وقال فتحي فجأة: هل جاء الأولاد؟
وقالت وفية: ليس بعد.
ودار الحديث بين عبد الشكور وفتحي، وعرف منه أن لديه ابنين وابنة، وأن الابنة أكبرهم، واسمها ناهد، وهي في الثانوية العامة في هذا العام. أما الولدان فكلاهما في أواخر الدراسة الإعدادية، يسبق أحدهما واسمه باسم أخاه الأصغر بعامين هما فارق السن بينهما. ولم تفت الفرصة عبد الشكور: واضح أن ثلاثتهم مجتهد في دراسته. - كيف عرفت؟ - فارق الدراسة بين ثلاثتهم متفق تماما مع فوارق السن. - اسم الله عليك، لا تفوتك الفائتة! فعلا ثلاثتهم مجتهد، وإن كان ثلاثتهم لا يقبلون أن يلبسوا إلا أفخر ملبس، وناهد تصر على أن أشتري لها سيارة إذا نجحت في عامها هذا وذهبت إلى الجامعة. - من حقها، ولماذا لا تأتي لها بسيارة؟! - ربنا يقدرنا. - وإلى أي كلية تريد أن تنتسب. - يا سيدي مصممة على الطب، والحقيقة أن تفوقها في دراستها السابقة سيمكنها أن تحقق أملها إن شاء الله. - ستدخل الطب وبكرة نشوف. - قل إن شاء الله. - ستدخل الطب. أنا مكشوف عني الحجاب. - سنرى. - سترى.
وقدمت وفية هانم في ترحاب تدعوهما إلى الغداء. وكانت المائدة عامرة. وأدرك عبد الشكور طبعا أن الذي أمامه من الطعام هو لا شك نصيب الأبناء الذين لم يأتوا بعد إلى البيت، وأدرك أيضا السعة التي يحيا فيها رئيسه المباشر. ولم تفته الخادمة التي تلبس ملبسا محترما وتقوم بشأن ثلاثتهم على المائدة.
قال عبد الشكور وهم يتناولون قهوة ما بعد الغداء: أشرب القهوة وأتركك لتستريح فترة القيلولة. - أنت شرفت. - بل أنا الذي تشرفت فعلا لا مجاملة. هل ستخرج بعد الظهيرة. - طبعا أنا كل يوم أذهب إلى مقر التنظيم. - صحيح. - طبعا. - هل عندك مانع أن أصحبك إلى المقر وأتعرف على الأقيال الذين نعرفهم. - بالعكس فقد كنت سأعرض عليك أن تأتي معي. - متى تذهب؟ - في الساعة السادسة أكون هناك. - أنا سأعود إليك هنا في الخامسة والنصف وأذهب معك. - وهو كذلك. •••
وهكذا قدر لعبد الشكور أن يضع أقدامه على سلم توقع هو أن يصل به إلى السماء السابعة. •••
ذهب عبد الشكور إلى المقر والتقى هناك بسكرتارية الكبار ومساعديهم. واختار في اليوم الأول أن يتعرف إلى ما يرضي كلا منهم. واستطاع فيما تلا ذلك من أيام أن يكون لصيقا للغالبية العظمى منهم، وإذا استعصى عليه أحدهم رفض أن يركن إلى اليأس في شأنه، بل راح يلوب حوله ليعرف الباب الذي يدخل منه إليه ويطرقه، فإن لم يجد الطرق مجديا احتال على فتح الباب بأي وسيلة أخرى، ولو أدى الأمر إلى اصطناع مفتاح مزور.
لقد استقر في أعماق عبد الشكور استقرارا وطيدا أنه يملك ما لا يملكه أحد؛ فهو بلا أصل ولا كرامة ولا مثل، ولا تعنيه مشاعر السماء نحوه، وهو أملس ليس لديه أي شيء يخشى عليه، وهو يعلم أنه ثعلبي الخبث، وأنه ابن سوق، وأنه صاحب مقدرة على التصرف والحديث بما يجعل سامعه في حالة من السعادة والهناء والرضى عن نفسه لا تتهيأ له مع أي إنسان آخر غير عبد الشكور؛ وهكذا لم يكن عجبا أن يطمئن غاية الاطمئنان إلى أنه يحوز في يده كل مفاتيح الغنى، وذلك مؤقتا عن طريق البنك، أما مسالك الجاه فهو يرنو إليها عن طريق معارفه الجدد في مقر التنظيم، منتويا أن يقفز على رءوسهم إلى الصدور والقادة من رؤسائهم، الذين يملكون في يدهم مقادير الناس جميعا. وكلمة جميعا هذه تنصرف إلى المقادير وإلى الناس في وقت معا؛ فقد كان على بينة وثيقة أن حكام ذلك العهد على رأسهم الحاكم الفرد الذي لم يكن الآخرون بالنسبة إليه إلا دمى يحركها كما شاءت أهواؤه. كان على بينة أنهم يملكون من الناس مقاديرهم، ليس في وظائفهم أو أعمالهم العامة وحدها، بل كانت أيدي الحاكم والدمى تمتد إلى خاصة حياتهم والمستتر الخافي من شئونهم وشئون ذويهم.
وكان واثقا أيضا أن طاغية العهد لا شأن له مطلقا بالإيمان بالله ولا بأحكامه ولا بآخرته.
كان عبد الشكور على بينة من هذا جميعه، فأدرك أن المستقبل لن يفتح له ذراعيه على مصراعيهما إن لم يجد إلى بلاط الفئة الحاكمة منفذا واسع الأرجاء. وكانت ثقته بمقدار سفالته ونفاقه تملأ نفسه يقينا أنه بالغ من مطامعه ما يشتهي ويريد؛ حتى ليكاد أن يتحدى الأيام أنه لا شك إلى نجاح وفلاح.
Halaman tidak diketahui