Morale proisoire
إنما هو نموذج حي للرغبة في «التقية» والابتعاد عن شر أصحاب السلطان بمداراتهم والاستسلام لأوامرهم. ومن الجائز أن ديكارت كان مضطرا إلى ذلك، وخاصة بعد أن شهد بعينيه ما لحق بجاليليو. غير أن المرء لا يملك عندما يقرأ ما كتب في هذا الصدد إلا أن يتفق مع «بريدو
Bridoux » الذي قال معلقا على الجهد الشاق الذي بذله ديكارت لكي يستعيد ما كان لديه من حظوة لدى السلطات: «إن هذا ليس أفضل جوانب ديكارت؛ إذ لا يملك المرء إلا أن يعترف بأنه يبدي في أحيان كثيرة دبلوماسية مفرطة في تعامله مع الأشخاص وطريقة عرضه لأفكاره.»
12
ومن المسلم به أن هذا الحذر الذي توخاه ديكارت قد ظهر أوضح ما يكون في آرائه عن العالم والطبيعة؛ لأن هذا الموضوع هو الذي كان يثير ضجة هائلة في الأوساط الثقافية الأوروبية بعد محاكمة جاليليو. ولكن من المؤكد أن نفس الحذر كان ينطبق على آرائه الميتافيزيقية. بل إن هذه الآراء قد تكون - ومن وجهة معينة - وسيلة يستعين بها ديكارت لإرضاء السلطات الغاضبة على أفكاره العلمية، فمحاولة إثبات وجود الله وصدقه وخلود النفس معناها أن ديكارت كان، في جانب واحد من نشاطه العقلي، يعالج نفس المشكلات التي دأبت المذاهب التقليدية على معالجتها، ويضع لتفكيره نفس الأهداف.
ومع ذلك يبدو أن معاصري ديكارت لم يكونوا مطمئنين كل الاطمئنان إلى أن نواياه، في عرضه لمذهبه الميتافيزيقي، كانت خالصة، ويشهد بذلك ما قلناه من قبل عن خصمه «فويتيوس» الذي اتهمه بأنه يتعمد أن يقدم براهين غير مقنعة على وجود الله لكي يزعزع إيمان الناس، وبالمثل فإن «ريجيوس
Regius » الذي كان في البداية تلميذا مخلصا لديكارت ثم انقلب فيما بعد إلى خصم له، كان يعتقد بأن الميتافيزيقا لا تتلاءم مع تعاليم الدين، الأهم من ذلك أنه كان يشك في أن يكون ديكارت قد صرح بكل ما في ذهنه عندما قدم مذهبه الميتافيزيقي. وهكذا كتب إليه في يوليو 1645م رسالة يقول فيها: «إن كثيرا من ذوي العقل الراجح والشرف قد ذكروا أن تقديرهم لسمو عقلك يمنعهم من الاعتقاد بأن لديك في قرارة نفسك أفكارا مضادة لتلك التي تظهر علنا باسمك، وحتى لا أخفي عنك شيئا، فإن الكثيرين على ثقة من أنك أسأت إلى نفسك كثيرا بنشرك لآرائك الميتافيزيقية، التي لا تؤدي إلا إلى مضاعفة الشك والغموض.»
وكان رد ديكارت على ذلك - وهو رد بعث به في الشهر نفسه - غير كاف لتبديد هذا الشك، إذ يقول فيه: «إنني أعترف بأن من الحكمة السكوت في ظروف معينة، وألا يقدم المرء إلى الجمهور كل ما يعتقد. أما أن يكتب المرء بلا داع شيئا مضادا لآرائه الحقة، ويحاول إقناع قرائه به، فإني أرى في ذلك وضاعة وخبثا محضا»، وبطبيعة الحال فإن من يقرأ كتابات ديكارت ورسائله الكثيرة التي كان يعرب فيها عن ضرورة التحوط والحذر لأن الظروف تقتضي ذلك، لا بد أن يوقن بأن ديكارت لم يفعل ذلك «بلا داع»، فقد كانت لديه - من وجهة نظره الخاصة - كل الأسباب التي تبرر التجاءه إلى الحذر، والحذف أو الإضافة وفقا لما تقتضيه الظروف. (6)
وأخيرا، فإنا نعلم أن هناك الكثيرين يعترضون بشدة على الرأي القائل: إن الميتافيزيقا كانت عند ديكارت وسيلة من الوسائل التي حاول بواسطتها التخفيف من وقع آرائه في العالم الطبيعي، ولدى هؤلاء المعترضين أسباب متعددة يبررون بها اعتراضهم. ومن المستحيل أن يتسع المجال هنا لأكثر من إشارة أو تسجيل لوجود هذين الموقفين المتضادين.
ومع ذلك يظل من الصحيح أن ديكارت ذاته قد صدرت عنه عبارات كثيرة تدل على أن الهدف الأكبر لتفكيره كان علميا، بل كان نهاية الأمر تطبيقا، على حين أن الميتافيزيقا لم تشغل من حياته إلا جانبا ثانويا، ولنستمع إليه في التأمل السادس حين يتحدث عن العالم الذي يريده أن يصبح مصنعا هائلا يستطيع فيه المرء - عن طريق الآلات - أن «يستمتع دون أي عناء بثمار الأرض وكل ما فيها من خيرات»، أو حين يتحدث عن تقدم الطب الذي «يتيح للناس حياة طويلة سليمة»، ويؤكد ضمنا أن الموت ليس شيئا طبيعيا على الإطلاق، وأن «الشيخوخة نوع من المرض، وضعف قد يكون من الممكن الاهتداء إلى علاج له»،
Halaman tidak diketahui