الدكان حيث كان يبيع لنكولن وترى الدكة الخشبية التي كان ينام عليها.
وكان أبراهام في الحانوت موضع محبة كل من جاءه، كان واسع الصدر فكه الحديث لطيف المعاشرة، خفيفا في إجابة كل قادم إلى مبتغاه، حريصا على رضاه لا يضيق ولا يتململ من ثرثرة بعض زبائنه أو ترددهم بين الأصناف أو مساوماتهم في الأثمان، فيقنع هذا بالحجة ويرد على ذاك بنكتة؛ جاءته عجوز تشتري شيئا فضجرت من دقته في الميزان وقالت: «لم لم يضعوا غيرك في هذا الدكان فكنا نستريح من وجهك القبيح؟» فنظر إليها باسما وقال: «ولدني أبواي يا سيدتي جميلا، ولكن أناسا سرقوني وأنا في المهد، ووضعوا مكاني صاحب ذلك الوجه القبيح الذي ترين، فما ذنبي إذن في هذا القبح؟»
وحبب أبراهام إلى صاحب الحانوت أن الناس كانوا يجيئونه ليكتب لهم الخطابات أو ليقرأها أو ليستمعوا إلى قصصه ونوادره، كما كان الآباء والأمهات يحمدون له حدبه على الأطفال وعنايته بإرضائهم وإدخال السرور على نفوسهم، وكثيرا ما رأوه يضاحكهم ويلاعبهم ويعطيهم الحلوى ويصنع لهم اللعب.
على أن الأمانة كانت أحب صفاته إلى الناس جميعا، حتى لقد صار يعرف بينهم باسم «أيب الأمين»، فما يذكره الناس باسمه مجردا من هذه الصفة إلا نادرا؛ حدث أنه أعطى امرأة ذات مرة مقدارا من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة ثلاثة أميال يحمل باقي الشاي، وحدث أن أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل، فلما راجع حسابه سأل عنه حتى اهتدى إليه ودفع له دريهماته، وتروى عنه من هذا القبيل أحاديث كثيرة جعلت الناس يقبلون عليه معجبين.
وعرف الناس أبراهام فوق ذلك باستقامته، فما عهدوا عليه من سوء قط، كان لا يعرف الخمر ولا الميسر ولا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكان يشغل فراغه بالقراءة كعادته منذ تعلم القراءة، وكثيرا ما رآه المارة وقد استلقى على ظهره في الحانوت ورفع أمام عينيه كتابا فما يضعه إلا حين يقصد إليه مشتر ثم يعود إليه متى انصرف، ويظل يقرأ في غير ملل، ولكم كان يتعجب بعض من يراه إذ يسمعونه يجهر أحيانا بقراءته ثم يقفز واقفا إذا أعجبته عبارة فيرددها مرات ثم يثبتها في قرطاس.
وكانت كتبه - إلا قليلا - مستعارة، يسمع عن كتاب فيسعى إلى صاحبه فيستعيره إلى أجل ثم يقرؤه ويرده إليه في ميعاده، ومن ذلك أنه سمع عن كتاب في قواعد اللغة، وكان قوي الرغبة في تعرف تلك القواعد؛ ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب، فاستعاره وأكب عليه حتى أتقن فهمه في أيام قليلة.
ومما قرأه أيب في تلك الأيام صحيفة كانت تكتب في السياسة اشترك فيها على إملاقه، وكان يقبل على قراءتها في استمتاع ولذة، قراءة تعمق ودراسة.
وكان ينام أيب في الحانوت على دكة من الخشب؛ فما له مأوى غيره، على أنه ما تبرم من ذلك أبدا؛ فقد ألف ما هو أخشن من ذلك من مهاد، وحسبه أن يذكر مهده في تلك الأكواخ التي كان ينفذ البرد من خلال ثقوبها إلى بدنه ليحس أنه ينعم بالراحة على هذه الدكة الخشبية.
اتجاه نحو السياسة
ما لهذا الفتى وللسياسة وليس لمن كان في مثل موضعه صلة بالسياسة من قريب أو من بعيد؟ أله من الجاه والثراء ورفعة الحسب والنسب ما يؤهله لخوض هذا المضمار؟
Halaman tidak diketahui