Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Genre-genre
وكنت أبدا أحد المخالفين الذين يحسون في قرارة أنفسهم أن الرجل مظلوم وأنه مفترى عليه، وكنت أسأل نفسي دائما: أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلا ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي فيما افتري عليه من سيئات، كذلك قل أن نجد في رجالنا رجلا كرهه أكثر بني قومه مضللين، واستنكروا أعماله جاهلين، بقدر ما كره هؤلاء عرابيا، واستنكروا ما فعل وما أسند إليه من الأعمال زورا وإفكا، وفي ذلك دليل قوي على أن التاريخ قد يظلم عامدا كما قد يخطئ غير عامد، وفيه كذلك دليل على أن الأمور كثيرا ما تجري فيه كما يشاء الحظ لا كما يكون العدل والقسطاس، فيكون نصيب بعض الرجال من التعظيم والتوقير بقدر ما يتوافى لهم من حظ لا ندري كيف اتفق لهم دون غيرهم، بينما يجني على كثير من ذوي النفوس الصحيحة والعظمة الصادقة ما يلحق بهم من سوء الطالع وما يحيط بهم من نحس الأيام ...
وما كان عرابي فيما أعتقد إلا طالب حق يلحق به في طلب الحق الخطأ والصواب كما يلحق بغيره، ولعلي استطعت أن أجلو ذلك في سيرته بقدر ما وصلت إليه من الأدلة في تلك السيرة التي بالغ كثير من ذوي الأغراض في تشويهها والحط من قدر صاحبها.
ومهما يكن من الأمر فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصا فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة نجم من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية من القضايا الوطنية الكبرى، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في ظرف هام من ظروف نهوضها علما على الجهاد ورمزا للمقاومة ومثلا للقومية حتى شاءت الأقدار فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها الفلاحين يذود عن أراضيها ويقف غير طامع ولا هازل في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها.
بهذه الروح كتبت عن عرابي، وعلى هذا الأساس بينت سيرته. فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم بل هو - فيما أرى - أصح المقاييس وأهمها. أما الصواب والخطأ وما إليهما فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء ...
وإني إذ كنت أكتب سيرة عرابي، كانت تقوم في ذهني المفتريات التي افتريت عليه، ولكن ذلك لم يضعف قط إحساسي بأنه كان شديد الإخلاص لقضيته، متوقد الحمية في وطنيته، شديد الأنفة في قوميته. وليس بضائره بعد ذلك ما يرميه به المبطلون أو المغرضون، ولو قد واتاه الحظ الأعمى كما واتى الآلاف غيره من الزعماء والقواد فانتصر في معركة التل الكبير، أو لو أنه لم يحط به من الخيانة في أصرح صورها وأقبحها ما أحاط به وأبلى في تلك المعركة بعض البلاء أو قتل في غمرتها لرأينا اليوم له التماثيل في عواصمنا، ولزخرت الكتب بالثناء عليه.
وعندي أنه من أكبر الظلم أن تنسى حسناته وهي لعمر الحق كثيرة ولا تذكر إلا أخطاؤه ما اقترفه وما افتري عليه منها، لتساق أدلة على ما يشاء بعض المؤرخين نعته به ...
ولقد كان هذا الظلم الذي لقيه الرجل على أيدي فريق من بني قومه هو حافزي للكتابة، فأخذت أنشر سيرته تباعا في مجلة الرسالة الغراء، وما إن رأى بعض أبنائه المقال الرابع حتى تفضلوا بزيارتي بدار المجلة معبرين لي عن شكرانهم، ثم وضعوا بين يدي مذكراته المخطوطة وبعض الكتب التي كانت ترد إليه في منفاه وغيرها من الوثائق والصور العظيمة القيمة، مما أثنى عليهم من أجله أعظم الثناء ...
ومما طبت له نفسا ما أفضى إلي به أحدهم ومؤداه أن والده رحمه الله تنبأ بأن الذي سيدافع عنه هو شاب من شباب الجيل القادم الذي لم يفسده الاحتلال ...
وما زادتني هذه النبوءة إلا اهتماما بدراسة سيرته لعلي أكون هذا الشاب الذي يحسن أن يدافع عن عرابي. ولقد كنت قبل هذا - كما ذكرت - أحس أنه مظلوم وأن أعداءه بالغوا في الكيد له والزراية عليه، وآلمني من هذا الظلم فضلا عما يلحق عرابيا منه أنه ينال كذلك من حركة مصر القومية على يديه، تلك الحركة الجليلة التي حاول المبطلون تشويهها. •••
Halaman tidak diketahui