ولكن من الواضح لمن يدرس أحوال الفكر في ذلك القرن الخصب أن تلك السمة لم تكن تقتصر على فيلسوف واحد. بل إنها كانت تمثل وضعا حضاريا عاما كان يسري - بدرجات متفاوتة - على كل الشخصيات الفكرية الكبرى في ذلك العصر.
والحق أن رسائل ديكارت تزخر بأمثلة تدل على خوفه الشديد من الاضطهاد، واضطراره إلى عمل حساب لرد فعل السلطات على ما يكتب، وخاصة بعدما بلغته أنباء المحاكمة التي تعرض لها جاليليو بسبب آرائه العلمية، والتي نجا بها من فتك محاكم التفتيش بصعوبة بالغة. وهكذا اضطر ديكارت إلى أن يحجب كتابا عن العالم (
Traite du monde ) كان يعتزم نشره. وكان يتضمن آراء مشابهة لتلك التي أدين من أجلها جاليليو، وكتب إلى صديقه مرسين
Mersenne
في يوليو 1633م يقول: «وهذا الموضوع (أي حركة الأرض) مرتبط بكل أجزاء البحث الذي كتبته (أي كتابه في العالم) إلى حد يستحيل معه فصله عنها دون أن تصبح بقية الأجزاء ناقصة نقصا مخلا. ولكني لما كنت لا أرغب البتة في أن يصدر عني قول يتضمن أقل كلمة لا تقرها الكنيسة، فقد آثرت أن أحجب هذا البحث بدلا من أن أصدره مبتورا»، وبتاريخ 10 يناير 1634م كتب إلى مرسين في المعنى نفسه يقول: «إنك تعلم ولا شك أن جاليليو قد حوكم منذ فترة قصيرة على يد قضاة التفتيش على العقائد، وأن رأيه عن حركة الأرض قد أدين بوصفه بدعة وهرقطة؛ على أنني أود أن أخبرك بأن كل الأمور التي شرحتها في كتابي «عن العالم» والتي كان من بينها أيضا فكرة حركة الأرض، يعتمد بعضها على بعض إلى حد يكفي معه أن يكون أحدها باطلا لكي يقتنع المرء بأن كل الحجج التي استخدمتها واهية، وعلى الرغم من إدراكي أنها ترتكز على براهين شديدة الوضوح واليقين، فإني لا أرغب البتة في الدفاع عنها ضد سلطة الكنيسة، وإن رغبتي في أن أعيش في هدوء، وأن أواصل الحياة التي بدأتها متخذا لنفسي شعارا من المثل القائل: «من عاش هادئا عاش سعيدا.» لتجعل شعوري بالارتياح لتخلصي من الخوف الذي كان يمتلكني من أن أكتسب عن طريق هذا الكتاب شهرة تفوق ما أريد، يطغى على شعوري بالأسف على ما أضعته في تأليفه من وقت وما بذلته من جهد.»
وفي «المقال في المنهج» يصف ديكارت كيف تردد طويلا في نشر كتابه «في العالم» أو لا ينشره، ثم انتهى إلى النتيجة الآتية: «رأيت أن من اليسير علي أن أختار بضعة موضوعات لا تكون عرضة لمجادلات كثيرة، ولا أضطر فيها إلى أن أعلن من مبادئي أكثر مما أريد. ولكنها تكتشف في الوقت نفسه عما أستطيع وما لا أستطيع أن أفعله في العلوم.»
إن في وسع المرء أن يأتي بعشرات الأمثلة التي تدل على أن ديكارت قد توخى الحذر الشديد في تعبيره عن فلسفته، وأنه كان يكتب وإحدى عينيه على الحقائق التي يريد التعبير عنها، بينما العين الأخرى على رجال الكنيسة وأساتذة اللاهوت في الجماعات، فرسائله تحتشد بعبارات التحوط والخوف من غضب السلطات. بل إنه يقدم إلى أحد تلاميذه - وهو ريجيوس
Regius - درسا علميا في كيفية منافقة الجهلاء ذوي النفوذ من أجل اتقاء شرهم، وتقديم التعاليم الجديدة إليهم بطريقة ملتوية غير مباشرة حتى لا تصدمهم،
11
ومعظم ما كتبه عن الأخلاق المؤقتة،
Halaman tidak diketahui