ولم أر مثل الدمع ماء إذا جرى ... تلهب منه في الأصابع نار
فجعل الماء علة النار، وأن جريانه سبب لتلهبها.
وقد أحسن الصاحب غاية الإحسان في قوله:
لا تحسبن دموعي البض غير دمي ... وإنما نفسي نار تصعد (...)
ولابن عباد أحد سلاطين الأندلس:
نار وماء صميم القلب أصلهما ... متى حوى القلب نيرانا وطو (فانا)
ضدان ألف هذا الدهر بينهما ... لقد تلون في الدهر ألوا (نا)
وأما قول القاسم:
وجاركم في حرم ... ووفركم في حرب
فمعنى متداول أيضا. ومن مليح ما قيل فيه:
لك العرض المباح لمن بغاه ... من العافين والعرض المصون
وجارك ضد مالك منذ أما ... محلك، ذا يعز، وذا يهين
وعلى ذكر قاسم، فللقاضي الرشيد محمد بن قاسم - وكتب به إلى صديق له كانت جاريته تزور داره، فجاءت على عادتها، وسألها أهله أن تقيم عندهم - فاستزار مولاها بقوله:
سيدة الروم رام عترتها ... مقامها عندهم إلى العتمه
فكن صلاة العشاء زائرنا ... والنون للجمع ليس للعظمه
ولقد ملح ابن قاسم وتظرف، كما تنوع قاسم وتصرف.
الغزالي:
حلت عقارب صدغه في خده ... قمرا فجل بها عن التشبيه
قد كنت أعهده يحل ببرجها ... فمن العجائب: كيف حلت فيه؟!
ولما أنشد المملوك هذين البيتين ابن مكنسة عمل بديها:
قلت ... إذ ذرفن الدلا
ل على خده الشعر
هذه آية بها ... ظهر الحسن واشتهر
ما رئي قبل صدغه ... عقرب حلت القمر
وعلى ذكر القمر والعقرب فقد أحسن ابن المغربي في قوله - وقد لسبت العقرب جارية كان يهواها -:
كم تستحم العين فيك بمائها ... حتى كأن بها جنون المذهب
إن كان نالك مؤلم من عقرب ... فالبدر ممتحن ببرج العقرب
وبرج العقرب: هبوط القمر. وقد جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ نهى عن السفر إذا كان القمر في برج العقرب.
ولمحمود بن القاضي الموفق:
لام العواذل مغرما ... في حب ملهية وقينه
ولو أنهن رأين تأ ... ثير الغرام به وقينه
وهذا تجنيس لفظي خطي تركيب، فأما الخط واللفظ فواضحان، وأما التركيب فالكلمتان في عدته متساويتا، وذلك أن الواو في الأولى عاطفة، وهي في الثانية من أصل الكلمة، والنون في الأولى من أصل الكلمة، وفي الثانية ضمير جماعة المؤنث، فأما الهاء فهي في الأولى تاء التأنيث المبدلة هاء في الخط والوقف، وفي الثانية ضمير المفعول الذي هو المغرم.
وهو يكثر من استعمال هذه الطريقة، وهي من أحسن ضروب التجنيس، فمن ذلك قوله:
وقد كان رأيك ركني الذي ... عليه اعتمادي وها قد وهى
ومن هذه الأبيات:
ترى الشمس يسمو بها أوجها ... إذا قابلت منهم أوجها
والمملوك يختم هذا الجزء ببعض ما لهذا المملوك محمود من الخدم الشريفة، تحريا للصدق الذي لا يشوبه إفك، وعملا بقول الله - عز من قائل -: (ختامه مسك) فمن ذلك قوله من قصيدة:
لي مهجة جفناك قد فتناها ... وبغى العدو أذاتها فتناهى
ما كان أفتاها بوصلي رحمة ... فمن الذي بقطيعتي أفتاها؟
آها لما صنع الهوى بل واها ... فيه تلذ نفوسنا بلواها
ندية الأردان يفعم نشرها ... فكأنه أوصاف شاهنشاها
هادي الدعاة الأفضل الملك الذي ... فخر الزمان بما أتاه وتاها
قد كان عدم العدل أقنط أنفسا ... فجعلتها تقوى على تقواها
وقوله من قصيدة أخرى:
إني لأشكر بدر الخدر حين بدا ... وقد تقارب حيانا فحيانا
يرضي الهوى والتقى والعاذلات فما ... ينفك يجمع إحصانا وإحسانا
إن طالما أوضعت في الغي راحلتي ... فقد حمانيه وصف الأفضل الآنا
سيف الإمام الذي فخر الملوك بأن ... غدت تعفر في ناديه تيجانا
يقري العيون جمالا والعفاة جدى ... ملء الأماني والجانين غفرانا
أغليت قيمة هذا النظم فارتفعت ... وكان كلا على الأذهان إذ هانا
فما يجوز زمان أنت مالكه ... ولا يروعنا ما دمت ترعانا
1 / 52