Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Genre-genre
أما السبب الثاني، ولعله فيما أحس أقوى السببين، فهو أن خسرو سعى سعيه حتى حرم عرابي من أرض أنعم عليه بها الخديو إسماعيل فيمن أنعم عليهم من رجال الجيش، وذلك عقب حفلة سر فيها الخديو من حسن نظام الجند.
وما زال خسرو يكيد له حتى رفت من الجندية كما أسلفنا، ولنا أن نتصور مبلغ ما وقع في نفسه من السخط والثورة على خسرو وعلى الشراكسة جميعا في شخص خسرو.
والذي يعنينا مما كان بينه وبين خسرو أنه يصور لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف.
كذلك يكشف لنا ما علق به عرابي على هذه القصة عن ناحية من نواحي عقله، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من مصائب معددا أسماءهم مبينا ما لحق بكل منهم، موردا ذلك على أنه انتقام له من الله ... وفي هذا نوع من السذاجة في رأي من ينظرون إلى مثل هذه العقائد نظرة يقولون: إنها حرة، ونوع من الإيمان في نظر آخرين لا يعرفون هذه النظرة التي يصفها أصحابها هذا الوصف، كما أن فيه دليلا على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه.
على أن خصومه قد استغلوا هذه الناحية الدينية من حياته استغلالا مرذولا؛ إذ يحاولون أن يسوقوها دليلا على أنه كان رجلا لا يختلف كثيرا عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، وليتهم يشعرون أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم، وأنهم يسيئون إلى أنفسهم ولا يسيئون إليه.
كان للدين سلطان على عرابي ما في ذلك شك، ولكن تلك كانت نزعة العصر، على أننا نسأل: ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يساق هذا على أنه من مساوئه وخليق به أن يعد من حسناته؟ وهل عاب أحد هذا العيب على كرمول، وهو جندي مثله، في تزمته وتقشفه وصرامته في دينه؟ وهب أن عرابيا كان يغلو أحيانا فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصل بالسياسة، فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على أنه اتخذ يوما من الدين سلاحا في غير موضعه؟ أو أنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مبعدا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو بعد أن ظلت ظلامته لديه هذه السنوات الثلاث مهملة لغير سبب ظاهر، ولقد تأصل في نفسه كره الاستبداد في كافة صوره كما استقر في قلبه حب الانتقام من هؤلاء الشراكسة الذين يراهم أذى ونقمة على العنصر الوطني.
وطلب عرابي أن يحال على الأعمال المدنية ليبعد عن دسائس أعدائه كما يقول في مذكراته، وإنه ليذكر أنه بذل في تلك الأعمال جهدا عظيما ووفر في أحدها للخزانة مبلغا كبيرا كان - لولا نشاطه - ذاهبا لا محالة إلى خزانة إحدى الشركات الأجنبية، ولكنه رأى غيره يكافأ مكافآت مالية. أما هو فكان جزاؤه كما يقول: «وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيالله ما أمر وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة!»
على أن بلنت يذكر في كتابه أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سببا من أسباب نقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمرين.
ولم يلبث عرابي أن أعيد إلى صفوف الجيش، وكانت الحكومة تستعد للحملة الحبشية فرقت بعض رجال الجيش إلى مناصب أعلى مما كانوا فيها، ولم يرق عرابي، وكان قد جعل على ديوان الحربية في ذلك الوقت الأمير حسين كامل بن إسماعيل باشا. ويقول عرابي في مذكراته: «وبعد اختيار المختارين للفرقة الثانية من الذين ترقوا بحضرة الأمير المشار إليه قال للذين تأخروا عن الترقي: اجتهدوا أيها الضباط في التعليم والتمرين حتى تدركوا ما وصل إليه إخوانكم الذين ترقوا، والله يشهد وفطاحل الجهادية أن المتأخرين في الترقي هم أساتذة الذين ترقوا في العلوم الحربية وهم أرقى أخلاقا وأدبا ... ولكن الغرض يعمي ويصم ... ثم التفت الأمير إلي وقال بلهجة الأسف: إني طلبت من أفندينا ترقيتك إلى رتبة الميرالاي، فقال: إنك من بتوع سعيد باشا، فقاطعته الكلام، وقلت: إني لست بتاع أحد، بل خادم الحكومة والوطن وبلدي هرية رزنة بمديرية الشرقية، ولكن بتاع سعيد باشا هو راتب باشا لأنه ملكه، فقال: لا تفتر همتك في تأدية واجباتك وإني سأبذل جهدي في ترقيتك عند ترتيب الفرقة الثالثة، فشكرت له وخرجت وأنا شاعر بأني لا أنال خيرا في عهد والده لأني متحقق من أن خسرو باشا، وراتب باشا ورؤساء الشراكسة يعارضون في ترقيتي بكل ما في قدرتهم. وقد سمعت من أحد أمرائهم وهو رجل معتدل غير متعصب لبني جنسه على ما فيه من غلظة أنه حضر مجلسا لأولئك الشراكسة حيث تذاكروا في اختيار الذين يريدون ترقيتهم إلى الفرقة الثالثة فعرض عليهم ترقيتي إلى رتبة الأميرالاي مراعاة للحق والإنصاف فأبوا عليه ذلك، فقال لهم: ربما ترقى قهرا عنكم يوما ما إذا لم يرتق برضائكم واختياركم وأنتم تعلمون أنه أقدم القائمقامات وأعلمهم، وفيكم من كان تحت إمرته، فالأولى بكم ألا تعرضوا أنفسكم للانتقاد، ولكنهم لم يزدادوا إلا عتوا ونفورا، ولما ترتبت الفرقة الثانية والثالثة وتم ترقي الضباط، لم يقدر ناظر الجهادية الأمير حسين كامل باشا على الوفاء بوعده لإصرار السردار راتب باشا على رفض ترقيتي، ومن الغريب أن الآلاي الذي تحت إدارتي ظل خاليا من ضابط من رتبة الأميرالاي مدة ثمانية أعوام، وكنت أنا القائم بوظفية الأميرالاي بأحسن نظام وأكمل تربية وأدق تعليم وأحسن هيئة عسكرية، فما أوضح هذا الظلم المبين!»
Halaman tidak diketahui