جماعات من السود يساقون كما تساق الأنعام.
ماذا يقول هؤلاء الجنوبيون؟ يقولون ماذا يريد أهل الشمال باستنكارهم حق امتلاك العبيد، وهل يفهم هؤلاء البسطاء من التجار وقاطعي الأخشاب وكتبة المصالح والحراثين نظاما توارثناه عن أجدادنا؟ وماذا عسى أن يصنع هؤلاء الشماليون إذا حرر العبيد هنا فلم نجد من يزرع القطن ويجمعه؟ أنى لهم بعد ذلك القطن الذي يغزلونه وينسجونه؟ ثم أليس حال العبيد الآن خيرا مما لو منحوا الحرية؟ ألسنا نعلمهم النظام والطاعة وقواعد المسيحية، فنخرجهم من حال الهمجية إلى المدنية؟ ثم إننا نطعمهم ونعنى بكسائهم ونسكنهم مساكن صالحة، ولو أننا تركناهم وشأنهم لما انقطعت بينهم المنازعات، وهم أهل قسوة وجهالة، وإننا ما نقسو عليهم أحيانا إلا لنصلحهم ونعودهم الهدوء والنظام.
ذلك منطق أهل الجنوب ولكن ذلك الشاب الغريب في مدينة نيو أورليانز، القادم من الغابة يحس للمسألة وجها آخر في أعماق نفسه لا يمت إلى المنطق ولا إلى المبررات الاقتصادية بصلة، وجها آخر يحسه ولا يستطيع أن يجريه مجرى الجدل، إنه يكره هذا النظام ولن يقدر على أن يحمل نفسه على إقراره. وليقل أهل الجنوب ما اشتهوا أن يقولوا، فلن يستطيعوا أن يزيلوا من أعماق نفسه هذا البغض الشديد لنظام امتلاك العبيد وبيعهم أو شرائهم. على أنه ينتظر فربما تكشف له من أوجه المسألة ما لم يقع حتى اليوم عليه.
وعجل الفتى بالعودة، فضجيج المدنية وزحمتها ومفاتنها وزينتها، كل أولئك يكدر خاطر ابن الغابة، ثم إن منظر هؤلاء السود في غدوهم ورواحهم وفي أسواق بيعهم وشرائهم مبعث ألم لنفسه وحزن لوجدانه، فإلى الغابة في غير إبطاء.
بائع في دكان
لم يلبث أبراهام في كوخ أبيه بعد عودته إلا أياما، ثم خرج منه ومن الغابة ليضرب في الأرض، ولتلقي به الأقدار في مجاهل الغيب، فلن يعود إلى الغابة نجارا، ولن تمسك قبضته الفأس بعد اليوم.
كان أول ما ساقته الأقدار إليه من عمل أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى نيو أورليانز، دكانا في مدينة نيو سالم ليبيع الناس ما يطلبون نائبا عنه، فقد وثق من أمانته ومهارته.
ولقد قطع أبراهام المسافة إلى تلك المدينة ماشيا؛ فما يملك قاربا أو حصانا، وهناك أعد الدكان بنفسه، فصنع الرفوف اللازمة والمناضد وغيرها بيده، ورتب البضائع في أمكنتها، ثم جلس ينتظر القادمين من طالبي تجارته.
وسرعان ما اجتذب الناس بشمائله، فتوثقت الألفة بينه وبين جميع من خالطوه، وعلى الأخص من شهده منهم في حادث النهر يوم تعلق به قاربه على الحاجز الصخري.
وأذاع في الناس صيته حادث آخر غير حادث القارب؛ وذلك أن صاحب الحانوت ما فتئ يذكر للناس قوة أبراهام وشدة عريكته، وكانت المصارعة في تلك الأصقاع البرية مما يتنافس فيه الشبان، وبخاصة ذوي الفتوة منهم، وسرعان ما نمى أمر ذلك الشاب الذي يبيع في الحانوت إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم، وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له آرمسترنج، فجاءوا عصبة إلى أبراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم، ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، فيخرج إليهم ويسير إلى قائدهم في هدوء وثبات، وتحمي المصارعة بين الفتيين، ويجد أبراهام من خصمه أنه يريد أن يعمد إلى الحيلة حتى تتم له الغلبة في غير تحرج من مخالفة أصول المصارعة، ولكن أبراهام يستجمع قوته ويرفع خصمه ويلقي به بعيدا، فيتدحرج على الأرض كما تتدحرج الكتلة من الخشب، والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش، ولكنهم يتهمون أبراهام بأنه خالف أصول الصراع، ويتأهبون لمهاجمته عصبة، فيسند ظهره إلى الحائط، ويتأهب للقائهم في صمت، وإذ ذاك ينهض زعيمهم فيصافحه معلنا أنه تغلب عليه حقا، وأنه لا يملك إلا الإذعان له، وتوطدت بين الفتيين المحبة، وتوثقت بينهما أواصر صداقة سوف تستمر زمنا طويلا حتى يموت آرمسترنج، فيبقى أبراهام على مودته لابنه، ويقف ذات يوم وهو محام فيدافع عنه في حماسة واهتمام حتى ينقذه.
Halaman tidak diketahui