ينجم من خطر إذا أخفى الموكل عنه شيئا حتى اقتنع عرابي وقال: «لكي تحصل على ما تريد لا بد لي أن أرى نجلي محمدا أو خادمي محمد بن أحمد، فإنه لا تزال لدي أوراق كثيرة، بعد أن أخذت كمية منها من بيتي في القاهرة وكمية من خيمتي بالتل الكبير».
واستعان برودلي بالسير إدوارد مالت والسير شارلز ولسن، حتى سمح لمحمد بن أحمد خادم عرابي بالدخول على سيده مع محاميه، ولثم محمد يد سيده في احترام شديد وناوله ورقة عرف برودلي أنها من أميرة مصرية لم يذكر اسمها من زعيمات الحركة القومية وقد رجت فيها من عرابي أن يعطي الأوراق المطلوبة لمحاميه، وأمر عرابي خادمه أن يعطي الأوراق للمستر برودلي ودله على الأماكن التي يجدها فيها، ومضى الخادم وقد وعد أن يحضرها في الصباح بعد أن أوضح له برودلي أهمية ذلك ... وجاء الخادم في الصباح ومعه محمد بن عرابي فقالا: إن زوجة عرابي وقد أحاط بها الخوف قد اختفت وأخذت معها الأوراق، وإذ ذاك غضب برودلي وخاطبهما محتدا، فوعدا أن يبحثا مرة ثانية، ثم عادا بعد ساعتين ومعهما الأوراق المطلوبة، وفرح برودلي وزميله فرحا عظيما، وحملا الأوراق إلى القنصلية الإنجليزية لتكون في مأمن وليسهر بيمان على ترجمتها ...
ويقول برودلي: «لو أن معركة الدفاع استمرت حتى نهايتها لكان لهذه الوثائق التي ألقى بها عرابي في أيدينا أهمية عظيمة في إثبات براءته من تهمة العصيان».
كانت تحتوي هذه الوثائق على الكتابين اللذين جاءاه من السلطان على لساني محمد ظافر وأحمد راتب ... وهما وثيقتان على أكبر جانب من الخطورة في صدد ما اتهم به عرابي من عصيان؛ لأنهما شهادتا براءته، وفيهما رضاء السلطان عن أعماله حتى قبيل هزيمته في التل الكبير ...
وكان في تلك الأوراق كذلك ما يثبت كما يقول برودلي «أن الأمة كلها كانت معه» على حد تعبير عرابي نفسه؛ فقد جاءته من مصر كلها من أقصى الصعيد إلى الإسكندرية كتب عليها مئات التوقيعات من أعيان البلاد وكبرائها وعلى بعضها آلاف، وكلها تؤيد عرابي في رفضه المذكرة المشتركة الثانية وتقرر الثقة التامة به وبوزارة البارودي الوطنية، وتستنكر «اللائحة ومن يقبلها» ...
وكان من بينها فتوى موقع عليها من كبار العلماء، ومؤداها أن الخديو بقبوله اللائحة قد انحرف عن الشرع وقد أورد فيها العلماء قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم .
5
ويعقب برودلي على هذه الوثائق بقوله: «إنها كانت أكثر مما يلزم لنفي تهمة العصيان في معناها العادي، وإنها لتبين أنه إن يكن قد ثار فإنما فعل ذلك قائدا لخمسة ملايين من الأهالي وإنه كان على رأس شعب مصر كله» ...
واعتمد برودلي كذلك في دفاعه على ما كتبه له أحمد بك رفعت والشيخ محمد عبده ويعقوب سامي باشا، وكان ما كتبه رفعت بك والشيخ محمد عبده يدور حول معنى عام هو أن الأمة في مجلسها الشامل قد أعلنت كلمتها وأيدت عرابي في الدفاع عن الوطن وقررت عدم إطاعة توفيق لانحيازه إلى الأجانب، وعلى ذلك فكل عمل ينسب إلى عرابي وأصحابه بعد هذا التاريخ هو عمل مشروع؛ لأنه وليد إرادة الأمة ... أما يعقوب سامي؛ فقد كان أكثر اهتمامه بنفسه ...
أثنى برودلي على رفعت بك لثقافته الفرنسية، وذكائه وذوقه الأدبي، كما أثنى على الشيخ محمد عبده وقال: إن له بين هؤلاء الزعماء مكانة عظيمة فهو أكثرهم علما وفطنة ونورا ...
وقال برودلي: إنه بزيارته لرفعت بك قد ازداد أملا وثقة؛ وذلك لما ظهر له من شجاعته ودفاعه عن زعيمه، وتصويره إياه أنه كان زعيم شعب بكل ما تحمله الزعامة من معنى وأنه ظفر بمحبة الناس وعطفهم عليه وأن حركة مصر القومية من أقوى الحركات وأنبلها، وأن الحق سوف يظهر وسيعرف عرابي على حقيقته وتتبين قضيته الوطنية للعالم ...
أما يعقوب سامي؛ فقد انخلع عنه عزمه وكان يبكي في سجنه ويشكو مر الشكوى مما لحقه من إهانة، كضربه والبصق على وجهه، وقد تنمر لزعامة عرابي وتخلى عنه في غير خجل، ولما ناوله برودلي كتابا من عرابي يعبر له فيه عن اهتمامه بأمره ومواساته له قال: «أرجو أن تبلغوا عرابي أني لا أستحق هذه الكلمات الطيبة التي يرسلها إلي».
وكان لا يهمل عرابي في سجنه أن يرد على كل ما يقع عليه من اتهام لقضيته، وكان يعنى بالقضية العامة أكثر مما يعنى بشخصه، وكان يبدي رأيه في شجاعة وصراحة جديرتين حقا بأعظم الثناء والإعجاب، وإذا كان خصومه بعد الذي قدمناه من سيرته لا يزالون في حاجة إلى برهان جديد على إبائه وقوته فليقرؤوا هذا الذي أرسله إلى جريدة التيمس من سجنه لينشر ويذاع على العالم، وليتدبروا ما جاء فيه عن الخديو ومسلكه، وكان ذلك ردا على جريدة الجوائب التي كانت تعترف ببطولته، حتى صدر قرار السلطان بعصيانه فصارت تنعته بالعاصي وقد اطلع في السجن على مقال نشرته وفيه طعن على الحركة القومية فكتب يقول: «سيدي ... اطلعت في العدد 1105 من جريدة الجوائب تحت عنوان «القبض على العاصي في مصر» على مقال ذكر فيه أنه ألقي في السجن عدد كذا وكذا من الضباط والعلماء والأعيان والتجار والمديرين وشيوخ البدو، والآن يا حماة الحرية إذا كان الجند هم العصاة فلماذا ألقي في السجن من ذكر من العلماء والأعيان والقضاة حيث أذيقوا الهوان؟ وإذا كانت الأمة كلها بكافة طبقاتها تتجه اتجاها واحدا وتفكر تفكيرا واحدا فلماذا تميزون الجند باسم العصاة؟ إني أعلن باسم الحق أنه لظلم مبين أن يعاملوا هذه المعاملة، لقد كانت الحرب وفق قانون الله وقانون الإنسان، وقد أعلنت بناء على قرار موقر لمجلس عقد برئاسة الخديو ودرويش باشا مندوب السلطان، وبعد أن غادر الجيش والأهالي الإسكندرية ذهب الخديو إلى هؤلاء الذين كانوا يحاربون أمته، الأمر الذي ينهى عنه كل قانون.
لقد أجمعت الأمة كلها على ضرورة وقف توفيق باشا لخروجه على الشرع الحنيف والقانون المنيف، وطلبت الاستمرار في أعمال الدفاع عن الوطن بقرار رفع إلى جلالة السلطان، أبعد هذا نكون عصاة؟! إننا كنا ندافع عن وطننا بطريقة تقرها شريعة الله والإنسان، وكل من يقول غير هذا كائنا ما كان فهو عبد للهوى والمال، وأضيف إلى ذلك أن علماء الاسلام والمسلمين في كل بلاد العالم، يسلمون أننا لم نتجاوز حدود ما أنزل الله في كتابه وهم يستنكرون ما نلقى من سوء المعاملة؛ لأنه يتنافى مع العدل.
يا دعاة الحق! هل من العدل أن يحرم أبناء الوطن من كل وظيفة ويأخذ الأجانب أماكنهم ومن حضر إلى مصر من الشراكسة والألبان والبلغار بحيث إن جميع الرتب حتى أحطها مثل رتبة اليوزباشي في الجيش قد احتلها الأجانب دون أبناء مصر؟ ولكنا سنجد بين حماة الإنسانية من يدافعون عن الحق في وجه طغيان هذا العهد الذي يسود منه وجه الإنسان ... أحمد عرابي المصري».
6
هذا ما كتبه في سجنه عرابي الجاهل الجبان! ألا ما أجمل هذا الجهل وما أعظم هذا الجبن وما أحط ما ذكره عنه المغرضون من بهتان.
وكان برودلي في شغل دائم بإعداد دفاعه الذي أقامه على ما اقتنع به من أمور هامة وصل إليها بطول أناته وإحاطته بموضوع القضية التي هو بصددها جملة وتفصيلا، وكان من ذلك الذي اقتنع به نبل الدوافع التي دفعت عرابي في حركته من أول الأمر، وموافقة توفيق إياه حتى 12 يوليو، وكذلك موافقة السلطان إلى ما بعد ذلك التاريخ، هذا إلى انضمام الأمة كلها إلى عرابي مما يجعل حركته حركة قومية عامة لا حركة فردية، ويجعل سلوك عرابي مسلكا إنسانيا فائقا أثناء الحرب.
هذا من ناحية عرابي، أما من ناحية خصومه؛ فقد أعد برودلي الأدلة على سخف التهمة القائلة بإهانة الراية البيضاء وبطلان تهمتي الاشتراك في فتنة الإسكندرية وإحراقها ...
ثم إنه اعتزم أن يقيم الأدلة على عدم شرعية المحكمة العسكرية في تألفيها على هذه الصورة، وعلى ما كان في إجراءات التحقيق من نقص قبل مجيئه هو وزميله، وعلى ما لقي المسجونين من إهانة وتعذيب بقصد إرهابهم قبل استجوابهم وحملهم على غير ما يريدون ...
كذلك أراد برودلي أن يتبين كيف كان توفيق يطعن الإنجليز في رسائل منه إلى الآستانة، حتى إذا اطمأن إليهم ألقى بنفسه في أحضانهم وأدار للسلطان ظهره ...
ولكن قوة الدفاع لا تغني شيئا في جو كذلك الذي كان يحيط به وبزميله منذ مجيئهما؛ فقد عمدت الحكومة المصرية وخاصة رياض، ومن ورائه توفيق، إلى وضع الصعاب في سبيله هو وزميله منذ حضورهما، ولجأت لجنة التحقيق إلى أساليب أقل ما توصف به أنها ملتوية، ومن أمثلة ذلك ما كان من أمر سليمان سامي، ثم خروجها في كثير من الأحوال على الاتفاق الذي وقعه برودلي وزميله بشأن ما يتبع من أصول أثناء التحقيق وفي ساحة المحكمة ...
والواقع أن السماح لعرابي بمحاميين إنجليزيين، قد ألقى الفزع من أول الأمر في نفس الخديو ورجال حكومته؛ فقد يقلب التحقيق فرحهم غما ويكشف عن أمور ظنوا أنهم بانتصار الإنجليز والقضاء على عرابي قد خلصوا منها إلى الأبد، ولذلك لجأوا إلى وسائل الغش والتدليس والإرهاب وإعداد شهود الزور والتجسس على رسائل برودلي وزميله إلى حد فض الكتب، وتلك أمور جعلت عملهما محفوفا بالخطر، وزادهما خوفا أنه لا يبعد أن تغمض الحكومة الإنجليزية عينيها وتدع الخديو يصنع ما يشاء بعرابي وزملائه، ولم تحجم المحكمة العسكرية عن أن تعلن آخر الأمر على الرغم من كل دفاع أنها اقتنعت بإدانتهم ثم تحكم عليهم بالموت وينفذ حكمها في الحال ويسدل الستار على المأساة، وتذهب جهود برودلي وزميله عبثا، وتتنصل إنجلترا بعد ذلك من كل تبعة قائلة: إنها فعلت ما كان في وسعها أن تفعله وهو السماح لعرابي بدفاع حر، ولم يكن في وسعها أن تتدخل في حكم المحكمة العسكرية ...
وكان المتفق عليه من أول الأمر بين بورلي نائبا عن الحكومة المصرية وبين برودلي تجنب الخوض في الأمور السياسية والاكتفاء بالإشارات التي يقتضيها المقام إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقد أرسلت الحكومة الإنجليزية إلى مالت في 13 أكتوبر رغبتها في ألا يسمح بمجادلات أو أدلة تتصل بالدافع أو الأسباب السياسية التي تبرر التهم المعلنة، إلا ما كان منها لإثبات أو نفي تلك التهم».
7
وقبل برودلي ذلك؛ لأنه سمح له بشروط معقولة لإجراء التحقيق والمحاكمة ومن أهمها، أن يسمح للدفاع بدعوة من يشاء من الشهود وأن يناقشهم بحضور المتهمين، بصرف النظر عما إذا كانوا أدوا شهادة قبل ذلك أم لا ...
ولكن حدث بعد ذلك أن الحكومة المصرية - وقد كان أخشى ما تخشاه هذا الشرط - لم تتقيد بما وافقت عليه، وتجلى ذلك في شاهدين وقع عليهما برودلي مصادفة، أما أولهما فهو علي راغب وقد رأى برودلي في الممر المؤدي إلى مقر اللجنة وذلك في 2 نوفمبر فتحدث إليه بالإنجليزية حديثا مقتضبا في حذر وخوف؛ إذ كان يحيط به الجند قائلا: إن اسمه علي راغب وهو الضابط البحري الذي كان يحمل كتب عرابي إلى الآستانة ويحمل كتب الآستانة إليه، وإنه حكم عليه بالنفي إلى السودان 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، ولديه معلومات تفيد قضية عرابي ويرجو أن يؤدي الشهادة عنه، ولكن حينما طلب برودلي استدعاءه بادرت الحكومة بإرساله إلى السودان ليمضي هناك 15 سنة لا 10، وأما ثانيهما فشخص يدعى كارمي كان يقيم في بيروت أثناء الحرب وكان يتمتع بالحماية البريطانية، وقد كان كاتبا لدى أسرة الشمسي، وقد حدث أن أعيد إلى وظيفته مدير الشرقية الذي فصل وقت الحرب، وواتته الفرصة الآن للانتقام من شخصين ظن أنهما عملا على فصله وهما أمين بك الشمسي وأحمد بك أباظة، وكانا من أنصار عرابي، فجيء بهما من سجن القاهرة إلى سجن الزقازيق، حيث ألقيا في حجرة مظلمة والأغلال في أيديهما، وأرغما وهما من علية القوم على كنس السجن وتنظيفه، وتصادف أن جاء كارمي فأرسلته أسرة الشمسي إلى برودلي ليقدمه شاهدا وسرعان ما قبضت الحكومة عليه وقد أخبرها عنه جواسيسها وأخرج من مصر عنوة إلى بيروت ...
وفي 7 نوفمبر استدعت اللجنة برودلي وزميله وسألتهما عما ينويان عمله؟ قال برودلي: «ووجدنا أننا أمام اللجنة كأنما خضعنا لنوع من الاستجواب يقصد منه القضاء على ما أعددناه من إجراءات الدفاع، كم يستغرق استجوابنا الشهود من أيام؟ ومن يوجه الأسئلة عمليا؟ وأي التراجمة يعول على ترجمته؟ وهل يسمح للمتهمين بالكلام؟ وهل لدينا ما يمنع عن إرسال أوراق عرابي إلى اللجنة في الحال؟ ثم أليس المسجونون في إنجلترا يقضى في أمرهم بعد استجواب هين؟ إلى أمثال ذلك من أسئلة وجدنا أنها عقبات تدل على ما تنويه اللجنة ...»
وكان من أكبر الصعوبات كذلك في طريق برودلي وصاحبه أن اللجنة كانت تستدعي شهود الإثبات وتسألهم في غيابهما، وكانت تلجأ إلى ما تستطيع من وسائل التهديد والإغراء لحملهم على ما تريد، وكانت تطلب إليهم أن يقدموا إليها كتابة ما يعرفونه عن الاتهامات، وتوحي إليهم بما يفعلون.
8
وفي 14 نوفمبر منه مكن رياض باشا المستر برودلي من زيارة موكليه في السجن ما عدا عرابي بحجة أن موظفيه من الكتبة ينقلون أنباء من المسجونين إلى ذويهم خارج السجن مما يخشى منه أن يؤدي إلى هياج.
وظل الأفق هكذا مظلما أمام برودلي وصاحبه تتجمع فيه السحب من كل جانب، وكانا يرسلان إلى بلنت هذه الأنباء السيئة وقد طالت إقامتهما بمصر وكثرت نفقات القضية كثرة أوشكت أن تعجزه ...
وفي رسالة من بيمان إلى بلنت في 17 نوفمبر تبين أن السحب قد تمزقت في بعض نواحي الأفق، قال بيمان: «أكتب إليك هذه الكلمة لأبلغك أن الأمور تسير الآن سيرا طيبا، فإن شهادة سليمان سامي التي طرب لها الاتهام ما لبث أن تبين أنها لا تساوي قلامة ظفر؛ إذ إنها لفقت لوقتها وليس فيما مضى من الأقوال ما يؤيدها، وأن السؤال القائم الآن هو: هل يطلق المسجونون بغير محاكمة أم هل تهيأ لهم الفرصة في عدالة ليتكلموا مدافعين عن أنفسهم؟ وإني مقتنع هنا أن الحكومة تبذل كل ما في وسعها للقضاء على إجراءات التحقيق؛ لأن الحقائق التي سوف يبرزها استجواب الشهود سوف تمس كل شخص تقريبا ممن بيدهم السلطة الآن، وسوف تكشف عن أشياء تتصل بالخديو مما لا يحمد، ولهذا السبب الأخير أحسب أن حكومتنا ستحس في نفسها الميل إلى أن تعرض على عرابي بعض شروط خشية أن يظهر التحقيق أن أكبر الآثمين في مصر هو الرجل الذي أحضرنا جيشنا لنصرته، فإني أكاد أجزم شخصيا أن الخديو وعمر لطفي هما مدبرا فتنة الإسكندرية لتكون ضربة لعرابي الذي أعلن فيها مباشرة أنه يضمن الأمن العام».
9
والحق أن بيمان قد تسقط هذ الأنباء مما كان يتحدث به همسا في الحلقات الإنجليزية مثل مجيء دوفرين إلى مصر؛ فقد أوفدته الحكومة الإنجليزية إلى مصر لحل هذه المشكلة فبلغ القاهرة في 16 نوفمبر 1882.
وأقام دوفرين بقصر النزهة يستفسر الإنجليز وغيرهم، وقد لقيه برودلي وصاحبه بقصر النزهة، يقول برودلي: «وفي حجرة من حجرات هذا القصر لقيني اللورد دوفرين وزميلي نابيير في 11 نوفمبر، وهيأ لي في الحال الفرصة ليسمع قضيتي، فقصصت عليه كل ما حدث لنا منذ حضورنا حتى ساعة لقائه، وكان يصغي في صبر وصمت إلى قولي، ولم يتكلم إلا قليلا، شأن السياسي المحنك، واقتنعت أنه آن للزعماء القوميين ألا ييأسوا من العدالة».
وتلقى بلنت برقية من برودلي في 18 نوفمبر هذا نصها: «أعتقد أنه من الممكن الوصول إلى تسوية طيبة ... لا تهاجم إدارة الشؤون الخارجية ... الحرص على السر أمر جوهري».
ولكن السحب ما لبثت أن تقاربت لتتجمع ثانية على الأفق حيث يتبين ذلك في الرسائل الآتية:
في 20 نوفمبر أبرق برودلي يقول: «لندن تشاور دوفرين ... ضعف ميل الحكومة المصرية إلى عقد تسوية؛ وذلك لظنها أن الرأي العام في إنجلترا قد تغير بسبب أقوال سليمان سامي».
وفي 21 نوفمبر، أبرق يقول: «أزمة خطيرة ماثلة، يؤكد أصدقاء الحكومة المصرية تصميمها على شنق عرابي لا تغادر لندن».
وفي اليوم نفسه أرسل برقية أخرى يقول فيها: «لا يعبر أي كلام في استطاعتي عن مسلك الحكومة المصرية الشائن، إنها تضرب باتفاقنا وإياها على إجراءات التحقيق عرض الحائط ... إنها لا تبالي بشيء طالما أنها تعالج المسألة دبلوماسيا لشنق عرابي».
وأبرق نابيير أيضا في اليوم نفسه يشكو من الحكومة المصرية، ويشير إلى ما يرجى من معاونة دوفرين، ولكن الوزارة المصرية ماضية في سبيلها بسرعة نحو غايتها ...
وعاد إلى برودلي شيء من التفاؤل بعد بضعة أيام، فأبرق إلى بلنت في 27 يقول: «ألقيت بالبريد ما يشرح لك الموقف شرحا كاملا، لدي ما يجعلني أعتقد أنه لو وافق عرابي ومحمود سامي وطلبة موافقة صورية على تهمة العصيان - أعني الاستمرار في الحرب على الرغم من أوامر الخديو - فإن الحكومة المصرية توافق على نفيهم أو اعتقالهم في رأس الرجاء الصالح أو في أي جهة أخرى».
ورد بلنت في 28 يقول: «لا أقبل الشروط المقترحة ورأس الرجاء الصالح بوجه خاص، سأشاور أحد أصدقائي الليلة بشأن النفقات، موقفنا من الوجهة السياسية في منتهى القوة، سيصلك الرأي القاطع بعد».
وكان برودلي قد شرح الموقف في كتابه الذي أرسله بالبريد قائلا: «إنه لم يبق صعوبة في القضية إلا حادث حريق الإسكندرية فإنه وإن كان عرابي بريئا من حرقها إلا أن في مسلكه أمورا تجعل للاتهام سبيلا للجدل والكلام، ومن ذلك أنه لم يبذل أية محاولة لوقف النار والنهب، كما أن صلته بسليمان سامي استمرت بعد ذلك، ولم يعاقب المسؤولين، فضلا عن وجود أوراق فيها شراء كميات كبيرة من النفط، هذا إلى ما ظهر من الجند من الميل إلى ازدياد الحريق بدلا من إطفائه ...
واقترح برودلي أن تقبل التسوية وإلا فأمامهم محاكمة طويلة لا يؤمن معها تقلبات الرأي العام ، على أنه على استعداد لخوض غمار المعركة في قوة حتى نهايتها ...
وكتب نابيير كذلك إلى بلنت في 27 نوفمبر يقترح قبول التسوية، وإن كان على استعداد هو وزميله للمرافعة قائلين: إنهما قادران على أن يجعلا تهمة حريق الإسكندرية هباء، وأن يجعلا من مذبحة 11 يونيو مسألة حامية بينهم وبين خصومهم ...
وفي 28 أبرقا معا إلى بلنت يقولان: «قابلنا دوفرين طويلا، نرجو منك أن ترسل إلينا مستشاريك لتحصل على أحسن شروط ممكنة، الإبطاء يقضي علينا، اعتمد على حكمنا، لا جدوى من انتظار المعونة من إدارة الشؤون الخارجية، يميل دوفرين إلى أن يزيد تعليماته لصالحنا، يحكم دوفرين الحكومة المصرية، الدفاع عن مسألة حريق الإسكندرية يحيط به شيء من الشك، خدمات دوفرين الطيبة ضرورية جدا، أبرق لنا بتعليماتك، سنقابل دوفرين غدا في الساعة العاشرة».
وأبرق نابيير إلى بلنت في اليوم نفسه: «أقول لك بشرفي: إني موافق على البرقية السالفة، الأمر يستدعي أشد الاستدعاء أن ترسل تعليماتك، ليس ثمة أي مصلحة شخصية فيما طلبنا».
وذكر برودلي في كتابه أنه منذ 27 نوفمبر رغبت جميع الجهات في تسوية للموقف، فالحكومة الإنجليزية التي أعلنت من قبل عصيان الجند، والتي سمت الحركة كلها ثورة عسكرية والتي أرسلت حملة لقمعها أنفقت فيها ملايين الجنيهات لا يمكنها أن تطلق عرابي بعد هذا بلا قيد ولا شرط، ولن يوافق جلادستون على قرار مؤداه أن عرابي قد سقطت عنه تهمة العصيان بعد كل هذا، ولكن الحكومة الإنجليزية من ناحية أخرى لم تعد تقوى على إصدار حكم بالموت على عرابي، وإن كانت لا تعترض على الحكومة المصرية إذا ألقته في السجن إلى أي وقت تشاء.
وكانت تركيا تريد أن تنتهي هذه المسألة على أي وجه إلا الكابوس الذي يزعجها وهو محاكمة عرابي، ويعتقد برودلي أنها استعانت بألمانيا لتتوسط لدى دوننج ستريت لمنع ذكر ما من شأنه أن يمس السلطان من فضائح في القاهرة ...
ورأت حتى الحكومة المصرية - ما عدا رياض - أن تتجه هذا الاتجاه وذلك بعد أن عجز سليمان سامي عن إقامة الدليل على عرابي، وبعد أن أبلغ شريف باشا بأن الحكومة الإنجليزية لا تستطيع أن تصدر حكما بالموت على عرابي، وأصبح هم الخديو أن يخرج العصاة من مصر جملة حد تعبيره
10 ...
وفي 28 نوفمبر أبرق بلنت إلى برودلي يقول: «لا أقر شيئا أقل من نفي شريف: عدن، مالطة، قبرص في حدود هذا، أترك الأمر لحكمتك».
واتفق على أن تكون التسوية كما يأتي: تستبعد جميع التهم عن عرابي ما عدا تهمة عصيان أمر الخديو، ويقدم إلى المحاكمة متهما بهذه التهمة الأخيرة بها، وتصدر المحكمة حكمها عليه بالموت، ولكن مرسوما خديويا بتعديل الحكم يتلى في قاعة الجلسة ويقضى بنفيه من مصر، ويصدر بعد ذلك قرار بتجريده من لقبه وممتلكاته ما عدا ممتلكات زوجته، ثم يقسم عرابي بشرفه أن يذهب إلى الجهة التي تحدد له وألا يبرحها إلا إذا سمح له بذلك ...
وقد كان هذا الاتفاق من وضع اللورد دوفرين، ويقول برودلي: إن الحكومة المصرية قبلته على الرغم منها، وقد غضب رياض غضبا شديدا؛ إذ كان يصر على موت عرابي، وسوف يستقيل عقب تنفيذه وإن لم يذكر سبب استقالته ...
وأوعز رجال السراي إلى مراسلي الصحف الفرنسية فأثاروا حملة شديدة على الإنجليز وعلى عرابي، حتى لقد أبرقوا إلى صحفهم بأن هناك اتفاقا سابقا بين الحكومة الإنجليزية وعرابي ...
وينتقد برودلي مسلك الحكومة المصرية انتقادا شديدا ويقول: إنها بدل أن تظهر شيئا من الصفح والتسامح يبعد عنها الشبهات قد أدت بما فعلت إلى إظهار نفسها بمظهر المغلوبة على أمرها ... الأمر الذي لا يليق بكرامة أية حكومة، ولكن الخديو هو الذي كان يدير ذلك كله من وراء ستار.
ولم يكن عرابي حتى 29 نوفمبر يعلم شيئا من هذا كله، فلما ذهب إليه برودلي في صباح ذلك اليوم ومعه ترجمانه المستر سانتلا، قص عليه القصص وقال: لا تخف ... نجوت من القوم الظالمين ...
وفكر عرابي قليلا، وقد أخذته الدهشة، ثم قال: «أعترف بصراحة أني كنت أفضل المحاكمة لأسمع أوربا كلها قضيتي، وألقى من اتهموني وجها لوجه في ساحة المحكمة» وتساءل عرابي: «أليس يرجى أن يفضي ما عسى أن يلقى من ضوء على المسائل المصرية في المحكمة إلى تحقيق الإصلاحات التي عجزت الحرب عن تحقيقها؟»
وذكر له مستر برودلي ما يتعرض له من الخطر من جانب محكمة كهذه؟ فتدبر، ثم قال: «إذا قبلت ما تتحدث عنه من شروط، فماذا عسى أن يكون مصير إخواني؟» وأبلغه محاميه أنهم سيعاملون مثل معاملته ...
وأطرق عرابي لحظة، ثم صاح قائلا: «كيف أقول: إني عاص؟! ألم أفعل ما أمر به السلطان والخديو؟! وإذا كان الخديو قد انحاز إلى الإنجليز فهل أسمى أنا عاصيا؛ لأنى أطعت إرادة الأمة المصرية؟!»
وحار برودلي لحظة ماذا يقول، ثم أجاب بقوله: «إن الحكومة الإنجليزية لا يمكنها أن تتراجع عما أعلنته ولذلك قضت الضرورة بهذا الحل».
ولكن عرابي سأله: «وهل عاملت الحكومة الإنجليزية عدوا غلب على أمره من أعدائها مثل هذه المعاملة من قبل؟!»
وكان اللورد راندلف تشرشل قد سأل جلادستون هذا السؤال في البرلمان الإنجليزي قبل ذلك بثلاثة أسابيع ورد جلادستون بأن حال نابليون بعد فترة المائة يوم هي أشبه شيء بحال عرابي اليوم.
وذكر برودلي ذلك لعرابي، فقال عرابي: وأين أنا من نابليون حتى أعامل بما عومل به؟ فذكره برودلي بأن الذي عقد هذه المقارنة هو خصمه الذي يقرر مصيره.
ونهض البطل السجين وأخذ يمشي في غرفته جيئة وذهابا وعلى وجهه علامات التفكير العميق، وظل على هذه الحال زمنا ليس بالقصير، ثم توجه إلى محاميه قائلا: «عندما جئت إلى هنا أول مرة ائتمنتك على حياتي وشرفي، وإني أفعل الآن ما فعلته حينذاك، ولذلك فإني مستعد أن أقبل نصحك، فأما ما يتصل بالألقاب فلست أعبأ بأن أفقدها؛ لأني ما سعيت إليها، وأما الممتلكات فليس عندي إلا ما خلفه لي أبي وهو لا يكاد يطعمنا الخبز، إني لست أنتظر أن تغير إنجلترا ما عقدت عليه العزم الآن، ولكني على يقين أنها سوف تفعل ذلك في المستقبل وسأكتب لك كتابا يتيح لك من السلطة ما توافق به على ما تراه عادلا مشرفا من الشروط، ولكني أرجو منك أن تكون شهيدا على أني أفعل ذلك؛ ابتغاء إنقاذ إخواني أكثر مما أفعله من أجل شخصي».
11
وكتب عرابي هذا الكتاب، وذكر فيه أنه يدع للمستر برودلي أن يفعل ما يراه لصالحه «مع تذكر قضايا إخواني السياسيين وغيرهم من المواطنين المسجونين» وأنه يثق أن ذلك سوف يكون كما يشاكل شرف إنجلترا «حيث إننا أبرياء جميعا من التهم الوحشية الموجهة إلينا».
هذا موقف عرابي المؤمن بعدالة قضيته، والذي ظن أن خصومه في مصر يريدون وجه الحق وما كانوا يريدون إلا رأسه بأي ثمن وعلى أية صورة، ولو أتيحت له محاكمة عادلة على أيدي قضاة عادلين لكانت البراءة الناصعة عاقبته في غير مشقة، فليقبل حكم الظروف وقد حرم حكم القضاء ...
كان على برودلي بعد ذلك أن يعد تمثيل المهزلة مع المسؤولين، وكان برودلي قد استقال؛ لأنه «لا يستطيع الاشتراك في مهزلة سياسية كهذه» كما قال، ويذكر برودلي أن الخديو هو الذي أوعز إليه بهذا ففعله؛ مشايعة لبقية بني جنسه الفرنسيين، ولذلك كان على برودلي أن يتصل بتجران باشا الذي حل محله وقد بذل تجران أقصى ما في وسعه ليكتم غضبه من اضطلاعه بهذا العمل.
وكان على ممثلي المهزلة أن يبحثوا في القانون العثماني عن مادة تنطبق على مثل هذا العصيان، فوجدوا مأربهم في المادة 96 من القانون العسكري، والمادة 59 من قانون العقوبات ...
وكتبت لجنة التحقيق إلى المحامين تبلغهما أنها رأت تقديم عرابي إلى المحكمة العسكرية بمقتضى هاتين المادتين وتسألهما إن كان لديهما اعتراض على هذا ...
ورد برودلي وصاحبه أنهما لا يعترضان، وعلى ذلك أرسل إسماعيل أيوب باشا عضو المجمع الشعبي العام وضيف عرابي في كفر الدوار
12
إلى رؤوف باشا عضو ذلك المجلس العام أيضا
12
يقول: إنه بعد استجواب عرابي باشا اقتنع بتقديمه إلى المحكمة العسكرية وفقا للمادتين المشار إليهما.
على هذه الصورة فرغ من إعداد المهزلة في 2 ديسمبر واتفق على أن يكون تمثيلها في اليوم الذي يليه ... •••
كانت قاعة مجلس النواب المصري
13
قد أعدت من أول الأمر لانعقاد جلسات المحكمة العسكرية، ووضعت فيها المقاعد لجمهور كبير يشهد الحكم على عرابي بالموت ومما يذكره المستر برودلي وقد شهد القاعة عقب مجيئه إلى مصر أنه لم يكن فيها مكان للدفاع ...
وشاءت الأقدار لهذه القاعة التي كانت مجالا لنواب الأمة والتي كان فيها منبر حريتهم، والتي هي الآن مقر مجلس شيوخها الموقر، ألا يشهد حكما كهذا على زعيم الحركة القومية في مصر أحمد عرابي باشا.
وكان تمثيل المهزلة في مكان غير هذا الحرم الشعبي الجليل؛ فقد اختيرت قاعة من قاعات مبنى الدائرة السنية حيث كان المسجونون، وحيث كان مقر لجنة التحقيق ...
وفي صباح 3 ديسمبر سنة 1882 بدأ تمثيل المهزلة، فتأهب رؤوف باشا رئيس المحكمة العسكرية بملابسه الرسمية ووسامه المجيدي الأكبر، وتأهب بقية القضاة بأوسمتهم وملابسهم الرسمية كذلك في حجرة مجاورة.
ودخل قاعة الجلسة بعض الإنجليز من العسكريين، والمدنيين، وبعض الأوربيين وعدد صغير من الأوربيات وفريق من مراسلي الصحف الأجنبية، كالتيمس، وستاندارد، والديلي نيوز، والديلي تلغراف، والنيويورك هرالد، والجرافيك، والألستراسيون وغيرها، ولم يكن شهود الجلسة أو الملهاة يزيدون في مجموعهم عن أربعين.
قال برودلي: «... ودنا مني إسماعيل أيوب باشا وفي يده ورقة وقال: إنه يأمل ألا أعترض على قراءته من أجل بعض المظاهر فقط، عبارة من وضعه، فأجبته في غير التواء: إن له أن يفعل ما يقضي به رأيه، ولكن إذا استعملت أية رقعة غير الرقعتين اللتين اتفق عليهما فسيعلن عرابي أنه غير مذنب ... فتنهد تنهيدة طويلة في هدوء ودس رقعته تحت المنشفة ولم يعرف عنها شيء بعد» ...
أما الرقعتان المتفق عليهما ففي إحداهما عبارة قصيرة وقع عليها عرابي هي «إني بإرادتي وعملا بنصيحة محامي أقر ما يتلى علي الآن من اتهام» وفي الثانية يتعهد كجندي أن يبقى في المكان الذي تحدده له الحكومة الإنجليزية وفقا للحكم الذي يتلى عليه ...
وكان مراسلو الصحف المصورة يرسمون القاعة ومن فيها تاركين موضع القضاة في أوراقهم خاليا حتى يحضروا وكذلك موضع المتهم، وقد أعد الذين لم يبلغهم نبأ المهزلة أوراقا كثيرة وأقلاما يحسبون أنهم سيملأونها بالأوصاف والأنباء ...
يقول برودلي: «وفي الساعة الثامنة دخل القضاة التسعة قاعة الجلسة، وجلسوا على كراسيهم ذات الظهور المخملية الحمراء، وجلس السير شارلز ولسن وراء قمطر يواجه هذا المكان، وكانت المنصة المخصصة لممثل الاتهام خالية ...
وبعد دقائق رأيت عرابي من الباب المفتوح يقطع الفناء ومعه نابيير في ردائه التقليدي وعثمان شريف وحارسان شركسيان، ودار عرابي حول مؤخرة القاعة، وبعد أن مر بمقعد طويل كان مخصصا لجلوس نحو 20 شخصا على الأقل، جلس بجواري، واتخذ المستر نابيير كذلك مكانه إلى جانبي، وساد الصمت العميق هنيهة، وكان يبدو على عرابي بعض الاضطراب العصبي أول الأمر ولكنه ما لبث أن تمالك نفسه، وتناول رؤوف باشا ورقة وتلا ما بها وهذا نصها:
أحمد عرابي باشا ... أنت متهم الآن أمامنا بناء على قرار لجنة التحقيق بجريمة عصيان سمو الخديو، مخالفا بذلك المادة 96 من القانون العسكري العثماني والمادة 59 من قانون العقوبات العثماني، فهل أنت مذنب أم غير مذنب؟
وقد نهض عرابي بمجرد أن أخذ رؤوف باشا يتلو هذه العبارة، فلما فرغ منها أجاب عرابي قائلا: «إن محامي سوف يرد عني».
ونهضت وتلوت الترجمة الفرنسية لاعتراف عرابي وأبرزت الأصل العربي وعليه خاتمه وقرأه كاتب كان يجلس على مقربة من الرئيس، ونظر رؤوف باشا إلى عرابي متسائلا، فأومأ برأسه علامة الموافقة، فأعلن الرئيس تأجيل الجلسة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر ...
وفي الموعد المحدد ازدحمت القاعة بشهود الجلسة وحضر عدد غير قليل من السيدات، وكانت بينهن زوجة نابيير، وكان الطريق أمام الدائرة السنية مزدحما بالناس، وانعقدت المحكمة، فناول رؤوف باشا كاتب الجلسة نص الحكم وأمره بتلاوته، فتلاه ... وبعد فترة قصيرة من السكون ناوله ورقة أخرى واتجه إلى عرابي قائلا: «أحمد عرابي ... ستسمع المرسوم الصادر من سمو الخديو، وتلا المرسوم المذكور» ...
وكان الحكم يقضي بالموت على عرابي، والمرسوم يستبدل به النفي المؤبد، وانفضت الجلسة بعد عشر دقائق وأسدل الستار على المهزلة ...
وتقدم المهنئون إلى عرابي، وتزاحم عليه مراسلو الصحف مصافحين إياه في حماسة ، وقدمت له بعض السيدات الأوربيات باقات من الزهور فتقبلها شاكرا.
ويذكر مستر برودلي أن زوجة زميله المستر نابيير كان أمامها باقة من الزهور صغيرة كانت أعدتها لترسلها إلى عرابي بعد المحاكمة، فأخذها أحد الجالسين من غير شعور ووضعها في يد عرابي، ولقد أثار هذا كثيرا من اللغط وخاصة من جانب أعوان الخديو؛ إذ عجبوا أن تفعل ذلك سيدة على مرأى من الناس، ولكن هذا اللغط ما لبث أن ذهب بظهور حقيقة ما حدث.
وأعيد عرابي إلى السجن ليبقى فيه ريثما ينفذ الحكم.
إلى المنفى
كان أول شيء فعله عرابي بعد عودته إلى سجنه أن صلى لله وأطال سجوده؛ شكرا له سبحانه، ولما خرج من الصلاة وجد محامييه في الحجرة فوجه إليهما بعد الله شكره، وأعادا عليه تهنئتهما، وخرجا بعد حديث جرى بينهما وبينه، وتركاه ليكتب لصديقه مستر بلنت الذي أبلى في سبيل إنقاذه ما أبلى.
وذكر برودلي أنه علم علم اليقين أن الوطنيين من أهل القاهرة قد باتوا ليلتهم في فرح عظيم وإن لم تخرج مظاهر الفرح من بين جدران المنازل؛ خوفا من الحكومة والخديو، فوزعت الصدقات والملابس وأطعم الفقراء، وأقيمت الصلوات، وكان فرح الناس منبعثا من أعماق نفوسهم، أو على الأصح مستقرا في أعماقهم.
وزاره برودلي صباح اليوم التالي وأخبره أنه لم يبق لديه مما يشغل باله إلا قلقه على إخوانه المسجونين، ورغبته أن يبين لأهل أوربا حقيقة اعترافه الشكلي بعصيانه أمر الخديو ...
وطاب عرابي نفسا بما ذكره له برودلي من أنه يأخذ على عاتقه قضية إخوانه، وأنه لن يألو جهدا في العمل على إنقاذهم ...
وكتب عرابي إلى جريدة التيمس كتابا تاريخيا طويلا قال فيه - بعد أن أثنى أعظم الثناء على محامييه: إنه اتبع ما أشارا به عليه وذكر «أن الوزراء الإنجليز قد أعلنوا قبل ذلك أكثر من مرة أني ثائر ولست أتوقع أن يغيروا رأيهم فجأة» وأشار إلى براءته من تهمتي المذبحة والحريق، وقال: «إنه يغادر مصر مرتاح الضمير وملء نفسه الثقة في المستقبل؛ لأنه يعتقد أن إنجلترا لن تستطيع أن تعوق الإصلاحات التي حارب في سبيلها، وعما قريب ستلغى الرقابة الإنجليزية الفرنسية، وتتخلص مصر من قبضة الموظفين الأجانب الذين يشغلون كل منصب دون المصريين، وستطهر محاكمنا الوطنية من العيوب، وستوحد القوانين ويكون لها سلطة، وسيكون للأمة مجلس نواب ذو رأي مسموع وله حق التدخل في شؤون الشعب المصري، وسيطرد المرابون من القرى، وعندما يرى الشعب الإنجليزي تحقيق هذا كله يستطيع أن يتبين أن عصياني كان له مسوغ عظيم.
إني ابن فلاح مصري وقد بذلك جهد طاقتي في سبيل الحصول على هذه الإصلاحات لوطني العزيز الذي أنتمي إليه والذي أحبه أشد الحب، ولكن سوء حظي حال بيني وبين ما أردت ... وإذا لم تقف إنجلترا في وجه هذه الإصلاحات وسلمت مصر للمصريين كما تقتضيها ذمتها وشرفها فيومئذ يتبين للعالم كله حقيقة مساعي عرابي العاصي وحقيقة أغراضه».
وأثنى عرابي أعظم الثناء على مستر بلنت «الذي لم يدخر جهدا ولا مالا ليعينني في ساعة محنتي وحاجتي، في حين تخلى عني جميع أصدقائي المصريين الذين كانوا يلازمونني في أيام اليسر».
واختتم رسالته بقوله: «إني أغادر مصر مقتنعا كل الاقتناع أنه كلما مرت الأيام اتضح للعالم عدالة قضيتنا شيئا فشيئا، وسوف لا تندم إنجلترا على ما أظهرت من إنسانية وتسامح إزاء رجل حاربها وحاربته».
وبعد أربعة أيام من صدور الحكم على عرابي قدم إلى المحكمة العسكرية كل من محمود سامي وعلي فهمي، وعبد العال حلمي وطلبة عصمت، وكان مصيرهم مثل مصيره، وكذلك كان مصير محمود فهمي باشا ويعقوب سامي بعد هؤلاء بثلاثة أيام ...
واتفق أخيرا على أن تكون سرنديب منفى عرابي، فذهب إليه برودلي وبيمان يبلغانه بذلك في 8 ديسمبر فارتاح عرابي لذلك المكان، قائلا: «إني أخرج من مصر بستان الدنيا؛ لأذهب إلى سرنديب جنة آدم»، وأخذ يحدث بلنت عما يذكره التاريخ القديم عن قصة هبوط آدم وكيف أنه حل بهذه الجزيرة فصارت تعرف بجنة آدم كما ذهبت حواء إلى الحجاز فصار يعرف بجنة حواء ... واستبشر عرابي وشاع في نفسه السرور ...
ويذكر برودلي أن اللورد شارلز برسفورد كان يجمع المعلومات عن أسباب الحرب أثناء إقامته بالقاهرة فأحب أن يعرف ما يقول عرابي ، وحمل نابيير إلى عرابي هذه الرغبة فكتب له تاريخا موجزا للأيام السابقة لضرب الإسكندرية، ثم وصف كيف قررت الحرب وكيف بدأت.
وكان عرابي شديد التطلع إلى معرفة ما تكتبه عنه الصحف الأوربية، وقد آلمه تغير الصحف العربية، وتنكرها له ولحركته، وترجم له التراجمة أقوال بعض الصحف الأجنبية كجريدة التيمس وستاندار والديلي نيوز، فسري عنه كثيرا، وكان ذلك من أسباب كتابته لجريدة التيمس.
وكتبت جريدة «تروث» الإنجليزية
1
تمتدح عرابي وتثني على الحركة القومية في مصر، فسر عرابي لهذا سرورا عظيما وأعجبه اسمها وترجمته بالعربية «الحق» وقال: إنه يريد أن يعبر عن الحق في جريدة «الحق»، فكتب إلى محررها المستر لابوشير رسالة افتتحها بقوله: «أرجو أن تسمح لي بأن أقدم إليك أصدق شكري على ما أعلنته دائما من الحق فيما يتصل بي وبإخواني في أيام محنتهم، وإني مقتنع كل الاقتناع ببراءة مقاصدك وأنك أردت دائما أن تظفر بما يتفق مع الحق من عدالة، وليس من شك في أن أولي العدل من الرجال الذين يجودون بالعون لمن لحقهم سوء الحظ، في ساعة حزنهم.
وبعد، فإنه لما كان لا يعنيني شيء أكثر مما يعنيني رخاء وطني وتقدمه وسعادة أهله، وذلك على الرغم من أني أغادره الآن إلى الأبد، فإني أحب أن أذكر لك بعض الأمور الجوهرية التي لو روعيت جلبت الخير الكثير لوطني وأفادت أهله فائدة عظيمة، وأحسب أنه لن يبلغك هذه الأمور في غير هوى مثل رجل مجرب فقد كل ما يملك في سبيل حب وطنه».
ومضى عرابي يذكر ما يرجوه من أوجه الإصلاح معقبا على كل وجه بما يفسره، فأشار إلى ضرورة وجود مجلس نواب تام السلطة على أساس انتخاب حر، كما هو الحال في الأمم المتمدنة، يسأل أمامه الوزراء وينعقد لمدة محدودة لا تنقص عن خمس سنوات، وإلى ضرورة المساواة بين المصريين في المعاملة وفي الضرائب، وإلغاء السخرة، بحيث يكافأ الناس على ما يؤدون من أعمال؛ لأن حياة الفقير تتوقف على عمله اليومي، وإلغاء الربا في القرى، ووضع قانون عادل يطبق في المحاكم ولا يعتدي عليه أحد، وأن تكون وظائف الدولة للوطنيين جميعا على أساس الكفاءة والاستعداد، ولا بأس من أن يستخدم بعض الأجانب مع مراعاة الحالة الاقتصادية.
واختتم رسالته بقوله: «وإذا وافقت إنجلترا على اقتراحاتي هذه فلست أبالي بالنفي أو بأي شيء آخر يخبئه لي القدر».
2
وما زال يسعى برودلي حتى رفعت الحواجز الخشبية الغليظة التي كانت تفصل بين الردهات والحجرات، واستطاع المسجونون السبعة أن يلتقوا في 13 ديسمبر، فكان لقاء اهتزت له نفوسهم، عناق وضغط على الأيدي ودموع في المآقي، وأصبحت حجرة عرابي ملتقاهم كل يوم؛ حيث كانوا يجتمعون أمامه وينظرون إليه جميعا كما كانوا يفعلون من قبل نظرتهم إلى كبيرهم وزعيمهم، وكانوا لا يبرمون أمرا إلا برأيه ولا يتناقشون في شيء إلا في مجلسه ...
وامتلأت الحجرات بالزائرين والزائرات من الأقارب القاهريين والقرويين، وكان أقارب المسجونين جميعا يذهبون إلى حجرة عرابي فيلثمون يده ويحظون بالجلوس ساعة بين يده وأعينهم لا تتحول عن وجهه ...
وأحضر الخدم ما يلزم من متاع في المنفى، من سرر وكلل وستائر وبسط وآنية وغير ذلك، حتى امتلأت به الحجرات ...
وطلب إليهم صديقهم المستر برودلي أن يعد كل منهم قائمة بأسماء من يريد أن يرافقوه إلى المنفى ليحمل تلك القوائم إلى وزير الداخلية، وكان حينذاك إسماعيل باشا أيوب الذي حل محل رياض ...
وذهب برودلي فقابل الوزير، وبلغه الوزير أن الحكومة تفكر في أن ترسل بعض المنفيين إلى هنج كنج، فغضب برودلي؛ لأن في ذلك إخلالا بالشروط المتفق عليها، وبعد جدال طويل عدل الوزير عن رأيه، ولكنه أبدى اعتراضا على القوائم وأصر على وجوب إنقاصها، ولم يجد برودلي بدا من أن يعود بها إلى المسجونين لينقصوها، وقد وقع ذلك من نفوسهم وقعا سيئا، ولكنهم نزلوا على حكم الضرورة ...
وفي 14 ديسمبر صدر أمر الخديو بمصادرة أملاك الزعماء السبعة وأموالهم، وحرمانهم حق امتلاك أي عقار في الدولة المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع أو بأي طريقة ما، مع صرف معاش سنوي لكل منهم بما يكفي معيشتهم ...
وما إن صدر هذا القرار حتى سلكت الحكومة مسلكا حقيرا؛ إذ أسرعت بإرسال جند اقتحموا منازل الزعماء في غلظة ولم يراعوا حرمة شيء، وكانوا يقلبون الأمتعة رأسا على عقب، ولا يسمحون بدخول أحد أو خروجه إلا بعد تفتيشه، ولقد بلغت الغلظة والوقاحة أن كانوا يقتحمون على السيدات خدورهن، وكانت السيدات في تلك الأيام لا يرين الرجال إلا والنقاب على وجوههن، وللقارئ أن يتصور مبلغ ما نالهن من ألم وفزع ...
ولقد شكا الزعماء إلى برودلي مما حل بزوجاتهم، وبيوتهم، وذهب برودلي فقابل إسماعيل أيوب فتظاهر بأنه لا يعلم شيئا عن هذا، وأحاله إلى رئيس الشرطة أو الحكمدار، وهو حينذاك عثمان باشا غالب ...
ويقول برودلي: إن غالبا باشا ظل ساعة يتحدث في غير ما جاء من أجله، ثم أشار إلى قمطر في حجرته، وقال: إنه ملئ بصور عرابي الفوتوغرافية، وإنه حطم في محال بعض المصورين زجاجات لصورة عرابي وصادر آلافا مطبوعة منها، وقال: إنه لا يعرف وقد فشل عرابي ماذا يريد الناس منه بعد ذلك؟
وبعد إلحاح برودلي وعد غالب ألا يدخل الجند بيوت الزعماء، وألا يفتشوا الداخلين والخارجين على هذه الصورة المهينة، ولكنه لم ينفذ ما وعد به ...
ويذكر برودلي أن زوجة نابيير أرسلت إلى زوجها كتابا من منزل علي فهمي تبلغه بأن الجند اقتحموه، وروعوا السيدات واقتحموا الحجرات، وطلبت من زوجها أن يأتي إليها؛ لأنها تخشى أن يمنعها الحرس من الخروج.
وذهب برودلي ونابيير إلى هناك، وتصادف أن كان الخديو في طريقه من عابدين إلى قصر الإسماعيلية وكان مارا بمنزل علي فهمي، فما راعه إلا سيدة حاسرة الرأس تعترض عربته فتوقفها وتصيح به: «يا توفيق حاربت الرجال، أم يكفك هذا حتى تحارب النساء؟! إنك تراني الآن بغير نقاب وفي وضع ينال من شرفي، ولكن عار ذلك يلحقك كما يلحقني» وتقدم بعض من شهدوا المنظر، فقادوا هذه السيدة في رفق إلى منزلها وهي زوجة علي باشا فهمي، ولم يعد الخديو يسلك بعد هذا الطريق ... وشكت السيدة ألمها إلى برودلي وصاحبه من وراء ستار بكلمات تتخللها إجهاشات مؤلمة ...
ولم تكف الحكومة عن هذا الطغيان إلا بعد أن تدخل دوفرين في الأمر، فلم يجد برودلي مناصا من الشكوى إليه ...
وحدث أن أبدت الحكومة تعنتا في أمر جديد؛ وذلك أن السفينة لا تتسع للزعماء جميعا ومن معهم، وعلى ذلك فلن يسافروا معا، وكتب اثنان منهم رسالة وقعا عليها ليرسلاها إلى الحكومة وقد دعيا فيها للخديو بالتوفيق، وما إن رآها عرابي حتى صاح بيعقوب سامي غاضبا أشد الغضب: «هل وقعت على هذه الرسالة؟ إني أؤثر أن أمزق إربا قبل أن أفعل شيئا كهذا، لقد قلت وما زلت أقول: إن توفيقا لم يكن يصلح ليحكمنا فكيف أكذب اليوم وأدعو له؟ إننا على أية حال لم نبلغ هذا القدر من السقوط».
وفي 24 ديسمبر، نشرت «الوقائع المصرية» أمرا خديويا آخر بتجريد الزعماء السبعة من جميع الرتب والألقاب وعلامات الشرف التي كانوا حائزين لها، ومحو أسمائهم من سجلات ضباط الجيش المصري إلى الأبد.
وفي 25 ديسمبر، وهو يوم عيد الميلاد، زار برودلي عرابي وأصحابه في سجنهم، وهنأه عرابي وزملاؤه بالعيد، ولم يجد عرابي لديه ما يقدمه له هدية وذكرى غير مسبحته وبساطه، وتقبلهما برودلي شاكرا وتبادل وعرابي وأصحابه الصور، وقد أعربوا له جميعا عن خالص مودتهم وعظيم شكرهم له ولزميله وللمستر بلنت.
وأبت الحكومة إلا أن تمضي في تعسفها وتتمادى فيه قبل سفر الزعماء؛ إذ تلت عليهم قرار تجريدهم من رتبهم وألقابهم على مرأى ومسمع من الجند والناس ...
أحضرت عربتان إلى باب الدائرة السنية، وأمر المسجونون فجأة، بعد الساعة الثانية بقليل، أن ينزلوا في غير إبطاء، ولم يبلغهم أحد عما يراد بهم، ولكن هذا العمل لا يختلف عن معاملة المجرمين العاديين ...
ونزل الزعماء وهم يخشون أن يكون في الأمر غدر جديد فأمروا بالدخول في العربتين، وسارتا بهم في حراسة بعض الضباط إلى قصر النيل، حيث اصطف بعض الجند على هيئة مربع، واجتمع في إحدى الشرفات عدد من عساكر الإنجليز وضباطهم يشاهدون ويصفقون، ووضع الزعماء وسط المربع، وأخذ أحد الضباط يتلو عليهم قرار الخديو ، ولما فرغ من تلاوته صاح الجند: «يعيش سمو الخديو»، وسئل الزعماء عن سيوفهم، وشاراتهم أين هي؟ وهو سؤال سمج،؛ لأنهم بملابسهم المدنية وليس معهم شيء، ثم أعيدوا إلى العربتين فسارتا بهم إلى مقرهم في السجن ونفوسهم مليئة بالسخط على هذه الأفعال الحقيرة ...
وكان قد اجتمع عدد من الناس خارج قصر النيل، فنظروا إلى عرابي وصحبه في حسرة وألم، ولم يستطع إلا واحد أن يهتف: «حماكم الله» ثم اندس في الجموع، وكان يشهد الحادث خادم مصري كان قد استأجره المستر برودلي منذ أن جاء إلى مصر ويدعى حسن، وكان شديد الميل لعرابي وقد زاد تأثره وهو يقص على برودلي ما رأى، وعقب على غياب السيوف والشارات التي كانت تكسر وتنتزع لو أنها وجدت، بقوله: «الله أكبر! حتى الخديو لم يستطع أن ينال من عرابي».
وذهب برودلي ونابيير إلى السجن، وأخذا يهدآن خواطر الزعماء بالكلمات الطيبة، ويقول برودلي: إنه تنفس الصعداء؛ إذ علم أن السفينة ماريوتس
3
دخلت قناة السويس فعلا؛ لتكون على أهبة السفر من السويس إلى سيلان في مساء اليوم التالي ...
وبقيت مسألة هامة، فليس مع عرابي ولا أحد من أصحابه مال، وقد بذل برودلي مساعيه حتى صرف لكل منهم ثلاثون جنيها مقدما مما قرر صرفه لهم بسرنديب ...
وقد كتب بيمان بعد ذلك بنحو سنة معقبا على ذلك في إحدى الصحف
4
فكان مما قاله: «إن عرابي الذي كان يستطيع أن يجمع لنفسه مليونا من الجنيهات لم يجد ما يشتري به ملابس له عند سفره، وقد أرسل له بعض أصدقائه حقيبة مليئة بالملابس والقطار على أهبة السفر، وكانت أسرته تعيش وهو في السجن على صدقات يدفعها بعض محبيه سرا وكنت أنا الذي أحملها إليها بيدي ... ولست أكتب هذا بدافع عبادة البطولة، وإنما لأبين لماذا اختار الشعب المصري رجلا نشأ من طبقة الفلاحين وتمسك به؛ لأنه يعرف ما يشكو منه، وكيف يدافع عن حقوقه المكتسبة ، وآثر ذلك على أن يظل خاضعا للسلطان الموروث».
وفي 26 ديسمبر، تأهب عرابي وأصحابه للسفر، وأرسلت إليه بعض فضليات السيدات على يد برودلي كثيرا من الهدايا
5
في حذر؛ خوفا من توفيق، فأرسلت إحداهن حقيبتين إنجليزيتين كبيرتين وأخرى مصحفا فخما وثالثة سجادة للصلاة، ورابعة حقيبة مليئة بالملابس وخامسة سلة جميلة ...
ولندع لبرودلي وصف هذا الرحيل، يقول: «كان المفروض أن يبرح القطار الخاص قصر النيل إلى السويس في الساعة العاشرة على وجه التحديد ... وفي الساعة الأخيرة بلغنا أن الرحلة ستؤجل إلى موعد آخر بسبب رداءة الجو في السويس، ولكنا أخذنا الحيطة فتركنا حسن عند السجن لينظر ماذا يحدث؛ خشية أن نفاجأ مفاجأة آخرى ...
وأقبل حسن قبيل الساعة العاشرة منقطع الأنفاس من شدة الجري فأبلغنا أن الزعماء غادروا لتوهم الدائرة السنية وكان نابيير في شغل بالبحث عن متاعه؛ لأنه كان يتأهب لمرافقتهم حتى السويس، فركبت عربة وأسرعت إلى قصر النيل ...
وكان منظر القصر واضحا في نور القمر الساطع الذي كاد يمحو نور المشاعل التي حملها بعض الحراس المصريين وكان أمام عربات القطار بعض شهود الرحيل وكان بينهم السير شارلز ولسن والمستر ماكنزي ولاس وعثمان باشا غالب ...
وكان القطار عظيم الطول يكاد يمتد من أول الفناء إلى آخره، وكان في مقدمته السيدات ومعهن أطفالهن وفي مؤخرته الخدم والمتاع الثقيل وفرقة من الجند الإنجليز تحت إشراف الميجور فريزر، وبعض الجند والضباط المصريين الذين كلفوا أن يرافقوا المنفيين حتى السويس، وخصصت في وسط القطار عربة من عربات الدرجة الأولى لعرابي وأصحابه، وكانوا قد أخذوا أماكنهم في القطار عندما بلغ قصر النيل ... وبدا عليهم من البشاشة أكثر مما كان يبدو على وجوه فريق مثلهم من الإنجليز لو كانوا في مثل موقفهم، وأسرعت إلى النوافذ لأسمعهم بعض كلمات التوديع، وأعاد عرابي علي كلمات ثنائه وشكره الطيبات ...
وكان الأمر بالرحيل على وشك أن يصدر، ولكن بيمان أعلن أن رجال الشرطة عند منزل عرابي منعوا زوجة ابنه وأختها من مغادرته ... وما الحيلة؟ لقد حانت ساعة الرحيل، ولم يكن ناظر محطة القاهرة يسمح بأي تأخير للقطار وكان الحي الذي يقع فيه بيت عرابي بعيدا وعندئذ قال السير شارلز ولسن لعثمان غالب باشا في لهجة حاسمة: إن القطار لن يبرح مكانه إلا إذا حضرت السيدتان، وأرسل غالب باشا عربته ليجيء بهما ... وأعقب ذلك فترة صمت محير ... وقد جاء بعض الخدم يحيونني، وبحث المستر نابيير عن مكان له ولحقائب عرابي وتقدم بعض الضباط الإنجليز فصافحوا عرابي وجلس إلى جانبه الميجور فريزر، الأمر الذي ارتاح له عرابي ارتياحا ظاهرا ووصلت أخيرا سيدتان تلبسان ملابس بيضاء وسرعان ما توارتا في إحدى العربات بين فريق السيدات، ولم يكد يغلق الباب عليهما حتى صدرت إشارة برحيل القطار، وغاب عرابي وأصحابه وراء جدار قصر النيل ...
هكذا أخرج عرابي ليلا إلى حيث لا يرجو له خصومه عودة، لم يره من الشعب المصري أحد، ولا ودعه من محبيه أحد، وتنفس توفيق وحزبه الصعداء مرة ثانية. •••
ولئن حيل بين عرابي وبين بني قومه وأخرج على هذه الصورة المدبرة، فها نحن أولاء نودعه على صفحات التاريخ بما هو أهل له من الإجلال والاحترام ...
أخرج عرابي من مصر مغلوبا على أمره وأسدل الستار على حركته، ومهما يكن من حقد خصومه عليه ومن محاولاتهم المتصلة النشيطة لتشويه حركته منذ أن ذاع صيته بحادث عابدين، فإن شيئا واحد هو حسبه من المجد والفخر سوف يبقى على الرغم من كيدهم وسوف تزيده الأيام وضوحا ورسوخا، ألا وهو أن عرابي كان الزعيم القومي الأول في مصر، فهو أول فلاح من أعماق القرى هتف بحرية مصر واستخلص لها الدستور وآنف أن يخضع لحكم الفرد، وفرق بين ما هو حركة إسلامية عامة وبين ما أصبح بحق في مصر حركة قومية مصرية قوامها أن يكون أبناء مصر من الفلاحين هم السادة وهم مصدر كل سلطة؛ لأنهم عماد الثروة ودافعو الضرائب، ولأنهم قبل ذلك أهل البلاد وأصحابها الحقيقيين ... وهذه هي الديموقراطية بأحدث معانيها كما يفهمها الناس اليوم ...
كانت حركة عرابي حركة قومية على الرغم من باطل المبطلين، وقد جحد بها كثيرون من خصومه واستيقنتها أنفسهم ولم يستطع حتى كرومر نفسه كما ذكرنا من قبل أن ينكر قومية هذه الحركة وقد جاء في موضع آخر من كتابه قوله: «إن حركة عرابي أكثر من أن تكون مجرد فتنة عسكرية، لقد كان فيها إلى حد ما طبيعة الحركة القومية الحقيقية، ولم تكن هذه الحركة موجهة كلها أو في جوهرها ضد الأوربيين والتدخل الأوربي في الشؤون المصرية ولو أن النفور من الأوربيين والتجني عليهم كانا يسيطران على عقول قواد هذه الحركة، إنما كانت هذه الحركة إلى مدى عظيم موجهة من المصريين ضد الحكم التركي».
6
ولقد بينا في أكثر من موضع في هذا الكتاب كيف التفت الأمة حول عرابي وقد تجلى هذا المظهر بوجه خاص فيما جادت به طوائفها جميعا أثناء القتال، كما تجلى في المجلس العام الذي مثلت فيه طوائف الأمة جميعا حتى الأمراء فكان هذا المجلس بحق مؤتمرا وطنيا عاما يتكلم باسم الأمة ...
وممن كتبوا عن عرابي فأنصفوه وأنصفوا حركته السير ماكنزي ولاس الذي رافق اللورد دوفرين إلى مصر، قال: «لم يظهر من عهد محمد علي أو من قبل ذلك بزمن بعيد رجل في مصر كان له على البلاد من السيطرة مثل ما كان لعرابي، فإنه لم يقتصر أمره على أن الشرطة والجيش كانا رهن إشارته بحيث يستطيع أن يأخذ بالإرهاب كيف يشاء، بل كان يتمتع كذلك بعطف كل الطبقات في مصر تقريبا، ولم يحصل عرابي على نفوذه أو يحافظ عليه بالإرهاب؛ لأنه عند بدء حركته لم يكن لديه أية قوة يضر بها أحدا، ولم يعلم عنه أنه في أثناء قوته ذبح شخصا أو شنقه أو رماه بالرصاص، ولو أنه خاض معركة انتخابية خالية من وسائل الغش، وكان خصمه فيها توفيق، لفاز عليه بأغلبية هائلة من أصوات الناخبين الأحرار».
7
وقال في موضع آخر: «إذا كنا لم نرد أن نقيم نظاما دائما في مصر فلماذا ذهبنا إلى هناك؟ وإذا كنا لم نرم إلى إقامة حكومة صالحة حقا فلماذا قضينا على الحزب القومي الذي كان لديه فرصة لإقامة نظام من أي نوع، كان خيرا ممن يصنع الخديو الذي أعدناه إلى سلطته».
8
وكذلك ممن أنصفوا عرابي اللورد شارلز برسفورد الذي اشترك في ضرب الإسكندرية؛ فقد كتب في جريدة التيمس بتاريخ 8 يناير سنة 1883: «حقا إن من الممكن أن تسمى حركة عرابي حركة قومية؛ فقد نعتها بعض الإنجليز بهذا في شهر مايو سنة 1882 وعندما تحرجت الأمور تحرجا خطيرا، وكان منهم بعض الضباط البحريين من ذوي المكانة والذين حضروا في الأسطول الذي جاء إلى الإسكندرية ... ونحن إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة النظر المصرية لا يخالجنا أدنى شك في أن عرابي كان يحظى بعطف الشعب المصري ... ويستطيع عرابي وأصحابه أن يقولوا: إنهم كانوا يحاربون في سبيل الإصلاح، وإن الدليل الذي يؤيد عدالة قضيتهم هو أن إنجلترا آخذة في تنفيذ إصلاحاتهم بالذات، ويستطيعون كذلك أن يبرهنوا بحقيقة أخرى، هي أنهم لم يأخذوا من الشعب قرشا واحدا إلا ما رأوا أنه ضروري لخير الشعب، الأمر الذي يعد نادرا في الشرق» ...
أما برودلي فيقول عن عرابي: «إني لا أكتفي بأن أقول: إن الأمة كلها كانت في جانب عرابي، بل إني أقرر في غير خوف من نقض آرائي أن عرابي وأصحابه قد أظهروا في أداء رسالتهم أمانة تامة واعتدالا وروحا إنسانية تشرفهم على مدى العصور» ... وقال في موضع آخر: «ليس يخامرني أقل شك في أن عرابي وأصحابه كان لديهم القدرة على أن ينهضوا بحكم أمتهم حكما شعبيا وأن ينفذوا في جدارة كل التغييرات والإصلاحات التي خلفوها لنا بصفتنا ورثتهم وخلفاءهم، لم يكن عرابي من ذوي الأحلام أو من ذوي التحمس، وإنما كان - إذا قيس بالمقياس المصري - رجلا متعلما ذا مقدرة ملما بشؤون وطنه، وما تحتاج إليه بلاده، وهب كثيرا من النشاط وقدرا عظيما من أمانة الغرض» ...
وكان الأمراء والعلماء والأعيان - وهم صفوة الأمة - يحترمون عرابي ويرفعون قدره ... كتب إليه الأمير إبراهيم باشا وهو بكفر الدوار فكان مما خاطبه به قوله: «إلى صاحب السعادة حامي حقوق مصر أحمد عرابي باشا».
9
وأثنى الأمير في كتابه على همته ونخوته وعبر له عن مودته ومحبته ...
وقال الشيخ محمد عبده فيما كتبه للمستر برودلي بعد أن ذكر ما كان بينه وبين عرابي من خلاف في الرأي قبل يوم عابدين: «إن الاجتماعات العامة المتنوعة التي عقدت بعد ذلك مباشرة للحصول على دستور برئاسة سلطان باشا حولت في الحال مقام عرابي من قائد جيش إلى قائد مصر، وحينئذ أصبحت وسلطان باشا والبلاد المصرية قاطبة من أتباع أحمد عرابي».
10
وقال برودلي عن الشيخ محمد عبده: «إنه أمدنا بقدر كبير من المعلومات عن الأيام الأولى للحركة القومية، ووصف وصفا حيا كيف أصبح عرابي بطل مصر الذائع الصيت، وكيف أن آلافا من الآباء المصريين أطلقوا على أبنائهم اسمه وكيف ذهب اسم توفيق من الأرض».
11
وكانت أميرات الأسرة الخديوية - ما عدا زوجة توفيق وأمه - يعطفن على عرابي ويتحمسن لقضيته، ومن بينهن الأميرة أنجه هانم أرملة المرحوم سعيد باشا التي أهدت إلى عرابي خيمة زوجها، وقد كتبت هذه الأميرة إلى المستر برودلي بعد الحكم على عرابي تثني عليه أعظم الثناء وتشكره على صنيعه، وقدمت إليه وإلى زميله هدايا غالية ...
وذكر برودلي حديثا طويلا جرى بينه وبين أميرة لم يذكر اسمها وكان يشير إليها بقوله الأميرة ثم يضع خطا مكان اسمها، ومما قالته هذه الأميرة: «كانت تعطف كل واحدة منا على عرابي سرا؛ لأننا عرفنا أنه يعمل لخير مصر، وقد ظننا في وقت ما أن توفيقا يؤيده، ولكنا لما رأيناه ينوي أن يخون مصر كرهناه أشد الكره، وقد بذل كل ما في وسعه ليشقينا منذ ذلك الوقت، ولقد حدثته الأميرة أنجه - التي نجلها كل الإجلال - ولكن في غير جدوى، وذهب توفيق عقب ذلك إلى الإسكندرية وانضم إلى الإنجليز، ومنذ ذلك الوقت اتجهنا صوب عرابي للدفاع عن الوطن ... وكانت حماستنا له لا تعرف حدا، وكنا نكتب له جميعا الرسائل والبرقيات نهنئه ونشد أزره ... وقد كتبت له الأميرة - خطابا عظيم الحمق - تعرض عليه أن تتزوجه؛ لأنها تراه منقذ مصر».
12
وذكر بلنت في كتابه «أنه رجع إلى يومياته بتاريخ 31 يناير سنة 1887، فوجد فيها أنه زار الأميرة نازلي التي يعد حديثها ممتعا في أي جماعة من جماعات الدنيا، والتي كانت تعطف على عرابي أشد العطف، ومما ذكرته الأميرة قولها: «كان عرابي أول وزير مصري حمل الأجانب على طاعته، وقد رفع المسلمون رؤوسهم في عهده على الأقل، ولم يجرؤ اليونانيون ولا الإيطاليون على الاعتداء على القانون، وقد أخبرت توفيقا بذلك أكثر من مرة، والآن ليس هنا من يحفظ النظام، فإن المصريين وحدهم هم الذين يقعون تحت سلطان الشرطة ويفعل الأوربيون ما يشاؤون».
13
وقد أورد برودلي رأيا لشخص لا يمكن المرء أن ينتظر منه كلمة طيبة عن عرابي، وذلك الشخص هو توفيق نفسه! قال برودلي: «أتيح لي أن أرى توفيقا مرتين، وذلك عندما سمح أن يلقاني في قصره بعابدين ... وبعد أن قدم لي سيجارة بدأ الحديث فأكد لي أن أوربا أخطأت فهم آرائه فيما يتصل بالتحقيقات الأخيرة، فهو لم يرد قط موت المسجونين ولا اعتنق هذه الفكرة، وكان تغيير الحكم عليهم تجربة سارة للتسامح أملتها عليه إرادته ... وحاولت أن أتكلم قليلا عن عرابي فقال الخديو: إنه يرى حتى في هذا الوقت أن عرابي من خيار الرجال، وإنه لم يصدق لحظة قط أن عرابي أراد أن يقتله، ولو أنه كان ينوي شيئا من هذا لاستطاع أن ينفذه في فرص عديدة أتيحت له عندما كان وإياه في القاهرة».
14 ...
هذا جانب مما يقوله المنصفون عن عرابي وحركته من ناحية حياته العامة، أما من الناحية الشخصية فكان من أبرز صفاته - كما رأينا من سيرته - الورع وخشية الله والوفاء والإباء الذي قل أن كان له فيهما نظير بين أقرانه، والإيثار الذي جعله يقدم مصلحة مصر وقضية مصر على مصلحته الشخصية، وقد رأينا كيف خرج من الحرب صفر اليدين كما قال المستر بيمان، كما رأينا أنه لم يكن يخطو خطوة واحدة بدافع الطمع الشخصي، وقد تجلى ذلك في حرصه الشديد - الذي هو من صفات الزعامة الصادقة - على قضية مصر وهو في محنته واهتمامه بأن يرد على كل مطعن يوجه إليها دون أن يعنى قليلا أو كثيرا بما يقال عن شخصه ... •••
أقلعت بعرابي وأصحابه السفينة مريوتس من السويس في الساعة الواحدة بعد ظهر يوم 27 ديسمبر، وهي سفينة إنجليزية حمولتها نحو 1400 طن، وقد استأجرتها الحكومة المصرية لنقل هؤلاء المنفيين ...
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء السبعة المنفيين؛ فقد صدرت في مصر بعد ذلك أحكام أخرى على عدد كبير جدا من المصريين، فصدر الحكم على الروبي باشا والسيد حسن موسى العقاد بالنفي 20 سنة في مصوع، وعلى أحمد عبد الغفار بالنفي 8 سنوات خارج مصر، وعلى الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات قضاها في بيروت ...
وحكم على نحو 35 غير هؤلاء بالنفي مددا تتراوح بين سنة وخمس سنوات، وقضي على طائفة من كبار الأعيان بتجريدهم من الرتب والامتيازات، وأن يقيم كل منهم في بلدة معينة تحت رقابة الحكومة المحلية مع دفع تأمين مالي كبير، وكذلك قضي على عدد من كبار الباشوات بأحكام كهذه وإن خلت من التأمين المالي ...
أما العلماء؛ فقد قضي بتجريد عدد كبير منهم من رتبهم وشارات شرفهم وامتيازاتهم، ومن هؤلاء الشيخ حسن العدوي وابنه الشيخ أحمد العدوي والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي والشيخ أحمد عبد الغني ...
وقضي على عدد كبير من الموظفين والعمد والأعيان بمثل هذا الحكم، كما فصل أكثر من 250 ضابطا من ضباط الجيش وجردوا من رتبهم وامتيازاتهم، وحرموا من مراتب الاستيداع ومعاش التقاعد ...
ومن أكبر مآسي هذه الأحكام ما حكم به على يوسف أفندي أبو دية؛ فقد كان هذا الضابط ياورا لعبد العال قائد دمياط وأرسله في أمر إلى عرابي بكفر الدوار، وتصادف أثناء مروره بطنطا أن شهد فيها تلك الفتنة التي أشرنا إليها بين الأجانب والمصريين، فذهب إلى المدير إبراهيم باشا أدهم فألفاه متمارضا فعبر له عن أسفه وكان في كلامه شيء من اللؤم، ولما أخبر عرابي بذلك بادر عرابي بإصدار أمره بالقبض على أدهم باشا والتحقيق معه ...
ومن المؤلم حقا أن يقبض بعد هزيمة عرابي على هذا الضابط الأمين ثم يتهم بإثارة الفتنة في طنطا ويحكم عليه بالموت، وينفذ عليه الحكم فيشنق وهو بريء ... ومما يزيد في معنى هذه المأساة أن الخديو أصدر عفوا عنه ولكن البرقية المرسلة بهذا العفو لم تصل إلى المختصين إلا بعد أن شنق الشهيد ... وحسبنا هذا الحادث وحده للدلالة على ما كان يسود هذه الفترة التي أعقبت الثورة من إرهاب وبطش ومظالم كثيرة ... •••
وفي 9 يناير سنة 1883 رست السفينة مريوتس بميناء كولومبو بسرنديب ونزل الزعماء السبعة؛ ليعيشوا بالجزيرة ما بقي من أعمارهم كما كان مقررا في حكم النفي.
وإن المرء ليمتلئ ألما وحنقا على هذا الحكم الجائر الذي يقضي بحرمان هؤلاء الأمجاد الميامين من وطنهم الذي أحبوه في غير ذنب إلا هذا الحب ...
ولو أن عرابي قدم إلى محكمة عادلة تريد إحقاق الحق لما كان هناك شك في براءته من جميع ما نسب إليه من تهم؛ فقد رأينا كيف عجزت لجنة التحقيق مع اضطغانها عليه من أن تدينه في تهمتي تدبير فتنة الإسكندرية وإحراقها.
أما العصيان فلم يكن له أي أساس أو شبه أساس كما بينا، وإنما قضت الظروف أن يقر عرابي إقرارا صوريا جانبا منه وهو عصيان أمر الخديو وذلك بالاستمرار في الحرب بعد أن طلب وقفها ...
وما سمعنا أنه في تاريخ المحاكمات في الدنيا كلها تقدم الحاكمون يساومون المتهم على أن يقبل كيت وكيت ثمنا لإعفائه من الموت!
كذلك ما سمعنا أن متهما يتفق معه على ما يحكم به عليه قبل مثلوه أمام القضاء، ولو أن عرابي ضمن أن يكون قضاته ممن يطمئن إلى عدالتهم ما قبل هذا الوضع وهو متأكد من البراءة ...
ومن أبلغ الظلم في هذه المهزلة الهازلة أن يمن على امرئ بريء بأن ينفى بدل أن يموت، كأن من التفضل عليه أن يظلم هذا الظلم الفادح بحرمانه بقية حياته من العيش في وطنه ومن ممتلكاته التي أحلها الله له ومن أهله وعشيرته، وقد كان بنو مصر جميعا أهله وعشيرته ...
ولكن هكذا شاءت سياسة إنجلترا، فإن حملتها جاءت إلى مصر لأسباب بسطناها تتلخص في تحقيق حلمها القديم، ولكنها ادعت أنها جاءت للقضاء على العصاة، ولو برئ هؤلاء العصاة فكيف كانت تبرر إنجلترا مجيئها إلى هذه البلاد؟ ذلك ما جعل دوفرين يقترح ما اقترح، وذلك ما قامت عليه مهزلة المحاكمة وما نتج عنه هذا النفي أو هذا الظلم العظيم ...
الحياة في سرنديب
تبلغ مساحة هذه الجزيرة التي نزل بها عرابي وأصحابه نيفا وخمسة وعشرين ألف ميل مربع، وتكثر بها سلاسل الجبال بالجنوب ويتخللها كثير من السهول الواسعة الخصبة التي تنمو فيها غابات عظيمة وعرة المسالك كثيرة الأحراج والألفاف ... وتبلغ أعلى قمة فيها 8 آلاف قدم، ومن أشهر هذه القمم قمة جبل آدم وتبلغ ما يزيد عن 7 آلاف قدم ...
ومناخ الجزيرة استوائي ولكن إحاطة البحر بها يلطف حرارتها، ومن أشهر مدنها كولومبو وهي عاصمتها وأهم ثغورها، ثم جافنا وكندي وكالوتارا ...
والتربة عظيمة الخصوبة وتكثر فيها أشجار الفاكهة والخضر وجوز الهند، ويزرع فيها الشاي والبن والأرز والقطن والتوابل والطباق، وتعد سيلان من أعظم حقول الشاي في العالم ...
ومن حيواناتها الفيلة والنمور والدببة والجاموس والغزلان، وتكثر فيها أنواع الزواحف وأنماط الطيور.
وقد حل بها البرتغاليون منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي، والهولنديون منذ منتصف القرن السابع عشر، وفي سنة 1785 امتلكها الإنجليز وكانت ملحقة بمدراس، ثم جعلوا منها مستعمرة قائمة بذاتها سنة 1801 ...
ومن سكانها الأصليين قبائل السنهاليز، وأصلهم من الهنود من حوض نهر الكنج وقد حلوا بها منذ القرن السادس قبل الميلاد ولغة هؤلاء أقرب إلى الهندية الحديثة وديانتهم البوذية، ثم قبائل التامل وقد نزحوا إليها من جنوب الهند وديانتهم الهندوكية.
ويقطن الجزيرة عدد من المسلمين من أصل عربي أو من أصل هندي، وهم من أذكى سكانها وأكثرهم نشاطا.
كما أن بها بقايا البرتغاليين والهولنديين وعددا من الأوربيين من مختلف الأجناس وعددا من أهل جاوة والملايو وغيرهم من الآسيويين.
ويقول عرابي في مذكراته المخطوطة: إن تعداد أهلها زمن إقامته بها كان نحو ثلاثة ملايين، منهم 250 ألف مسلم، وأن السنهاليز والتامل أهل دعة وسكون يكرمون الغريب ويحسنون معاملته ... •••
ويتحدث عرابي عن نزوله بالجزيرة قائلا: «وفي غروب يوم 9 يناير سنة 1883 دخلت الباخرة إلى ميناء ثغر كولومبو بجزيرة سيلان، وألقت مرساها، فحضر إلينا وكيل حكومة سيلان، وحيانا تحية القدوم، وأبلغ موريس بك
1
بأن الحكومة أعدت أربعة بيوت لذوي العائلات منا وفيها الخدم وكل ما يلزم من أسباب الراحة كالسرر المفروشة اللازمة للنوم والكراسي وأدوات المطبخ والسفرة والدواليب وغير ذلك، وذخيرة ثلاثة أشهر ضيافة لنا، ولكن على حساب مصر، وثمن تلك الأدوات ثلاثة آلاف جنيه، ثم أمضينا تلك الليلة في الباخرة المذكورة، وفي صباح غرة ربيع الأول سنة 1300 الموافق 10 يناير سنة 1883 خرجنا إلى البر فوجدنا رصيف الميناء مزدحما أيما ازدحام بإخواننا المسلمين من أهل الجزيرة المذكورة وأهل جاوة والهند والملايو وأعيان طائفتي التامل والسنهاليز أهل البلاد من عباد الأوثان على مذهب بوذا وكانوا يشيرون إلينا بالسلام وزيادة الاحترام.
ثم تقدمت لنا العربات فركبنا وتوجهنا إلى البيوت المذكورة، وكان قد خصص لنا بيت عظيم يسمى «ليك هاوس» ومساحة بستانه 14 فدانا، وأعظم أشجاره من جوز الهند والموز وغيره، فتوجهنا إليه والناس مزدحمون على جانبي الطريق من الميناء إلى البيت المذكور يهتفون لنا بالترحيب والإكرام إلى أن وصلنا إلى المنزل المذكور، وأخذنا معنا طلبة باشا عصمت وعبد العال باشا حلمي ليقيما معنا حيث إنهما تركا عائلتيهما بمصر، وكذلك توجه محمود باشا سامي مع محمود باشا فهمي ليقيما في منزل واحد؛ لأن الأول ترك أهله وأولاده بمصر أيضا، وانفرد كل من علي باشا فهمى ويعقوب باشا سامي في بيت على حدته لوجود عائلتيهما معهما.
ولما دخلنا البيوت المعدة لنا أخذت تلك الطوائف تتوافد علينا للسلام بوجوه باشة وقلوب مليئة بالمحبة والحنان ليلا ونهارا».
وكان عدد من رافقوا الزعماء السبعة من الأهل والخدم 41، وكانوا عند وصولهم كأبناء أسرة واحدة جمعت بينهم المحنة كما جمعت الصداقة من قبل ووثقت الغربة أواصر المحبة ...
وبعد ثلاثة أيام من وصول الزعماء إلى الجزيرة أقام لهم كثير من أعيانها وتجارها الولائم، واشترك في ذلك المسلمون وزعماء السنهاليز والتامل، وقد استمرت تلك الولائم بضعة أيام، وكان يدعو إليها كبار سكان كولومبو، فعرفوا زعماء المصريين وألفت تلك الاجتماعات بينهم.
وأقام عرابي وأصحابه لهؤلاء وليمة كبيرة وصفها عرابي بقوله: «وبعد ذلك أقمنا وليمة جامعة لأعيان المسلمين والإنجليز والتامل والسنهاليز، وكان عدد المدعوين إليها 200 شخص من مختلف الأجناس والمذاهب، والمعتقدات ... شكرا لهم على حسن حفاوتهم بنا».
وكانت الحكومة المصرية قد أرجأت تقرير ما يلزم ثمنا لمعيشة كل من المنفيين حتى تعلم حال الجزيرة من حيث رخص الأسعار أو غلائها، وفي فبراير سنة 1883 وصل إلى الجزيرة حاكم جديد هو السير أرثر جوردن فخاطب الحكومة المصرية فقررت لعرابي 50 جنيه شهريا ولكل من أصحابه 38 جنيها ...
وكان عرابي وأصحابه يقضون أوقاتهم في القراءة والكتابة، وتعلم اللغة الإنجليزية وفي التزاور بينهم وبين حكام الجزيرة وأعيانها.
وكتب عرابي إلى صديقه برودلي كتابا في 24 يناير سنة 1883، كان مما جاء فيه: «وقد لقيتنا السلطات هنا في الجزيرة بالحفاوة، وأعدوا بيوتا لراحتنا، وزودونا بقدر كبير من الأطعمة الدسمة التي كفتنا وأسرنا بضعة أيام ... ونجد الجزيرة ملائمة لسكاننا كل الملاءمة بمناخها، ونعتزم أن نرسل أبناءنا إلى المدارس المحلية، وأن نتعلم نحن اللغة الإنجليزية ... ويبعث إليك إخواني وأبناؤهم خالص مودتهم، وإني أرجو أن تذكرنا لأخى أحمد بك رفعت إذا كان عندك، وإلى أمك العزيزة التي هي موضع إجلالنا جميعا».
وأبى وفاء بلنت ألا أن يزور صديقه في منفاه، وقد اضطر أن يبقى بلندن كما رأينا ليدبر وسائل الدفاع عنه فلم يستطع أن يزوره في مصر.
يقول عرابي: «وفي 20 أكتوبر سنة 1883، حضر صديقنا المستر بلنت من إنجلترا لزيارتنا وتهنئتنا على نجاتنا من أيدي خصومنا، وبوصول القطار كولومبو، هرع جميع سكان الثغر المذكور لاستقباله؛ حيث كانوا على استعداد تام لذلك قبل وصوله، وقد أخذنا نحن وإخواننا وأولادنا زورقا بخاريا وذهبنا إلى القطار المذكور ثم صعدنا إليه وحظينا بمقابلته ومقابلة السيدة الفاضلة الليدي آنا بلنت، وكان بمعيتهما القس لويس صابونجي، ثم نزلنا بعد ذلك إلى الرفاص وعدنا إلى البر والزوارق الأهلية محيطة بنا يهتف من فيها بعبارات الترحيب ويشيرون بأيديهم علامة للسلام والإعظام ...
ولما وصلنا إلى البر تكاثرت علينا جموع المحتفين بقدوم السير ولفرد إسكاون بلنت حتى تعسر علينا الوصول إلى المركبات، ولولا تدخل الشرطة لمنع ذلك البحر الزاحف من التكدس حولنا اضطررنا إلى الوقوف في الميناء الساعات الطوال ...
ثم ركبنا العربات وتوجهنا إلى سراي مورجن المعدة لإقامة ذلك الضيف الكريم مدة ضيافته، وهي كائنة على بعد ثلاثة أميال من الميناء بجهة متوال، مشرفة على البحر، وكان الناس مصطفين على جانبي الطريق الموصل إلى السراي وهم يحيون المستر بلنت ونحن معه في المركبة بوجوه باشة وأسارير نضرة حتى وصلنا قصر الضيافة».
وبالغ أهل المدينة في الحفاوة بضيف عرابي وبزوجته فوضعوا الزينات على الدار التي نزل فيها، وأقاموا أقواس النصر على مقربة منها وزينوها للناظرين بالأغصان من كل صنف وبالأزهار المختلفة الألوان، وكتبوا عليها بالإنجليزية: «مرحبا بالصديق الوفي المستر ولفرد إسكاون بلنت».
وأعدوا له مأدبة كبيرة شهدها أكثر من 200 مدعو، وخطب بعض الخطباء مرحبين بالضيف العزيز، وأثنوا على وفائه وإخلاصه، ورد بلنت شاكرا لهم حفاوتهم وشريف إحساسهم ...
وأقام بلنت وزوجته بالجزيرة 22 يوما، وكان لمقامه بين الزعماء أثر طيب؛ فقد أخذ قبيل مجيئه يدب دبيب الخلاف بين عرابي وبعض إخوانه وخاصة محمود فهمي باشا الذي استوحش المنفى فاضطربت أعصابه، وهو في الحق منذ أن أسلم نفسه للإنجليز في الميدان الشرقي لا يخلص الود لعرابي، ولعله كان يرجو من وراء ذلك أن يخفف عنه، فلما نفي مع المنفيين ضاق صدره وأخذ يكره عرابي ويرد إليه سبب ما لحقه ...
وأعاد بلنت الوئام بينهم ولم يختلفوا بعدها أبدا، وإن كان محمود فهمي باشا ليخفي في نفسه ما لا يستطيع أن يبديه من السخط والنفور.
وفي شهر نوفمبر سنة 1883 زار عرابي في كولومبو اثنان من اللوردات الإنجليز، هما اللورد روزبري واللورد ماكدونالد، واستطلعا رأيه في حركة المهدي بالسودان، وكان يترجم الحوار بينهما محمود فهمي باشا، فسألا عرابي هل محمد أحمد هو المهدى المنتظر عند المسلمين؟ وأبدى عرابي دهشته قائلا: وماذا يعنيكم من أمره؟ فقالا: إن أمره يهم إنجلترا فإن في الهند 60 مليونا من المسلمين يعتقدون أن المهدي المنتظر يجمع شتات المسلمين تحت رايته. وأجاب عرابي بأن كل داع إلى الخير والإصلاح هو مهدي ولكنه لا يكون المهدي المنتظر! وقال اللوردان: إن الحكومة الإنجليزية أرسلت جيشا مكونا من عشرين ألفا بقيادة هكس، وسألا عرابي: هل يكفي هذا الجيش للتغلب على المهدي؟ فقال عرابي: «نحن نرى أن وجود قائد إنجليزي على جيش يكون من صالح المهدي فإنه يحكم بكفر المصريين الذين يقاتلون المسلمين تحت قيادة مسيحية ويستبيح قتلهم بسبب هذه القيادة، وإذا استولى على أسلحة هذا الجيش وذخيرته أصبح قويا يخشى جانبه».
ونصح عرابي بمقابلته في منتصف الطريق بأن تقيمه مصر أميرا على السودان على أن يكون تابعا للتاج المصري وتنبأ عرابي باندحار حملة هكس، وفي اليوم التالي أذاعت البرقيات هلاك الحملة كلها ...
وفي شهر يناير سنة 1884 زار عرابي في كولومبو مهراجا سلطنة لاهور، يقول عرابي: «فلقيناه بما يجب لجلالته من التعظيم والاحترام، وكان بمعيته مستشار إنجليزي حتى لا ينبس نبسة إلا حفظها الرقيب عليه في حبة قلبه، وبعد نصف ساعة عادا إلى دار حكومة سيلان».
ووردت عرابي بكولومبو رسالة خطيرة من المستر بلنت في أواخر سنة 1884 ذكر فيها بلنت أن الحكومة الإنجليزية تفكر في تعيين عرابي سفيرا مؤقتا إلى المهدي لرفع الحصار عن غوردون على أن يعزل توفيق ويعين أمير غيره يستطيع الاتفاق مع المهدي، وأن النية متجهة إلى إعادة إسماعيل بشرط أن يكون عرابي رئيسا لوزارته باعتباره زعيم مصر المختار، وطلب بلنت رأي عرابي، فأبرق إليه أنه يرفض ذلك وأنه يؤثر المنفى على مثل هذه العودة وهذا الحكم تحت رئاسة إسماعيل الذي لا يشاكل مبادئه وخطته، وقد أدى مقتل غوردون إلى الانصراف بالضرورة عن هذه المسألة ...
وكان لغوردون قبل ذلك مساع لإعادة عرابي إلى وطنه؛ فقد كتب بلنت في جريدة «البول مول جازيت» في 25 أغسطس سنة 1887 مقالا جاء فيه قوله: «يجب أن أشير إلى أن الحكومة الإنجليزية أدركت خطأها واعتزمت إصلاح موقفها وذلك بأن تعيد عرابي بعد سنة أو سنتين من نفيه، وتساعد على تشكيل الحزب الوطني من جديد ويؤيد رأيي هذا كتاب وصلني من الجنرال غوردون، وإني أسمح لنفسي بإذاعة محتوياته لأول مرة؛ فقد كتب لي من الكاب يبلغني بميله وعطفه على عرابي باشا طوال مدة الحرب، ولما عاد إلى إنجلترا في ديسمبر سنة 1882 تفضل بزيارتي ليؤكد لي عزم الحكومة ونياتها، وها أنذا حين رجعت إلى مذكراتي التي كتبتها عن هذه المقابلة وجدت أنني كتبت فيها: «زارني الجنرال غوردون وتناول معي الغداء بمنزلي الكائن بشارع جيمس، وقد تبين لي أنه كان يعطف عطفا تاما على عرابي إبان الحرب وقال الجنرال: «إنه أتى ليدرس معي أمر إنشاء حكومة حرة في مصر تحت ملاحظة إنجلترا» ...
وكانت حياة الزعماء بالجزيرة حياة رتيبة لا تغير فيها ولكنهم لم يشعروا بالملل؛ وذلك لما كان بينهم وبين سكان الجزيرة من صلات الود ومن تبادل المراسلات والزيارات.
وفي سنة 1888، توفي لعرابي ابن في الثالثة من عمره كان اسمه صالح، وقد كان مصابا بالدفتريا، وحزن عليه حزنا شديدا ...
وحدث بعد ذلك سنة 1891 أن قضى عبد العال باشا حلمي نحبه في شهر مارس، وكان لوفاته حزن عميق في نفوس أصحابه، ورأوا في مصيره شبح مصيرهم فعظم عليهم ذلك، وقد ذكر عرابي نبأ وفاته بقوله: «وفي سنة 1310 توفي شهيد الوطنية والغربة عبد العال باشا حلمي، ودفن في قرافة قسم مردانة أيضا وضريحه مشهور يزار، ومن كراماته ما شهدناه من اجتماع أسراب الطير فوق نعشه تسير بسير الجنازة حتى واريناه التراب، وقد أخذ العجب من الناس كل مأخذ».
وفي سنة 1891، زار السير توماس لبتن صاحب مزارع الشاي المعروفة باسمه، عرابي باشا ودعاه إلى زيارة مزارعه على نفقته، على أن يصحبه من يشاء من إخوانه، وقد رحب عرابي بهذه الزيارة ترويحا للنفس واستجلاء للجنان من أكداس الصدأ الذي اصطلح عليه.
وعين السير توماس اثنين من وكلائه الإنجليز لمرافقة عرابي، ولم يذهب مع عرابي من أصحابه إلا علي باشا فهمي وكان أشدهم إخلاصا ومحبة له ...
يقول عرابي: «فقمنا من كولومبو ومعنا أخونا علي باشا فهمي والوكيلان المذكوران إلى مدينة كندي العاصمة القديمة ومقر الحكومة بطريق السكة الحديد، فوصلناها بعد أن قطع بنا القطار 72 ميلا، ومن ثم ركبنا قطارا آخر إلى نوراليه، وهي آخر محطة للسكة الحديد، فبلغناها بعد قطع 20 ميلا، ومن هناك ركبنا المركبات وصعدنا إلى سطح جبل هناك، وأقمنا ليلتين في فندق يقال له: جراند أوتل ... ولما سمع المسلمون بمقدمنا حضروا لزيارتنا والاحتفال بنا زرافات ووحدانا ... فشكرناهم على حسن ترحيبهم بنا ... وفي اليوم الخامس وصلنا إلى دمبتنا، وهناك استقبلنا أهلها من المسلمين وغيرهم بكل بشاشة وإكرام، وبعد أن تغدينا في نزلها امتطينا جيادا كانت معدة لنا وصعدنا إلى سراي السير توماس لبتن البعيدة عن النزل بحوالي أربعة أميال ... وهناك وجدنا أسباب الراحة متوفرة، فأقمنا شهرا كاملا في ضيافة صديقنا سالف الذكر ... ولإيجاد نوع البن اليمني في بلادنا المصرية أرسلنا إلى صديقنا المرحوم أحمد باشا المنشاوي تقاوي تكفي لزرع 20 فدانا حتى يعم انتشاره، كما أرسلنا له لهذا الغرض أحسن أنواع المانجة والموز الأحمر والأصفر المضلع أيضا وغيره من الأصناف المتعددة من الفاكهة الزكية الرائحة اللذيذة الطعم مما رجوت انتشاره في مصر، وبعثنا إليه أيضا بأنواع الحبهان والقرنفل والمنلا الطيبة الرائحة ... ثم زرنا مصانع صديقنا السير لبتن بجهة بيراسيا ومكثنا بها شهرا أيضا» ...
وفي سنة 1892، أي بعد نحو عشر سنوات من مجيئه إلى كولومبو، انتقل عرابي إلى مدينة كندي، وسوف يظل بها حتى يعود إلى مصر ... وقد أمر الحاكم بسفره إليها في صالونه الخاص بالسكة الحديد ...
وقد سبق عرابي إلى مدينة كندى محمود سامي، ويعقوب باشا سامي فهمي، ولم يبق في كولومبو غير محمود فهمي باشا وكان قد أصيب بالفالج في جنبه الأيسر.
وذهب محمود باشا فهمي إلى كندي لتبديل الهواء، ونزل ضيفا على محمد عرابي نجل عرابي باشا، وهناك قضى نحبه في 17 يوليو سنة 1894 ...
يقول عرابي: «ومدينة كندي هذه كائنة في واد ذي ثلاث شعب بين ثلاثة جبال، وبها بيت للحاكم ومحكمة نظامية في بيت ملوك طائفة السنهاليز ... وفي المدينة المذكورة ضريح السيد شهاب الدين على مرتفع من الأرض يصعد إليه بمرتقى نحو 20 سلما ومسجده عظيم متقن وهو حرم المدينة ... وهناك مسجد آخر لطائفة الملاي، وكنيسة للبروتستانت وأخرى للكاثوليك، ومعابد لطائفتي السنهاليز والتامل ... ويبلغ تعداد هذه المدينة 20 ألف نفس، منهم نحو 10 آلاف من المسلمين وكلهم على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه» ...
وصار لعرابي مكانة عظيمة بين سكان هذه المدينة، وقد سارع المسلمون باستيراد الطرابيش من الخارج، ولبسها أسوة به وبأصحابه، وبلغ من حبهم لعرابي وإجلالهم له أنهم كانوا يطلقون عدة طلقات من مدفع بجوار المسجد الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة كل أسبوع.
وذهب لعرابي صيت في الجزر المجاورة مثل ملاديف ولاكاديف وفي الهند وبورما والملايو، وقد أرسل إليه سلاطين هذه الجهات وبعض مهراجات الهند كثيرا من الهدايا، وظلوا على مودته حتى عاد إلى مصر، وكان يستشيره سلطان جاوا في كل أموره ويعد رأيه دستورا لا يمكن نقضه، ولما كان عرابي ممنوعا من مغادرة الجزيرة كان ينيب عنه بعض أولاده في إجابة الدعوات التي ترسل إليه، ومن ذلك دعوة أمير حيدر أباد في الهند ودعوات سلطان جاوا وبعض سلاطين الملايو وغيرهم في جهات كثيرة.
وظل بعض أصحاب عرابي - وهم قلة قليلة - في مصر على الوفاء له، فكانوا يرسلون إليه الكتب، ومن هؤلاء أحمد باشا المنشاوي ومحمد بك الزمر وخضر بك خضر، والنجدي بك والشيخ أحمد عبد الغني، والشيخ محمد خليل الهجرسي وكان منفيا بالحجاز، وقد ضرب هذا الأخير المثل الأعلى في الوفاء؛ وذلك أنه لما انتهت مدة نفيه وهي خمس سنوات أرسلت إليه الحكومة إذنا بالعودة إلى وطنه فرفض أن يعود «حتى يعود عرابي وحتى يموت توفيق أو يتنحى عن عرشه» ...
ودأب الشيخ الهجرسي على إرسال كتبه إلى عرابي من الحجاز، وكان إذا سمع عن أحد رجال الثورة الباقين انحرافا عن مبادئها كتب إلى عرابي ليسقطه من حسابه، ويتبين هذا فيما كتبه عن أمين بك الشمسي؛ فقد قابله أثناء الحج فكتب إلى عرابي كتابا جاء فيه: «وقد زار المدينة عدة أناس منهم أمين الشمسي الزقازيقي، وإني لألتمس من دولتكم ألا تخاطبوه أبدا في هذه الغربة حتى تنقضي هذه الكربة، فإنه أسيف على ضياع بعض أمواله وتغير بعض أحواله بسبب هذه المسألة ولا أسف له على المهم الأكبر من ضياع القطر وما حل بأعظم رجال الدين في هذا الأمر؛ لأن أمثاله في خدمة الدنيا فقط، أسال الله الكريم بجاه هذا النبي العظيم أن يردكم الرد الجميل مع الحظ والنصر والسعد الجزيل» ...
وظل على الوفاء له من الإنجليز المستر برودلي، فلم تنقطع رسائله إلا بعد وفاته، وقد أرسل إلى أولاده بعد وفاة أبيهم يذكر لهم أنه على استعداد لمعاونتهم في المطالبة برد أملاك أبيهم ...
وكان صديقه بلنت وزوجته آنا بلنت حفيدة اللورد بيرون يرسلان إليه الرسائل المملوءة بالعطف والمودة، وكانت آنا تكتب العربية في طلاقة.
2
وكتب له غير هذين عدد من المعجبين بحركته من الإنجليز، وخاصة بعض أصحاب الصحف والمجلات، وكانوا يسألونه كثيرا عن حوادث ثورته ...
وقد ذكر لي أحد أبنائه أنه على علم ممن لا يجهل ولا يكذب أن كثيرا من الرسائل تبادلها والده ومصطفى كامل في أول حركته، وأن فارس نمر باشا حصل على الرسائل التي كانت لدى مصطفى كامل ...
وفي فبراير سنة 1900 سمحت الحكومة المصرية لطلبة باشا عصمت بالعودة إلى مصر حيث ساءت صحته وقررت جمعية من الأطباء وجوب سفره في تلك السنة ودفن بمدافن الإمام الشافعي.
وفي أكتوبر سنة 1900 توفي بكندي يعقوب باشا سامي ودفن بجوار قبر محمود باشا فهمي، وكان قدر صدر العفو عنه ولكنه قضى نحبه قبل أن يصل إليه النبأ ...
وأصيب محمود باشا سامي البارودي برشح في القرنيتين أفقده البصر وقرر الأطباء ضرورة عودته إلى مصر لمعالجته في المناخ الذي نشأ فيه، وعفا عنه الخديو عباس حلمي فعاد إلى مصر وردت إليه ممتلكاته المصادرة وجملة ريعها ولكن لم يعد إليه بصره، وتوفي سنة 1904.
وقد حدث في 12 مايو سنة 1901، أن زار الجزيرة ولي عهد إنجلترا الملك جورج الخامس - فيما بعد - فاستقبل عرابي ورحب به وسأله عن صحته وعن حاله، وكانت هذه الزيارة سببا في عودة عرابي، ولندع لعرابي أن يصف كيف كانت عودته، قال: «عرضت على سموه أني أعتبر تشريفه للجزيرة فكاكا لنا من الأسر، فتكرم علينا بأنه سيسعى لدى الخديو في تحقيق أمنيتنا، ثم دارت المخابرة بين سموه وبين الحكومة الإنجليزية والحكومة المصرية في هذا الشأن ...
وفي 24 من الشهر المذكور، جاءنا تلغراف من حاكم الجزيرة يقول فيه: إنه قادم إلى كندي ليبلغنا شخصيا صدور أمر الخديو بالعفو عنا وعودتنا إلى وطننا العزيز، وعند حضوره توجهنا إليه وشكرناه على سعيه وعرضنا عليه أن لنا الحق في السفر على نفقة الحكومة التي حملتنا إلى تلك الجزيرة.
وفي أغسطس بارح علي فهمي باشا جزيرة سيلان، وبلغ القاهرة في أول سبتمبر من السنة المذكورة ...
وفي 4 سبتمبر بارحنا مدينة كندي صباحا وكان صالون الحاكم معدا لنا فأقلنا القطار إلى كولومبو، أما احتفال أهل كندي بوداعنا؛ فقد كان عظيما حتى غصت أرصفة المحطة بالمودعين وفي مقدمتهم محمد أفندي يوسف والدكتور كيت طبيب عائلتنا وإبراهيم لبي وغيرهم، ولما وصلنا ثغر كولومبو نزلنا في منزل صديقنا المحترم كرمجي جعفرجي، وأقمنا به في انتظار السفينة المسماة برنس هنري الألمانية الآتية من الصين، وفي تلك المدة دعينا لتوزيع المكافآت على الناجحين من تلاميذ مدرسة ميردانة الإسلامية التي افتتحت بحضورنا على نفقة المسلمين.
وفي أصيل 21 سبتمبر سنة 1901 الموافق 6 جمادى الآخرة سنة 1319 دخلت السفينة البرنس هنري ميناء كولومبو، وتغطى وجه الماء بالزوارق والرفاصات، وتكدست جموع المودعين تكدسا هائلا حتى لم نتمكن من الوصول إلى السفينة إلا بشق النفس، وهناك تليت علينا قصائد التوديع من نخبة أهل سيلان، ثم سلمت إلينا في محافظ من الفضة الخالصة البديعة الصنع ...
ولما استقر بنا المقام في السفينة بعد مغادرة تلك الجموع المكتظة بها أقلعت بعد ساعتين باسم الله مجريها ومرساها تمخر في عرض المحيط الهندي لأول مرة، وقبلتها كنانة الله العزيز الحكيم، وكانت حمولتها 12000 طن وسرعة سيرها 16 عقدة في الساعة وهي مستوفية لأسباب الراحة وكانت الرياح هادئة، وبعد قليل غابت شواطئ الجزيرة عن الأنظار ...
على هذا النحو مرت الأيام والليالي حتى وصلنا خليج عدن والسفينة تتهادى في مياه البحر الأحمر ... وبعد أن قطعت نحو ثلاثة آلاف ومائتي ميل رست في ميناء السويس وذلك في غروب يوم 14 جمادى الآخرة سنة 1319، فقضيا تلك الليلة في السفينة وفي الصباح ودعنا من فيها وخرجنا إلى البر ونحن نتنفس الصعداء ونلهج بالدعاء لله - سبحانه وتعالى - بالوصول إلى بلادنا سالمين بعد مرور 19 عاما تحملنا فيها آلام الفراق».
العائد الذي نسي
غاب عرابي عن مصر 19 عاما، وأقام بها الاحتلال الذي جاء للقضاء على العصاة فحسب هذه الأعوام التسعة عشر، وعمل الاحتلال في هذه السنين الطويلة على مد جذوره وبسط فروعه، على الرغم من وعوده المتكررة بالجلاء، بل يفضل هذه الوعود التي لم يكن يقصد بها إلا خدعة المسؤولين ...
لم تكد تمضي خمسة أشهر على دخول الإنجليز مصر حتى تمت لهم السيطرة على الجيش والشرطة، أما جيش الثورة؛ فقد حله توفيق بجرة قلم كما ذكرنا بتهمة العصيان، وأحل الاحتلال محله جيشا جديدا هزيلا في قبضة سردار إنجليزي، ولم يكن للروح المعنوية سبيل إلى قلوب رجاله، بل كان السبيل للرهبة والنظر إلى الإنجليز نظرة السادة الذين أعادوا للخديو سلطته فهو مدين لهم بكرسيه، وإذا كان «أفندينا» يظهر الخضوع والولاء للإنجليز صغارهم وكبارهم، فكيف بالجند؟ وبلغ هذا المعنى أقصى مداه في حادث الحدود في يناير سنة 1894؛ فقد أبدى الخديو ملاحظات على فرقة من الجيش المصري بقيادة ضابط بريطاني عند وادي حلفا، وعاب على الجيش سوء نظامه، فعد السردار اللورد كتشنر كلام الخديو إهانة له ولكرامة إنجلترا، وكان جزاء الخديو وقد بلغ الفيوم عند عودته إلى القاهرة أن منع منعا صريحا من دخول العاصمة إلا أن يعلن ثناءه على الجيش وإدارته؛ ليكون هذا بمثابة اعتذار منه، ولم يجد الخديو بدا من الإذعان، ثم سمح له بعد ذلك بدخول عاصمته، وثبت في نفوس الجند أن سلطة أي ضابط بريطاني أكبر من سلطة الخديو، وأن الرقي والإسعاد لمن كان له عند الإنجليز حظوة ...
وأما الشرطة؛ فقد عين رئيس عام لهم من البريطانيين كان له سلطة الإشراف التام عليهم ...
وسيطر الإنجليز على الشؤون المالية، وذلك بأن ألغوا الرقابة الثنائية، وعينوا مستشارا عاما ماليا إنجليزيا في أوائل سنة 1883 لا يبرم أمر من الأمور يتصل بالمال إلا بإذنه ...
وقبض الإنجليز على ناصية الحكم والإدارة، فكان لكبار موظفيهم وصغارهم في الدواوين الكلمة العليا، والجاه والهيبة، تكفي كلمة من أحدهم لنقض أي أمر لأي وزير، والدليل على ذلك في هذا البلاغ الذي أصدرته الحكومة البريطانية إلى سفيرها في مصر ليحمله إلى شريف باشا بمناسبة إصراره على الاحتفاظ بالسودان: «ما دام الاحتلال المؤقت قائما فيلزم أن تكونوا على يقين من أن النصائح التي تزجونها لسمو الخديو وحكومته يؤخذ بها وتنفذ، ويجب أن يعلم النظار والمديرون صراحة، أنه ما دامت إنجلترا مضطلعة بالمسؤولية في مصر، فإن حكومة جلالة الملكة لا بد أن تطمئن إلى تنفيذ سياستها المرسومة وإلا وجب على النظار والمديرين أن يتركوا كراسيهم».
أما الدستور فيا أسفا عليه، قد ألغاه الاحتلال وأحل محله في مايو سنة 1883 ما عرف بالقانون النظامي، وبمقتضاه أنشئ مجلس شورى القوانين وأنشئت الجمعية العمومية، وهما هيئتان لا سلطة لهما ولا شبه سلطة الغرض منهما خداع الأمة بأن لها مجلسين، بدلا من مجلس واحد، وشتان بين هذين وبين ذلك المجلس النيابي الذي كانت الوزارة مسؤولة أمامه والذي وضعت وزارة البارودي أو وزارة الثورة دستوره، فجعلت به الأمة مصدر السلطات كما هو الحال في الدساتير الحديثة.
هكذا قضى الاحتلال على كل شيء، وجعل همه بث هيبة إنجلترا في نفوس المصريين والقضاء في عنف على أية محاولة لبعث الروح الوطنية مهما كان من ضآلتها، وألقيت مقاليد الأمور إلى كرومر أحد بناة الإمبراطورية وأحد أساطين الاستعمار ...
وكان دعاة الاحتلال وألسنته يلقون في روع الناس أن حركة عرابي لم تكن إلا عصيانا أهوج بعثه الطمع الشخصي، وأنه لولا أن تداركت إنجلترا البلاد من فوضى هذا العصيان الأحمق للحق بها الهلاك ...
وثبت في أذهان ناشئة الجيل الذي أعقب الاحتلال أن عرابي هو سبب النكبة وأن «هوجة» عرابي هي التي جلبت الاحتلال، ومما يؤسف له حقا أشد الأسف أن بعض المصريين ما يزالون حتى الآن يرددون هذا الكلام .
وشاع الانحلال القومي في الأمة، وماتت روح المقاومة وخيل للناس أن الاحتلال قوة لا تقاوم أبدا وأن هؤلاء الإنجليز المتسلطين لن يغلبهم غالب ...
وفي هذا الجو الكئيب وصل أحمد عرابي باشا زعيم الثورة القومية إلى مصر، فلم يجد أحدا من الجيل الناشئ يذكره ويذكر ثورته إلا بالسوء من القول، ولولا بقية ممن شهدوا الثورة وعرفوا حقيقة أمرها، ما لقيه في مصر أحد ...
يقول عرابي بعد أن وصل السويس: «وهناك نزلنا في منزل الشيخ البخاري، بعد أن كتبنا إلى محافظ البندر مصطفى بك ماهر الذي كان من تلاميذ السيد عبد الله نديم، وكان معروفا بحبه للحرية والوطنية، فأنكرنا وأعرض عنا ولم يرد علينا، فأرسلنا برقية إلى قائمقام الحضرة الخديو فخري باشا
1
فكتب إلى مصلحة السكك الحديدية بحجز صالون لنزولنا وعائلتنا ومن معنا من السويس إلى القاهرة على نفقة الحكومة ... وفي 16 جمادى الآخرة سنة 1319 الموافق أول أكتوبر سنة 1901، برحنا السويس ووصلنا القاهرة قبيل الغروب، وكان ازدحام الناس لتوديعنا في محطة السويس عظيما، وكذلك عند استقبالنا في الزقازيق، وبنها، وخاصة في القاهرة، فإن ازدحام الناس بلغ أشده، بالرغم من إعلان المحافظة بعدم التجمهر والاحتفاء ...
ولما نزلنا في محطة القاهرة أخذنا المركبات إلى منزل أولادي الكائن بشارع الملك الناصر في شارع خيرت، واجتمعنا بهم بعد غياب 19 عاما، و4 أشهر» ...
وعاش عرابي في منزل أولاده بشارع خيرت كما يعيش عامة الناس، الرجل الذي كانت مصر كلها في قبضته، والذي خلعت الأمة طاعة الخديو لتطيعه في الدفاع عن وطنه، والذي أيده السلطان وراسله، والذي لم تجد إنجلترا بدا من إعداد حملة تحاربه وتحارب مصر المتوثبة في شخصه ...
وكانت جريدة «اللواء» تناصر عباس فرأت أن تتلقى عرابي لقاء كريها؛ ابتغاء مرضاته، كما رأى شوقي شاعر الأمير أن يهجو الزعيم العائد؛ تزلفا إلى الأمير وعملا بسنة قديمة للشعراء، مؤداها أن يمتدح الشاعر من يرضى عنه أميره وأن يذم من يغضب عليه ذلك الأمير دون أن يكون بين الشاعر وبين من يمدح أو يذم أية صلة ...
وقالت جريدة «اللواء» وهي تعلم أنها كاذبة فيما تقول: إن اللورد كرومر جاء بنفسه إلى محطة القاهرة لاستقبال عرابي؛ وذلك لتلقي في روع الناس أن عرابي من صنائع الإنجليز ...
ونشر شوقي قصيدة قال في مطلعها:
صغار في الذهاب وفي الإياب
أهذا كل شأنك يا عرابي؟
وفي مثل هذا الهذر من شاعر الأمير صورة من أخلاقه وصورة من روح العصر كله، ودليل على ما نقوله من اجتماع عوامل كثيرة على تشويه سيرة عرابي، كان القصر أيام توفيق وأيام ابنه عباس من أهمها ...
ولو صدقت جريدة «اللواء» لخف إلى المحطة مع كرومر مئات من المصريين للقاء عرابي والحفاوة به لا ليظهروا له مودتهم، ولكن ليظهروا تملقهم لعميد الاحتلال صاحب القوة والجاه في مصر ...
قال عرابي: «غير أن رجوعنا إلى وطننا العزيز لم يرق في نظر خصومنا الجهلاء؛ ظنا منهم أننا بعنا ذلك الوطن للإنجليز على اتفاق بيننا وبينهم، فأوعزوا إلى بعض الجرائد المأجورة، وفي مقدمتها جريدة «اللواء» بالتنديد بنا، والخروج علينا بألسنتها فوجهت إلينا سهام جهلها وضغنها».
ولولا أن إنجلترا قد وثقت كل الثقة من أن عودة عرابي لن تسبب لها متاعب في مصر ما أعادته ...
ولم يكن عرابي ليستطيع بعد أن بسط الاحتلال سلطانه على هذه الصورة أن يعيد حياته سيرتها الأولى من الجهاد والعتاد، فإن الرماد الكثيف يطمر الجمرات التي أشعلها بالأمس وجعل نارها تتأجج ...
وستبقى هذه الجمرات تحت الرماد حتى يهيئ الله لها زعيما فلاحا آخر، هو سعد زغلول فما هو إلا أن ينفخ فيها من روحه القوية حتى تنبعث جبارة عاتية لا يطفئها طغيان ...
وسوف تكون ثورة سعد في تاريخ مصر هي البعث لثورة عرابي وتكملتها، فعلى يد سعد تعود القومية المصرية التي بدأها عرابي، وعلى يد سعد يخذل الاحتلال الذي خنق ثورة عرابي، وعلى يد سعد يبعث الدستور الذي هتف به في مسمع الزمن أحمد عرابي حين واجه توفيقا يوم عابدين بأنه جاء يتكلم باسم الأمة التي تطلب الدستور، ولا ترضى غيره قاعدة للحكم ...
غريب في الوطن
رأى عرابي وقد أصدر الخديو عفوه عنه أن أدب اللياقة يقضي عليه أن يتقدم إليه بالشكر، وقد تصادف - كما ذكرنا - أن بلغ عباس الإسكندرية عائدا من إحدى رحلاته في اليوم الذي بلغ عرابي فيه السويس عائدا من منفاه، فأبرق إلى القصر يعبر عن شكره للخديو ويهنئه بسلامة العودة ويستأذن في المثول بين يديه ... ولكنه لم يظفر من القصر حتى بالرد عليه ...
وزار عرابي الوزراء في بيوتهم، فلم يرد أحدهم له الزيارة، وقد تألم عرابي لذلك كثيرا؛ إذ إنه ما زارهم إلا لأن الواجب يقضي بذلك، قال في مذكراته: «وما فعلت ذلك إلا قياما بالواجب».
وخشي كبار الموظفين الاتصال بعرابي، وإلا أغضبوا الخديو، وكذلك أصدر كرومر أوامره للوزراء ألا يتصل به أحد؛ خشية أن يستغل اسمه في تنبيه الأذهان إلى مذلة الاحتلال، كما أشار إلى ذلك بلنت في بعض مذكراته ... وهكذا يعامل عرابي معاملة من أساء إلى وطنه، وليس في مصر حينذاك من أحسن إلى مصر مثله.
وأحس عرابي أنه غريب في وطنه؛ فقد أنكره أكثر من كانوا يلتفون حوله إبان سلطانه، ومنهم من كان يود لو وجه إليه حينذاك عرابي نظرة، أو حياه بتحية.
ولولا بقية من أولي الفضل والإباء ممن كان الوفاء فيهم طبعا لضاق عرابي بالحياة في وطنه وفضل عليها حياته في المنفى، وكان في مقدمة هؤلاء الذين تنكروا له علي فهمي باشا زميله في الثورة وفي المنفى، وإبراهيم فوزي باشا مأمور ضبط القاهرة إبان الثورة، والشيخ محمد خليل الهجرسي الصديق الوفي، والزبير باشا، ومحمد بك الزمر، والسيد باشا شكري المهندس وأحمد بك ناشد مدير الشرقية في أثناء الحرب، ورزق حجازي بك من رجال الثورة، وعبد الحميد باشا العبادي، وأحمد حمدي باشا، والشاعر حافظ بك إبراهيم، والدكتور محجوب ثابت، ومحمد بك أبو شادي المحامي وعلي بك آصف، ونفر قليل ممن كانوا يجلون عرابي ويحبونه ...
ومما يؤسف له أن البارودي لم يزره إلا بعد عودته بأسبوع، ثم انقطع عنه ولم يزره بعدها أبدا ... وفي أكتوبر سنة 1901 جاء صديقه المستر بلنت إلى مصر، وزاره في منزله، وكان يزوره دائما كلما جاء إلى مصر، وفي 24 من هذا الشهر جمع بلنت بينه وبين الشيخ محمد عبده بحديقته بالشيخ عبيد وقد شهد هذا اللقاء علي باشا فهمي.
وتعانق الزعيم الشيخ، والأستاذ الإمام عند اللقاء، وقد اجتمعت ذكريات الثورة في هذه اللحظة، ولكن عرابي ما لبث أن أغلظ للإمام في القول حين تشعب الحديث إلى الثورة وحوادثها ولامه على مصانعته الخديو في بعض ما كتب ...
وكان عرابي يؤدي صلاة الجمعة في جامع الرماح بالناصرية، أو بمسجد السيدة زينب، أو بمسجد الحسين - رضي الله عنهما - وكان يتزاحم عليه الناس لرؤيته والسلام عليه ...
وقد حدثني كثيرون ممن رأوه في تلك الأيام، فقالوا: إنهم لن ينسوا قامته الطويلة ولا لحيته البيضاء ولا وجهه الذي تنبعث منه هيبة شديدة ويشع منه الإيمان والورع في وقت واحد، ولا مسبحته التي كانت لا تفارق يده، ولن ينسوا إقبال الناس عليه كلما رأوه وإشارتهم إليه، وتزاحمهم لرؤيته إذا كان جالسا في دكان، أو في مسجد، وقولهم: هذا هو عرابي، وسؤال بعضهم بعضا: هل رأيت عرابي؟ ها هو ذا عرابي ...
وكان عرابي يخرج أصيل كل يوم في فصل الصيف للرياضة، فيذهب في عربته إلى الجزيرة أو شارع الهرم فيقضي ساعة أو بعض ساعة، وكان وجهاء المدينة في الشوارع التي يمر بها ينهضون وقوفا إذا مر بهم وهم جلوس أمام منازلهم حسب عادة الناس في تلك الأيام ويحيونه برفع أيديهم إلى رؤوسهم إجلالا له، وكان يرد عليهم تحياتهم شاكرا لهم جميل صنعهم ... •••
وكان من أشد ما يتألم منه عرابي وهو مقيم مع أولاده بعمارة البابلي بشارع خيرت، ضيق ذات يده، فإن المعاش لم يكن يكفيه هو وأسرته الكثيرة العدد ...
وحق للرجل أن يتألم؛ فقد كان من الجحود أن يظل هذا الزعيم محروما من أملاكه التي حللها الله له، فيعيش وهو الأبي الكريم حياة المعسرين، وقد كانت مصر كلها طوع يمينه ذات يوم ... وذلك ما كان يبث في نفسه الشعور بالغربة في وطنه، فهل هذا جزاء ما قدمت يداه من خير لهذا الوطن، وما بذل من جهود في سبيل إصلاحه والنهوض به؟
وقضى عرابي أياما كانت شديدة الوطأة عليه، يحسبه الجاهلون غنيا من التعفف، وإنه ليقاسي مما هو فيه العذاب الأليم ...
وكتب عرابي للخديو، يرجو منه رفع هذا الحيف عنه، فما رجع من كتابته بطائل، ولم يظفر حتى برد، وكتب للحكومة فأعرضت عنه أشد إعراض، وكانت حجته في تلك المكاتبات أن مصادرة أملاكه لا تتفق مع العدالة ولا مع الشرع؛ لأنه لم يصدر بناء على حكم شرعي ثم إن العفو صدر عنه فرجع إلى وطنه، فلم يكن العفو ناقصا لا يشمل العقوبة كلها؟
وكان يكرر عرابي ما أورده على أنه حديث وهو: «مال المسلم على المسلم حرام» ...
ونسي عرابي، أو لعله تناسى أن العفو عنه لم يكن بإرادة عباس، وإنما كان بشفاعة ولي عهد إنجلترا، وهي شفاعة لا ترد، ولو أنها شملت إعادة ما أخذ منه لأعيد إليه دون أن ينقص درهما واحدا ...
واشتكى عرابي إلى من كانوا السبب في نفيه، ولكن الإنجليز يحيلونه على الحكومة المصرية قائلين: إنهم لا يستطيعون التدخل في مسألة هي من اختصاص الحكومة المصرية، وذلك هو دأبهم، يتدخلون في كل شيء تقضي مصلحتهم بالتدخل فيه ويحتجون حين لا يريدون التدخل في أمر بأن ذلك من اختصاص الحكومة المصرية ...
والواقع أن مصادرة ممتلكات عرابي وأصحابه على الصورة التي تمت بها لا تستند إلى شيء من القانون أو الشرع فالمعروف أن تباع أملاكه ويؤدى إليه ثمنها، أما أن تؤخذ هكذا بغير حكم قضائي وليست وفاء لدين أو تعويضا عن مال سلب، فهذا ما لم يسبق به حكم في مصر ولا في غير مصر ...
ولقد يئس عرابي من إقناع أولي الأمر برد حقه المغتصب، يقول في مذكراته: «ومن حيث إن الحكومة المصرية لا تريد أن تسمع الحق، ولا ترد على من يتظلم إليها أو هي لا تقدر على الإجابة ولا على أي عمل ضد إرادة الإنجليز، كما أن الحكومة الإنجليزية لا تريد أن تتوسط في إقامة العدل ودحض الظلم ورد أملاكي المنهوبة بقوة الاحتلال وتحيل شكواي على حكومة سمو الخديو وهي لا تقدر على عمل ما بدون أمر الإنجليز؛ فقد تركت لأولادي وحفدتي من بعدى وذريتي جيلا بعد جيل الحق في المطالبة بحقوقي وأملاكي المنهوبة من الحكومة المصرية ومن المجلس النيابي المصري حين تسترد الأمة حريتها واستقلالها ومجلسها النيابي، وإني واثق بأن أمتي المصرية الكريمة لن تنساني، ولن تترك أولادي حين يأتي اليوم الذي تعرف فيه حقيقة أعمالي الوطنية الواجبة على كل وطني حر».
ونحن نقول: أنه حان أن تنصف مصر عرابي وأن تعرف حقيقة أعماله الوطنية كما يقول، ولقد دأب أبناؤه؛ عملا بوصية أبيهم؛ ورغبة في الوصول إلى حقهم المهضوم، بالشكوى إلى ولاة الأمور منذ أن تألفت الوزارة الوطنية الثانية برئاسة الزعيم القومي الثاني، سعد زغلول، ولئن حالت دون إحقاق هذا الحق مشاغل وظروف لا داعي لتفصيلها الآن فإنا نحسب أن الوقت الذي ترد مصر فيه الجميل لعرابي هو هذا الوقت الذي تقتلع فيه ما بقي من جذور الاحتلال ...
ويسرنا أن نثبت في هذا التاريخ آخر خطوة رسمية حتى يومنا هذا؛ فقد تقدمت اللجنة المالية إلى مجلس الوزراء في صيف سنة 1947 بمذكرة جاء فيها: «وقد استخرجت مصلحة الأملاك بيانا عن مساحة هذه الأملاك من الملفات المحفوظة، فوجدت أنها 12 س، 69 ط، 461 ق، وقدرت ثمنها حسب الأسعار الحالية بمبلغ 48661422 جنيها.
وقد طالب ورثة عرابي باشا مرارا وتكرارا بإعادة أملاك مورثهم إليهم، تلك الأموال التي يقدرونها بتسعمائة فدان، إلا أن هذه المطالبات كان نصيبها الحفظ في 24 مارس سنة 1938، 2 يوليو سنة 1940، 27 مايو سنة 1942».
ومن أجمل ما ذكرته اللجنة المالية قولها:
وتذكر وزارة المالية أن مسألة إعادة أملاك أحمد عرابي باشا المصادرة، إلى ورثته يجب أن ينظر إليها بمنظار اليوم، لا بمنظار الأمس الذي انقضى بآثاره ونتائجه وتقادم عهده وانقضى عليه زهاء ثلثي قرن، تعاقبت فيها أجيال وتغيرت فيها النظريات والعقائد ، وأصبح ينظر إلى الثورة العرابية بأنها كانت حركة وطنية صميمة في مصريتها، نبيلة في أغراضها، سامية في مقاصدها، وقد دافع عرابي باشا عن المبادئ والحريات التي يحارب من أجلها العالم الآن والتي يضحى لها بالملايين من البشر، وإن النظرة الحديثة إلى عقوبة مصادرة الأملاك لا تعتبرها عقوبة عادلة رادعة، كما كان يؤخذ بها في العصور الماضية، بل عقوبة متعدية إلى غير الشخص المقصود بذاته، إلى ورثته الأبرياء الذين لم يقدموا على جرم أو يقترفوا ذنبا يستحقون عليه الحكم بالفقر، والعوز، والحرمان.
قضى الزعيم نحبه
على تلك الحال التي ذكرنا قضى عرابي أيامه في مصر بعد عودته من المنفى، يتلقى أصحابه في منزله ويزورهم في منازلهم، وكانوا يتجاذبون ذكريات الماضي ويألمون مما آلت إليه مصر من حكم المستعمرين لها وقضائهم على دستورها، وكان هؤلاء الإخوان يحدثون عرابي عن عباس وكيف أخذ يناهض الاحتلال حتى أذله كرومر وأرغمه على مصانعة الاحتلال، وعن تخاذل النفوس أيام أن كان عرابي في منفاه، وكان الأسى يرمض جوانح هؤلاء الذين خاضوا غمار الثورة وشعروا بالعزة القومية قبل الاحتلال، وهم لا يملكون اليوم إلا أن يسألوا الله أن يجعل لمصر مخرجا مما هي فيه ...
وكان عرابي في أواخر أيامه يكثر من تلاوة القران، ويحرص على أن يؤدي أبناؤه الصلوات في أوقاتها، وكان يؤمهم ويحرم على الذكور منهم التحلي بأية حلية ذهبية ويحفظهم القرآن الكريم، وقد قرأ عليه أحدهم نهج البلاغة وهو غلام، وكان يحبذ لهم الجد والاحتشام، ومن ذلك أنه غضب على أكبر أبنائه؛ لأنه حلق لحيته ولم يرض عنه حتى أطلقها مرة ثانية ...
وكان عرابي يتألم كلما سمع الناس يثنون على حركته القومية ويعدونها الخطوة الأولى لما بعدها من نهوض، كما كان يتألم جدا إذا علم أن الجيل الناشئ يجهل هذه الحركة التي لم تجد دفاعا عنها، والتي عمل الاحتلال على أن يصورها صورة بعيدة كل البعد عن حقيقتها ...
حدثني أحد أبنائه أن أباه قال له ذات مرة غاضبا لما رآه من جهل الجيل الجديد بحركته : إن هذه الحركة سوف يقيض الله لها من يفهمها حق الفهم من أبناء الجيل القادم الذين يفطنون إلى ألاعيب الاحتلال وتثور نفوسهم عليه وحينئذ يعرفون ما فعلناه من أجل الوطن ويعملون على هذا الطريق ... •••
والحق أن الاحتلال قد أضل الناس كثيرا عن ثورة عرابي، وساعد الاحتلال عدة عوامل، منها الخوف، والجهل، وعدم التمكن من نشر شيء عن هذه الثورة بقصد الدفاع عنها؛ لأن هذا يغضب الاحتلال من جهة، ويغضب الخديو من جهة أخرى؛ إذ كان عباس يحقد أشد الحقد على عرابي معتقدا أنه أراد يوما أن يخلع أباه ويقيم حليما بدله.
وكان الاحتلال ينشر في مدارسنا أن عرابي جاهل، أحمق، مغرور، ساق البلاد إلى الفتنة والخراب.
ولم ينصف عرابي إلا صديقه بلنت حين نشر سنة 1907 كتابه «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» ولكن هذا الكتاب لم يقرأه إلا عدد من الإنجليز، فلم يكن له أثر يذكر في مصر ...
وكل ما استطاع عرابي أن يفعله للدفاع عن نفسه وعن قضية الوطن هو أنه كتب لبلنت - بناء على طلبه - تاريخا موجزا لحياته وحركته سلمه إليه الشيخ عبيد في 26 مارس سنة 1903 فنشره بلنت في آخر كتابه عند طبعه ...
ظل عرابي حتى السنوات الأخيرة من عمره مرتفع الهامة منتصب القامة حتى أشرف على السبعين وهو قوي البدن جم النشاط، إلى أن أصيب بمرض أقعده؛ ذلك هو السرطان الذي أصابه في المثانة ...
وتولى علاجه ثلاثة من الأطباء هم: أحمد بك عيسى ومحجوب ثابت، وأنيس أنسي، ولكن هذا الداء قد استعصى على العلاج ...
وكان عرابي قد دون مذكراته عن الثورة في ثلاث كراسات كبيرة
1
تكلم فيها عن حوادث الثورة جميعا، فلم يترك ناحية منها إلا ذكرها ... وقد حرص على كتابة ثلاث صور منها، إحداها محفوظة بدار الكتب المصرية، والثانية والثالثة لدى أبنائه ... •••
وفي 26 يوليو سنة 1910 فرغ من كتابة هذه المذكرات وقد اختتمها بذكر جميع من فتحوا مصر وتغلبوا عليها منذ عهد الفراعنة حتى الاحتلال البريطاني ووضح كيف تخلصت مصر منهم جميعا، ثم قال: «فعلى الجيل الجديد أن يجد ويجتهد ويعمل ليلا ونهارا على استرداد مجده واستقلاله وحريته المسلوبة منه ومطالبة الإنجليز بالجلاء حتى ينكشف عنه هذا البلاء، ثم إني أدعو الشعب المصري ألا يقلد التمدن الأوربي المزيف حتى لا يرتكب المنكرات التي نهى الله عنها وأن يأمر بالمعروف الذي أمر الله به، وأن يترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يقيم شعائر الدين الحنيف ويحيي مناسكه، فلا عز ولا انتصار بغير الدين وهو وحده يكفل لمن اتبعه بإخلاص هناء الدنيا وثواب الآخرة، ثم أناشدهم أن يشدوا أواصر الإخاء بين أبناء وطنهم وينزعوا ما في قلوبهم من غل وضغينة ويعملوا يدا واحدة وقلبا واحدا لرفع شأن بلادهم وإعزاز كلمة دينهم، فإذا فعلتم كل ما ذكرت وأرهفتم آذانكم للسمع وأصختم إلى نصائح حكيم مجرب، عندئذ يخرج الله أعداءكم ويولي عليكم خياركم والله على كل شيء قدير» ...
وفي 20 سبتمبر سنة 1911 اشتدت وطأة المرض على الزعيم الشيخ وكان قد انتقل إلى منزل في المنيرة فأوصى أولاده بنشر مذكراته مهما قابلهم من عقبات؛ ليعلم الناس حقيقة أعماله وما أراده من الخير لوطنه، وأن يلحوا على المطالبة بحقهم حتى ينالوه ... •••
وغاب الزعيم الشيخ عن وعيه 36 ساعة لم يتكلم فيها أو يفتح عينيه أو يدري شيئا مما حوله، ثم وافاه الأجل المحتوم في 22 سبتمبر سنة 1911 الموافق 27 رمضان سنة 1329، فأصبح في ذمة الله وسجل التاريخ.
ولم يكن لدى أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه فاضطروا إلى عدم إعلان نبأ وفاته حتى اليوم التالي، حتى قبضوا معاشه؛ إذ صرفت وزارة المالية المرتبات والمعاشات في هذا اليوم بمناسبة عيد الفطر المبارك ...
ولم يشيعه إلى مقره الأخير رجل رسمي واحد، أو يحضر في مأتمه، ولكن مصر الوفية التي طغى عليها الاحتلال فتباعدت عنه في حياته، أبت إلا أن تكرمه ميتا فأحاط بنعشه الألوف من أبنائها وتألفت من هؤلاء جنازة شعبية عظيمة سارت في صمت وخشوع من داره بالمنيرة حتى قبره بالإمام الشافعي؛ حيث أهيل عليه التراب، بين ترحم المترحمين وبكاء الباكين ...
وستنقضي العصور والأعوام، ويبقى في أذهان بني الأجيال القادمة أن أحمد عرابي كان زعيم القومية المصرية الأول وكان الفلاح المصري الأول الذي دعا إلى حرية قومه وحارب في سبيلها ونفي وذاق ألم الفاقة والحرمان من أجل مصر، وكان صاحب الصيحة الأولى وصاحب الخطوة الأولى في سبيل الكرامة القومية والنهوض بمصر على أساس الدستور والحرية، جزى الله عرابي جزاء المحسنين عن أمته وأسكنه فسيح جناته ...
Halaman tidak diketahui