أيد الله القاضي، إنه كانت لي مملوكة رشيقة القد، أسيلة الخد، صبورة على الكد، تخب أحيانا كالنهد، وترقد أطوارا في المهد، ذات كف ببنان، وفم بلا أسنا، مطبوعة على المنفعة، مطواعة في الضيق والسعة، وطالما خدمتك فحملت، ولربما جنت عليك فآلمت وململت، وإن هذا الفتى استخدمنيها لغرض، فأخدمته إياها بلا عوض، على أن يجتني نفعها، ولا يكلفها إلا وسعها، فأولج فيها متاعه، وأطال بها استمتاعه، ثم أعادها وقد أفضاها، وبذل عنها قيمة لا أرضاها.
والذي نسبه إلى الولد: أما الشيخ فأصدق من القطا، وأما الإفضاء ففرط عن خطا، وقد رهنته على أرش ما أوهنته مملوكا لي متناسب الطرفين منتسبا إلى القين، نقيا من الدرن والشين، يقارن محله سواد العين، يغذي الإنسان، ويتحامى اللسان، إن سود جاد، وإن وسم أجاد، وإذا زود وهب الزاد، ومتى استزيد زاد، لا يستقر بمغنى، وقلما ينكح إلا مثنى، يسخو بموجوده، ويسمو عند جوده، وينقاد مع قرينته، وإن لم تكن من طينته.
والذي نسبه إلى القاضي: إما أن تبينا، وإلا فبينا! فقال الولد:
أعارني إبرة لأرفأ أط ... مارا عفاها البلى وسودها
فانخرمت في يدي على خطأ ... مني لما جذبت مقودها
فاعتاق ميلي رهنا لديه ونا ... هيك بها سبة تزودها
فالعين مرهى لرهنه ويدي ... تقصر عن أن تفك مرودها
وقال الشيخ:
أقسمت بالمشعر الحرام ومن ... ضم من الناسكين خيف منى
لو ساعفتني الأيام لم ترني ... مرتهنا ميله الذي رهنا
ولا تصديت أبتغي بدلا ... من إبرة غالها ولا ثمنا
لكن قوس الخطوب ترشقني ... بمصميات من هاهنا وهنا
وخبر حالي كخبر حالته ... ضرا وبؤسا وغربة وضنا
قد عدل الدهر بيننا فأنا ... نظيره في الشقاء وهو أنا
لا هو يستطيع فك مروده ... لما غدا في يدي مرتهنا
ولا مجالي لضيق ذات يدي ... فيه اتساع للعفو حين جنى
فهذه قصتي وقصته ... فانظر إلينا وبيننا ولنا!
وقال في وصف كرم الخلق: أنا أراعي الجار ولو جار، وأبذل الوصال لمن صال، وأستقل الجزيل للنزيل، وأغمر الزميل بالجميل، وأودع معارفي عوارفي، وأولي مرافقي مرافقي، وألين مقالي للقالي، وأديم تسآلي عن السالي، وأقنع من الجزاء، بأقل الأجزاء، ولا أتظلم حين أظلم، ولا أنقم ولو لدغني الأرقم.
وقال في عكس ذلك: أنا لا آتي غير المواتي، ولا أصافي من يأبى إنصافي، ولا أواخي من يلغي الأواخي، ولا أمالي من يخيب آمالي، ولا أداري من جهل مقداري، ولا أبذل ودادي لأضدادي، ولا أدع إبعادي للأعادي، وإلا فلم أعلك وتعلني؟ وأقلك وتستقلني؟ وأجرح لك وتجرحني؟ ومتى أصحب ود بعسف؟ وأي حر رضي بخطة خسف؟
قد كلت للخل كما كال لي ... على وفاء الكيل أو بخسه
ولست بالموجب حقا لمن ... لا يوجب الحق على نفسه
ومن مليح شعره قوله:
لقد أصبحت موقودا ... بأوجاع وأوجال
وخوان من الإخوا ... ن قال لي لإقلالي
فكم أخطر في بال ... ولا أخطر في بال
فمحرابي أحرى بي ... وأسمالي أسمى لي
فهل حر يرى تخفيف أثقالي بمثقالي
وقوله:
إني امرؤ أبدع بي ... بعد الوجا والتعب
فزفرتي في صعد ... وعبرتي في صبب
وأنتم منتجع الراجي ... ومرمى الطلب
لهاكم منهلةٌ ... ولا انهلال السحب
وجاركم في حرم ... ووفركم في حرب
ما لاذ مرتاع بكم ... فخاف ناب النوب
ولا تستدر آمل ... حباءكم فما حبي!
فأما قوله:
فزفرتي في صعد ... وعبرتي في صبب
فمن المعاني التي تصرف فيها الشعراء وتفننوا، وتوسعوا توسعا أجادوا فيه وأحسنوا، فمن ذلك قول ابن أبي سعيد:
شتان في الحالين ما بيننا ... وبيننا في المنظرين اشتباه
يا عجبا من حرقات الهوى ... تصعد نيرانا وتجري مياه
وهذا أصنع من بيت القاسم بن علي، لأن القاسم جعل الزفرة غير العبرة، فهذا في ارتفاع والتهاب، وهذه في انحدار وانصباب، وابن أبي سعيد جعلهما شيئا واحدا إذا صعد كان نارا، وإذا جرى كان ماء، فالنار علة الماء؛ لأن صعودها يجريه.
وقد عكسه الآخر في قوله:
1 / 51