فقالت المرأة دون أن تحاول إخفاء لهجتها الواشية بالشماتة: خرجت أول أمس كعادتها كل عصر، ولكنها لم تعد. ودارت أمها على بيوت الجيران والمعارف تفتش عنها دون جدوى، وذهبت إلى قسم الجمالية وقصر العيني، ولا حياة لمن تنادي. - ماذا حدث للبنت يا ترى؟
فهزت أم حسين رأسها في ارتياب وقالت بيقين: هربت وحياتك! .. غواها رجل فأكل مخها وطار بها. كانت جميلة ولكنها لم تكن طيبة قط.
26
فتحت عينين محمرتين من أثر النوم، فرأتا سقفا أبيض، ناصع البياض، يتدلى من وسطه مصباح كهربائي بارع الرونق في كرة كبيرة حمراء من البلور الشفاف. امتلأ بصرها دهشة، ولكن لم يدم ذلك سوى ثانية واحدة، ثم تدافعت إلى رأسها ذكريات الليلة الماضية، وذكريات الحياة الجديدة. واتجه ناظرها نحو الباب فألفته مغلقا، ثم رأت على خوان قريب من السرير مفتاح الباب بحيث تركته بالأمس. نفذت إرادتها فنامت وحدها، وقضى ليلته وحده في الحجرة الخارجية، وافتر ثغرها عن ابتسامة. وأزاحت عن صدرها الغطاء الوثير، فبدا فستانها مستخذيا خجلا فيما يغمر من مخمل وحرير. ما أعمق الهوة التي تفصل ما بينها وبين الماضي! وكانت النوافذ مغلقة تنضح بوهج الشمس، فينير جو الحجرة بضوء شاحب خفيف، فاستدلت على الضحى بسماته، ولكنها لم تدهش لاستيقاظها المتأخر، فقد أرقها السهاد حتى قبيل الفجر، وسمعت نقرا خفيفا على الباب، فتلفتت صوبه في انزعاج، وجمد بصرها عليه دون أن تأتي حركة أو تنطق بحرف، ثم غادرت الفراش، ودلفت إلى التواليت، ووقفت بين مراياه متحيرة مبهوتة. وعاد النقر في قوة ملموسة فهتفت: من؟ وجاءها صوته العميق وهو يقول: صباح الخير .. هلا فتحت الباب؟
ونظرت إلى المرآة فرأت شعرها متشعثا، وعينيها محمرتين، وجفنيها ثقيلين، .. رباه .. أليس ثمة ما تغسل به وجهها؟! ألا ينتظر حتى تتهيأ لاستقباله؟! وعاد ينقر الباب جزعا، ولكنها لم تلق إليه بالا، وذكرت قلقها يوم اعترض سبيلها في الدراسة أول مرة فلقيته وقد نسيت أن تأخذ زينتها، وهي تكون اليوم أشد قلقا بلا ريب! ورأت زجاجات الروائح العطرية منضودة على التواليت، ولكنها كانت تراها لأول مرة في حياتها، فلم تهتد إلى وجه الانتفاع بها في مأزقها. ثم تناولت مشطا عاجيا وسوت شعرها في عجلة ولهوجة، ومسحت بطرف فستانها وجهها، وألقت على المرآة نظرة أخرى، وتنهدت في قلق وغيظ، ثم أخذت المفتاح وسارت نحو الباب، وكأنما ضاقت بإشفاقها، فرفعت منكبيها استهانة وفتحت الباب. التقيا وجها لوجه وقد ابتسم إليها ابتسامة لطيفة وقال برقة بالغة: صباح النور يا تيتي! .. لماذا أهملتني كل هذا الوقت! .. أتريدين مواصلة النهار بالليل بعيدا عني؟!
فابتعدت عنه دون أن تنبس بكلمة، ولكنه تأثرها والابتسامة لا تفارق شفتيه، ثم سألها: لماذا لا تتكلمين يا تيتي؟!
تيتي! أسم تدليل هذا يا ترى؟ .. ولكن أمها كانت تدعوها «حمدمد» إذا أرادت أن تدللها، فما تيتي هذا؟! .. ورمقته بنظرة إنكار وغمغمت: تيتي!
فقال وهو يتناول راحتيها بين يديه ويشبعهما تقبيلا: هذا اسمك الجديد، فاحفظيه عن ظهر قلب، وانسي حميدة، فلم يعد لها وجود! .. ليس الاسم يا محبوبتي بالشيء التافه لا يقام له وزن، هو بالحري كل شيء. وما الدنيا - لو تعلمين - إلا أسماء.
وعلمت أنه يعد اسمها - كثيابها البالية - شيئا ينبغي انتزاعه وإيداعه مقابر النسيان، ولم تر في ذلك من بأس، فلا يجوز أن تنادى في شريف باشا بما كانت تنادى به في المدق. وفضلا عن هذا فهي تشعر شعورا عميقا لا يخلو من وسواس وقلق بأن أسباب الماضي قد انقطعت إلى الأبد، فلماذا تبقي على اسمها؟! .. بل ليتها تستطيع أن تستبدل بيديها يدين جديدتين جميلتين كيديه هو، وأن تستعيض عن صوتها - الذي تستغلظ نبراته العالية حتى الفظاظة والقبح - صوتا رقيقا رخيما، ولكن ما باله اختار هذا الاسم الغريب؟! .. ولم تملك أن قالت باستنكار: هذا اسم غريب، لا معنى له!
فقال ضاحكا: اسم جميل، ومن جماله ألا معنى له، فالاسم الذي لا معنى له يحوي المعاني كلها، بل هو من الأسماء الأثرية التي تسحر ألباب الإنجليز والأمريكان، ويسهل النطق به على ألسنتهم المعوجة.
अज्ञात पृष्ठ