زقاق المدق‏

زقاق المدق‏

زقاق المدق

زقاق المدق

تأليف

نجيب محفوظ

زقاق المدق

1

تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري. أي قاهرة أعني؟ .. الفاطمية؟ .. المماليك؟ السلاطين؟ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار؛ ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد ...!

ومع أن هذا الزقاق يكاد يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على رغم ذلك يضج بحياته الخاصة؛ حياة تتصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة، وتحتفظ - إلى ذلك - بقدر من أسرار العالم المنطوي. •••

آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعا - كما انتهى مجده الغابر - ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة.

سكنت حياة النهار، وسرى دبيب حياة المساء. همسة هنا وهمهمة هناك: يا رب يا معين. يا رزاق يا كريم. حسن الختام يا رب. كل شيء بأمره. مساء الخير يا جماعة. تفضلوا جاء وقت السمر. اصح يا عم كامل وأغلق الدكان. غير يا سنقر ماء الجوز. أطفئ الفرن يا جعدة. الفص كبس على قلبي. إذا كنا نذوق أهوال الظلام والغارات منذ سنوات خمس، فهذا من شر أنفسنا.

بيد أن دكانين - دكان عم كامل بائع البسبوسة على يمين المدخل وصالون الحلو على يساره - يظلان مفتوحين إلى ما بعد الغروب بقليل. ومن عادة عم كامل أن يقتعد كرسيا على عتبة دكانه - أو حقه على الأصح - يغط في نومه والمذبة في حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون أو داعبه عباس الحلو الحلاق. هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين، وتتدلى خلفه عجيزة كالقبة، مركزها على الكرسي ومحيطها في الهواء، ذو بطن كالبرميل، وصدر يكاد يتكور ثدياه، لا ترى له رقبة، فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم، أخفى انتفاخه معالم قسماته؛ فلا تكاد ترى في صفحته لا سمات ولا خطوط ولا أنف ولا عينان، وقمة ذلك كله رأس أصلع صغير لا يمتاز عن لون بشرته البيضاء المحمرة. لا يزال يلهث ويشخر كأنه قطع شوطا عدوا، ولا ينتهي من بيع قطعة بسبوسة حتى يغلبه النعاس. قالوا له مرات: ستموت بغتة، وسيقتلك الشحم الضاغط على قلبك، وراح يقول ذلك مع القائلين، ولكن ماذا يضيره الموت وحياته نوم متصل؟!

أما صالون الحلو فدكان صغير، يعد في الزقاق أنيقا، ذو مرآة ومقعد غير أدوات الفن. وصاحبه شاب متوسط القامة، ميال للبدانة، بيضاوي الوجه، بارز العينين، ذو شعر مرجل ضارب للصفرة على سمرة بشرته، يرتدي بدلة، ولا يفوته لبس المريلة اقتداء بكبار الأسطوات!

لبث هذان الشخصان في دكانيهما، في حين أخذت الوكالة الكبيرة المجاورة للصالون تغلق أبوابها وينصرف عمالها، وكان آخر من غادرها السيد سليم علوان، يرفل في جبته وقفطانه، فاتجه صوب الحانطور الذي ينتظره على باب الزقاق، وصعد إليه في وقار، وملأ مقعده بجسمه المكتنز، يتقدمه شاربان شركسيان. ودق الحوذي الجرس بقدمه فرن بقوة، وانحدرت العربة ذات الحصان الواحد إلى الغورية في طريقها إلى الحلمية. وأغلق البيتان في الصدر نوافذهما اتقاء البرد، ولاحت أنوار المصابيح وراء خصاصها، وكاد المدق يغرق في الصمت، لولا أن مضت قهوة كرشة ترسل أنوارها من مصابيح كهربائية، عشش الذباب بأسلاكها، وراح يؤمها السمار. هي حجرة مربعة الشكل، في حكم البالية، ولكنها على عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك، فليس لها من مطارح المجد إلا تاريخها، وعدة أرائك تحيط بها. وعند مدخلها كان يكب عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها. وتفرق نفر قليل بين مقاعدها يدخنون الجوز ويشربون الشاي. وعلى كثب من المدخل تربع على الأريكة رجل في الخمسين يرتدي جلبابا ذا بنيقة موصول بها رباط رقبة مما يلبسه الأفندية، ويضع على عينيه المضعضعتين نظارة ذهبية ثمينة! وقد خلع قبقابه على الأرض عند موضع قدميه، وجلس جامدا كالتمثال، صامتا كالأموات، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأنه في دنيا وحده.

ثم أقبل على القهوة عجوز مهدم، لم يترك له الدهر عضوا سالما، يجره غلام بيسراه، ويحمل تحت إبط يمناه ربابة وكتابا. فسلم الشيخ على الحاضرين، وسار من فوره إلى الأريكة الوسطى في صدر المكان، واعتلاها بمعونة الغلام، ثم صعد الغلام إلى جانبه، ووضع بينهما الربابة والكتاب. وأخذ الرجل يهيئ نفسه، وهو يتفرس في وجوه الحاضرين كأنما ليمتحن أثر حضوره في نفوسهم، ثم استقرت عيناه الذابلتان الملتهبتان على صبي القهوة سنقر في انتظار وقلق. ولما طال انتظاره، ولمس تجاهل الغلام له، خرج عن صمته قائلا بصوت غليظ: القهوة يا سنقر!

والتفت الغلام نحوه قليلا، ثم ولاه ظهره بعد تردد دون أن ينبس بكلمة، ضاربا عن طلبه صفحا. وأدرك العجوز إهمال الغلام له، ولم يكن يتوقع غير ذلك. ولكن جاءت نجدة من السماء، إذ دخل في تلك اللحظة رجل وقد سمع هتاف العجوز ولاحظ إهمال الصبي، فقال للغلام بلهجة الآمر: هات قهوة الشاعر يا ولد.

وحدج الشاعر القادم بنظرة امتنان، وقال بلهجة لم تخل من أسى: شكرا لله يا دكتور بوشي!

فسلم الدكتور عليه، وجلس قريبا منه. وكان الدكتور يرتدي جلبابا وطاقية وقبقابا. هو دكتور أسنان، إلا أنه أخذ فنه من الحياة بغير حاجة إلى ممارسة الطب أو أية مدرسة أخرى. اشتغل في بدء حياته تمورجيا لطبيب أسنان في الجمالية؛ ففقه فنه بحذقه وبرع فيه. وقد اشتهر بوصفاته المفيدة، وإن كان يفضل الخلع غالبا كأحسن علاج. وربما كان خلع الضرس في عيادته المتنقلة أليما موجعا؛ إلا أنه رخيص؛ بقرش للفقراء وقرشين للأغنياء (أغنياء المدق طبعا)، فإذا حدث نزيف - وليس هذا بالأمر النادر - اعتبر عادة من عند الله؛ وترك منعه أيضا لله! وقد ركب للمعلم كرشة صاحب القهوة طقما ذهبيا بجنيهين بغير زيادة. وهو يدعى في الزقاق والأحياء القريبة بالدكتور، ولعله أول طبيب يأخذ لقبه من مرضاه.

جاء سنقر بالقهوة للشاعر كما أمر الدكتور، فتناول الرجل القدح وأدناه من فمه وهو ينفخ ليطرد حرارته، وراح يرشف منه رشفات متتابعات حتى أتى عليه، ثم نحاه جانبا. وذكر عند ذاك فحسب سوء سلوك صبي القهوة معه، فحدجه بنظرة شزراء وتمتم ساخطا: قليل الأدب.

ثم تناول الربابة يجرب أوتارها، متحاميا نظرات الغضب التي أطلقها عليه سنقر، وراح يعزف مطلعا، لبثت قهوة كرشة تسمعه كل مساء عشرين عاما أو يزيد من حياتها، وأخذ جسمه المهزول يهتز مع الربابة، ثم تنحنح وبصق وبسمل، ثم صاح بصوته الغليظ:

أول ما نبتدي اليوم نصلي على النبي.

نبي عربي صفوة ولد عدنان.

يقول أبو سعدة الزناتي ...

وقاطعه صوت أجش دخل صاحبه القهوة عند ذاك يقول: هس ... ولا كلمة أخرى.

فرفع بصره الذابل عن الربابة فرأى المعلم كرشة، بجسمه الطويل النحيل ووجهه الضارب للسواد وعينيه المظلمتين النائمتين، فنظر إليه واجما. وتردد قليلا كأنه لا يصدق ما سمعت أذناه. وأراد أن يتجاهل شره، فاستدرك منشدا:

يقول أبو سعدة الزناتي ...

ولكن المعلم صاح به مغيظا محنقا: بالقوة تنشد؟! ... انتهى ... انتهى! ألم أنذرك من أسبوع مضى؟!

فلاح الاستياء في وجه الشاعر، وقال بلهجة ملؤها العتاب: أراك تكثر من «الكيف»، ثم لا تجد من ضحية سواي!

فصاح المعلم في غضب وحنق: رأسي صاح يا مخرف، وأنا أعلم ما أريد، أتحسب أني آذن لك بالإنشاد في قهوتي إذا ما سلقتني بلسانك القذر؟!

فخفف الشاعر من لهجته مستوهبا عطف الرجل الغاضب، وراح يقول: هذه قهوتي أيضا. ألست شاعرها لعشرين عاما خلون؟!

فقال المعلم كرشة وهو يتخذ مجلسه المعتاد وراء صندوق الماركات: عرفنا القصص جميعا وحفظناها، ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد. والناس في أيامنا هذه لا يريدون الشاعر، وطالما طالبوني بالراديو، وها هو ذا الراديو يركب، فدعنا ورزقك على الله.

فاكفهر وجه الشاعر، وذكر محسورا أن قهوة «كرشة» آخر ما تبقى له من القهوات، أو من أسباب الرزق في دنياه، بعد جاه عريض قديم. وبالأمس القريب استغنت عنه كذلك قهوة القلعة. عمر طويل ورزق منقطع، فماذا يفعل بحياته؟! وما جدوى تلقين ابنه البائس هذا الفن وقد بار وكسد؟! وماذا يخبئ له المستقبل، وماذا يضمر لغلامه؟! اشتد به القنوط، وضاعف قنوطه ما لاح في وجه المعلم من الجزع والإصرار، فقال: رويدك يا معلم كرشة، إن للهلالي لجدة لا تزول، ولا يغني عنها الراديو أبدا ...

ولكن المعلم قال بلهجة قاطعة: هذا قولك، ولكنه قول لا يقره الزبائن، فلا تخرب بيتي. لقد تغير كل شيء!

فقال الشاعر في قنوط: ألم تستمع الأجيال بلا ملل إلى هذه القصص من عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟

فضرب المعلم كرشة على صندوق المركات بقوة وصاح به: قلت: لقد تغير كل شيء!

وتحرك عند ذلك - لأول مرة - الرجل الجامد الذاهل، ذو الجلباب والبنيقة ورباط الرقبة والنظارة الذهبية، فصعد بصره إلى سقف القهوة، وتنهد من الأعماق حتى خال المستمعون أنه يزفر فتات كبده، وقال بصوت كالمناجاة: آه تغير كل شيء. أجل كل شيء يا ستي! كل شيء تغير إلا قلبي فهو بحب آل البيت عامر.

وطامن رأسه ببطء، وهو يحركه ذات اليمين وذات اليسار، في حركات أخذت في الضيق رويدا رويدا حتى عاد إلى موضعه الأول من الجمود، وغرق مرة أخرى في غيبوبة. ولم يلتفت إليه أحد ممن اعتاد أحواله إلا الشاعر، فقد توجه إليه كالمستغيث وقال له برجاء: يا شيخ درويش، أيرضيك هذا؟

ولكنه لم يخرج من غيبوبته ولم ينبس بكلمة. وهنا قدم شخص جديد تعلقت به الأنظار في إجلال ومودة، وردوا تحيته بأحسن منها. كان السيد رضوان الحسيني ذا طلعة مهيبة، تمتد طولا وعرضا، وتنطوي عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض مشرب بحمرة، ذا لحية صهباء، يشع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاء وسماحة وإيمانا. سار متمهلا خافض الرأس، وعلى شفتيه ابتسامة تشي بحبه للناس وللدنيا جميعا، واختار مجلسه على المقعد التالي لأريكة الشاعر. وسرعان من رحب به الشاعر وبثه شكواه. ومنحه السيد أذنه عن طيب خاطر وهو يعلم بما يكربه، وكان حاول مرارا أن يثني المعلم «كرشة» عما اعتزمه من الاستغناء عنه دون جدوى. ولما انتهى الشاعر من شكواه طيب خاطره، ووعده بأن يبحث لغلامه عن عمل يرتزق منه، ثم غمر كفه بما جادت به نفسه وهو يهمس في أذنه: «كلنا أبناء آدم، فإذا ألحت عليك الحاجة فاقصد أخاك، والرزق رزق الله، والفضل فضله.» وزاد وجهه الجميل بعد هذا القول تألقا، شأن الكريم الفاضل يحب الخير ويصنعه، ويزداد بصنعه رضا وجمالا. كان يحرص دائما على ألا يفوته يوم من حياته دون صنع جميل، أو ينقلب إلى بيته ملوما محسورا. وإنه ليبدو لحبه الخير ولسماحته كما لو كان من الموسرين المثقلين بالمال والمتاع، وإن كان في الواقع لا يملك إلا البيت الأيمن من الزقاق وبضعة أفدنة بالمرج. وقد وجد فيه سكان بيته - المعلم كرشة في الطابق الثالث، وعم كامل والحلو في الطابق الأول - مالكا طيب القلب والمعاملة، حتى إنه تنازل عن حقه في الزيادة التي قررها الأمر العسكري الخاص بالسكن فيما يتعلق بالطابق الأول رحمة بساكنيه البسيطين، فكان رحمة حيث حل وحيث يقيم. وقد كانت حياته - وبخاصة في مدارجها الأولى - مرتعا للخيبة والألم. فانتهى عهد طلبه العلم بالأزهر إلى الفشل، وقطع بين أروقته شوطا طويلا من عمره دون أن يظفر بالعالمية، وابتلي - إلى ذلك - بفقد الأبناء فلم يبق له ولد على كثرة ما خلف من الأطفال. ذاق مرارة الخيبة حتى أترع قلبه باليأس أو كاد، وتجرع غصص الألم حتى تخايل لعينيه شبح الجزع والبرم، وانطوى على نفسه طويلا في ظلمة غاشية. ومن دجنة الأحزان أخرجه الإيمان إلى نور الحب، فلم يعد يعرف قلبه كربا ولا هما. انقلب حبا شاملا وخيرا عميما وصبرا جميلا. وطأ أحزان الدنيا بنعليه، وطار بقلبه إلى السماء، وأفرغ حبه على الناس جميعا؛ وكان كلما نكد الزمان عنتا ازداد صبرا وحبا، رآه الناس يوما يشيع ابنا من أبنائه إلى مقره الأخير وهو يتلو القرآن مشرق الوجه، فأحاطوا به مواسين معزين، لكنه ابتسم لهم، وأشار إلى السماء وهو يقول: «أعطى وأخذ، كل شيء بأمره، وكل شيء له، والحزن كفر.» فكان هو العزاء. ولذلك قال عنه الدكتور بوشي: «إذا كنت مريضا فالمس السيد الحسيني يأتك الشفاء، وإذا كنت يائسا فطالع نور غرته يدركك الرجاء، أو محزونا فاستمع إليه يبادرك الهناء.» وكان وجهه صورة من نفسه، فهو الجمال الجليل في أبهى صوره.

أما الشاعر فقد رضي بعض الرضا، ووجد شيئا من العزاء، وتزحزح تاركا الأريكة، وتبعه الغلام وهو يلم الربابة والكتاب. وشد الرجل على يد السيد رضوان الحسيني، وحيا الجلوس متجاهلا المعلم كرشة، ثم ألقى نظرة ازدراء على المذياع الذي كاد العامل يفرغ من تثبيته، وأعطى يده للغلام فجره إلى الخارج، وغابا عن الأنظار. ودبت الحياة مرة أخرى في الشيخ درويش، فأدار رأسه نحو الجهة التي اختفى فيها الذاهبان، وتأوه قائلا: ذهب الشاعر وجاء المذياع. هذه سنة الله في خلقه. وقديما ذكرت في التاريخ وهو ما يسمى بالإنجليزية

History

وتهجيتها:

H i s t o r y .

وقبل أن يختم تهجية الكلمة جاء عم كامل وعباس الحلو بعد أن أغلقا دكانيهما. ظهر الحلو أولا، وقد غسل وجهه ورجل شعره الضارب لصفرة، وتبعه عم كامل يتبختر كالمحمل، ويقتلع قدميه من الأرض اقتلاعا. وسلما على الحاضرين، وجلسا جنبا لجنب، وطلبا الشاي، ولم يكونا يحلان بمكان حتى يملآه ثرثرة.

قال عباس الحلو: يا قوم، اسمعوا: شكا إلي صديقي عم كامل، قال إنه عرضة للموت في أية لحظة، وإنه إذا مات فلن يترك ما يدفن به.

فقال بعض الحاضرين متهكما: أمة محمد بخير.

وقال البعض الآخر: إن له لتركة من البسبوسة تكفي لدفن أمة بأسرها.

وضحك الدكتور بوشي، وخاطب عم كامل قائلا: لا تفتأ تذكر الموت، وتالله لتدفننا جميعا بيديك.

فقال عم كامل بصوت بريء كالأطفال: اتق الله يا شيخ، أنا رجل مسكين.

واستطرد عباس الحلو قائلا: يا قوم، عزت علي شكاة عم كامل، ولبسبوسته فضل علينا جميعا غير منكور، فابتعت له كفنا احتياطيا ، واحتفظت به في مكان حريز لساعة لا مفر منها، (والتفت إلى عم كامل قائلا): هذا سر أخفيته عنك، وها أنا أعلنه على الملأ ليكونوا علي شهودا.

فأبدى الكثيرون عن اغتباطهم، متصنعين الجد، ليجوز الكلام على عم كامل المشهور بسرعة تصديقه، وأثنوا على مروءة الحلو وكرمه، وقالوا: إن هذا صنيع خليق به نحو الرجل الذي يحبه ويساكنه شقة واحدة، ويشاطره العيش كأنه من لحمه ودمه. حتى السيد رضوان الحسيني ابتسم راضيا، مما جعل عم كامل ينظر إلى الشاب في سذاجة ودهشة ويقول متسائلا: أحق ما تقول يا عباس؟!

فقال الدكتور بوشي: لا يداخلك الشك يا عم كامل، لقد علمت بما يقول صاحبك، ورأيت الكفن بعيني رأسي، وهو كفن قيم وددت لو يكون لي مثله.

وتحرك الشيخ درويش للمرة الثالثة فقال: حظ سعيد، الكفن سترة الآخرة يا كامل، تمتع بكفنك قبل أن يتمتع بك. ستكون طعاما مريئا للدود، فيرعى في لحمك الهش مثل البسبوسة؛ فيسمن وتصير الدودة كالضفدعة، ومعناها بالإنجليزي

Frog

وتهجيتها:

F r o g .

وصدق عم كامل، ومضى يسأل الحلو عن نوع الكفن ولونه وعدد أدراجه، ثم دعا له طويلا، وانبسط وحمد الله. وارتفع عند ذاك صوت فتي آتيا من الطريق يقول: مساء الخير.

واتجه صاحبه إلى بيت السيد رضوان الحسيني. كان القادم حسين كرشة ابن المعلم كرشة صاحب القهوة. فتى في العشرين في مثل لون أبيه الضارب إلى السواد؛ ولكنه ممشوق القوام، تدل ملامحه الدقيقة على الحذق والفتوة والنشاط، كان يرتدي قميصا من الصوف الأزرق وبنطلونا خاكيا وقبعة وحذاء ثقيلا، تلوح على سيماه مظاهر نعمة المشتغلين بالجيش البريطاني. وكان ذاك ميعاد عودته من «الأرنس» كما يسمونه، فرمقه الكثيرون بعين الإعجاب والحسد، ودعاه صديقه الحلو إلى القهوة؛ ولكنه شكره ومضى إلى حال سبيله. •••

ساد الظلام الزقاق إلا ما ينبعث من مصابيح القهوة فيرسم على رقعة من الأرض مربعا من نور تتكسر بعض أضلاعه على جدار الوكالة. ومضت الأنوار الباهتة وراء خصاص نوافذ البيتين تنطفئ واحدا في إثر واحد. وأكب سمار القهوة على الدومينو والكومي؛ إلا الشيخ درويش فقد أغرق في ذهوله، وعم كامل مال رأسه على ثدييه وراح في سبات. وظل سنقر على نشاطه، يحمل الطلبات ويرمي بالماركات في الصندوق، والمعلم «كرشة» يتابعه بعينين ثقيلتين، وهو يستشعر في خمول ذوبان الفص في جوفه ويستنيم إلى سلطنة لذيذة. وتقدمت جحافل الليل، فغادر السيد رضوان الحسيني القهوة إلى بيته. وتبعه بعد قليل الدكتور بوشي إلى شقته في الدور الأول من البيت الثاني. ثم لحق بهما الحلو وعم كامل. وأخذت المقاعد تخلو تباعا، حتى انتصف الليل فلم يبق بالقهوة إلا ثلاثة: المعلم والصبي والشيخ درويش. وجاء نفر من المعلمين أقران المعلم «كرشة»، وصعدوا جميعا إلى حجرة خشبية على سطح بيت السيد رضوان، وتحلقوا المجمرة، وبدءوا سهرة جديدة لا تنتهي حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وخاطب سنقر الشيخ درويش قائلا برقة: انتصف الليل يا شيخ درويش.

فانتبه الشيخ إلى صوته، وخلع نظارته بهدوء وجلاها بطرف جلبابه، ثم لبسها من جديد وسوى رباط رقبته ونهض قائما، واضعا قدميه في القبقاب، وغادر القهوة دون أن ينبس بكلمة، يخرق السكون بضربات قبقابه على بلاط الزقاق. كان السكون شاملا، والظلمة ثقيلة، والطرق والدروب خالية مقفرة، فترك لقدميه مقوده، حيث لا دار له ولا غاية، وغاب في الظلمة. •••

كان الشيخ درويش على عهد شبابه مدرسا في إحدى مدارس الأوقاف، بل كان مدرس لغة إنجليزية! وقد عرف بالاجتهاد والنشاط، وأسعفه الحظ أيضا فكان رب أسرة سعيدة. ولما أن انضمت مدارس الأوقاف إلى وزارة المعارف، سويت حالته ككثيرين من زملائه غير ذوي المؤهلات العالية، فاستحال كاتبا بالأوقاف، ونزل من الدرجة السادسة إلى الثامنة، وعدل مرتبه على هذا الأساس. كان من الطبيعي أن يحزن الرجل لمصيره حزنا عميقا، وثار ثورة جامحة ما وسعته الثورة، يعلنها حينا، ويكتمها - مقسورا مغلوبا على أمره - أحيانا. ولقد سعى كل مسعى، وقدم الالتماسات، واستشفع الرؤساء، وشكا الحال وكثرة العيال، دون جدوى. ثم سلم للقنوط بعد أن تحطمت أعصابه أو كادت. واشتهر أمره في الوزارة كموظف كثير التبرم والشكوى ، عظيم اللجاج والعناد، سريع التأثر، لا يكاد يمضي يوم من حياته دون شجار أو اصطدام، كبير الاعتداد بنفسه والتحدي للآخرين. وكان إذا شجر بينه وبين آخر خلاف - وكثيرا ما يحدث - تعالى استكبارا، وخاطب خصمه بالإنجليزية، فإذا اعترض الرجل على استعمال لغة أجنبية دون موجب، صاح به في ازدراء شديد: «تعلم أولا ثم خاطبني!» وكانت أنباء شجاره وعناده تتصل برؤسائه أولا بأول، وكانوا يتسامحون معه؛ عطفا عليه من ناحية، وتحاميا لشره من ناحية أخرى، ولذلك اطردت حياته دون عقاب يذكر إلا بعض الإنذارات، وخصم يوم أو يومين. ولكنه ازداد بكرور الأيام صلفا، حتى تراءى له يوما أن يحرر خطاباته المصلحية باللغة الإنجليزية ففعل. وكان يقول في تسويغ ذلك إنه موظف فني لا كغيره من الكتاب. وتعطل عمله مما دعا مديره لمعاملته بالحزم والقسوة، ولكن المقدر كان أسرع من حزم المدير، فطلب الرجل يوما مقابلة وكيل الوزارة، ودخل درويش أفندي - كما كان وقتذاك - حجرة الوكيل في تؤدة ووقار، وحياه تحية الند للند، وبادره قائلا بثقة ويقين: يا سعادة الوكيل، لقد اختار الله رجله.

فطلب إليه الوكيل أن يفصح عما يريد، فاستدرك قائلا بوقار وجلال: أنا رسول الله إليك بكادر جديد.

هكذا ختمت حياته بالأوقاف. وهكذا قطعت صلته بالهيئة الاجتماعية التي كان واحدا منها. هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلى دنيا الله - كما يسميها - ولم يستبق من آثار الماضي جميعا إلا نظارته الذهبية. ومضى في عالمه الجديد بلا صديق ولا مال ولا مأوى. ودلت حياته على أن بعض الناس يستطيعون أن يعيشوا في هذه الدنيا المتقيحة بمرارة الكفاح بلا مأوى ولا مال ولا معين، ثم لا يجدون هما ولا كربا ولا حاجة. لا جاع يوما ولا تعرى ولا شرد. وانتقل إلى حال من السلام والطمأنينة والغبطة لا عهد له بها. وإذا كان قد فقد بيته فالدنيا جميعا صارت بيتا له، وإذا كان قد حرم مرتبه فالتعلق بالمال قد انقطع عنه، وإذا كان قد خسر الأهل والأصدقاء فالناس جميعا انقلبوا له أهلا. يبلى الجلباب فيأتيه جلباب جديد، ويتمزق رباط الرقبة فيجيئه رباط جديد، ولا يحل مكانا حتى يرحب به ناسه. وبحسبه أن يفتقده المعلم كرشة نفسه - على ذهوله - إذا غاب عن القهوة يوما. ومع ذلك فلم يكن يأتي شيئا مما يعتقد فيه العامة من المعجزات والخوارق وقراءة الغيب؛ فهو إما ذاهل صامت، أو مرسل القول كما يحب، لا يدري أنى يكون موقعه من النفوس. بيد أنه رجل محبوب مبارك، يستبشر الجميع بوجوده بينهم خيرا، ويقولون عنه: إنه ولي من أولياء الله الصالحين، يأتيه الوحي باللغتين العربية والإنجليزية.

2

نظرت إلى المرآة بعين غير ناقدة، أو بالأحرى بعين تتلمس مواضع الرضا، فعكست المرآة وجها نحيلا مستطيلا، فعل الزواق بخديه وحاجبيه وعينيه وشفتيه الأعاجيب. وجعلت تعطفه يمنة، وتعطفه يسرة، وأصابعها تنسق ضفيرتها، مغمغمة بصوت لا يكاد يسمع: «لا بأس، جميل، وأيم الله جميل.» والحق أن هذا الوجه قد طالع الدنيا ما يقارب الخمسين عاما، والدنيا لا تدع وجها سالما نصف قرن من الزمان. أما جسمها فنحيل، أو جاف كما تصفه نسوة الزقاق، وأما الصدر فأمسح، بيد أن فستانا حسنا يستره. هذه هي الست سنية عفيفي صاحبة البيت الثاني بالزقاق، حيث يسكن الدكتور بوشي طابقه الأول، وفي ذلك اليوم كانت تأخذ أهبتها لزيارة الشقة الوسطى التي تقيم بها أم حميدة. ولم يكن من عادتها الإكثار من زيارة أحد، وربما لم تكن تدخل هذه الشقة إلا أول كل شهر لتحصيل الأجرة، إلا أن باعثا جديدا دب في أعماق نفسها جعل زيارة أم حميدة من الواجبات الهامة. وهكذا غادرت شقتها، ونزلت السلالم، متمتمة برجاء: «اللهم حقق الآمال»، ودقت بكفها المعروقة، ففتحت لها حميدة واستقبلتها بابتسامة الاستقبال المتصنعة، وقادتها إلى حجرة الضيوف، ثم ذهبت تدعو أمها. كانت الحجرة صغيرة، بها كنبتان من الطراز القديم متقابلتان، وفي الوسط خوان باهت عليه نافضة سجاير، وأما أرضها فمفروشة بحصيرة. ولم يطل بالمرأة الانتظار، فسرعان ما جاءت أم حميدة مهرولة وقد غيرت جلباب البيت، فسلمتا بشوق، وتبادلتا قبلتين، وجلستا جنبا لجنب، وأم حميدة تقول: أهلا ... أهلا ... زارنا النبي يا ست سنية.

كانت أم حميدة ربعة ممتلئة في الستين؛ ولكنها معافاة قوية، جاحظة العينين، مجدورة الخدين، ذات صوت غليظ قوي النبرات، فإذا تحدثت فكأنها تزعق، وهو سلاحها الأول فيما يشجر بينها وبين الجارات من نزال. ولم تكن مرتاحة للزيارة بطبيعة الحال؛ لأن زيارة تقوم بها صاحبة الملك أمر قد تسوء عواقبه، وقد ينذر بالخطر. ولكنها وطنت النفس على أن تلبس لكل حال لبوسها؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإنها على كلتا الحالتين لقادرة. وكانت بحكم وظيفتها - خاطبة وبلانة - عميقة الملاحظة، كثيرة الكلام؛ بل كانت لسانا لا يكف ولا يمسك، ولا يكاد تفوته شاردة أو واردة عن شخص من شخوص الحي أو بيت من بيوته، فهي مؤرخة راوية لأخبار السوء - على الغالب - ومعجم للمنكرات. وأرادت كعادتها أن تتسلى بالكلام فراحت ترحب بالضيفة، وتطنب في الثناء عليها، وتروي لها نتفا من أنباء الزقاق والأخبار المجاورة: أما علمت بفضيحة المعلم كرشة الجديدة؟ هي كسابقاتها، وقد اتصل الخبر بزوجه فتعاركت معه ومزقت جبته. وحسنية الفرانة ضربت زوجها جعدة أمس حتى بض الدم من جبينه. والسيد رضوان الحسيني الطيب الورع زجر زوجه زجرا شديدا، لماذا يعاملها هذه المعاملة - وهو الرجل الطيب - إن لم تكن شريرة خبيثة! الدكتور البوشي احتك بفتاة صغيرة في المخبأ في آخر غارة، وضربه رجل محترم. كريمة الماوردي تاجر الخشب فرت مع خادمها وبلغ أبوها القسم. طابونة الكفراوي تبيع عيشا مخلوطا سرا ... إلخ ... إلخ.

أصغت الست سنية عفيفي بأذن غير واعية؛ لأنها كانت مشغولة بالأمر الذي جاءت من أجله. وقد صدقت نيتها على أن تطرق الموضوع الذي طال اختماره بنفسها مهما كلفها الأمر. بيد أنها نازعت المرأة الحديث حتى تتهيأ لها فرصة مواتية، وقد تهيأت هذه الفرصة حين سألتها أم حميدة قائلة: وكيف الحال يا ست سنية؟

فعبست قليلا وقالت: الحق أني تعبة يا ست أم حميدة!

فرفعت أم حميدة حاجبيها كالمنزعجة وقالت: تعبة؟! كفى الله الشر!

وأمسكت ست سنية ريثما تضع حميدة - وكانت دخلت الحجرة في هذه اللحظة - صينية القهوة على الخوان وتعود من حيث أتت، ثم قالت بامتعاض: تعبة يا ست أم حميدة! أليس من المتعب تحصيل أجور الدكاكين؟ تصوري وقوف امرأة مثلي أمام رجل غريب تطالبه بالأجرة ...

وقد خفق قلب أم حمدة لسيرة الأجور؛ ولكنها قالت بنبرات أسيفة: صدقت يا ستي، كان الله في عونك.

ولم تفتها ملاحظة هامة فتساءلت: لماذا تكثر المرأة من ترداد هذه الشكوى؟ وذكرت أنها أعادتها على سمعها مرات! بل ذكرت أن هذه ثاني أو ثالث مرة تزورها في غير أول الشهر. وخطر لها خاطر عجيب دهشت له بحكم وظيفتها، وكانت في أمثال هذه المسائل خاصة، ذات فراسة لا تجارى، فصممت أن تسبر الزائرة من وراء وراء، فقالت بخبث: هذا أحد شرور الوحدة. أنت امرأة وحيدة يا ست سنية؛ في البيت وحدك، وفي الطريق وحدك، وفي «الفراش» وحدك، ألا قطعت الوحدة.

وسرت الست سنية بحديث المرأة الذي كأنه يلبي خواطرها، وقالت وهي تخفي سرورها به: وما عسى أن أصنع؟ أقاربي ذوو أسر، وأنا لا أرتاح إلا في بيتي، والحمد لله الذي أغناني عن الناس جميعا.

وكانت أم حميدة تلحظها بمكر، فقالت فاتحة آخر الأبواب: الحمد لله ألف مرة، ولكن بالله خبريني لماذا قضيت على نفسك بالعزوبة هذا الدهر الطويل؟!

فخفق فؤاد الست سنية، ووجدت نفسها وجها لوجه حيال ما تريد، ولكنها تنهدت بإنكار وقالت بتأفف متكلف: حسبي ما ذقت من مرارة الزواج!

كانت الست سنية عفيفي قد تزوجت في شبابها من صاحب دكان روائح عطرية، ولكنه كان زواجا لم يصادفه التوفيق، فأساء الرجل معاملتها، وأشقى حياتها، ونهب مالها، ثم تركها أرملة منذ عشرة أعوام. ولبثت أرملة طوال تلك الأعوام لأنها - على حد قولها - كرهت حياتها الزوجية.

ولم يكن هذا القول مجرد كذب تداري به إهمال الجنس الآخر لها، فقد كرهت الحياة الزوجية حقا، وفرحت باسترداد حريتها وأمنها، وظلت على نفورها من الزواج وفرحها بحريتها عهدا طويلا، ثم أنسيت تلك العاطفة بكرور الزمن، ولم تكن تتردد عن تجربة حظها من جديد لو تقدم لطلب يدها طالب. وجعلت تراود الأمل حينا بعد حين، حتى طال به الأمد، فغلبها القنوط، وصرفت نفسها عن مراودة الآمال الكواذب، ووطنت النفس على الرضا بحياتها كما هي. ولما كان من الضروري أن يوجد في حياة الإنسان شيء تنعقد حوله آماله، شيء يقرر لحياته قيمة ولو وهمية أو سخيفة، فقد وجدت ضالتها كذلك. ومن حسن الطالع أنها لم تكن مما ينتقص امرأة عازبة مثلها، فأولعت بالقهوة والسجائر واكتناز الأوراق المالية الجديدة. وقد كانت في الأصل تميل قليلا نحو الحرص، وكانت من العملاء القدماء لصندوق التوفير، فجاءت الهواية الجديدة تؤكد ذاك الميل القديم وتقويه وتتقوى به. وكانت تحتفظ بالأوراق الجديدة في صندوق عاجي صغير أخفته في أعماق صوان ملابسها، ووزعتها رزما من ذوات الخمس والعشر، تتسلى بمشاهدتها ومعاودة عدها وترتيبها. ولما كانت الأوراق خرساء لا كالنقود المعدنية، فقد أمنت الأخطار، ولم يدر بها أحد من شطار المدق على شدة حساسيتهم. وجدت في حياتها المالية عزاء، وانتحلت منها اعتذارا لعزوبتها، وقالت لنفسها: إن أي زوج خليق بأن ينهب أموالها كما فعل الزوج المرحوم، وبأن يضيع عليها في غمضة عين ثمرة الأعوام الطوال، ومع ذلك فما كاد يتسرب إلى قلبها الإيحاء بفكرة الزواج حتى تناست الأعذار والمخاوف جميعا. وكانت أم حميدة المسئولة عن هذا التحول العجيب، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بما قصته عليها مرة من تزويجها لأرملة عجوز؛ ففكرت في الأمر على أنه ممكن التحقيق، وسرعان ما استولى على إرادتها، فتدافعت إلى طاعته لا تلوي على شيء. ظنت يوما أنها نسيت الزواج؛ فإذا بالزواج أملها المنشود الذي لا يغني عنه شيء من مال أو قهوة أو سجائر أو أوراق مالية جديدة! وجعلت تتساءل في جزع: كيف ضاع ذاك العمر هباء؟ كيف قطعت عشرة أعوام حتى شارفت الخمسين وحيدة؟! وقالت: إن هذا هو الجنون، وحملت زوجها المرحوم تبعته، وصممت على أن تكفر عنه اليوم قبل الغد إن أمكن.

وأصغت الخاطبة إلى تأففها المتصنع بفطنة واستهانة وقالت لنفسها: «لا يجوز علي مكرك يا مرة.» ثم خاطبتها بلهجة تنم عن لوم: لا تغالي يا ست سنية، إذا كان حظك الأول قد خاب فالزيجات السعيدة تملأ المشارق والمغارب.

فقالت الست سنية وهي تعيد قدح القهوة إلى الصينية شاكرة: لا ينبغي لعاقل أن يعاند الحظ إذا تجهم.

فاعترضتها أم حميدة قائلة: ما هذا الكلام يا ست العاقلات؟! كفاك وحدة، كفاك.

فدقت المرأة صدرها الأمسح بباطن يسراها وقالت بإنكار مصطنع: يا خبر! أتريدين الناس على أن يرموني بالجنون؟! - أي أناس تعنين؟ إن أكبر منك يتزوجن كل يوم.

فتضايقت من «أكبر منك» وقالت بصوت منخفض: لست من الكبر كما تظنين ... لعن الله الهم. - ما قصدت هذا يا ست سنية، وما أشك في أنك ما زلت في حدود الشباب، ولكنه الهم الذي تلتحفين به مختارة.

فارتاحت الست؛ ولكنها كانت لا تزال مصرة على تمثيل دور من يساق إلى قبول الزواج بلا تعمد ولا رغبة، فتساءلت بعد تردد: ألا يعيبني أن أقدم على الزواج الآن بعد ذلك العهد الطويل من العزوبة؟!

فخاطبت أم حميدة نفسها قائلة: «لماذا قصدتني إذا يا مرة؟» ثم خاطبت الست قائلة: كيف يعيبك ما هو شرع وحق! أنت ست عاقلة شريفة، والكل يشهد لك بذلك، والزواج نصف الدين يا حبيبتي، وربنا شرعه حكمة، وأمر به النبي عليه الصلاة والسلام.

فقالت سنية بإيمان:

صلى الله عليه وسلم . - كيف لا يا حبيبتي! نبي عربي ويحب عبيده!

وكان وجه الست سنية قد تورد تحت قناع الأحمر، وثمل فؤادها سرورا، فقالت وهي تستخرج سيجارتين من علبتها: ومن يرضى بالزواج مني؟

فثنت أم حميدة سبابة يسراها، ولصقتها بحاجبها، وقالت باستنكار: ألف رجل ورجل.

فضحكت الست بمجامع قلبها وقالت: رجل واحد يكفي ...

فقالت أم حميدة بيقين: الرجال جميعا يحبون الزواج في أعماقهم، ولا يكاد يشكر الزواج إلا المتزوجون، وكم من رجل عازب راغب عن الزواج، ما إن أقول له: «عندي عروس لك!» حتى تدب في عينيه اليقظة، ويغلبه الابتسام، ويسألني في لهفة لا تخفى: «حقا! ... من؟! ... من؟!» الرجل يريد المرأة ولو أقعده الكساح، وهذه حكمة ربنا.

فهزت الست سنية رأسها في ارتياح وقالت: جلت حكمته! - نعم يا ست سنية، لذلك خلق الله الدنيا. كان في وسعه أن يملأها رجالا فحسب، أو نساء فحسب، ولكن خلق الله الذكر والأنثى، ومنحنا العقل كي نفهم مراده، فلا محيد عن الزواج.

فابتسمت الست سنية عفيفي وقالت برقة: كلامك كالسكر يا ست أم حميدة! - حلى الله دنياك، وآنس قلبك بالزواج الكامل.

فتشجعت الست وقالت: إن شاء الله، وبفضلك. - أنا امرأة - بحمد الله - مباركة. زيجاتي لا انفصام لها. ياما عمرت بيوتا، وأنجبت أطفالا، وأسعدت قلوبا. فليكن اعتمادك على الله وعلي. - جزاؤك لن يقدر بمال.

فقالت أم حميدة في سرها: «لا ... لا يا مرة، ينبغي أن يقدر بمال، وبمال كثير. هلمي إلى صندوق التوفير وأعطيني، وكفاك تقتيرا.» ثم قالت بلهجة رزينة شأن رجال الأعمال إذا فرغوا من المقدمات وطرقوا الهام من الأمور: أظنك تفضلين رجلا متقدما في السن؟!

لم تدر الأخرى بماذا تجيب؟! لم تكن تطمع في الزواج من شاب، ولا كان الشاب بالزوج الذي يناسبها، ولكنها لم ترتح إلى «متقدم في السن» هذه، وكان تدرج الحديث قد خلطها بأم حميدة فآنست إليها، واستطاعت أن تقول وهي تضحك لتداري ارتباكها: أصوم وأفطر على بصلة!

فضحكت أم حميدة ضحكة عالية رنت رنينا مزعجا، وازدادت اطمئنانا إلى نفاسة الصفقة التي هي بصدد عقدها، ثم قالت بخبث: صدقت يا ست، والحق أن التجارب دلتني على أن أسعد الزيجات ما كبرت الزوجة فيها الزوج، ولكم يناسبك رجل في الثلاثين أو يزيد قليلا.

فتساءلت المرأة في قلق: وهل يوافق؟ - يوافق ويوافق! أنت سيدة جميلة وغنية! - سلمت من كل سوء!

فقالت أم حميدة وقد لبس وجهها المجدور هيئة الجد والاهتمام: أقول له سيدة نصف، ولا ولد لها ولا حماة، أدب وكمال، صاحبة دكانين بالحمزاوي وبيت ذي طابقين بالمدق.

فابتسمت الست وقالت تصحح لها ما حسبته هفوة: بل ذلك ثلاثة طوابق.

ولكن الأخرى قالت معترضة: اثنان فحسب؛ لأن الطابق الثالث الذي أسكنه لن تقبضي إيجاره مدى حياتي!

فقالت الست سنية في سرور: لك عيناي يا ست أم حميدة! - سلمت عيناك، ربنا يهيئ ما فيه الخير.

فهزت رأسها الأخرى كالمتعجبة وقالت: يا للعجب! جئتك لمجرد الزيارة فانظري كيف انتهى بنا الحديث؟ وكيف أغادرك في حكم المتزوجات؟!

فجارتها أم حميدة في ضحكها كالمتعجبة أيضا، وإن راحت تقول لنفسها: «يا مرة احتشمي، أتحسبين أن مكرك يجوز علي؟!» ثم قالت: إرادة ربنا! أليس كل شيء بأمره؟!

وعادت الست سنية عفيفي إلى شقتها مسرورة فرحة؛ بيد أنها حادثت نفسها قائلة: «إيجار شقة مدى الحياة! يا لها من امرأة جشعة.»

3

ودخلت حميدة الحجرة عقب مغادرة الست سنية لها. كانت تمشط شعرها الأسود تفوح منه رائحة الكيروسين، فنظرت أم حميدة إلى الشعر الفاحم اللامع تكاد تجاوز ذؤاباته المسترسلة ركبتي الفتاة، وقالت بأسف: واحسرتاه! كيف تدعين القمل يرعى هذا الشعر الجميل؟!

فبرقت عينان سوداوان مكحلتان بأهداب وطف، ولاحت فيهما نظرة حادة صارمة، وقالت الفتاة بحدة: قمل؟! والنبي، ما وجد المشط إلا قملتين اثنتين! - أنسيت يوم مشطتك من أسبوعين وهرست لك عشرين قملة؟!

فقالت بغير مبالاة: كان مضى على رأسي شهران بلا غسيل.

ثم اشتد ساعدها في التمشيط وهي تجلس جنب أمها. كانت في العشرين، متوسطة القامة، رشيقة القوام، نحاسية البشرة، يميل وجهها للطول، في نقاء ورواء، وأميز ما يميزها عينان سوداوان جميلتان، لهما حور بديع فاتن، ولكنها إذا أطبقت شفتيها الرقيقتين وحدت بصرها تلبستها حالة من القوة والصرامة لا عهد للنساء بها! وقد كان غضبها دائما مما لا يستهان به حتى في زقاق المدق نفسه. وأمها على ما اشتهرت به من القوة تتحاماها ما استطاعت. قالت لها يوما وهما تتسابان: «لن يلم الله شعثك برجل، فأي رجل يرضى بأن يضم إلى صدره جمرة موقدة؟!» وكانت تقول في مرات أخرى: إن جنونا لا شك فيه ينتاب ابنتها حين الغضب، وسمتها لذلك «الخمسين»، باسم الرياح المعروفة. ومع ذلك كانت تحبها كثيرا؛ وإن كانت في الحقيقة أمها بالتبني. كانت الأم الحقيقية شريكة لها في الاتجار بالمفتقة والمغات، ثم شاطرتها شقتها بالزقاق في ظروف سيئة، وأخيرا ماتت بين يديها تاركة طفلتها في سن الرضاع، فتبنتها أم حميدة، وعهدت بها إلى زوج المعلم كرشة القهوجي فأرضعتها مع ابنها حسين كرشة، فهي أخته بالرضاعة.

مضت تمشط شعرها الفاحم منتظرة كالعادة أن تعلق أمها على الزيارة والزائرة، ولما طال الصمت قالت الفتاة: طالت الزيارة، فيم كنتما تتحدثان؟

فضحكت أمها في سخرية وتمتمت: خمني؟!

فقالت الفتاة وقد اشتد اهتمامها: طلبت رفع الإيجار. - لو فعلت لخرجت محمولة على أيدي رجال الإسعاف، ولكنها طلبت خفضه؟

فصاحت حميدة: هل جنت؟ - أجل جنت؛ ولكن خمني.

فنفخت الفتاة وهي تقول: أتعبتني!

فأرعشت المرأة حاجبيها، وقالت وهي تغمز بعينها: صاحبتك تروم الزواج!

فتولت الفتاة الدهشة وقالت: الزواج! - أجل، تريد شابا. أسفي عليك من شابة عاثرة الحظ لا تجد من يطلب يدها!

فحدجتها الفتاة بنظرة شزراء، وقالت وهي تضفر شعرها: بل أجد كثيرين، ولكنك خاطبة فاشلة تريدين أن تداري فشلك. وماذا بي مما يعيب؟ ولكنك كما قلت امرأة فاشلة، يصدق عليك المثل القائل: «باب النجار مخلع».

فابتسمت أم حميدة قائلة: إذا تزوجت الست سنية عفيفي فلا يصح لامرأة أن تيأس!

ولكن الفتاة رمتها بنظرة غاضبة وقالت بحدة: لست أجري وراء الزواج، ولكنه يجري ورائي أنا، وسأنبذه كثيرا. - طبعا! أميرة بنت أمراء!

فتغاضت الفتاة عن سخرية أمها وقالت بنفس اللهجة الحادة: أفي هذا الزقاق أحد يستحق الاعتبار؟

ولم تكن الأم في الواقع يداخلها خوف على الفتاة من البوار، ولا تشك في جمالها، ولكنها كانت كثيرا ما تثور بعجبها وغرورها. فقالت باستياء: لا تسلقي الزقاق بلسانك، إن أهله سادة الدنيا! - سادة دنياك أنت، كلهم كعدمهم، اللهم إلا واحدا به رمق جعلتموه أخي!

وكانت تعني حسين كرشة أخاها بالرضاعة؛ فهال أمها الأمر وقالت بلهجة انتقاد واستياء: كيف تقولين هذا؟ ما جعلناه أخا، وما نملك أن نصنع أخا ولا أختا، ولكنه أخوك بالرضاعة كما أمر الله!

فغلبتها روح المجون وقالت عابثة: ألا يجوز أن يكون قد رضع من ثدي، ورضعت أنا من الآخر؟

فلكمتها أمها في ظهرها وصاحت بها: قاتلك الله!

فغمغمت الفتاة بازدراء: زقاق العدم! - أنت تستحقين موظفا قد الدنيا! - فتساءلت بتحد: هل الموظف إله؟

فتنهدت الأم قائلة: آه لو تخففين من غلوائك!

فقلدت لهجة أمها قائلة: آه لو تنصفين ولو مرة في العمر! - آكلة شاربة ثم لا تشكرين. أتذكرين كيف أطلقت علي لسانك الطويل بسبب جلباب!

فقالت حميدة بدهشة: وهل الجلباب شيء يهون؟! ما قيمة هذه الدنيا بغير الملابس الجديدة؟! ألا ترين أن الأولى بالفتاة التي لا تجد ما تتزين به من جميل الثياب أن تدفن حية؟!

ثم امتلأ صوتها أسفا وهي تقول مستدركة: آه لو رأيت بنات المشغل! آه لو رأيت اليهوديات العاملات! كلهن يرفلن في الثياب الجميلة. أجل ما قيمة الدنيا إذا لم نرتد ما نحب؟!

فقالت الأم باستياء: أفقدتك مراقبة فتيات المشغل واليهوديات عقلك، وهيهات أن يهدأ لك بال!

فلم تعبأ بقولها، وكانت انتهت من تضفير شعرها، فاستخرجت من جيبها مرآة صغيرة، ثبتتها على مسند الكنبة، ثم وقفت أمامها منحنية قليلا لترى صورتها، ثم غمغمت بلهجة تنم عن الإعجاب: آه يا خسارتك يا حميدة! لماذا توجدين في هذا الزقاق؟! ولماذا كانت أمك هذه المرأة التي لا تميز بين التبر والتراب؟!

ثم دلفت من النافذة الوحيدة في الحجرة التي تطل على الزقاق، ومدت يديها إلى مصراعيها المفتوحين وجذبتهما حتى لم يعد يفرج بينهما إلا مقدار قيراطين من الفراغ، وارتفقت النافذة ملقية ببصرها إلى الزقاق، متنقلة به من مكان إلى مكان، قائلة، وكأنما تخاطب نفسها في سخرية: مرحبا يا زقاق الهنا والسعادة. دمت ودام أهلك الأجلاء. يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس. ماذا أرى؟! هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة؛ عينا على الأرغفة وعينا على جعدة زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه لكماتها وركلاتها. وهذا المعلم كرشة القهوجي متطامن الرأس كالنائم، وما هو بالنائم. وعم كامل يغط في نومه، والذباب يرقص على صينية البسبوسة بلا رقيب. آه! وهذا عباس الحلو يسترق النظر إلى النافذة في جمال ودلال، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدمه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف. أما هذا فالسيد سليم علوان صاحب الوكالة، رفع عينيه يا أماه وغضهما، ثم رفعهما ثانية .. قلنا الأولى مصادفة، والثانية يا سليم بك؟! رباه هذه نظرة ثالثة! ماذا تريد يا رجل يا عجوز، يا قليل الحياء؟! مصادفة كل يوم في مثل هذه الساعة؟! ليتك لم تكن زوجا وأبا؛ إذا لبادلتك نظرة بنظرة، ولقلت لك: أهلا وسهلا ومرحبا. هذا كل شيء، هذا هو الزقاق، فلماذا لا تهمل حميدة شعرها حتى يقمل؟! .. أوه .. ها هو ذا الشيخ درويش قادما يضرب الأرض بقبقابه!

وهنا قاطعتها أمها في سخرية: ما أحق الشيخ درويش أن يكون زوجا لك!

فلم تلتفت إليها، ورقصت لها عجيزتها وهي تقول: يا له من رجل مقتدر. يقول إنه أنفق في حب السيدة زينب مائة ألف، فهل يبخل بعشرة آلاف؟!

ثم تراجعت فجأة كأنها ملت موقفها، وعادت إلى المرآة ملقية إليها نظرا فاحصا، وتنهدت، وهي تقول: يا خسارتك يا حميدة!

4

في الثلث الأول من النهار يكتنف الزقاق جو رطب بارد ظليل، لا تزوره الشمس إلا حين تشارف كبد السماء فتتخطى الحصار المضروب حوله. بيد أن النشاط يدب في الأركان منذ الصباح الباكر، يفتتحه سنقر صبي القهوة فيهيئ المقاعد ويشعل الوابور، ثم يتوافد عمال الوكالة أزواجا وأفرادا، ثم يلوح جعدة حاملا خشبة العجين، حتى عم كامل نفسه يشغل في هذه الساعة بفتح الدكان وتناول الإفطار عن النعاس! وكان عم كامل وعباس الحلو يتناولان إفطارهما معا، فتوضع بينهما صينية عليها طبق المدمس والبصل الأخضر والخيار المخلل. وكان مزاجاهما في الأكل مختلفين؛ فالحلو سريع يلتهم رغيفه في دقائق معدودات، أما عم كامل فبطيء يمضغ اللقمة في أناة حتى يكاد يذيبها في فمه، وكثيرا ما يقول: إن الطعام المفيد يهضم في الفم أولا، ولذلك فالحلو ينتهي من طعامه، ثم من احتساء الشاي وتدخين الجوزة، والآخر ما يزال يمضغ ويقضم البصل، ولذلك أيضا فلكي يأمن تعدي الحلو على نصيبه يشق الفول بلقمة شطرين، ولا يسمح للشاب بتجاوز حده! وعم كامل - رغم جسامته وضخامته - لا يعد أكولا وإن كان يلتهم الحلوى بشراهة. وهو حلواني ماهر، ولكنه لا يفرغ ما يتمتع به من فن إلا في الطلبات الخاصة التي يوصي عليها أمثال السيد سليم علوان والسيد رضوان الحسيني والمعلم كرشة. وطار في ذلك صيته حتى جاوز المدق إلى الصنادقية والغورية والصاغة. ولكن رزقه على قد عيشته البسيطة دون زيادة، فلم يكن كاذبا حين شكا إلى عباس الحلو أنهم لن يجدوا بعد وفاته ما يدفنونه به. وقد قال - ذلك الصباح - مخاطبا الحلو بعد أن فرغا من طعامهما: قلت إنك ابتعت لي كفنا، وهو صنيع تستحق عليه الشكر والدعاء، ولكن ما قولك في أن تنزل لي عنه الآن؟

فتعجب عباس الحلو الذي كاد ينسى الكفن كما تنسى عادة الأكاذيب، وسأله: وماذا تريد أن تفعل به؟!

فقال الرجل بصوته الرفيع الذي يحاكي أصوات الغلمان: أنتفع بثمنه! ألا تسمع ما يقال عن ارتفاع أثمان الأقمشة؟

فضحك الحلو وقال: أنت رجل ماكر على رغم ما تتظاهر به من سذاجة؛ بالأمس شكوت أنك لن تجد ما تكفن به بعد موتك، فلما أعددت لك الكفن تريد أن تنتفع بثمنه! ولكن هيهات أن تنال ما تريد، لقد ابتعت الكفن لأكرم به جثتك بعد عمر طويل إن شاء الله.

فابتسم عم كامل في ارتباك وقال: هب أن العمر قد امتد بي حتى تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ألا نكون قد خسرنا ثمن الكفن الغالي؟! - وهبك تموت غدا؟!

فقطب عم كامل وقال: لا قدر الله!

فقهقه الحلو ضاحكا وقال: عبثا تحاول أن تثنيني عما اعتزمت، سيبقى الكفن في حرز حريز حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وعاوده الضحك فضحك طويلا حتى شاطره الرجل ضحكه، ثم قال الشاب معاتبا: يا لك من رجل لا ترجى منه فائدة! هل استفدت منك مليما واحدا في حياتي؟! مطلقا. ذقنك جرداء لا تنبت، وكذلك شاربك. رأسك أصلع، وليس بهذه الدنيا الواسعة التي تدعوها جسمك شعرة واحدة أنتفع بحلقها! سامحك الله.

فابتسم عم كامل قائلا: جسم نظيف طاهر لن يشق على أحد غسله.

وقطع عليهما الحديث صوت يشبه العواء، فنظرا إلى داخل الزقاق فرأيا المعلمة حسنية الفرانة تنهال على زوجها جعدة بالشبشب، والرجل يتقهقر أمامها لا يملك لها دفعا، وصراخه يعلو حتى طبق الآفاق، فضحك الرجلان، وصاح عباس الحلو مخاطبا المرأة: العفو والرحمة يا معلمة!

ولكن المرأة لم تمسك حتى ارتمى جعدة عند قدميها باكيا مستعطفا. ولبث عباس ضاحكا، وهو يقول لعم كامل: ما أخلق جسمك بهذا الشبشب حتى يذوب شحمه!

وظهر عند ذاك حسين كرشة قادما من البيت في سرواله وقميصه وقبعته. كان ينظر في ساعة معصمه، تياها فخورا، وعيناه الصغيرتان الحاذقتان تمتلئان زهوا. وقد حيا صديقه الحلاق، ومضى إلى الكرسي داخل الصالون وجلس عليه ليحلق شعره في يوم عطلته. وقد نشأ الصديقان معا في زقاق المدق، كما رأيا نور الدنيا في بيت واحد، بيت السيد رضوان الحسيني، بيد أن عباس الحلو رأى هذا النور الدنيوي قبل صاحبه بثلاثة أعوام. وكان الحلو في ذلك الوقت يعيش في حضانة والديه، قبل أن يعرفه عم كامل ويشاطره شقته بخمسة عشر عاما. وقد قطع الصديقان الطفولة والصبا معا. وآخى بينهما الحب والمودة، وظلا على صداقتهما حتى بعد أن فرق بينهما العمل، فاشتغل عباس صبي حلاق بالسكة الجديدة، وعمل حسين صبيا في دكان دراجات بالجمالية. وقد تباينت أخلاقهما منذ البدء، ولكن لعل تباينهما هذا كان من أهم الأسباب التي أبقت على صداقتهما ومودتهما. كان عباس الحلو - ولا يزال - شخصا وديعا، دمث الأخلاق، طيب القلب، ميالا بطبعه إلى المهادنة والمصالحة والتسامح، أقصى ما يطمح إليه من فنون اللهو اللعب السلمي، أو ارتياد القهوة لتدخين الجوزة ولعب الكومي، مع نفور من اللجاج والشجار، ودراية في اتقائهما بالابتسامة الحلوة و«الله يسامحك يا عم.» وكان يحافظ على صلاته وصومه، ولا تفوته صلاة الجمعة في سيدنا الحسين. أجل أهمل الآن بعض هذه الفرائض، لا عن استهتار ولكن عن كسل، وما زال يحافظ على صلاة الجمعة وصوم رمضان. ولم يكن من النادر أن يتحرش به صاحبه حسين كرشة، ولكنه كان إذا شد صاحبه أرخى، فلم تصله قبضته القاسية قط. وعرف إلى ذلك بالقناعة والرضا، حتى إنه واصل عمله «صبيا» عشرة أعوام كاملة ولم يفتح دكانه الصغير إلا منذ خمسة أعوام، ومنذ ذلك التاريخ وهو يحسب أنه نال أرفع ما يطمح إليه. وقد ملأت هذه الروح القنوعة الراضية نفسه، فنطقت بها عيناه البارزتان الهادئتان، وجسمه البدين، وطابع المرح الذي لا يفارقه. أما حسين كرشة فكان من شطار الزقاق، مشتهرا بالنشاط والحذق والجراءة، بل هو معتد أثيم إذا دعا الداعي. وقد اشتغل بادئ أمره في قهوة أبيه، ولكنهما لم يتفقا، فهجرها وعمل بدكان الدراجات، ولبث بها حتى اندلع لهيب الحرب فالتحق بخدمة المعسكرات البريطانية، وبلغت يوميته بها ثلاثين قرشا - نظير ثلاثة قروش في عمله الأول - غير ما يسميه «أكل العيش يحب خفة اليد» فارتفعت حاله، وامتلأ جيبه، ورفه عن نفسه بحماس فائر لا يعترف بالحدود؛ فتمتع بالثياب الجديدة، وغشي المطاعم، وأكثر من أكل اللحوم التي هي في حسبانه طعام المحظوظين، وارتاد السينمات والملاهي، وعاقر الخمر، ورافق النساء، وربما أخذته نشوة كرم فدعا رفاقه إلى سطح البيت حيث يقدم لهم الطعام والنبيذ والحشيش. وفي نشوة من نشواته - كما يحكى عنه - قال لبعض مدعويه: «في بلاد الإنجليز يسمون من كان مثلي في بحبوحة العيش باللارج (Large) ، ولما كان مثله لا يعدم حاسدين فقد دعوه بحسين كرشة اللارج، ثم حرفت فيما بعد إلى حسين كرشة الجراج!»

أمسك عباس الحلو بالماكينة وأقبل على رأس صاحبه بهمة ونشاط، يصلح من أطرافها دون مساس بالشعر المفلفل الذي يكاد يقف من فظاظته وخشونته. ولم يكن يخلو من شعور بالحزن يساوره كلما التقى بذلك الصديق القديم. أجل ما زالا صديقين؛ ولكن الحياة تغيرت بطبيعة الحال، فلم يعد حسين كرشة يواظب على قضاء سهراته بقهوة أبيه كما كان يفعل في الأيام الخالية، مما دعا إلى ندرة اجتماع الصديقين. ولم يخل الأمر من عاطفة حسد تخامر فؤاد الحلاق كلما ذكر الهوة الواسعة التي تفصل بينهما. بيد أنه في حسده - كما هو في حياته - وديع عاقل لا يتهور ولا يتورط في خطأ، فلم ينل صاحبه بلفظ سوء، وكأنه يغبطه ولا يحسده، وربما قال لنفسه معزيا: «سوف تنتهي الحرب يوما، ويعود حسين إلى الزقاق معدما كما خرج منه.»

وجعل حسين كرشة - بثرثرته المعهودة - يحدث صاحبه عن حياة «الأورنس» والعمال والمرتبات والسرقات وما يحدث بينه وبين الإنجليز من نوادر ومداعبات! وعما يكنه الجنود لشخصه من الحب والإعجاب، قال:

قال لي الأونباشي جوليان مرة: إني لا أفترق عن الإنجليز إلا في اللون! وكثيرا ما نصحني بالاقتصاد، ولكن الساعد (وهناك حرك ساعده في زهو) الذي يربح النقود في أثناء الحرب خليق بأن يربح أضعافها في زمان السلم. ومتى تظن الحرب تنتهي؟! لا يغرنك هزيمة الطليان، فأولئك لا حساب لهم في الحرب، ولسوف يحارب هتلر عشرين عاما، والأونباشي جوليان من المعجبين بشجاعتي، ويثق في ثقة عمياء، وبفضل هذه الثقة يسرحني في تجارته الواسعة من تبغ وسجائر وشوك وسكاكين وملاءات أسرة وجوارب وأحذية .. دنيا!

فتمتم عباس الحلو متفكرا: دنيا!

فألقى حسين على صورته في المرآة نظرة متفحصة وقال: أتدري أين أذهب الآن؟ .. إلى حديقة الحيوان. أوتدري مع من؟ .. مع بنت كالقشدة والشهد (وقبل الهواء قبلة ذات وسوسة) وسأنطلق بها هناك إلى أقفاص القرود.

وقهقه عاليا، ثم استدرك: أراهن على أنك تتساءل: لماذا القرود؟ وهذا طبيعي من إنسان مثلك لم ير إلا قرد القرداتي. فاعلم يا حمار أن القرود في حديقة الحيوان تعيش جماعات في أقفاص، وهي كبيرة الشبه بالإنسان في صورته وسوء أدبه، تراها تتغازل وتتحاب في علانية مكشوفة، فإذا سقت الفتاة إلى هنالك تفتحت لي الأبواب!

فتمتم الحلو وهو يكب على عمله: دنيا! - النساء علم واسع لا تحذقه بمجرد شعرك المرجل.

فضحك الحلو ونظر إلى شعره في المرآة، وقال بصوت منكسر: أنا رجل مسكين!

فحدج صورته في المرآة بنظرة حادة وتساءل متهكما: وحميدة؟!

فخفق قلب الحلو بعنف لأنه لم يكن يتوقع سماع هذا الاسم المحبوب، وتمثلت لعينيه صورتها، فتورد وجهه، وغمغم وهو لا يدري: حميدة! - أجل حميدة، بنت أم حميدة!

ولاذ الحلاق بالصمت وقد لاح في وجهه الارتباك، وراح الآخر يقول بحدة: يا لك من رجل خامل معدوم الحياة، عيناك نائمتان، دكانك نائم، حياتك نوم وخمول. أعياني إيقاظك يا ميت. أتحسب أن هذه الحياة خليقة بتحقيق آمالك؟! هيهات، ولن ترزقك مهما سعيت بأكثر من لقمتك.

فلاح التفكير في العينين الهادئتين وقال متكدرا بعض الكدر: الخيرة فيما اختاره الله.

فقال الشاب ساخرا: عم كامل، قهوة كرشة، الجوزة، الكومي؟!

فقال الحلو في حيرة: لماذا تهزأ بهذه الحياة؟ - أهي حياة حقا؟ .. هذا الزقاق لا يحوي إلا موتا، وما دمت فيه فلن تحتاج يوما للدفن، عليك رحمة الله.

فسأله الحلو بعد تردد وإن كان يدري ما الآخر قائله: وماذا تريدني أن أفعل؟

فصاح به الفتى: طالما أخبرتك، طالما نصحتك، اخلع رداء هذه الحياة القذرة الحقيرة، أغلق هذا الدكان، اهجر هذا الزقاق، أرح عينيك من جثة عم كامل. وعليك بالجيش الإنجليزي. الجيش الإنجليزي كنز لا يفنى. هو كنز الحسن البصري، ليست هذه الحرب بنقمة كما يقول الجهلاء، ولكنها نعمة النعم، لقد بعثها ربنا لينتشلنا من وهدة الشقاء والعوز. على الرحب والسعة ألف غارة وغارة ما دامت تقذفنا بالذهب. ألم أنصحك بالالتحاق بالجيش؟ وما زلت أقول لك: إن الفرصة سانحة. حقا هزمت إيطاليا ولكن ألمانيا باقية، ووراءها اليابان، وسوف تطول الحرب عشرين عاما. أقول لك للمرة الأخيرة إنه توجد أماكن شاغرة في التل الكبير. سافر!

واستيقظ خيال الحلو، واضطرمت عواطفه حتى وجد صعوبة في امتلاك عنانه وإتقان عمله. لم يكن ذلك نتيجة لكلام حسين الراهن فحسب؛ ولكنه نتيجة لإلحاحه المتواصل كلما قابله. كان بطبعه قنوعا، عزوفا عن الحركة، هيابا لكل جديد، مبغضا للأسفار، ولو ترك وشأنه ما اختار عن المدق بديلا، ولو لبث فيه مدى الحياة لما مله ولا فتر حبه له. ولكن طموحه صحا بعد سبات، وكان كلما دبت فيه الحياة امتزج في نفسه بصورة حميدة، أو لعل حميدة هي التي أيقظته وبعثته بعثا جديدا، فكان طموحه وصورتها المحبوبة شيئا واحدا لا يتجزأ. وعلى رغم هذا كله خاف أن يبوح بذات نفسه، وكأنما أراد أن يفسح لنفسه وقتا للتدبر والتفكير، فقال متظاهرا بالإحجام والإباء: السفر ابن كلب!

فضرب حسين الأرض بقدمه وصاح به: أنت ابن ستين كلبا. السفر خير من زقاق المدق، وخير من عم كامل! سافر وتوكل على الله. أنت لم تولد بعد. ماذا أكلت؟ ماذا شربت؟ ماذا لبست؟ ماذا رأيت؟ صدقني أنك لم تولد بعد.

فقال عباس متأسفا: من المحزن أني لم أولد غنيا. - من المحزن أنك لم تولد بنتا! لو ولدت بنتا لكنت من بنات الدقة القديمة، حياتك في البيت وللبيت، لا سينما ولا حديقة الحيوان، حتى ولا الموسكي الذي ترتاده حميدة في العصاري.

فضاعف ذكر هذا الاسم من ارتباكه، وآلمه أن ينطق به صاحبه مستهينا ساخرا كأنه لفظ تافه لا يثير مكامن القلوب، وقال مدافعا عن فتاته: أختك حميدة فتاة كريمة الأخلاق، ولا يعيبها أن تروح عن نفسها بالمشي في الموسكي. - أجل؛ ولكنها فتاة طموح ما في ذلك من شك، ولن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك.

وعاوده قلبه الخفقان العنيف، والتهب وجهه احمرارا، وذابت نفسه وجدا وقلقا وانفعالا. وكان انتهى من حلق رأس الشاب، فراح يمشطه دون أن ينبس بكلمة، وفكره لا يستريح من اضطرابه. ثم نهض حسين كرشة وأعطاه نقوده. وقبل أن يغادر الدكان اكتشف أنه نسي منديله، فرجع مسرعا إلى البيت وجعل يتابعه بعينيه من موقفه، فلاح لعينيه مرحا نشيطا سعيدا، وكأنه يرى فيه هذه الصفات لأول مرة. «لن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك.» صدق حسين بلا ريب، إنه يعيش عيشة الكفاف، ولا يكاد يتمخض كدح يومه عن رزق ذلك اليوم، فإذا أراد أن يبني عشه في هذه الأيام العسيرة، فلا معدى عن فتح جديد. إلام يقنع بالأحلام والتمني وهو قابع هامد مغلول اليد والإرادة؟ لماذا لا يجرب حظه ويقتحم سبيله كما يفعل الآخرون؟! «فتاة طموح»، هكذا يقول حسين، وإن كان هو لا يدري شيئا على وجه التحقيق، وربما كان حسين أدرى بها، لأنه - عباس - اعتاد أن يراها بعين الحب الحالمة الخالقة. وإذا كانت فتاته طموحا فلا معدى له عن أن يكون طموحا كذلك. ولعل حسين يحسب غدا - وقد ابتسم لهذا الخاطر - أنه أيقظه من سباته وخلقه خلقا جديدا، ولكنه يعلم دون الناس جميعا أنه لولا ذاك الشخص المحبوب ما استطاع شيء أن ينزعه من قناعته الوديعة المستسلمة. وشعر عباس في هذه اللحظة الفاصلة من حياته بقوة الحب وسلطانه وسحره العجيب. ولعله أحس - إحساسا غامضا لا يرتقي لمرتبة الوعي والفكر - بقدرة الحب على الخلق والتعمير، فموضع الحب من نفوسنا هو مهبط الخلق والإبداع والتجديد. ولذلك خلق الله الإنسان محبا، وترك مهمة تعمير الوجود أمانة في رعاية الحب. وقد تساءل الفتى في وجده وانفعاله: لماذا لا يسافر؟ ألم يعش في هذا الزقاق حوالي ربع قرن من الزمان؟! فماذا أفاده؟ إنه زقاق لا يعدل بين أهله، ولا يجزيهم على قدر حبهم له. وربما ابتسم لمن يتجهمه وتجهم لمن يبتسم له، فهو يقتر عليه الرزق تقتيرا، ويغدقه على السيد سليم غدقا، وعلى كثب منه تتكدس رزم الأوراق المالية حتى ليكاد يشم عرفها الساحر، في حين أن راحته لا تقبض إلا على ثمن الرغيف، فليكن سفر، وليتغيرن وجه الحياة.

جرى فكره هذا الشوط البعيد، ولبث واقفا أمام دكانه ينظر إلى عم كامل وقد مضى يغط غطيطا والمذبة في حجره، ثم سمع وقع أقدام خفيفة آتيا من أعلى الزقاق، فتحول إليه فرأى حسين كرشة عائدا في خطوات واسعة. واستمر به الانفعال والقلق، ونظر إليه كما ينظر المقامر إلى كرة الروليت الدائرة، حتى حاذاه وأوشك أن يفوته، فوضع يده على كتفه وقال له بقوة وعزم: حسين، أريد أن أحدثك في أمر هام.

5

العصر!

عاد الزقاق رويدا رويدا إلى عالم الظلال: والتفت حميدة في ملاءتها، ومضت تستمع إلى دقات شبشبها على السلم في طريقها إلى الخارج. وقطعت الزقاق في عناية بمشيتها وهيئتها لأنها تعلم أن أعينا أربعا تتبعها متفحصة ثاقبة، عيني السيد سليم علوان صاحب الوكالة، وعيني عباس الحلو الحلاق. ولم تكن تفاهة ثيابها لتغيب عنها؛ فستان من الدمور وملاءة قديمة باهتة، وشبشب رق نعلاه، بيد أنها تلف الملاءة لفة تشي بحسن قوامها الرشيق، وتصور عجيزتها الملمومة أحسن تصوير، وتبرز ثدييها الكاعبين، وتكشف عن نصف ساقيها المدملجتين، ثم تنحسر في أعلاها عن مفرق شعرها الأسود ووجهها البرنزي الفاتن القسمات، وكانت تتعمد ألا تلوي على شيء فتنحدر من الصنادقية إلى الغورية، ثم إلى السكة الجديدة فالموسكي .. حتى إذا غابت عن الأعين الثاقبة علت شفتيها ابتسامة، وراحت تنهب الطريق الزاخر العامر بعينيها الجميلتين. هي فتاة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان. ربما كان لحسنها الملحوظ الفضل في بث هذه الروح القوية في طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت بطبعها قوية، لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها. وكانت عيناها الجميلتان تنطقان أحيانا بهذا الشعور نطقا يذهب بجمالها في رأي البعض، ويضاعفه في رأي البعض الآخر. فلم تفتأ أسيرة لإحساس عنيف يتلهف على الغلبة والقهر، يتبدى في حرصها على فتنة الرجال، كما يتبدى في محاولتها التحكم في أمها، ويتعرى في أسوأ مظاهره في ما يشتجر بينها وبين نسوة الزقاق من شغب وسباب وعراك، حتى أبغضنها جميعا، ورمينها بكل سوء. وربما كان من أغرب ما رميت به أنها تبغض الأطفال، وأنها بالتالي متوحشة محرومة من نعمة الأنوثة، وهذا ما جعل امرأة المعلم كرشة القهوجي - أمها بالرضاعة - تتمنى على الله أن تراها أما ترضع الأطفال في كنف زوج جبار يبيتها بالضرب ويصبحها بالضرب! مضت في سبيلها مستمتعة بنزهتها اليومية، مرددة الطرف في معارض المتاجر المتعاقبة. كانت تهوى مشاهدة المعروضات النفيسة من الثياب والآنية، فتثير في نفسها الطموح المتلهفة على القوة والسيطرة أحلاما ساحرة. ولذلك تركزت عبادتها للقوة في حب المال على اعتبار أنه المفتاح السحري للدنيا، المسخر لجميع قواها المذخورة. فجل ما كانت تعرفه عن نفسها أنها تحلم بالمال ؛ المال الذي يأتي بالثياب وبكل ما تشتهيه الأنفس. وعسى أن تتساءل: أيمكن يا ترى أن تبلغ يوما ما تتمنى؟! لم تكن الحقائق لتغيب عنها، ومع ذلك فهي لا تنسى قصة فتاة من بنات الصنادقية، كانت فقيرة في الأصل مثلها، ثم أسعفها الحظ بزوج ثري من المقاولين، فانتشلها من وهدتها، ونقلها من حال إلى حال، فماذا يمنع القصة أن تتكرر، والحظ أن يبتسم مرتين في هذا الحي؟ ليست دون صاحبتها جمالا، والحظ الذي لعب دوره في حياة الأخرى يستطيع أن يعيده مرات ومرات دون عناء أو خسارة. بيد أن هذا الطموح كان يضطرب في دنيا ضيقة تنتهي عند حدود ميدان الملكة فريدة، لا يدري عما وراءها شيئا، ولا عما تحويه هذه الدنيا الواسعة من أناس وحظوظ، ولا كم منهم يلقى خيرا وسعدا، وكم منهم يتردد مثلها حائرا لا يعلم لنفسه مرسى. فعلى كثب من هذه المنطقة رأت صويحباتها من عاملات المشغل قادمات، فهرعت نحوهن وقد تخلصت من جميع أفكارها، وابتسمت أساريرها، وسرعان ما سلمن وأخذن في تافه الأحاديث، وهي تتفحص وجوههن وثيابهن بأعين ناقدة، ذاهبة نفسها حسرات على ما يتمتعن به من حرية وجاه. أولئك فتيات صغيرات من أهل الدراسة، خرجن بحكم ظروفهن الخاصة البائسة وظروف الحرب عامة عن تقاليدهن الموروثة، واشتغلن بالمحال العامة مقتديات باليهوديات. ذهبن إليها مكدودات هزيلات فقيرات، وسرعان ما أدركهن تبدل وتغير في ردح قصير من الزمن؛ شبعن بعد جوع، وكسين بعد عري، وامتلأن بعد هزال، ومضين على أثر اليهوديات في العناية بالمظهر وتكلف الرشاقة، ومنهن من يرطن بكلمات، ولا يتورعن عن تأبط الأذرع والتخبط في الشوارع الغرامية. تعلمن شيئا واقتحمن الحياة. أما هي فقد فوت عليها عمرها وجهلها ما يمرحن فيه من فرص. وها هي تتمسح بهن والحسرة ملء حناياها، غابطة حياتهن المرهفة وثيابهن المزركشة وجيوبهن العامرة. كانت تضاحكهن في صفاء كاذب والحسد يأكل قلبها، ثم لا تتردد عن نهشهن - ولو على سبيل الدعابة الساخرة - لأقل هفوة، فهذه فستانها قصير معدوم الحياء، وهذه ذوقها سقيم، وتلك عيناها تزوغان من التحديق في الرجال، والرابعة كأنها نسيت أيام كان القمل يزحف على رقبتها كالنمل؟ كان هذا اللقاء بلا ريب من بواعث تمردها الدائم، ولكنه كان كذلك أكبر تسلية لها في يومها الطويل المفعم تبرما وعراكا، ولذلك قالت يوما لأمها وهي تتنهد: حياة اليهوديات هي الحياة حقا!

فانزعجت أمها وقالت: إنك من نبع أبالسة، ودمي بريء منك.

فقالت الفتاة إمعانا في إغاظتها: ألا يجوز أن أكون من صلب باشوات ولو عن سبيل الحرام؟!

فهزت المرأة رأسها وقالت ساخرة: رحم الله أباك بائع الدوم بمرجوش!

سارت وسط صويحباتها تياهة بجمالها، مدرعة بلسانها الطويل، يلذها أن الأعين تمر بهن مر الكرام وتستقر عليها دونهن. ولما انتصف الموسكي أو كاد لاحت منها التفاتة إلى الطريق فرأت عباس الحلو يسير متأخرا عنهن قليلا وعيناه تلحظانها بتلك النظرة المألوفة، وتساءلت عما دعاه إلى ترك دكانه في هذه الساعة على غير عادة: هل تبعها عمدا؟ ألم يعد يقنع برسائل النظر؟ كان على فقره متأنقا كأكثرية أهل فنه، فلم يضايقها ظهوره، وقالت لنفسها: إن أية واحدة من صاحباتها لا تطمع في زوج خير منه، وكانت تجد نحوه شعورا غريبا معقدا، فهو من ناحية الشاب الوحيد في الزقاق الذي يصلح لها زوجا، وهي من ناحية أخرى تحلم بزوج على مثال المقاول الغني الذي حظيت به جارتها في الصنادقية، فهي لا تحبه ولا تتمناه، وفي الوقت نفسه لا تقطعه، ولعلها تسرها نطراته المشوقة! وكان من عادتها أن توصل الفتيات حتى نهاية الدراسة ثم تعود بمفردها إلى الزقاق، فسارت بينهن وهي تسترق النظر. فلم تعد تشك في أنه يتبعها عامدا، وأنه ينوي أن يخرج عن صمته أخيرا. ولم تخطئ ظنونها، فما كادت تودع آخر الفتيات وتدور على عقبيها حتى انحدر نحوها من الطوار، في خطوات مضطربة ووجهه ينطق بالانفعال، وقاربها حتى حاذاها، ثم قال بصوت متهدج: مساء الخير يا حميدة.

فالتفتت نحوه كالمنزعجة وكأنها بوغتت بظهوره مباغتة، ثم قطبت وأوسعت خطاها دون أن تنبس بكلمة، فتورد وجهه؛ ولكنه عاد يقول بصوت ينم عن العتاب: مساء الخير يا حميدة.

وخافت إن هي لازمت الصمت مع هذا الخطو الحثيث أن ينتهيا إلى الميدان المأهول قبل أن يقول ما يريد، وكانت راغبة في سماعه، فقالت في لهجة تنطق بالاستياء: يا للعار! جار وتفعل كالغريب!

فقال عباس بلهفة: بل جار حقا، ولا أفعل كالغريب، أحرام على الجار أن يتكلم؟

فقالت عابسة: نعم، الجار يحمي جارته؛ لا أن يهاجمها!

فقال الشاب بصدق حار: أنا جار أعلم واجبات الجار، ولم يخطر ببالي قط أن أهاجمك - لا سمح الله - بيد أني أريد أن أحدثك، ولا عيب أن يحدث الجار جارته! - كيف تقول هذا؟! أليس من العيب أن تتعرض لي في الطريق، وتعرضني للفضيحة؟

فهاله قولها وقال بأسف: الفضيحة؟! .. معاذ الله يا حميدة. صدري طاهر، ولا يكن لك إلا الطهر وحياة الحسين، وستعلمين أن كل شيء سينتهي بما أمر به الله، لا بالفضيحة، فأصغي إلي قليلا، أريد أن أحدثك عن أمر هام، ميلي بنا إلى شارع الأزهر بعيدا عن أعين الذين يعرفوننا.

فقالت باستياء متصنع: بعيدا عن أعين الناس؟! ما شاء الله! .. دمت من جار طيب حقا!

وكان قد تشجع بمنازعتها إياه الحديث، فقال بحرارة: ما ذنب الجار؟ .. أيموت قبل أن يبوح بذات نفسه؟!

فقالت بسخرية: ما أطهر كلامك!

فقال عباس بلهفة وشت بإشفاقه من اقتراب الميدان المأهول: طاهر النية وسيدنا الحسين، لا تسرعي هكذا يا حميدة، ميلي بنا إلى شارع الأزهر، أريد أن أقول لك كلمة هامة، ينبغي أن تصغي إلي، أنت تعلمين ولا شك بما أريد أن أقوله، ألا تعلمين؟ ألا تشعرين؟ قلب المؤمن دليله!

فقالت كالغاضبة: لقد جاوزت حدك، كلا ... كلا ... دعني. - حميدة ... أنا أريد أن ... أنا أريدك ... - يا للعار! دعني وإلا فضحتني أمام الخلق.

وكانا قد بلغا ميدان الحسين، فمرقت من جانبه إلى الطوار الأيسر وحثت خطاها على عجل، ثم انعطفت إلى الغورية وهي تبتسم ابتسامة خفيفة. كانت تعلم ما يريد قوله كما قال، ولم تنس أنه الفتى الوحيد الصالح لها في الزقاق ، وقد قرأت في عينيه البارزتين آي الحب كما قرأتها مرارا من نافذتها في الماضي القريب، ولكن هل حرك ذلك جميعه قلبها الجحود؟ أما حالته المالية التي تعلم عنها الشيء الكثير فلا يمكن أن تحرك فيها ساكنا، وأما شخصه فوديع تنم عيناه عن القناعة والخضوع، مما يجعله خليقا بأن يرتاح إليه فؤادها المغرم بالسيطرة، بيد أنها وجدت نحوه - رغم ذلك - نفورا لم تدر له سببا. ماذا تريد إذا؟ ومن يرضيها إذا لم يرضها هذا الفتى الوديع الطيب؟! لم تهتد لجواب بطبيعة الحال، وقد عزت نفورها منه إلى فقره! والظاهر أن حبها السيطرة كان تابعا لحبها العراك لا العكس، فلم تهش للمسالمة، ولم تفرح بظفر هين سهل المنال. وكان قلبها ما يزال في غفوته لم يستبن بعد رغائبه، فملأها شعورها المبهم الغامض حيرة وقلقا.

ونكص عباس الحلو عن ملاحقتها خيفة الأعين، فتراجع مفعم الفؤاد خيبة وحسرة، ولكنه كان أبعد ما يكون عن اليأس. قال لنفسه وهو يسير متمهلا غافلا عما حوله: إنها بادلته الكلام طويلا، ولو قصدت صده ونبذه ما منعها ولا أعيتها الحيلة، فهي لا تكرهه، ولعلها تتدلل شأن الفتيات جميعا، ولعله الحياء الذي جعلها تقطع عليه سبيل التودد بالفرار. فكان أبعد الناس عن اليأس، بل راح يستسلم لمغازلة الأمل وتوثب للكرة التالية. وقد سكر قلبه برحيق نشوة ساحرة لم يكن له عهد بمثلها من قبل. كان محبا صادقا ملتهب العاطفة، وكان يشعر حيال نظرتها النافذة الجميلة بخضوع كلي، ولذة لا حد لها، وحب لا يبيد. أجل كان كأمثاله من الفتيان مولعا بالنساء عامة؛ ولكنه كان كالحمام يحلق في السماء ويطوف بأطرافها ثم يقع في النهاية على برجه ملبيا صفير صاحبه، فهي دون النساء جميعا أمله المنشود. أجل لم تعد مخاطرته خائبة، وتفتحت له أكمام الأحلام عن زهر الآمال؛ فعاد منتشيا مسرورا بحبه وبشبابه. ولما عرج إلى الصنادقية صادف الشيخ درويش قادما من ناحية الحسين، فالتقيا عند مطلع الزقاق، وأقبل على الشيخ يريد أن يصافحه تبركا، ولكن الشيخ أشار نحوه بسبابته محذرا، وحملق في وجهه بعينيه الذابلتين وراء نظارته الذهبية وقال: لا تمش بلا طربوش! احذر أن تعري رأسك في مثل هذا الجو، في مثل هذه الدنيا، فمخ الفتى يتبخر ويطير، وهذا أمر معروف في المأساة ومعناه بالإنجليزية

Tragedy

وتهجيتها:

T r a g e d y .

6

وكان المعلم كرشة قد شغل بأمر هام، ومن النادر أن ينصرم عام من حياته دون أن يشغل نفسه بمثل هذا الأمر؛ على ما يسببه له من الكدر والتنغيص، بيد أنه كان رجلا مسلوب الإرادة، لم يترك له الحشيش من إرادته نفعا. ومع ذلك كان، على خلاف الأكثرية من تجار هذا الصنف، في حكم الفقراء، لا لأن تجارته غير نافقة، ولكن لأنه كان مبذرا - في غير بيته - يبعثر ما يربحه، وينثر المال بلا حساب، جاريا وراء شهواته، خصوصا هذا الداء الوبيل.

وعندما آذنت الشمس للمغيب غادر القهوة دون أن ينبئ سنقر عن طيته، مرتديا عباءته السوداء، متوكئا على عصاه العجراء، ينقل على مهل خطواته الثقيلة! ولا تكاد تدل عيناه المظلمتان المختفيتان تقريبا وراء جفنيه الغليظين على أنه يحسن رؤية طريقه، وكان قلبه يخفق! والقلب يخفق ولو شارف صاحبه الخمسين، ومن عجب أن المعلم كرشة قد عاش عمره في أحضان الحياة الشاذة، حتى خال لطول تمرغه في ترابها أنها الحياة الطبيعية. هو تاجر مخدرات اعتاد العمل تحت جنح الظلام، وهو طريد الحياة الطبيعية وفريسة الشذوذ، واستسلامه لشهواته لا حد له ولا ندم عليه ولا توبة تنتظر عنه. بل إنه ليظلم الحكومة في تعقبها لأمثاله، ويلعن الناس الذين جعلوا من شهوته الأخرى مثارا للازدراء والاحتقار، فيقول عن الحكومة: «إنها تحلل الخمر التي حرمها الله، وتحرم الحشيش الذي أباحه! وترعى الحانات الناشرة للسموم، في حين تكبس «الغرز» وهي طب النفوس والعقول.» وربما هز رأسه آسفا وقال: «ما له الحشيش!» «راحة للعقل وتحلية للحياة، وفوق هذا وذاك فهو مدر للنسل!» وأما شهوته الأخرى فيقول بقحته المعهودة: «لكم دينكم ولي دين!» ولكن إيلافه شهواته لا يمنع من أن يخفق قلبه كل مطلع هوى جديد. وقد سار متمهلا في الغورية ومستسلما لخواطره، يتساءل والأمل ملء فؤاده: «ماذا يا ترى وراءك أيها المساء؟» وعلى رغم انهماكه في خواطره كان يحس بالدكاكين على الصفين إحساسا غامضا، ويرد بين الفينة والفينة تحيات بعض أصحابها من معارفه. وكان يسيء الظن بهذه التحيات وأمثالها، ولا يدري إن كانت لمحض السلام أم أن وراءها من الغمز واللمز. فالناس لا يريحون ولا يستريحون، ويتلقفون المثالب بأفواه نهمة جشعة، ولطالما قالوا فيه وأعادوا، فماذا أفادهم التشهير؟ لا شيء! وكأنه ولع بتحديهم فراح يجهر بما كان يسره. وهكذا مضى في سبيله حتى اقترب من آخر دكان على يساره فيما يلي الأزهر، فاشتد خفقان قلبه وتناسى تحيات الناس التي أثارت سوء ظنه، وانبعث من عينيه المنطفئتين نور خافت شرير، وراح يدنو منه بفيه الفاغر وشفته المتدلية، وجاز عتبته. دكان صغير يجلس في صدره شيخ عجوز وراء مكتب صغير، ويستند إلى أحد رفوفه المكدسة بالبضائع، بائع متسربل بالشباب اليافع، ما إن رأى القادم حتى استقام ظهره، وتلقاه بابتسامة البائع اللبق، وارتفع الجفنان الثقيلان لأول مرة، واستقرت العينان على الشاب، ثم حيا برقة، ورد الشاب التحية في لطف، وقد أدرك لأول وهلة أنه يرى هذا الرجل للمرة الثالثة في ثلاثة أيام متتابعات، وقد تساءل: لماذا لا يبتاع ما يريد مرة واحدة؟!

وقال المعلم: أرني ما عندك من جوارب.

فأحضر الشاب أنواعا منها وبسطها على «طاولة» المحل، وأخذ المعلم يتفحصها وهو يخالس النظر إلى وجه الشاب، والشاب لا يخفى أمره عليه، وقد دارى ابتسامة كادت ترتسم على ثغره. وتعمد أن يطيل الفحص والتقصي، ثم قال للشاب بصوت منخفض: لا تؤاخذني يا بني فبصري ضعيف، هلا اخترت لي لونا مناسبا بذوقك الجميل!

وسكت لحظات يتفرس في وجهه، ثم أردف وهو يرسم ابتسامة على شفته المتدلية: كوجهك الجميل.

فأراه الشاب الجميل نوعا متجاهلا إطراءه، فاستدرك الرجل قائلا: لف لي ستة.

وتريث حتى مضى الشاب يلف الجوارب، ثم قال: الأفضل أن تلف لي اثني عشر .. أنا رجل لا ينقصني المال والحمد لله!

ولف الشاب له ما أراد صامتا، ثم غمغم وهو يناوله اللفيفة: مبارك.

فابتسم المعلم كرشة، أو بمعنى آخر انفرج فمه انفراجة آلية قصيرة يرافقها اضطراب خفيف في جفنيه، وقال بخبث: شكرا لك يا بني (ثم بصوت خفيض) الحمد لله!

وغادر الدكان بعد أداء الثمن منفعلا كما دخله، واتجه نحو شارع الأزهر، ثم عبره مهرولا إلى الناحية الأخرى، ووقف لصق شجرة في مقابل الدكان مستظلا بالظلمة الآخذة في الانتشار. وقف يدا متوكئة على العصا ويدا قابضة على اللفيفة، وعيناه لا تتحولان عن الدكان من بعيد. كان الشاب بموقفه حين دخل الدكان وقد شبك ذراعيه على صدره، فجعل ينظر نحوه، لا يكاد يرى منه إلا صورة غامضة المعالم، ولكن ذاكرته وخيالة أسعفاه بما لم يسعفه به البصر الكليل، وراح يقول لنفسه: «أدرك المراد بلا ريب!» ثم ذكر كيف كان رقيقا لطيفا مؤدبا، ورجعت أذناه صوته وهو يغمغم: «مبارك»، فأثلج صدره وتنهد من الأعماق. لبث في مكانه سويعة مضطرما بالقلق والتوتر، حتى رأى الدكان يغلق أبوابه، وقد افترق عنده الشيخ العجوز الذي اتجه صوب الصاغة، والشاب الذي سار نحو شارع الأزهر. وابتعد المعلم عن الشجرة رويدا رويدا، وسار في الاتجاه الذي يتسمته الشاب. فرآه هذا بعد أن عبر ثلثي الطريق؛ ولكنه لم يبد اهتماما، وأوشك أن يمر به دون اكتراث لولا أن دنا منه المعلم وقال برقة: مساء الخير يا بني.

فنظر الشاب وقد نمت عيناه عن ابتسامة خفيفة وتمتم: مساء الخير يا سيدي.

فسأله بمحض الرغبة في مجاذبته الحديث: أغلقت الدكان؟

ولاحظ الشاب أن الرجل يتثاقل كأنما يدعوه إلى التريث، ولكنه ثابر على مشيته وهو يقول: أجل يا سيدي.

فاضطر الرجل إلى مسايرته، فسارا معا على الطوار والمعلم لا يحول عنه رأسه، ثم قال: ساعات عملك طويلة، كان الله في عونك!

فنفخ الشاب قائلا: ما الحيلة؟ أكل العيش يحب التعب.

فسر المعلم بإقبال الفتى على محادثته، واستبشر خيرا برقته وقال: رزقك الله بتعبك يا بني. - أشكر لك يا سيدي.

فقال الرجل بحماسة: تعب كلها الحياة حقا، ولكن من النادر جدا أن ينال التعب الجزاء الذي يستحقه، فما أكثر العاملين المظلومين في هذه الدنيا!

فشد هذا الكلام على وتر حساس في قلب الفتى وقال بتبرم: صدقت يا سيدي، ما أكثر العاملين المظلومين في هذه الدنيا! - الصبر مفتاح الفرج. أجل ما أكثر المظلومين! ومعنى هذا بالحرف الواحد ما أكثر الظالمين! ولكن من لطف الله أن الدنيا لا تخلو من رحماء كذلك.

فتساءل الفتى: أين هؤلاء الرحماء؟

وكاد يجيبه: «ها أنا ذا واحدا منهم.» ولكنه أمسك عن ذلك، وقال بلهجة العاتب: لا تكن متشائما يا بني فأمة محمد بخير، (ثم غير لهجته قائلا) علام تسرع؟ أمستعجل أنت؟! - ينبغي أن أذهب إلى البيت لأغير ملابسي.

فسأله باهتمام: وبعد ذلك؟ - أنطلق للقهوة. - أية قهوة؟ - قهوة رمضان.

فابتسم المعلم ابتسامته الآلية حتى لمعت أسنانه الذهبية في الظلمة، وتساءل في إغراء: لماذا لا تشرف قهوتنا؟ - أية قهوة يا سيدي؟

فاخشوشن صوت المعلم وهو يقول: قهوة كرشة بالمدق، محسوبك المعلم كرشة!

فقال الفتى بامتنان: تشرفنا يا معلم، هذه قهوة ذائعة الصيت.

فسر المعلم، وسأله بلهجة تشي بالرجاء: أتأتي؟ - إن شاء الله.

فقال المعلم كمن نفد صبره: كل شيء بمشيئة الله؛ ولكن أتنوي الحضور حقا أم تقول ذلك تملصا مني؟

فضحك الشاب ضحكة رقيقة وقال: بل أنوي الحضور حقا. - الليلة إذا!

ولما لم ينبس الفتى بكلمة، قال الآخر بتوكيد وقلبه يرقص طربا: لا بد!

فغمغم الشاب: بإذن الله.

فتنهد الرجل بصوت مسموع ثم سأله: أين تقيم؟ - عطفة الوكالة. - نحن جيران تقريبا. متزوج؟ - كلا .. مع أهلي.

فقال برقة: أنت ابن ناس طيبين كما يبدو لي. الإناء الطيب ينضح ماء طيبا. وينبغي أن ترعى مستقبلك بعين الاهتمام؛ إذ لا يجوز أن تبقى مدى العمر عاملا بسيطا في دكان.

فلاح الاهتمام والطموح في الوجه الجميل، وتساءل الشاب في خبث: وهل لمثلي أن يطمع في أكثر من هذا؟!

فقال المعلم كرشة باستهانة: هل ضاقت «بنا» الحيل! ألم يكن جميع الكبار صغارا؟! - بلى كانوا، ولكن ليس من المحتم أن ينقلب الصغير كبيرا.

فأردف المعلم يتم كلام الفتى: إلا إذا صادفه التوفيق! فلنذكر هذا اليوم الذي تعارفنا فيه على أنه توفيق عظيم. أنتظرك الليلة؟!

فتردد الفتى قليلا، ثم قال مبتسما: لا يأبى الكرامة إلا لئيم.

وتصافحا عند بوابة المتولي، ثم رجع المعلم يخبط في الظلماء. صحا الرجل الذاهل وسرى في صدره دفء السرور. ولم يكن يستيقظ من دنيا النسيان التي يغط فيها إلا إذا لطمته موجة عنيفة من شهواته الخبيثة، ومر في طريقه بالدكان المغلق فألقى عليه نظرة طويلة تفيض بالشوق. وعاد إلى الزقاق وقد أغلقت دكاكينه، وكانت تشمله الظلمة لولا النور المنبعث من القهوة. وكان جو القهوة - على خلاف الجو البارد في الخارج - دفئا يحفظ حرارته دخان الجوز وأنفاس السمار ووهج «النصبة»، وقد تربع الحاضرون على الأرائك يتحدثون ويحتسون الشاي والقهوة، والراديو يذيع ما في جوفه، فلا يلقى إلا الإعراض والإهمال كأنه خطيب ثقيل يخطب صما، ودار سنقر كالنحلة لا يسكن ولا يكف عن الصياح. واتفق عند حضوره أن كان عم كامل يسأل أصحابه أن يقنعوا عباس الحلو بالنزول عن الكفن المحتفظ له به، ولكنهم أبوا عليه ذلك وأنكروا غرضه، وقال له الدكتور البوشي: لا تفرط في كسوة الآخرة؛ إن الإنسان ليعيش كثيرا في دنياه عاريا، أما عتبة القبر فلا يمكن أن يجوزها عاريا مهما كان فقره.

وتكرر الرجاء من ناحية الرجل الساذج، فاصطدم كل مرة بالرفض والسخرية، حتى كف الرجل يائسا، وراح الحلو بعد ذلك يعلن للإخوان ما اعتزم من العمل في الجيش البريطاني، ويستمع إلى آرائهم ونصائحهم، وقد اجتمعت كلمتهم على الموافقة على مشروعه، وتمنوا له النجاح والثراء. وكان السيد رضوان الحسيني منهمكا في حديث طويل من أحاديثه المليئة بالوعظ والإرشاد، وقد مال على محدثه وأنشأ يقول: ... فلا تقل مللت! الملل كفر، الملل مرض يعتور الإيمان. وهل معناه إلا الضيق بالحياة؟! ولكن الحياة نعمة الله سبحانه وتعالى، فكيف لمؤمن أن يملها أو يضيق بها؟! ستقول: ضقت بكيت وكيت، فأسألك: من أين جاءت كيت وكيت هذه؟ أليس من الله ذي الجلال؟ فعالج الأمور بالحسنى، ولا تتمرد على صنع الخالق. لكل حالة من حالات الحياة جمالها وطعمها، بيد أن مرارة النفس الأمارة بالسوء تفسد الطعوم الشهية. صدقني إن للألم غبطته ولليأس لذته وللموت عظته، فكل شيء جميل وكل شيء لذيذ! كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذا، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب، وللروح هذه الطاقة اللانهائية على الإيمان؟ كيف نضجر وفي الدنيا من نحبهم، ومن نعجب بهم، ومن يحبوننا، ومن يعجبون بنا. استعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تقل مللت.

وحسا حسوة من قدح القرفة، ثم أردف وكأنه يعبر عن خلجات ضميره: أما المصائب فلنصمد لها بالحب، وسنقهرها به. الحب أشفى علاج، وفي مطاوي المصائب تكمن السعادة كفصوص الماس في بطون المناجم الصخرية، فلنلقن أنفسنا حكمة الحب.

كان وجهه الأبيض الوردي يفيض بشرا ونورا، تحيط به لحيته الصهباء إحاطة الهالة بالقمر. وكان كل شيء حوله يلوح بالقياس إلى طمأنينته الراسخة قلقا مضطربا. وكان نور عينيه صافيا نقيا ينطق بالإيمان والخير والحب والترفع عن الأغراض. ربما قيل إنه رجل خسر الجاه يوم أخفق في دراسته الأزهرية، وإنه أيس من خلود الدنيا حين ثكل الأبناء، ففزعت نفسه إلى تعويض خسرانها الفادح بالاستيلاء على القلوب بالحب والجود! ولكن كم من المصابين مثله من سلك سبيله، وكم منهم من سقط فريسة الجنون، وكم منهم من صب جام غضبه على الدنيا والدين؟! ومهما يكن من أمر نفسه الخافية فما من شك في إخلاصه، كان مؤمنا صادقا، ومحبا صادقا، وجوادا صادقا، ومن عجب أن يكون هذا الرجل - الذي طار صيته في الخير والحب والجود كل مطار - حازما حاسما وعلى فظاظة وحرص في بيته! ربما قيل إنه وقد أيس من كل سلطان حقيقي في هذه الدنيا يفرض سطوته على المخلوق الوحيد الذي يذعن لإرادته، ألا وهو زوجه! وإنه يشبع شهوته الجائعة للنفوذ والسلطان باصطناع الحزم والمهابة معها. ولكن ينبغي ألا نسقط من حساب التقدير تقاليد الزمان والمكان، وما تسنه البيئة لسياسة المرأة وفلسفتها، وما تراه أكثرية أهل طبقته من وجوب معاملة المرأة كالطفل تحقيقا لسعادتها هي نفسها قبل كل شيء. على أن زوجه نفسها لم يكن لديها ما تشكوه نحوه، ولولا الجروح التي تركها الأبناء تذكارا خالدا في قلبها، لعدت نفسها امرأة سعيدة، فخورا بزوجها وحياتها.

أما المعلم كرشة فكان حاضرا غائبا، لم يطمئن به المجلس لحظة واحدة، وعانى مرارة الانتظار في صمت كئيب. وكلما مرت دقائق لوى عنقه واشرأب به نحو مطلع الزقاق، ثم يعود إلى صندوق الماركات متصبرا متجلدا قائلا لنفسه: «سيأتي حتما، سيأتي كما أتى إخوان له من قبل.» وتمثل له وجهه، ثم نظر إلى الكرسي القائم بينه وبين أريكة الشيخ درويش، فرآه بعين الخيال يطمئن إليه، لم يكن فيما سلف ليجرؤ على دعوة أحد أمثال هذا الشاب إلى قهوته تسترا أو حياء، ثم افتضح أمره، وذاعت فضيحته، فكشف وجهه وارتاد الإثم جهارا. وكان يقع بينه وبين زوجه من المآسي ما يبقى حديثا فاضحا تتناقله الألسن، ويتلقفه بشغف أمثال الدكتور بوشي وأم حميدة، ولكنه لم يعبأ شيئا. وما تكاد النار تخمد إلى حين حتى يصب عليها نفطا بسوء سيرته فيضرمها إضراما، وكأنه وجد أخيرا في الجهر لذة فلهج بها. وهكذا جلس قلقا لا تعرف السكينة سبيلا إلى نفسه الملوثة، كأنه يجلس على مشواة، يكاد ينبري عنقه من كثرة ليه، حتى لاحظ الدكتور بوشي اضطرابه وقال للحلو في خبث: هذه علامات الساعة!

وهنا خرج الشيخ درويش عن صمته فجأة، وأنشد يقول:

حننت إلى ريا ونفسك باعدت

مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا

وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا - آه يا ست. الحب يساوي الملايين .. أنفقت في حبك يا ست مائة ألف جنيه، وإنه لقدر زهيد! •••

وأخيرا رأى الدكتور بوشي المعلم كرشة يحدق باهتمام شديد في مطلع الزقاق، ورآه يستوي جالسا وقد ابتسمت أساريره، فنظر إلى مدخل القهوة مترقبا، وما لبث أن طالعه وجه الشاب، وقد ألقى على السمار نظرة المتردد من عينيه الساجيتين.

7

تقع الفرن فيما يلي قهوة كرشة، لصق بيت الست سنية عفيفي. بناء مربع على وجه التقريب، غير منتظم الأضلاع، تحتل الفرن جانبه الأيسر، وتشغل الرفوف جدرانه، وتقوم مصطبة فيما بين الفرن والمدخل ينام عليها صاحبا الدار: المعلمة حسنية وزوجها جعدة. وتكاد الظلمة تطبق على المكان ليل نهار، لولا الضوء المنبعث من فوهة الفرن. وفي الجدار المواجه للمدخل يرى باب خشبي قصير يفتح على خرابة، تسطع فيها رائحة تراب وقذارة؛ إذ ليس بها إلا كوة في الجدار المواجه للمدخل تطل على فناء بيت قديم. وعلى بعد ذراع من الكوة، وعلى رف ممتد، مصباح يشتعل، يلقي على المكان ضوءا خفيفا يفضح أرضه المتربة المغطاة بأنواع لا يحصيها العد من القاذورات المتنوعة، كأنها مزبلة. أما الرف الذي يحمل المصباح فطويل ممتد بطول الجدار قد رصت عليه زجاجات كبيرة وصغيرة وأدوات مختلفة وأربطة كثيرة، كأنه رف صيدلي لولا قذارته النادرة! وعلى الأرض - تحت الكوة مباشرة - كان يوجد شيء مكوم لا يفترق عن أرض المكان قذارة ولونا ورائحة، لولا أعضاء ولحم ودم تهبه الحق - على رغم كل شيء - في لقب إنسان؟ ذلك هو زيطة مستأجر هذه الخرابة من المعلمة حسنية الفرانة. وحسبه أن يرى مرة واحدة كيلا ينسى بعد ذلك أبدا؛ لبساطته المتناهية؛ فهو جسد نحيل أسود وجلباب أسود، سواد فوقه سواد، ولوا فرجتان يلمع فيهما بياض مخيف هما العينان. ولم يكن زيطة - على ذلك - زنجيا، بل إنه مصري أسمر اللون في الأصل، ولكن القذارة الملبدة بعرق العمر كونت على جثته طبقة سوداء. كذلك جلبابه لم يكن في البدء أسود، ولكن السواد مصير كل شيء في هذه الخرابة. وهو لا يكاد يمت بسبب للزقاق الذي يعيش فيه، فلا يزور ولا يزار، لا نفع فيه لأحد ولا نفع في أحد له، اللهم إلا الدكتور بوشي، والآباء الذين يستعينون بصورته على تخويف أطفالهم. وأما صناعته فمعروفة لدى الجميع، وهي صناعة تخول له لقب دكتور وإن لم يتخذه إكراما لبوشي. كان يصنع العاهات، ليست هذه العاهات الطبيعية المعروفة، ولكن عاهات صناعية من نوع جديد. يقصده الراغبون في احتراف الشحاذة، فبفنه العجيب - الذي يحشد أدواته على الرف - يصنع لكل ما يوافق جسمه من العاهات. يجيئونه صحاحا ويغادرونه عميانا وكسحانا وأحدابا وقعسانا ومبتوري الأذرع أو الأرجل. وقد اكتسب البراعة في فنه من تجارب الحياة التي صادفته، وعلى رأسها جميعا اشتغاله عهدا طويلا في سرك متجول، ولاتصاله بأوساط الشحاذين - اتصالا يرجع عهده إلى صباه حين كان يعيش في كنف والدين شحاذين - فكر في تطبيق فن «الماكياج» الذي تلقنه في السرك على بعض الشحاذين، في بادئ الأمر على سبيل الهواية، ثم على سبيل الاحتراف حين ضاقت به أوجه العيش. ومن مشاق عمله أنه يبدأ في الليل، أو عند منتصف الليل على الأصح، ولكنها مشقة غدت بالعادة مألوفة ميسرة. أما في أثناء النهار فلا يكاد يفارق الخرابة بحال، يجلس القرفصاء يأكل أو يدخن، أو يتسلى بالتجسس على الفران والفرانة. ولكم كان يلذه أن يسترق السمع لما يدور بينهما من حديث، أو أن يشاهد من ثقب الباب انهيال المرأة بالضرب على زوجها صباح مساء، حتى إذا أتى الليل رآهما وقد شملهما الصفاء وقد أقبلت المعلمة على زوجها القرد تمازحه وتباسطه السمر. وكان زيطة يمقت جعدة ويحتقره ويستقبح وجهه! وفضلا عن ذلك كله كان يحسده على ما حباه الله به من زوج «كاملة الجسم»، أو على حد تعبيره «امرأة بقري»! وكان كثيرا ما يقول عنها: إنها في دنيا النساء تقابل عم كامل في دنيا الرجال! وكان من أهم الأسباب التي دعت أهل الزقاق إلى تجنبه رائحته المنتنة، فلم يكن الماء يعرف سبيلا إلى وجهه أو جسده. وقد آثر وحشة العزلة على الاستحمام! وبادل الناس مقتا بمقت عن طيب خاطر، فكان يرقص طربا إذا قرع مسمعيه صوات على ميت، ويقول وكأنه يخاطب الميت: «جاء دورك لتذوق التراب الذي يؤذيك لونه ورائحته على جسدي!» وربما قطع وقت فراغه الطويل في تخيل صنوف التعذيب التي يتمناها للناس، واجدا في ذلك لذة لا تعادلها لذة، يتصور جعدة الفران هدفا لعشرات الفئوس تضربه حتى تتركه كتلة مهشمة كلها ثقوب! .. أو يتخيل السيد سليم علوان وقد استلقى على الأرض ووابور الزلط يروح عليه ويجيء، ودمه يجري نحو الصنادقية .. أو يتمثل له السيد رضوان الحسيني تجره الأيدي من لحيته الصهباء نحو الفرن الملتهبة ثم يستخرجونه منها زكيبة من الفحم .. أو يرى المعلم كرشة مطروحا تحت عجلات الترام يمزق أوصاله ثم يلمون أشلاءه في مقطف قذر يبيعونه لهواة الكلاب .. وغير ذلك كثير مما يراه دون ما يستحق الناس. وكان إذا باشر عمله وأخذ في صنع العاهة لطالبها، اشتد عليه في قسوة مقصودة، مستخفيا وراء سر المهنة، حتى إذا ندت التأوهات عن فريسته لمعت عيناه المخيفتان بنور جنوني. ومع ذلك كان الشحاذون أحب البشر إلى نفسه، وتمنى كثيرا لو كان الشحاذون أكثرية أهل الأرض. •••

هكذا جلس زيطة غارقا في أخيلته يترقب وقت العمل. وعندما انتصف الليل أو كاد نهض قائما، ونفخ المصباح فانطفأ وساد ظلام ثقيل. ثم تلمس طريقه إلى الباب وفتحه في هدوء بالغ، ثم اخترق الفرن إلى الزقاق، والتقى في سبيله بالشيخ درويش يغادر القهوة، وكثيرا ما يلتقيان في منتصف الليالي دون أن يتبادلا كلمة واحدة، ولذلك كان للشيخ حظ موفور في محكمة التفتيش التي ينصبها زيطة في خياله للبشر. وانعطف صانع العاهات إلى سيدنا الحسين في خطوات قصيرة وئيدة، وكان يقترب في سيره من جدران البيوت على رغم الظلمة الحالكة - كانت بعض قيود الإضاءة ما تزال موجودة - فلا يراه المقبل في الطريق حتى يصطدم بعينيه البراقتين يلمعان في الظلام لمعان القطعة المعدنية في حزام الشرطي. وفي الطريق، يداخله شعور بالانتعاش والزهو والسرور، فهو لا يشقه إلا حين يكاد ينقطع إلا من الشحاذين الذين يدينون له بالسيادة المطلقة. وشق ميدان الحسين منعطفا صوب الباب الأخضر، فبلغ القبو القديم، وجعل يردد عينيه المخيفتين بين أكوام الشحاذين على جانبيه، فملأه الارتياح .. ارتياح السيد إلى قوته، وارتياح التاجر يرى بين يديه السلع النافقة. ودنا من أقرب الشحاذين إليه، وكان جالسا القرفصاء معتمدا رأسه على ركبتيه ويغط غطيطا ، فوقف حياله لحظة متفرسا كأنما يسبر نومه؛ هل هو نوم حقيقة أو تظاهر بالنوم؟ ثم ركله في رأسه الأشعث، فانتبه الرجل من نومه - غير مذعور - كأنما أيقظته أنامل ناعمة، ورفع رأسه متثاقلا وهو يحك جنبيه وظهره بأظافره، فوقع بصره على الشبح المشرف عليه، وحملق فيه لحظة، فعرفه - على عماه - لأول وهلة. وتنهد الرجل فند عن صدره صوت كالوحوحة، ثم دس يده في صدره واستخرج مليما غمر به كف الرجل. وانتقل زيطة إلى من يليه، ثم إلى من يليهما، حتى إذا فرغ من جناح القبو جميعا اتجه نحو الجناح الآخر، ثم مضى إلى الأزقة والحواري المحيطة بالجامع الكبير لا يفلت منه شحاذ واحد. ولم يكن إكبابه على تحصيل يوميته لينسيه واجب رعاية العاهات التي صنعها، وربما سأل هذا أو ذاك: «كيف عماك يا فلان؟» أو «كيف كساحك يا فلان؟» فيجيبونه: «الحمد لله .. الحمد لله.» ثم دار حول المسجد من الناحية الأخرى وابتاع في طريقه رغيفا وحلاوة طحينية وتبغا، ورجع إلى الزقاق. كان الصمت شاملا يقطعه بين آونة وأخرى ضحكة أو سعلة ساقطة من أعلى بيت السيد رضوان الحسيني حيث تجتمع غرزة المعلم كرشة. وجاز الرجل عتبة الفرن في هدوء بالغ أن يوقظ الزوجين، ودفع بابه الخشبي في حذر ورده في سكون .. لم تكن المزبلة مظلمة كما غادرها، ولم تكن خالية. كان المصباح مشتعلا، وعلى الأرض تحته يجلس رجال ثلاثة. ودلف الرجل بينهم في هدوء؛ لأن وجودهم لم يدهشه ولم يزعجه، وعاينهم بعينيه البراقتين، فعرف منهم الدكتور بوشي. ووقفوا له جميعا، وقال له الدكتور بوشي بعد أن حياه تحية طيبة: هاك رجلين مسكينين يستشفعان بي إليك.

فتظاهر زيطة بعدم المبالاة، وقال متظاهرا بالملل: في مثل هذه الساعة يا دكتور؟!

فوضع الدكتور يده على كتفه وقال له: الليل ستار، وربنا أمر بالستر!

فقال زيطة وهو ينفخ: ولكني متعب الآن.

فقال البوشي برجاء: لا رددت لي يدا.

وراح الرجلان يضرعان ويدعوان له، فتظاهر بإذعان مرغما، ووضع الطعام والتبغ على الرف ووقف حيالهما متفرسا في أناة وهدوء، ثم ثبتت عيناه على أطولهما، كان عملاقا قويا، فدهش زيطة لمنظره وسأله: أنت بغل بلا زيادة ولا نقصان، فلماذا تروم احتراف الشحاذة؟!

فقال الرجل بصوت منكسر: لم أفلح في عمل أبدا، حاولت أعمالا كثيرة، حتى الشحاذة نفسها، ولكن لم يقدر لي التوفيق، حظي أسود، وعقلي وسخ لا أفهم شيئا ولا أتقن شيئا.

فقال زيطة بحقد: كان ينبغي إذا أن تولد غنيا!

ولم يفطن الرجل لمرماه، وراح يستعطفه بتصنع البكاء قائلا بصوت كالخوار: أخفقت في كل شيء، حتى الشحاذة لم تجذب لي رحيما واحدا. كل الناس يقولون: أنت قوي ويجب أن تشتغل، هذا إذا لم يشتموني وينهروني، لا أدري لماذا؟!

فقال زيطة وهو يدلك رأسه: يا سلام، حتى هذا لا تدركه. - الله يخليك ويجبر بخاطرك.

وكان زيطة لا يكف عن فحصه متفكرا، فقال بحزم وهو يغمز أعضاءه: أنت قوي حقا، أعضاؤك سليمة، إني أعجب ماذا تأكل؟ - الخبز إذا وجد ولا شيء غيره. - هذا جسم شيطاني بلا ريب. ترى ماذا تكون لو أكلت كما تأكل حيوانات الله التي يؤثرها بخيره ونعمته؟!

فقال الرجل ببساطة: لا أدري. - طبعا طبعا .. أنت لا تدري شيئا، فهمنا هذا، وخير ما فعلت، فلو كنت تدري لانقلبت واحدا منا. اسمع يا هذا لا فائدة ترجى من تشويه أعضائك.

ولاح الانقباض في الوجه الثور، وأوشك أن يتباكى كرة أخرى، لولا أن بادره زيطة قائلا: عسير أن أكسر لك رجلا أو ذراعا، ومهما صنعت بك فلن تستثير عطف أحد. إن البغال أمثالك يثيرون الحنق أينما يحلون. ولكن لا تيأس (كان الدكتور بوشي ينتظر هذه العبارة بصبر نافد) فهناك طرق شتى، أعلمك فن العته مثلا، وأنت لا ينقصك منه شيء ذو بال، أجل العته، وأحفظك بعضا من مدائح الرسول.

فتهلل وجه الرجل ودعا له كثيرا، حتى قاطعه زيطة متسائلا: لماذا لم تشتغل قطاع طرق؟

فقال الرجل بانكسار: أنا رجل طيب مسكين، لا أقصد إنسانا بسوء، وأحب آل البيت.

فقال زيطة باحتقار: أتبدؤني أنا بهذه البوليتيكا؟

ثم التفت إلى الرجل الآخر، كان قصيرا هزيلا، فقال زيطة بارتياح: استعداد طيب.

فابتسمت أسارير الرجل وقال ممتنا شاكرا: الحمد لله كثيرا. - خلقت لتكون أعمى مقعدا.

فقال الرجل بسرور: هذا من فضل ربي.

فهز زيطة رأسه وقال ببطء: العملية دقيقة وخطيرة، ودعني أسألك عن أسوأ الاحتمالات، هبك فقدت بصرك حقيقة عن خطأ أو إهمال، فماذا تفعل؟

فتردد الرجل لحظة، ثم قال بغير مبالاة: نعمة من الله! وهل أفدت من بصري شيئا حتى آسف على ضياعه؟

فقال زيطة بارتياح: بهذا القلب تستطيع أن تواجه الدنيا حقا. - بإذن الله يا سيدي، ستكون روحي ملك يدك. سأنزل لك عن نصف ما يجود به المحسنون.

فحدجه زيطة بنظرة قاسية وقال بحدة: هذا كلام لا يجوز علي، حسبي مليمان غير أجر العملية، وإني أعرف كيف أستخلص حقي إذا سولت لك نفسك المماطلة.

وهنا قال البوشي محذرا: لم تذكر نصيبك من الخبز.

فاستدرك زيطة قائلا: طبعا. طبعا .. والآن فلنشرع في العمل، العملية شاقة، ولسوف نمتحن قوة احتمالك، فاكتم الألم ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

وتصور ما سوف يكابده هذا الجسم الهزيل من هرس يديه القاسيتين، فارتسمت على شفتيه الباهتتين ابتسامة شيطانية.

8

كانت الوكالة مثار ضجيج لا ينقطع في الزقاق طول النهار؛ عمال كثيرون لا يكفون عن العمل فيما عدا فترة الغداء القصيرة، وسيل من البضائع الواردة والصادرة يطرد في تتابع متواصل، وعدد من سيارات العمل الضخمة يجعجع أزيزها فيطبق على الصنادقية وما يتاخمها من الغورية والأزهر، وتيار زاخر من الزبائن والعملاء. هي وكالة عطارة بالجملة والتجزئة، وليس من شك في أن انقطاع الوارد من الهند بسبب الحرب قد أحدث في سوقها أثرا ملحوظا، ولكن الوكالة على رغم ذلك حافظت على سمعتها ومركزها، كما ضاعفت ظروف الحرب من نشاطها وأرباحها. وفضلا عن هذا وذاك فقد أغرت ظروف الحرب السيد سليم بالاتجار بمواد لم يكن يلقي إليها بالا؛ كالشاي، فغامر في السوق السوداء، وربح أرباحا طائلة. وكان السيد سليم علوان يجلس إلى مكتبه الضخم في نهاية الردهة الموصلة إلى فناء الوكالة الداخلي الذي تحدق به المخازن، وهو مركز وسط يستطيع أن يشرف منه على داخل الوكالة وخارجها، وييسر له مراقبة العمال والحمالين والزبائن جميعا. لذلك كله فضل هذا المركز على الانفراد في حجرة كما يفعل أقرانه من كبار التجار، ولأن التاجر الحق - على حد تعبيره - «ينبغي أن يكون مفتوح العينين دائما». وكان الرجل في الواقع من النماذج العملية الموفقة، خبيرا في مهنته، قادرا على النهوض بأعبائها. ولم يكن من حديثي النعمة الذين أنجبتهم الحرب؛ لأنه على حد تعبيره أيضا «تاجر ابن تاجر»، بيد أنه لم يكن في البدء معدودا من الأغنياء، ثم خاضت تجارته غمار الحرب الأولى وخرجت ظافرة، وأدركتها هذه الحرب فأثقلت موازينها حتى أتخمتها بالثراء. على أن الرجل لم يخل من الهموم، وبحسبه أن يناضل في الميدان وحده بلا معين ولا نصير. أجل كان ما يتمتع به من صحة جيدة وحيوية فائضة خليقا بأن يهون عليه همومه، ولكن لم يكن بد من التفكير في الغد، القريب أو البعيد، إذا انصرف العمر أو كاد، وافتقدت الوكالة من يديرها. فمن المؤسف حقا أن أحدا من أبنائه الثلاثة لم يقع له في خاطر أن يتقدم لمعاونة أبيه في عمله، وكانوا جميعا سواء في الإعراض عن التجارة، وضاعت محاولاته في ثنيهم عن إعراضهم كلها سدى، فلم يجد مناصا - على بلوغه الخمسين - من النهوض بالأمر كله. وليس من شك في أنه كان المسئول عن هذا الختام المرهق، فقد كان على رغم عقليته التجارية جوادا كريما، أو كان كذلك على الأقل في بيته وبين أهله، فكان بيته كالقصور جمال بناء، ونفاسة أثاث، وكثرة خدم وحشم. وفضلا عن ذلك فقد انتقل عقب زواجه من البيت القديم بالجمالية إلى قصر منيف بالحلمية، فترعرع الأبناء في وسط جديد منقطع الأسباب ببيئة التجار وأوساطهم؛ وسط يضمر بلا ريب نوعا من الاحتقار للمهن الحرة جميعا، فتعلقوا بمثل عليا جديدة، بحكم معيشتهم ووسطهم وعلى غير علم من والدهم المشغول بعمله وحياته. وحين جد الجد تمردوا على نصحه وأبوا حتى الالتحاق بمدرسة التجارة أن تكون فخا لهم، وشقوا سبيلهم إلى الحقوق والطب؛ فهم قاض ومحام بأقلام القضايا وطبيب بقصر العيني. ومع ذلك كانت الحياة سعيدة، وقد بدت آثارها الطيبة في جسمه البدين المتين، ووجهه الممتلئ المورد، وحيويته الشابة المتوثبة سعادة منشؤها أن كل شيء في موضعه المأمول، تجارة رابحة، صحة جيدة، أسرة سعيدة، أبناء موفقون قد عرف كل منهم وجهته واطمأن إليها. وكان له غير هؤلاء الأبناء بنات أربع تزوجن جميعا وبارك الله في زيجاتهن. فبدا كل شيء باسما منبسطا لولا ما ينتابه بين الحين والحين من التفكير في مصير الوكالة والتجارة. وبكرور الأيام تنبه الأبناء إلى متاعب الأب، ولكنهم قدروها من ناحية أخرى، فساورهم خوف أن يفلت الزمام يوما من يد والدهم، أو أن يتركها لهم بغتة فلا يدرون ماذا يصنعون. وكان أن اقترح عليه أحدهم - محمد سليم علوان القاضي - أن يصفي تجارته ليتفرغ لحقه المشروع من الراحة بعد ذاك النضال الطويل. بيد أن السيد لم يغب عنه حقيقة مخاوفه، واستاء استياء لم يحاول إخفاءه، فقال له: «أتريد أن ترثني حيا؟!» ودهمه قوله هذا وهاله؛ لأنه وإخوته يحبون أباهم حبا صادقا، فلم يعد أحد منهم إلى طرق هذا الموضوع الخطير. ولكن لم ينته الأمر عند هذا الحد فراحوا يقولون - واثقين من عدم استفزاز غضبه هذه المرة: إن شراء أرض أو تشييد عمارات أفضل بلا ريب من كنز الأموال في المصارف. وفطن إلى بواعث هذا القول الحقيقية بعقله الذي يحسن إدراك مسائل المال وما يتفرع عنها، فهو يعلم حق العلم أن التجارة التي تدر المال بلا حساب قد تبتلعه أيضا في ساعة نحس واحدة، وأن التاجر الذي يحتاط للمستقبل بشراء عقار مثلا، حقيق إذا وقعت هذه الساعة - خاصة إذا سجل ما ابتاع من عقار باسم أبنائه مثلا أو زوجه - أن يخرج من شدته ببعض المال، وعسى أن يكون مالا كثيرا، لا صفر اليدين. وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة سير تجار كبار ممن ربحوا أموالا طائلة، وانتهوا إلى الإفلاس والفقر المدقع، أو إلى شر من ذلك كالانتحار أو الموت كمدا. أجل إنه يعلم ذلك كله، ويعلم أن أبناءه على حق فيما يريدون، ولعل التفكير في هذا الذي يريدون لم يكن جديدا عليه، ولكن هل تسمح ظروف الحرب بالشروع في مثل هذا العلم؟! كلا، هذا بين بلا ريب. وإذا فليؤجل إلى حين، وليطو في نفسه حتى يتيسر تحقيقه. ولم يكد يحسب أنه فرغ من هذا الهم حتى اقترح عليه ابنه القاضي أيضا أن يسعى للحصول على رتبة البكوية. قال له: كيف لا تكون بيكا والبلد ملأى ببكوات وباشوات دونك مالا وجاها ومقاما؟!

وسره هذا الإطراء. وكان في الحق - وعلى خلاف التجار الحصفاء - مغرما بالجاه والجلال، ولكنه تساءل في سذاجة عن السبيل إلى التماس هذه الرتبة، وغدا الأمر شغل الأسرة الشاغل، وتحمسوا له جميعا وإن اختلفوا في الوسيلة. فاقترح البعض عليه أن يشتغل بالسياسة وأن يدلي فيها بدلوه! حقا كان السيد سليم علوان لا يكاد يفقه شيئا - فيما عدا التجارة - من أمور الدنيا، ولا تكاد تسمو آراؤه أو معتقداته على آراء ومعتقدات عباس الحلو مثلا، فكان مثله يضرع خاشعا إلى ضريح الحسين، وكان مثله يبجل الشيخ درويش ويتبرك به. كان بإيجاز معدة قوية وجبة زاهية. بيد أن السياسة لا تحتاج في كثير من الأحايين إلى أكثر من هذا، وقد مضى يفكر في الأمر تفكيرا قويا، لولا أن اعترضه ابنه المحامي - عارف سليم علوان - فقال له محذرا: السياسة حقيقة بأن تخرب بيتنا وتلتهم تجارتنا، ستجد نفسك ملزما بالإنفاق على الحزب أضعاف ما تنفق على نفسك وأهلك وتجارتك، وعسى أن ترشح للبرلمان فتستغرق الانتخابات آلافا من أموالك دون جدوى ثمنا لكرسي غير مضمون، وهل البرلمان في بلادنا إلا كمريض بالقلب تهدده السكتة في أية لحظة؟! ثم أي حزب تختار؟ إذا اخترت حزبا غير الوفد أضعفت مكانتك في الوسط الذي تعمل فيه، وإذا اخترت الوفد لم تأمن رئيس وزارة كصدقي باشا يجعل تجارتك هشيما تذروه الرياح.

وتأثر السيد بقول ابنه، وكان يثق في أبنائه «المتعلمين» ثقة كبيرة، وزاده انحيازا إلى طرح السياسة جانبا جهله التام بشئونها، وبروده حيالها، فلم يكن يعلم من أمورها إلا أسماء ورث حبها أو بغضها عن عهد سعد زغلول.

واقترح عليه البعض أن يتبرع بقدر من المال لمشروع من المشروعات الخيرية، لعله أن يجزي عليه بالرتبة. ولم يرقه الاقتراح من بادئ الأمر؛ لأن غريزة التجارة الكامنة فيه تنفر نفورا طبيعيا من البذل والعطاء، ولا يتعارض هذا مع كرمه المعروف؛ لأنه في الواقع كان كرما لنفسه وبيته، على أنه لم يقطع بالرفض، فما زالت الرتبة مغرية محبوبة، وما زال يطمع فيها ويريدها. وقد أدرك أنها تقتضيه قدرا من المال لا يقل عن الخمسة الآلاف جنيه، فما عسى أن يصنع؟ لم يبت برأي قاطع، وإن قال لأبنائه «كلا» بيد أنه أضاف الرتبة إلى همومه الأخرى القائمة بلا فض كإدارة الوكالة وشراء العقار، تاركا أمر الجميع للمستقبل وللظروف. •••

ومهما يكن من أمر هذه الهموم فهي ليست بالخطر الذي ينغص صفو الحياة، وخصوصا حياة رجل يستغرقه العمل نهارا، والغريزة ليلا. والحق أنه إذا شغله العمل لم يعد يفكر في شيء سواه، وقد جلس إلى مكتبه مركزا انتباهه كله في كلام سمسار يهودي، مستجمعا يقظته، مستحضرا حذره، يعجب لرقة محدثه ولطفه، حتى ليحسبه الجاهل صديقا ودودا، وهو في الحقيقة نمر يتوثب، يتمسكن ويتمسكن حتى يتمكن، والويل لمن يتمكن منه. وقد علمته التجارب أن هذا الخواجا وأمثاله أعداء ما من صداقتهم بد، أو أنه - على حد تعبيره - شيطان مفيد. وكان يساومه بصفقة شاي مضمونة الربح غزيرته، فجعل السيد يفتل شاربه الضخم ويتجشأ شأنه إذا استغرقه التفكير الخطير! وحاول الخواجا بعد أن فرغ من الشاي أن يعرض عليه شراء عقار صالح - وكان على علم برغبته في الشراء - ولكن السيد كان قد صمم على تأجيل الشروع في ذلك إلى ما بعد الحرب، وأبى أن يصغي إليه، فغادر الرجل الوكالة قانعا بصفقة واحدة. وجاء غير هذا الخواجا آخرون. وواصل السيد العمل بما عرف عنه من مقدرة وهمة. وعند منتصف النهار نهض للغداء، وكان يتناول غداءه في حجرة أنيقة أعد بها فراشا للمقيل. وكان غداؤه يتكون عادة من خضر وبطاطس وصينية فريك. ولما انتهى من طعامه مضى إلى الفراش يستجم ساعة أو ساعتين. وفي أثناء ذلك تسكن حركة الوكالة، فيسود السكون الزقاق جميعا. وكان لصينية الفريك قصة يعرفها أهل الزقاق جميعا. هي طعام ووصفة في آن واحد، وقد برع في تهيئتها أحد عماله المقربين، فظلت حقيقتها سرا بينهما لولا أنه لا يؤمن على سر في زقاق المدق. هي صينية فريك محشو بالحمام، ومخلوط بقدر من مسحوق جوزة الطيب، يلتهمها في الغداء، ويحتسي بعدها شايا مرتين أو ثلاث مرات؛ قدحا كل ساعتين، فتحدث مفعولها ليلا، ويستمر تأثيرها الساحر ساعتين كاملتين في بهجة خالصة! وقد ظلت الصينية سرا لا يدريه إلا الرجلان والمعلمة حسنية الفرانة. وكان أهل الزقاق يرونها فيحسبون أنها غذاء خالص، فيقول البعض: «بالهنا والشفا.» ويغمغم البعض: «يطفحها سما بإذن الله!» ثم لعب الطمع يوما بقلب المعلمة حسنية، فسولت لها نفسها أن تجرب هذه الوصفة في زوجها جعدة الفران، واختلست من الصينية قطعة موفورة ملأت فراغها بفريك خالص. ودأبت منذ ذلك اليوم على اختلاس نصيبها مطمئنة إلى غفلة السيد، مدفوعة بما أسفرت عنه التجربة من نجاح ملحوظ! بيد أن السيد سليم لم يغفل عن الأمر طويلا، ولاحظ بسهولة ما طرأ من تغير على لياليه، وعاد باللائمة بادئ الأمر على العامل الذي يهيئ الوصفة. فلما أن أبرأ الرجل ذمته داخله الشك في الفرانة، واكتشف السرقة بغير صعوبة، فدعا الفرانة ووبخها، وعدل عن إرسال الصينية إلى فرنها، مستبدلا بها الفرن الإفرنجي بالسكة الجديدة. وبدأ السر ينكشف ويذيع فعلمت به أم حميدة، وكان في ذلك الكفاية كل الكفاية، فسرعان ما أحاط به أهل الزقاق جميعا، وراحوا يتلقون الصينية بالغمز واللمز. وأدرك السيد غاضبا أن سره قد افتضح، ولكنه لم يعبأ بذلك طويلا! أجل. قطع أكثر عمره في الزقاق، ولكنه لم يكن يوما من أهله، ولم يعمل لواحد منهم حسابا، ولولا السيد رضوان الحسيني والشيخ درويش لما عني برفع يده تحية. وكادت الصينية تصبح في وقت من الأوقات موضة الزقاق جميعا، ولولا تكاليفها الباهظة لما سلاها أحد. فجربها المعلم كرشة والدكتور بوشي، حتى السيد رضوان الحسيني ذاقها بعد أن تأكد أنها لا تحوي مادة يحرمها الشرع الحنيف! أما السيد سليم فكان يواظب عليها إلا فيما ندر. والواقع أنه كان يضطرب من الحياة في مضطرب ضيق؛ نهاره نهب للوكالة، وليله خال مما يتسلى به أمثاله من الناس، فلا قهوة ولا ناد ولا ملهى، ولا شيء مطلقا إلا زوجه، ولذلك تفنن في مسراته الزوجية تفننا شذ بها عن جادة الاعتدال. •••

وقد استيقظ قبيل العصر فتوضأ وصلى، وارتدى قفطانه وجبته، وعاد إلى مكتبه فوجد قدح الشاي الثاني مهيأ، فاحتساه بتلذذ وهو يتجشأ جشآت مجعجعة يدوي صداها في الفناء الداخلي، وأقبل على عمله بنفس الهمة التي استقبله بها في الصباح؛ ولكنه كان يبدو في فترات وكأن قلقا ينتابه. كان يتلفت نحو الزقاق، وكان ينظر في ساعته الذهبية الضخمة، وكان يعبث بأنفه على غير شعور منه. وعندما ارتفع ضوء الشمس إلى أعلى الجدار الأيسر للزقاق، أدار مقعده اللولبي وجعل وجهه للطريق، ومرت دقائق ثقيلة لم تتحول فيها عيناه عن الطريق. ثم أرهف السمع ولمعت عيناه لوقع شبشب على أحجار الطريق المنحدر، ثم مرت حميدة أمام باب الوكالة في ثوان معدودات، وفتل شاربيه بعناية، ودار بكرسيه إلى المكتب وقد لاح في عينيه السرور، وإن وجد شعورا بعدم الارتياح! من العسير أن يقنع بهدوء الرؤية الخاطفة بعد ساعة كاملة من الانتظار والقلق والشوق. ولم يكن يتاح له رؤيتها في غير هذا الوقت إلا من قبيل استراق النظر إلى نافذتها في أويقات نادرة كلما جازف بالظهور أمام الوكالة كأنما يريح أعصابه بالمشي. كان شديد الحذر بطبيعة الحال صونا لمنزلته وكرامته، فهو السيد سليم، وهي فتاة مسكينة، والزقاق زخار بالألسن الحداد والأعين المتطفلة. وتوقف عن العمل وجعل ينقر المكتب بسبابته متفكرا. أجل، هي مسكينة وفقيرة؛ ولكن الرغبة لا ترحم وا أسفاه، والنفس أمارة بالسوء! مسكينة وفقيرة ولكن وجهها البرنزي ونظرة عينيها وقدها الممشوق، كل أولئك مزايا تستهين حقا بفوارق الطبقات! وما جدوى المكابرة؟ إنه يهوى العينين الفاتنتين والوجه المليح، والجسم الذي يقطر إغراء، وهذه العجيزة الأنيقة التي تزري بورع الشيوخ. إنها أنفس من وارد الهند جميعا. ولقد عرفها منذ كانت صبية صغيرة تتردد على الوكالة لابتياع ما تحتاجه أمها من الحناء ومواد المفتقة والمغات. رأى ثدييها وهما نبقتان، ثم وهما دومتان، حتى استوتا رمانتين، وعاين عجيزتها وهي أساس أملس لم ينهض عليه بناء، ثم وهي تكور رقيق يتمطى به النضج، وأخيرا وهي كرة تنضح أناقة وأنوثة. وراح الرجل يحضن إعجابه المترعرع حتى أفرخ في النهاية رغبة عازمة. إنه يعلم ذلك، ولم يعد يحاول إنكاره، ولطالما قال لنفسه: «ليتها كانت أرملة كالست سنية عفيفي!» لو كانت أرملة لوجد لنفسه مخرجا؛ أما وهي عذراء فينبغي أن يطيل التفكير في أمره، وتساءل كما اعتاد أن يتساءل: ماذا يروم؟ وذكر وهو لا يدري زوجه وأسرته. كانت زوجه امرأة فاضلة، تتحلى بكل ما يحب الرجل من أنوثة وأمومة وإخلاص ومهارة فائقة في شئون البيت، وكانت على شبابها مليحة ولودا، فهو لا يأخذ عليها نقيصة واحدة، وفضلا عن ذلك كله كانت من أسرة كريمة تتفوق عليه كثيرا في الأصل والمحتد. وهو يقر بفضلها جميعا، ويضمر لها ودا صادقا، ولا يضايقه إلا أنها استوفت شبابها وحيويتها، فقصرت عن مجاراته، وعجزت عن احتماله، فبدا بالقياس إليها - وبسبب حيويته الخارقة - شابا نهما لا يجد فيها ما يشتهيه من متاع! والحق أنه لا يدري إن كان ذلك ما علقه بحميدة، أم أن هواه ما جعله يستشعر هذا الفراغ الأليم؟! ومهما يكن الأمر فقد أحس رغبة لا تقاوم إلى دم جديد! وقال لنفسه صراحة: «ما لي أحرم على نفسي ما أحل الله لها؟!» على أنه كان رجلا محترما، حريصا جدا على أن يقر له كل إنسان بالاحترام، ويكربه غاية الكرب أن يكون مضغة الأفواه. كان من الذين يعملون للناس وآرائهم كل حساب، وكان يقول مع القائلين: «كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس.» وإنه ليأكل صينية الفريك، أما حميدة .. رباه! لو كانت من أسرة كريمة ما تردد لحظة في طلب يدها. ولكن كيف تصير حميدة ضرة للسيدة عفت؟! وكيف تصبح أم حميدة الخاطبة حماته كما كانت يوما المرحومة ألفت هانم؟! وعلى أي وجه تكون حميدة امرأة أب لمحمد سليم القاضي، وعارف سليم المحامي، والدكتور حسان سليم؟! وهناك أمور أخرى - لا تقل عن هذه خطورة - ينبغي تقديرها حق قدرها؛ هنالك بيت جديد لا بد - في هذه الحالة - أن يتهيأ، ونفقات جديدة ربما ضاعفت من نفقاته القديمة، وورثة جدد خليقون أن يمزقوا وحدة أسرته المتماسكة، وأن يلوثوا صفحتها الناصعة بالعداوة والبغضاء. وفي سبيل أي شيء كل هذه المتاعب؟ .. ميل رجل - بل زوج وأب - في الخمسين لفتاة في العشرين! لم يغب عنه شيء من هذا؛ لأنه رجل لا يفوته بحال تقدير المتاعب التي تتصل بالمال وأحوال المعيشة. ومضى يراجع نفسه حائرا مترددا لا يقر له قرار، وباتت هذه العاطفة أحد الهموم المعلقة في حياته، وانتظمتها سلسلة مشاكله التي لم تفض كإدارة الوكالة ومستقبلها، وشراء العقار وتشييد العمارات، ورتبة البكوية، بيد أنها كانت أشد إلحاحا وأبعث شجنا.

كان ذهنه يستعرض جميع هذه الخواطر إذا خلا إلى نفسه ومد له حبل التفكير، أما إذا خطرت حميدة أمام عينيه، أو لاحت لهما في النافذة، فلم يكن يفكر إلا في أمر واحد!

9

أصبحت أم حسين - امرأة المعلم كرشة - في هم مقيم؛ فانقطاع عادة مألوفة لا يمكن أن يمر دون تساؤل، خصوصا إذا كان انقطاعها في الماضي يقترن دائما بشر مستطير. وقد قطع المعلم كرشة عادة محبوبة لا يصح أن تقطع لغير سبب خطير، فراح يمضي سهرته الليلية بعيدا عن البيت، بعد أن كان يدعو رفاقه المدمنين إلى حجرة السطح كل منتصف ليل فيمتد بهم السهر حتى مطلع الفجر. وطافت بالمرأة الذكريات المحزنة، فعاودها الألم الذي ينغص عليها صفو الحياة .. ما الذي يدعوه إلى قضاء الليل خارج داره؟ أيكون ذاك السبب القديم؟ ذاك الداء الوبيل؟ سيقول الفاجر: إنه مجرد تغيير يراد به دفع الملل، أو الانتقال لمكان أوفق لفصل الشتاء! ولكن هيهات تهضم نفسها أمثال هذه المعاذير الكاذبة، وإنها لتعلم من أمر نفسه ما يعلمه الناس جميعا، لذلك أصبحت المرأة في هم مقيم، وباتت تتحرق على فعل شيء حاسم مهما كانت عواقبه. وكانت امرأة قوية - على دنوها من الخمسين - لا تنقصها أسباب الجراءة التي تجاوز الحد في كثير من الأحايين. وكانت من نسوة الزقاق المشتهرات بالبأس - كحسنية الفرانة وأم حميدة - واشتهرت بوجه خاص لما يقع بينها وبين زوجها من دواعي الملاحاة بسبب شذوذ سلوك الرجل! كما اشتهرت بأنفها الكبير الغليظ الأفطس. وكانت زوجا ولودا؛ أنجبت بنات ستا وذكرا واحدا هو حسين كرشة، وجميع بناتها متزوجات، وجميعهن يحيين حياة زوجية مقلقة، لا تخلو من نكد، وإن كانت تسير ولا تنقطع. وقد حدثت لصغراهن مأساة كانت حديث الزقاق يوما؛ إذ اختفت بغتة في عامها الأول من الزواج، ثم ضبطت في بيت عامل ببولاق، وانتهى بها وبه المطاف إلى السجن. كانت مأساة الفتاة كربا شديدا للأسرة، ولكنها لم تكن المأساة الوحيدة التي ابتليت بها، فللمعلم نفسه مأساة قديمة جديدة لا يعرف لها انتهاء. وكانت أم حسين تعرف السبيل إلى معرفة ما خفي عليها من الأمر، فراحت تستخير عم كامل وتستنطق سنقر صبي القهوة حتى علمت بالشاب الذي أخذ يتردد في عهده الأخير على القهوة فيحتفي به المعلم كل احتفاء، ويقدم له الشاي بنفسه! وأخذت تراقب القهوة خفية حتى رأت الشاب بنفسها وشاهدت مجلسه إلى يمين المعلم، ولمست احتفاءه به. وجن جنونها ونكأ الجديد القديم من جروحها، فباتت ليلة جهنمية، وأصبحت على شر حال وأسوأ نفس. ولم يكن رأيها قد استقر على حال، كانت تغلي غليانا ولكنها لا تدري أي سبيل تسلك. ولطالما جربت العراك فيما سلف دون جدوى، ولم تكن تتردد عن إعادة الكرة، بيد أنها تريثت قليلا؛ لا تأففا منه، ولكن دفعا لشماتة الشامتين. وكان حسين كرشة يتهيأ للخروج إلى عمله، فقصدته هائجة النفس ثائرتها، وقالت له بانفعال شديد: يا بني، أما علمت أن أباك يعد لنا فضيحة جديدة؟!

وأدرك حسين لتوه ما تعنيه! فلا يمكن أن يعني قولها إلا معنى واحدا معروفا مشهورا. وامتلأ حنقا، واتقدت عيناه الصغيرتان فتطاير منهما الشرر .. ما بال هذه الحياة لا تكاد تعفيه يوما من المتاعب والفضائح. ولم تكن دواعي السخط لتنقصه حتى بدون هذه الفضائح. كان برما بكل شيء مما حوله، ولعل برمه هذا الذي دفعه إلى الارتماء بين أحضان الجيش البريطاني، ثم ضاعفت حياته الجديدة من سخطه بدل أن تسكنه وتطامنه، فضاق بآله وببيته وبالزقاق جميعا. وجاء أخيرا قول أمه نفطا على لهيب، فقال غاضبا: ماذا تريدين؟ وما حيلتي في هذا كله؟! لقد تدخلت فيما سلف وحاولت الإصلاح، فكاد يبلغ بنا الحال أن نتعارك وأن نتضارب، فهل تريدينني على أن أمسك بتلابيب أبي؟!

لم يكن يعنيه الإثم في ذاته، ولكن كان يغيظه ما يثيره حولهم من فضيحة وجرسة، وما يشعله في البيت من نيران السباب والشتائم والعراك؛ أما الإثم ذاته فلم يكن يهمه على الإطلاق، بل إنه حين تناهى إليه خبره أول مرة هز منكبيه استهانة وقال دون مبالاة: «إنه رجل، والرجل لا يعيبه شيء!» ثم سخط مع الساخطين ونقم على والده، حين وجد أسرته مضغة الأفواه ونادرة المتندرين. وكانت علاقته بأبيه في الأصل متوترة، ذلك التوتر الذي ينشأ عادة من تصادم طبيعتين متشابهتين؛ فكلاهما فظ شرس غضوب، ثم جاء هذا الإثم فضاعف من أسباب شقاقهما حتى أصبحا كعدوين، يتحاربان حينا، ويتهادنان حينا، ولا يسكت عنهما السخط أبدا.

ولم تدر أم حسين ماذا تقول، ولكنها لم تراجعه أن تكون السبب في إلقاء عداوة جديدة بين الابن وأبيه. وتركته يغادر الشقة وهو يهدر غاضبا شاتما، وقطعت نهارها على أسوأ حال. ولم تكن تذعن للهزيمة على كثرة ما عركها الزمن بالتعاسة والمهانة، فصدقت عزيمتها على تأديب الرجل الآثم ولو عرضها ذلك لشماتة الشامتين. بيد أنها رأت أن تقدم إنذارها بين يدي بأسها، فانتظرت حتى انتصف الليل وتفرق السمار، وتأهب زوجها لإغلاق القهوة ، ثم نادته من النافذة! فصعد الرجل رأسه منزعجا، وعلا صوته متسائلا: ماذا تريدين يا أم حسين؟

فجاءه صوتها يقول: اصعد يا معلم لأمر هام.

وأومأ المعلم لفتاه أن ينتظر حيث هو، وراح يرتقي السلالم متثاقلا، ووقف على عتبة باب شقته لاهثا، ثم سألها بصوته الغليظ: ماذا تريدين؟ أما كنت تستطيعين الانتظار حتى الصباح؟

رأته المرأة وقد تسمرت قدماه بالعتبة لا يريد أن يزايلها كأنه يتحاشى أن يخرق حرمة بيت غريب، فتميزت غيظا، وحدجته بعينين محمرتين من السهر والغضب، ولكنها لم ترد أن تبادره بالغضب، فقالت وهي تغالب انفعالها: تفضل بالدخول يا معلم.

وتساءل المعلم كرشة لماذا لا تتكلم إذا كان لديها حقا ما تريد أن تقوله؟! ثم سألها بخشونة: ماذا تريدين؟ .. انطقي!

يا له من رجل نافد الصبر! يقطع الليالي الطوال خارج البيت دون ملل؛ ولكنه يضيق ذرعا بحديث دقيقتين معها. ومع ذلك فهو رجلها أمام الله والناس، وأبو أبنائها جميعا، ومن عجب أنها لم تستطع - على إساءته إليها - أن تبغضه أو تهمل شأنه؛ فهو رجلها وسيدها الذي لا تني عن الاستئثار به، واسترداده كلما مد الإثم يدا لاختطافه. بل إنها لفخور به حقا؛ فخور بفحولته ومكانته في الزقاق وسيطرته على المعلمين من أقرانه، ولولا هذه النقيصة المنكرة لما وجدت له ضريعا في الدنيا. ها هو يستجيب لداعي الشيطان، ويود لو أعفته من حديثها لينطلق إليه من توه! واشتد بها الغيظ فقالت بحدة: ادخل أولا .. لماذا تقف على العتبة كالأغراب؟

فنفخ المعلم مغيظا محنقا، وجاز العتبة إلى الدهليز برما ساخطا وهو يتساءل بصوته الأجش: ماذا وراءك؟

قالت وهي ترد الباب: استرح قليلا .. لدي كلمة قصيرة.

ونظر إليها مستريبا! ماذا تريد المرأة؟ هل تعترض سبيله مرة أخرى؟! وصاح بها: تكلمي، لماذا تضيعين الوقت سدى؟

فسألته بحنق: أمتعجل أنت يا معلم؟ - أتجهلين هذا؟ - ما الذي يدعو لهذه العجلة؟

فازدادت ريبته، وامتلأ صدره حنقا، وتساءل: إلام يحتمل هذه المرأة؟ كانت عواطفه نحوها مضطربة متناقضة؛ كان يكرهها حينا ويحبها حينا آخر، ولكن كانت الكراهية تغلب عليه إذا جره الإثم إلى هاويته، ويزيد الأمر وبالا إذا توثبت المرأة للانقضاض عليه. وكان يتمنى في قرارة نفسه لو كانت امرأته «عاقلة» فتركته وشأنه. ومن عجب أنه كان يرى نفسه على حق دائما، ويعجب لاعتراضها سبيله بلا مبرر! أليس من حقه أن يفعل ما يشاء؟ وأليس من واجبها أن تطيع، وأن ترضى ما دامت حاجاتها مقضية ورزقها موفورا؟! وقد أمست من ضرورات حياته، كالنوم والحشيش والبيت بخيرها وبشرها، فلم يفكر جادا في التخلص منها، ولو أراد ما منعه مانع، ولكنها كانت تملأ فراغا، وتقوم على العناية بأمره، ويريدها - على أية حال - زوجا له! ولكنه تساءل على رغم هذا كله - في حنقه: إلام يحتمل هذه المرأة؟ وصاح بها: لا تكوني حمقاء وتكلمي، أو دعيني أذهب لحال سبيلي.

سألته باستياء وحنق: ألا تجد قولا أفضل من هذا تخاطبني به؟

فزمجر المعلم قائلا: الآن علمت أنه ليس لديك ما تقولينه: والأفضل أن تنامي شأن النساء العاقلات. - ليتك تنام أيضا شأن الرجال العقلاء!

فضرب المعلم كفا بكف وصاح: كيف لي بالنوم في هذه الساعة؟ - فلماذا خلق الله الليل؟

فقال الرجل بدهشة وغيظ: ومتى كنت أنام الليل؟ هل أنا مريض يا مرة؟!

فقالت بلهجة ذات معنى خاص علمت أنه سيدركه من فوره: تب إلى الله يا معلم، وادع الله يقبل التوبة ولو جاءت متأخرة!

وأدرك ما تريد، وقطع الشك باليقين، ولكنه قال متجاهلا وهو يتميز غيظا: ما في السهر من ذنب يتوب الإنسان عنه.

فزادها تجاهله لها حنقا وقالت: تب عن الليل وعما في الليل.

فقال المعلم بخبث: أتريدينني أن أهجر حياتي؟!

فصاحت به وقد غلبها الغضب: حياتك!

فقال بخبث: أجل، الحشيش حياتي!

فتطاير الشرر من عينيها، وهي تقول وقد حدثتها نفسها بأن تصك خديه السوداوين: والحشيش الآخر؟!

فقال متهكما: أنا لا أحرق إلا صنفا واحدا. - أنت لا تحرق إلاي. لماذا لا تسهر في مكانك المعتاد من السطح؟! - ولماذا لا أسهر حيث يروقني السهر؟ على السطح، في المحافظة، في قسم الجمالية؟ ما شأنك أنت؟ - لماذا غيرت مكان سهرتك؟

فصعد الرجل رأسه وصاح: اللهم فاشهد، أعفيتني حتى الآن من محاكم الحكومة ونصبت لي محكمة دائمة في بيتي (ثم طامن رأسه كرة أخرى واستدرك) ألا فاعلمي أن بيتنا قد أصبح مشبوها، والمخبرون يجوسون حوله.

فسألته بسخرية مرة: ترى هل هذا الشاب المتهتك من بين هؤلاء المخبرين الذين أطاروك عن عشك؟!

آه، صار التلميح تصريحا! واربد وجهه الضارب للسواد، وسألها بصوت ينم عن الضجر: أي شاب هذا؟ - الفاجر الذي تقدم له الشاي بنفسك كأنك رددت صبيا كسنقر! - ما في ذلك من عيب، فالمعلم يخدم زبائنه كالصبي سواء بسواء.

فسألته متهكمة بصوت متهدج من الغضب: لماذا لا تخدم عم كامل مثلا؟ لماذا لا تخدم إلا الفاجر؟ - الحكمة توجب خدمة الزبائن الجدد! - الكلام سهل على من يريده، ولكن فعلك فاضح فاجر.

فأومأ إليها بيده منذرا وهو يقول: أمسكي لسانك يا مجنونة. - الناس جميعا يكبرون فيعقلون!

فقرض أسنانه وسب ولعن؛ ولكنها لم تباله واستطردت تقول: أناس يكبرون فيعقلون، أما أنت فكلما كبرت قل عقلك. - خرفت يا مرة! خرفت وحياة الحسين! عليه العوض!

فصاحت بصوت غليظ مرتعش النبرات: الرجال أمثالك يستأهلون العذاب. هلا كفيتنا شر الفضائح! هلا كفيتنا ذل الشماتة! - عليه العوض! عليه العوض!

وغلبها اليأس والغضب فصاحت به منذرة: اليوم تسمعني أربعة جدران، غدا تسمعني الحارة كلها!

فرفع جفنيه الثقيلين وسألها بقوة: تهددينني؟! - أهددك، وأهدد أهلك! أنت تعرف من أنا! - يبدو أني سأهشم هذا الرأس الخرف! - هئ .. هئ، والله ما ترك الحشيش والفجر قوة في ساعديك، والله ما تستطيع أن ترفع يدا! .. انتهيت، انتهيت يا معلم. - انتهيت بفضلك، وهل ينهي الرجال إلا النساء. - أسفي علي من دون النساء جميعا! - ليه؟ .. خلفت بناتا ستا ورجلا .. غير حالات الإجهاض والسقط.

فصاحت في غضب جنوني: ألا تستحي من ذكر الأبناء؟ ألا يزجرك ذلك عما تتردى فيه من الفجور!

فضرب الجدار بقبضته، وتحول عن موقفه متجها نحو الباب وهو يقول: امرأة مجنونة خرفة.

فصرخت وراءه: هل نفد صبرك حقا؟ .. أتشفق عليه من طول الانتظار؟ .. سترى عاقبة فجرك يا داعر!

وأغلق المعلم الباب بعنف، فرنت صفقته رنينا مدويا مزق سكون الليل، وجعلت أم حسين تكور يدها في غضب وحنق، وقد امتلأت نفسها رغبة في الانتقام.

10

ألقى عباس الحلو على صورته في المرآة نظرة فاحصة ناقدة حتى لاحت في عينيه البارزتين نظرة ارتياح .. وكان قد رجل شعره بأناة، ونفض الغبار عن بدلته بعناية، ثم دلف من باب دكانه ووقف ينتظر. هي ساعة الأصيل المحبوبة، والسماء صافية عميقة الزرقة، والجو ملطف بدفء طارئ جادت به الطبيعة غب رذاذ اتصل يوما كاملا، وقد اغتسلت أرض الزقاق التي لا تستحم إلا مرتين أو ثلاثا في العام، وظلت بعض منخفضات الصنادقية مغمورة بالماء، ملبدة بالطين. وكان عم كامل داخل دكانه الصغير يهوم على كرسيه، فأشرق وجه الحلو بابتسامة لطيفة، وما لبث أن دب الوجد في أعماقه فراح يدندن بصوت منخفض:

هلبت يا قلبي على طول الزمن ترتاح

وتنول وصال اللي تهوى، وفيه ترتاح

مصير جروحك على طول الزمن تبرى

ويجيلك الطب، لا تعلم ولا تدرى

مثل سمعناه منقول عن ذوي الخبرة

الصبر يا مبتلى، جعلوه للفرج مفتاح

وفتح عم كامل عينيه وتثاءب، ثم نظر إلى الشاب الواقف على باب دكانه، فضحك هذا وعبر الطريق إليه وقرصه في ثديه الهش، وقال بسرور: عشقنا وستضحك لنا الدنيا!

فتنهد عم كامل وقال بصوته الرفيع: مبارك يا عم، ولكن هلا سلمتني الكفن قبل أن تبيعه لتحصل على المهر؟!

فضحك عباس الحلو ضحكة عالية، وغادر الزقاق متمهلا. كان يرتدي بدلته الرمادية، وهي الوحيدة أيضا، وكان قد قلبها منذ عام، ثم رفأ الرفاء بعض أطرافها، ولكنه كان يعنى بتنظيفها وكيها، فبدا - على نحو ما - أنيقا! وكان يضطرم حماسة ونشوة وشجاعة، ويضطرب بهذا الضيق الشديد الذي يسبق عادة البوح بمكنون الفؤاد. كان في تلك الفترة يحيا الحب .. للحب، ويدور بجناحيه الملائكيين في سماء السرور. وكان حبه عاطفة رقيقة ورغبة صادقة وشهوة جائعة، يهوى الثديين كما يهوى العينين، ويلتمس وراء الثديين حرارة الجسد، كما يتلمس في العينين نشوة غامضة ساحرة. وقد سر سرور الظفر يوم تعرض للفتاة في الدراسة، وصور له خياله إعراضها كما لو كان ذلك الإعراض السلبي الذي تلبي به النساء نداء الهوى. واستأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر ونشوته تخبو، لا لجديد جد؛ ولكن لتيقظ الشك وفعله. وراح يتساءل: لماذا يظن الإعراض دلالا؟ ولم لا يكون إعراضا حقا؟! ألأنها صدته في غير قسوة ولا فظاظة؟ ولكن هل يتوقع الإنسان من جارة العمر أقل من هذه المجاملة؟ .. حقا لقد غالى في سروره، وإنها لنشوة كاذبة. بيد أنه لم ينكص على عقبيه، وكان كلما لسعه الشك اندفع في سبيله ذائدا عن سعادته. كان عند الضحى يبرز أمام دكانه فيراها إذ تفتح النوافذ لتشمس الشقة، وفي المساء يجلس بكرسيه على عتبة القهوة تحت نافذتها، يدخن الجوزة، ويخطف النظرة تلو النظرة من الشباك المغلق يجثم وراء خصاصه الشبح المحبوب. ولم يقنع بهذا فتعرض لها مرة ثانية في الدراسة، ولكنها صدته كما صدته أول مرة، وأعاد الكرة فأفلتت منه أيضا. ولكنه رجع وقد عاوده الأمل وأظله الفرح والسرور، وقال لنفسه: إن السعادة مهيأة له ولا تقتضيه إلا مزيدا من الشجاعة والصبر. وهكذا انطلق هذه المرة ممتلئا شجاعة وثقة وهياما، ورأى حميدة وصويحباتها قادمات، فانتحى جانبا حتى مررن به، ثم تبعهن متمهلا. وقد لاحظ أن أعين البنات يثقبنه بخبث مريب، فداخله سرور وزهو، وتابع سيره حتى انفرط عقدهن عند نهاية الدراسة، فحث خطاه حتى صار منها على مرمى ذراع، وابتسم إليها ابتسامة رقيقة متعثرة بالارتباك، وغمغم بتحيته المحفوظة: مساء الخير يا حميدة.

كانت تنتظره بلا ريب، ولكنها كانت في حيرة من أمر نفسها. لم تكن تحبه ولم تكن تكرهه، ولعل كونه الفتى الوحيد الذي يصلح لها في الزقاق هو ما جعلها تشفق من قطعه أو صده بحزم وفظاظة. فأغضت عن تعرضه لسبيلها مرة أخرى، مكتفية بزجر لين، وإفلات لطيف، ولو شاءت أن تصعقه لصعقته، وكانت على رغم تجربتها المحدودة في الحياة تشعر بالفارق الكبير بين هذا الفتى الوديع وبين طموحها النهم الذي يضرمه نزوعها الغريزي إلى القوة والجموح والسيطرة والعراك! حقا كانت تهيج جنونا إذا قرأت في نظرة عين معنى للتحدي أو الثقة، ولكن لم تبعثها إلى الرضا هذه النظرة الوديعة الطيبة التي تلوح دواما في عيني الحلو، وتولاها شعور بالحيرة والقلق لترددها بين الحرص عليه بوصفه الفتى الصالح لها في الزقاق، والنفور منه لا ينهض على أسباب واضحة يطمأن إليها .. فلا ميل صريح ولا نفور صريح، ولولا إيمانها بالزواج كنهاية طبيعية محتومة لما ترددت في نبذه والقسوة عليه. لذلك أحبت مجاراته، وسبر غوره، واستخراج مكنون لسانه، لعلها تجد في ذلك كله أو في بعضه مخرجا لها من حيرتها المؤسية. وخاف الفتى أن يمتد صمتها حتى ينطوي الطريق، فغمغم كالضارع: مساء الخير.

وانبسط وجهها البرونزي الجميل، وتمهلت في مشيتها وهي تنفخ في ضجر مصطنع قائلة: ماذا تريد؟!

ولمح انبساط وجهها فلم يعبأ بضجرها، وقال بأمل ورجاء: ميلي بنا إلى شارع الأزهر؛ فهو طريق مأمون والظلام وشيك.

وعدلت صامتة عن طريق الدراسة إلى الأزهر، فتبعها وهو يكاد يخرج من جلده فرحا. ورجع رأسها صدى هذه الكلمات «طريق مأمون .. الظلام وشيك.» فأدركت أنها تقارف فعلا تحاذر عليه أعين الرقباء، وابتسمت بجانب ثغرها في تحد! كانت «الأخلاق» أهون شيء على نفسها المتمردة، وقد نشأت في جو لا يكاد يتفيأ ظلها، أو يتقيد بأغلالها. وزادها استهانة طبع جموح وأم مهملة قليلا ما تستكن في بيتها، فانطلقت على سجيتها تخاصم هذه وتعارك تلك، فلا تعمل لشيء حسابا، ولا تقيم لفضيلة وزنا .. وأما عباس الحلو فقد لحق بها، وسار لصقها وهو يقول بصوت ينم عن الفرح والسرور: دمت من فتاة كريمة.

ولكنها قالت له في شبه ضجر: ماذا تريد مني؟

فقال الفتى وهو يتمالك أنفاسه المضطربة: الصبر طيب يا حميدة، تلطفي معي ولا تكوني قاسية علي.

فعطفت نحوه رأسها وهي تغطيه بطرف ملاءتها وقالت بحدة: هلا قلت لي ماذا تريد؟! - الصبر طيب ... أريد ... أريد كل شيء طيب.

فقالت بتأفف: لا تريد أن تقول شيئا ، ونحن نجد في السير فنبتعد عن طريقنا، والوقت يمضي، وأنا لا أستطيع أن أتأخر عن موعد عودتي!

فأشفق من ضياع الوقت وقال بلهفة: سنعود في وقت قريب، فلا تخافي ولا تجزعي، وسنجد عذرا تنتحلينه لأمك، إنك تفكرين كثيرا في الدقائق، أما أنا فأفكر في العمر كله، في حياتنا جميعا، هذا هو شغلي الشاغل. ألا تصدقينني؟ إنه جل تفكيري وهمي وحياة الحسين الذي يبارك هذا الحي الطاهر.

كان يتكلم في بساطة وصدق، فشعرت بحرارة حديثه، ووجدت لذة في الإصغاء إليه، وإن لم يتحرك قلبها الجامد، فتناست حيرتها المعذبة، وألقت إليه بانتباهها، ولكنها لم تدر ماذا تقول؟! فلاذت بالصمت، وتشجع الفتى فاستدرك قائلا في انفعال: لا تعدي علي الدقائق ولا تلقي علي هذا السؤال الغريب. تسألينني يا حميدة عما أريد، أتجهلين حقا ما أريد قوله؟ لماذا أتعرض لك في الطريق؟ لماذا أتبع عيني ظلك حيث تكونين؟ لك ما تشائين يا حميدة. ألم تقرئي شيئا في عيني؟ يقولون: إن قلب المؤمن دليله، فماذا علمت؟

اسألي نفسك. اسألي أهل الزقاق جميعا، كلهم يعرفون.

وقطبت الفتاة وتمتمت وهي لا تدري: فضحتني!

فهاله قولها، وهتف متأثرا: لا فضيحة في حياتنا، وما أكن لك إلا الخير، وهذا الحسين يشهد قولي ويعلم بسريرتي. أنا أحبك، ولطالما أحببتك، أحبك أكثر مما تحبك أمك، وأحلف لك على صدقي بالحسين، وجد الحسين ورب الحسين!

وشعرت بسرور ولذة، ودخلها زهو تملق نزوعها الجامح إلى القوة والسيطرة. والحق أن كلمات الحب الحارة خليقة بأن تطرب الآذان ولو لم ترجع القلوب أنغامها، فهي كالأفاويه للنفس المسدودة! بيد أن خيالها وثب وثبة قوية عبر بها قنطرة الحاضر إلى المستقبل، فتساءلت: ترى كيف تكون حياتها في كنفه لو صدقت الأيام أمله؟ إنه فقير، رزقه كفاف يومه، ولسوف يأخذها من الطابق الثاني لبيت الست سنية عفيفي إلى الطابق الأرضي في بيت السيد رضوان الحسيني. وأحسن ما يمكن أن تجهزها أمها فراش نصف عمر، وكنبة، وعدد من الأواني النحاسية. ولا يدخر لها بعد ذلك إلا الكنس والطبخ والغسل والإرضاع. وربما قطعت طريقها حافية في جلباب مرقع. وريعت كأنما اطلعت على مشهد مخيف، وتحرك في أعماقها هيامها المفرط بالثياب، وتيقظ ذلك النفور الوحشي من الأطفال الذي تعيرها به نسوة الزقاق، وعاودتها حيرتها المعذبة، فلم تدر أأصابت أم أخطأت في مطاوعتها له وسيرها معه. وكان عباس ينعم إليها النظر في افتتان وهيام وأمل، فأول صمتها وتفكيرها على هواه، وقال لها بصوت ينبعث من أعماق فؤاده: لماذا تصمتين يا حميدة! .. كلمة واحدة تشفي الفؤاد وتغير الدنيا .. كلمة واحدة تكفيني .. تكلمي يا حميدة .. اخرجي عن هذا الصمت!

ولكنها لم تنبس بكلمة، وظلت فريسة للحيرة، فاستطرد عباس قائلا: كلمة واحدة تملأ روحي أملا وسعادة، لعلك لا تدرين ما فعله حبك بي! إنه يبعث في روحا جديدة لا عهد لي بها! إنه يخلقني خلقا جديدا، ويدفعني لاقحتام الدنيا غير هياب. أما علمت هذا؟ .. لقد استيقظت من سباتي، وغدا ترينني شخصا جديدا!

ماذا يعني؟ وانعطف رأسها كالمتسائل؛ فانشرح صدره لاهتمامها وقال بحماسة وفخار: أجل، توكلت على الله وسأجرب حظي كالآخرين، سألتحق بخدمة الجيش البريطاني، وعسى أن يصادفني من التوفيق ما صادف أخاك حسين.

فلاح الاهتمام في عينيها وسألته على غير وعي منها: حقا .. متى يكون ذلك؟

كان يؤثر بلا شك أن تحدثه حديثا آخر، وأن يلمس انفعالها قبل أن يستثير اهتمامها، أن يسمع هذه الكلمة العذبة التي تذوب نفسه شوقا لسماعها، ولكنه ظن هذا الاهتمام قناعا نسجه الحياء ليستر به عاطفة مشبوبة كعاطفته تهاب البوح بسرها، واهتز صدره فرحا، وقال مفتر الثغر: عما قريب أسافر إلى التل الكبير، وسأشتغل بادئ الأمر بيومية مقدارها خمسة وعشرون قرشا، وقد أكد لي جميع الذين استشرتهم في الأمر أن هذا المقدار قليل من كثير مما يصيب جميع المشتغلين في الجيش، وسأجعل همي في أن أوفر من يوميتي أقصى ما أستطيع توفيره، حتى إذا عدت إلى هنا عقب انتهاء الحرب - وهي بعيدة كما يقولون - فتحت صالونا جديدا في السكة الجديدة أو شارع الأزهر، واستقبلت حياة رغيدة ننعم بها .. معا .. إن شاء الله .. ادعي لي يا حميدة.

هذا شيء جديد لم يخطر لها ببال، وإذا كان الفتى جادا فقد حقق لها كثيرا مما تصبو إليه نفسها، وإن نفسا كنفسها مهما تناهى بها التمرد والجموح حرية بأن يروضها المال ويستأنسها. وغمغم عباس معاتبا: ألا تريدين أن تدعي لي؟

فقالت بصوت خافت وقع من أذنيه موقعا جميلا، وإن كان صوتها نقطة ضعف في جمالها: الله يوفق خطاك.

فتنهد مسرورا وقال: آمين. استجب لها يا رب. ستبسم لنا الدنيا بإذن الله. ارضي أنت علي ترض الدنيا جميعا .. أنا لا أسألك شيئا إلا الرضا.

وأخذت تخرج من حيرتها رويدا رويدا، فقد وجدت في الظلمة التي كانت تتخبط فيها بصيص نور .. نور الذهب اللامع. وإذا كان شخصه لا يرضيها، ولا يحرك أنوثتها، فعسى أن يبرز منه هذا الضوء اللامع الذي يستهويها، ويلبي نزوعها الصارخ إلى القوة والجاه. وهو بعد هذا كله - وقبل هذا أيضا - الفتى الوحيد الصالح في الزقاق! أجل، هذا حق لا ريب فيه. وقد خامرها شعور بالارتياح، وأنصتت إليه وهو يقول: ألا تسمعينني يا حميدة؟ أنا لا أسألك إلا الرضا!

فارتسمت على شفتيها الرقيقتين ابتسامة، وغمغمت: وفقك الله.

فعاد يقول في ابتهاج: ليس من الضروري أن ننتظر حتى نهاية الحرب! .. سنكون أسعد مخلوقين في الزقاق.

وقطبت في تقزز، وندت عنها هذه الكلمة بلا وعي، وفي ازدراء شديد: زقاق المدق!

فنظر إليها في ارتباك ولم يجرؤ على الدفاع عن الزقاق الذي يحبه ويؤثره على الدنيا جميعا، وتساءل منزعجا: ترى هل تزدري هذا الزقاق الطيب كأخيها حسين؟! حقا لقد رضعا من ثدي واحد! وأراد أن يمحو ما تركه فيها من أثر سيئ فقال: نختار المكان الذي تحبين .. هاك الدراسة والجمالية وبيت القاضي، اختاري بيتك حيثما تشائين!

وتنبهت لقوله في حيرة، وأدركت أنها تكلمت أكثر مما ينبغي، وأن لسانها خانها بلا وعي منها، فعضت على شفتها، ثم قالت بإنكار: بيتي؟! أي بيت تعني؟! ما شأني أنا في هذا الأمر!

فهتف بها في عتاب: كيف تقولين هذا القول ؟ ألم يكفك ما عانيت من عذاب؟ ألا تدرين أي بيت أعني؟ سامحك الله يا حميدة؛ أعني البيت الذي سنختاره معا، بل الذي تختارينه أنت وحدك، لأنه بيتك أنت دون الناس جميعا. وإني أهاجر في سبيل هذا البيت كما علمت. ولقد دعوت لي بالتوفيق، فلا مفر من الحقيقة السعيدة الرائعة. اتفقنا يا حميدة وانتهى الأمر.

هل اتفقا حقا؟ أجل اتفقا! ولولا ذلك ما رضيت بالسير معه ومنازعته الحديث والخوض في أحلام المستقبل. وماذا يضيرها من ذلك؟ أليس هو فتاها على أي حال؟ ومع ذلك ساورها شعور بالقلق والتردد، أحقا أصبحت فتاة أخرى لا تكاد تملك من أمر نفسها شيئا؟ وأحست عند ذاك يده تتلمس راحتها وتقبض عليها وتضفي على أناملها الباردة حرارة ودفئا .. أتنتزعها منه وتقول له: «كلا .. لا شأن لي في هذا الأمر»؟! ولكنها لم تفعل شيئا، ولم تنبس بكلمة، ومضيا معا وراحتها في كفه الساخنة، وشعرت بأصابعه تشد عليها بحنان، وسمعته يقول: سنتقابل دواما .. أليس كذلك؟

وأبت أن تنبس بكلمة، فقنع بلغة الصمت، وقال مرة أخرى: سنتقابل كثيرا، ونزن أمورنا جميعا. ثم أقابل أمك .. لا بد من الاتفاق معها قبل السفر.

وانتزعت راحتها من يده وهي تصيح في جزع: سرقنا الوقت، وابتعدنا كثيرا .. هلم إلى العودة.

ودارا على عقبيهما معا وهو يضحك ضحكة سعيدة رجعت بعض أصداء السعادة التي يجيش بها قلبه. واستحثا الخطى حتى بلغا الغورية في دقائق، وافترقا عندها، فمالت هي إليها، واتجه هو نحو الأزهر ليعود إلى الزقاق عن طريق الحسين.

11 «اللهم عفوك ورحمتك.»

نطقت الست أم حسين بهذه العبارة وهي ماضية إلى مسكن السيد رضوان الحسيني .. كانت تسأل الله العفو والرحمة في يأس وغيظ وحنق مما تعانيه. أعياها إصلاح زوجها وعجزت عن ردعه، فلم تر بدا في النهاية من مقابلة السيد رضوان، لعله أن يفلح هو - بصلاحه وهيبته - فيما أخفقت هي فيه. ولم يكن سبق أن فاتحت السيد في مثل هذا الأمر الفظيع؛ ولكن يأسها من ناحية، وإشفاقها من شماتة الأعداء إذا جاهرت بالخصومة والطعان من ناحية أخرى، دفعاها إلى طرق هذا الباب الصالح الآمن لعل وعسى! وفي البيت استقبلتها حرم السيد رضوان، فجلسا معا بعض الوقت. وحرم السيد في منتصف الحلقة الخامسة من عمرها، وهي حلقة يعتز بها نساء كثيرات، ويعتبرنها الغاية من النضج الأنثوي، ولكن المرأة كانت مهزولة مهدمة، تلوح في جسمها وروحها آثار السهام التي سددها إليها الدهر حين انتزع من بين ذراعيها أطفالها طفلا بعد طفل. وكانت لذلك تضفي على بيتها الساكن روحا من الحزن والكآبة، ولم يجد إيمان السيد العميق في تبديد غشاوته. وكانت تبدو، في هزالها وحزنها، صورة مناقضة لصورة زوجها القوي المشرق المطمئن البسام. كانت امرأة ضعيفة فلم يقلها إيمانها - على رسوخه - من عثرتها المضنية. وكانت أم حسين تعلم بأمرها، فأقبلت تشكو بثها وهمها بقلب مطمئن إلى أنه سيجد أذنا صاغية تستميلها الشكوى والأحزان. ثم استأذنت في مقابلة السيد رضوان، فغابت المرأة لحظات ثم رجعت تدعوها إلى لقائه، وقادتها إلى حجرته.

وكان السيد يجلس على فروة مسبحا، المجمرة أمامه، وإبريق الشاي على يمينه. كانت حجرته الخاصة صغيرة أنيقة، تحدق بأركانها الكنبات، ويغطي أرضها سجاد شيرازي، تقوم في وسطها مائدة مستديرة رصت عليها الكتب الصفر، ويتدلى فوقها من السقف مصباح غازي كبير. وكان السيد يرتدي جلبابا رماديا فضفاضا، وطاقية صوفية سوداء يضيء تحتها وجهه الأبيض المشرب بالحمرة كالبدر المنير. في هذه الحجرة كان يخلو إلى نفسه كثيرا، قارئا أو مسبحا أو متأملا. وفيها كان يجتمع بأصدقائه من العلماء والصوفيين وأئمة الأذكار؛ يتذاكرون الأخبار ويروون الأحاديث ويناقشون ما يعرض لهم من الآراء، ولم يكن السيد رضوان معدودا من العلماء المتفقهين في الدين، ولا من الأذكياء الأفذاذ، ولا من أولئك الذين يجهلون أقدارهم فيضعونها من حيث يريدون أن يرفعوها فوق طاقاتها، ولكنه كان مؤمنا صادقا، وورعا تقيا، يستأسر نفوس العلماء بقلبه الكبير وصدره المسماح وخلقه القويم، وعطفه وحنانه ورحمته، فكان بحق من أولياء الله الصالحين.

وقد استقبل أم حسين واقفا، غاضا بصره، فأقبلت عليه في ملاءتها مبرقعة، وسلمت عليه بيد ملتفة بطرف الملاءة كيلا تنقض وضوءه، ورحب بها الرجل قائلا: أهلا وسهلا بجارتنا الفاضلة.

ودعاها إلى الجلوس فجلست على الكنبة قبالته، وتربع الرجل على الفروة، وراحت أم حسين تدعو له: الله يكرمك يا حضرة السيد، ويطيل عمرك بحق جاه المصطفى.

وكان يحدس ما حملها على مقابلته، فلم يسألها عن صحة المعلم زوجها كما تقضي بذلك آداب الضيافة! وكان يعلم كالآخرين بسيرة المعلم كرشة، وتناهى إليه ما قام بين الرجل وزوجه من شقاق وشجار في ظروف سابقة مماثلة .. فأيقن أنه أقحم في هذا النزاع المتجدد على غير إرادة. وسلم للأمر الواقع، وتلقاه بصدره الرحب كما يتلقى غيره مما يكره، وابتسم ابتسامة لطيفة وقال يشجعها على الكلام: خير إن شاء الله.

لم تكن المرأة تعرف التردد، ولا كان الحياء من أسباب ضعفها في يوم من الأيام، بل هي امرأة على قدر كبير من الشراسة والوقاحة، ولم تكن امرأة تفوقها مراسا في الزقاق كله إلا حسنية الفرانة، لذلك قالت للسيد بصوتها الغليظ: يا سيد رضوان، أنت الخير والبركة، وأنت رجل زقاقنا الفاضل، لذلك قصدتك أسألك المعونة في شدتي، وأشكو إليك الرجل الفاجر زوجي.

وعلا صوتها في آخر كلامها واخشوشن، فابتسم السيد مرة أخرى، وقال بصوت لا يخلو من رنة الأسف: هاتي ما عندك يا ست أم حسين، إني مصغ إليك.

فتنهدت المرأة وقالت: الله يرفع قدرك يا زين الرجال، الرجل يا سي السيد لا يحتشم ولا يرعوي، وكلما حسبت أنه قد تاب عن غيه طلع علي بفضيحة جديدة، إنه رجل فاجر لا يرده عن شهوة لا سن ولا زوجة ولا أبناء، ولعلك علمت بأمر هذا الشاب الرقيع الذي يوافيه كل ليلة إلى القهوة؟! هذه هي فضيحتنا الجديدة.

ولاحت في العينين الصافيتين سيماء الكدر، وأطرق متفكرا مغتما. اغتم الرجل الذي عجز ألم الثكل المبرح عن أن ينال من صفاء نفسه، لبث صامتا ساكنا، يتعوذ قلبه من الشيطان وعبثه. واتخذت المرأة من حزنه مبررا قويا لغضبها فانفعلت، وهدرت قائلة بنبرات فظيعة: فضحنا الرجل المتهتك، ووالله لولا عشرة العمر والأبناء لهجرت بيته لغير رجعة أبدا. أيرضيك هذا العار يا سي السيد؟! أيرضيك هذا السلوك الشائن؟! لقد نصحته فلم ينتصح، وأنذرته فلم يرعو، فلم أجد سبيلا إلاك. وما كنت أحب أن ألقي على سمعك الطاهر هذه الأنباء المخجلة، ولكن لا حيلة لي، وأنت سيد الحي جميعا، ورجله الفاضل، وأمرك مطاع، فلعلك بالغ منه ما لم يبلغه كلامي ولا كلام الناس جميعا، حتى إذا تبين لي أن نصحك لا يجدي كان لي معه شأن آخر! أجل إني أداري اليوم غضبي، ولكني إذا يئست من صلاحه فسأشب النار في الزقاق جميعا، وأجعل من جسده النجس حطاما لها.

فحدجها السيد بنظرة عتاب، وقال لها بهدوئه المألوف: أفرخي روعك يا ست أم حسين، ووحدي الله، ولا تغلبي الغضب على نفسك. أنت ست طيبة! والكل يشهد لك بالفضل! فلا تجعلي من نفسك وزوجك نادرة تلوكها الألسن. الزوجة الطيبة غطاء محكم يستر ما أمر الله به أن يستر، عودي إلى دارك آمنة مطمئنة، ودعي لي هذا الأمر، والله المستعان.

فقالت المرأة وهي تتمالك انفعالها: الله يكرمك، الله يسعدك، الله يشرف قدرك. أنت يا سيدي الملاذ والمأوى، وسأدع هذا الأمر بين يديك وأنتظر، وربنا بيني وبين هذا الرجل الفاجر.

وسكن الرجل خاطرها بما وسعه من كلم طيب، وكان كلما ذكر كلمة طيبة دعت له المرأة وانهالت بالشتائم على زوجها، وراحت تسرد عليه طرفا من فضائحه، حتى أوشك صبر الرجل أن ينفد! ثم ودعها مكرمة وهو يتنهد من الأعماق! وعاود جلسته مفكرا. كان يتمنى بلا شك لو لم يقحم في هذا الأمر، أما وقد وقع المحذور فلا معدى عن إنجاز وعده. ونادى خادمه، وأمره أن يدعو إليه المعلم كرشة، فمضى الغلام على عجل، وانتظر ساكنا، وذكر أنه يدعو لحجرته - لأول مرة - فاسقا، فلم يدخلها قبل ذلك إلا الفقهاء والصوفيون، وتنهد من الأعماق ثم قال لنفسه: «إن من يهدي فاسقا خير ممن يجالس مؤمنا.» ولكن هل يبلغ هداية الرجل حقا؟ وهز رأسه الكبير واستشهد بقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}. ومضى يتعجب من غواية الشيطان للإنسان، وكيف يشذ به عن فطرة الله السوية. ثم قطع عليه حبل تأملاته دخول خادمه معلنا حضور المعلم، فأذن له، ونهض لاستقباله. وجاء المعلم كرشة بجسمه الطويل النحيل، وألقى على السيد من تحت جفنيه الثقيلين نظرة تجلة واحترام، وانحنى على يده مسلما، ورحب به السيد رضوان ودعاه للجلوس، فجلس الرجل في المكان الذي كانت تجلس فيه زوجه قبل هنيهة، وملأ له قدحا من الشاي. كان المعلم آمنا مطمئنا لا يتوجس خيفة، ولا يدري شيئا عما دعا السيد إلى استدعائه. والحق أن من بلغ مبلغه من الذهول والشرود خليق بأن يفقد كل قدرة على التوجس والحيطة والحدس. وقد قرأ السيد في عينيه نصف المغمضتين الطمأنينة فقال له بهدوء مبتسما: شرفت دارنا يا معلم.

فرفع المعلم يديه إلى عمامته وقال: شرف الله قدرك يا سي السيد.

فقال السيد: لا تؤاخذني على دعوتك في أثناء عملك، فقد رأيت أن أحادثك في أمر هام كما يتحادث الإخوان، ولم أجد لذلك مكانا أنسب من البيت.

فأحنى المعلم رأسه وقال بأدب جم: إني طوع أمرك يا سي السيد.

وخاف السيد الاسترسال في المجاملات فيضيع الوقت سدى، وتطول مدة غياب المعلم عن عمله، فأراد أن يخوض الموضوع بلا تردد، ولم تكن تنقصه الشجاعة ولا تعوزه الصراحة، فقال بلهجة جدية: أحب أن أحدثك كما يتحدث الإخوان، أو كما ينبغي أن يتحادث الإخوان إذا كان رائدهم المودة والإخلاص. والأخ المخلص من إذا رأى أخا له يهوي تلقاه بذراعيه، أو وجده يتعثر أقاله من عثرته، أو حسبه في حاجة إلى النصح محضه النصيحة.

وفترت حماسة المعلم، وأدرك في تلك اللحظة فحسب أنه وقع في فخ، فلاحت في عينيه المظلمتين نظرة ارتياب، وتمتم في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول: نطقت بالحق يا سي السيد.

ولم يخف على السيد شيء من ارتباكه وارتيابه، فقال بلهجة جدية أيضا لطفتها نظرته الوديعة الصافية: أخي، سأصارحك بما في نفسي فلا تؤاخذني على صراحة، فما استحق الموجدة من كان هدفه الإصلاح وباعثه المودة والإخلاص. والحق يا أخي أني رأيت في بعض سلوكك ما ساءني، وما لا أعده خليقا بك.

وقطب المعلم كرشة منزعجا، وجعل يخاطب السيد في سره قائلا: «ما لك أنت ولهذا؟!» ثم قال متصنعا الدهشة: أساءك سلوكي حقا يا سي السيد؟! .. معاذ الله.

ولم يعبأ السيد دهشته المتصنعة واستدرك قائلا: إن الشيطان ليجد أبواب الشباب مفتحة فيلجها خفية وعلانية ويعيث فسادا، ومع ذلك فنحن لا نتسامح مع الشباب مفتح الأبواب، ونلزمه أن يغلق أبوابه في وجه الشيطان، فماذا يكون الحال مع الشيوخ الذين وهبهم العمر مفاتيح العصمة؟ ماذا يكون الحال لو رأيناهم يفتحون أبوابهم طواعية ويدعون الشيطان بأنفسهم؟! .. هذا ما ساءني يا معلم كرشة.

شباب شيوخ! أبواب مفاتيح! شيطان شياطين! لماذا لا يريح نفسه ويدع الناس يستريحون؟! وهز رأسه حيرة، ثم قال بصوت منخفض: لا أفهم شيئا يا سيد رضوان.

وحدجه السيد بنظرة ذات معنى، وسأله بلهجة لا تخلو من عتاب: حقا؟!

فغمغم المعلم وقد بدأ يستشعر البرم والخوف: حقا.

فقال السيد رضوان بحزم: حسبتك تعلم ما أعني، والحق أني أعني هذا الشاب الرقيع.

وسدت المنافذ في وجهه، فاحتدم الغيظ في نفسه، ولكنه كالفأر الواقع في المصيدة جعل يتخبط وراء المنافذ المسدودة، فتساءل بصوت ينم عن الهزيمة: أي شاب يا سي السيد؟

فقال السيد بلهجة وديعة متحاميا إثارته: أنت تعرفه يا معلم. وإني لم أفاتحك بأمره لأسيء إليك أو أخجلك - معاذ الله - ولكن لأرشدك لما فيه الخير. ما فائدة النكران؟ الجميع يعرفون، والجميع يتكلمون. وهذا لعمري ما آلمني أشد الألم، آلمني أن أجدك مضغة الأفواه.

فغلب المعلم الغضب، وضرب فخذه بقبضة قاسية، وقال بصوت أجش تطايرت فظاظته مع نثار ريقه: ما بال الناس لا يريحون ولا يستريحون؟! أحقا تراهم يتكلمون يا سي السيد؟ هكذا هم أبدا منذ خلق الله الأرض ومن عليها .. إنهم يخوضون في الأعراض لا لقبح يستقبحون، ولكن لينتقصوا إخوانهم، ولو لم يجدوا نقيصة لخلقوها خلقا، ثم خاضوا فيها، أتحسبهم يتهامسون تأففا وازدراء؟ كلا والله، إنه لحسد يأكل قلوبهم أكلا.

وهال السيد هذا الرأي، فقال له دهشا: يا له من رأي خاسر! أتحسب أن هذا الفعل الشائن مما تحسد عليه؟!

فتهافت ضاحكا وقال بحقد: لا تشك في قولي يا سيد رضوان! إنهم طغمة هالكة، وليس الخير من رجع في نفوسهم (وأدرك عند ذاك أنه سلم بالتهمة، وكاد يدافع عنها فاستدرك) ألا تدري من هذا الشاب؟ إنه شاب مسكين أداري بؤسه بالإحسان!

فضجر السيد من مراوغته، وحدجه بنظرة كأنما يقول له: «أيجوز هذا القول؟!» ثم قال: يا معلم كرشة، الغالب أنك لا تفهمني .. أنا لا أحاكمك ولا أعيرك، فكلانا فقير إلى رحمة الله وعفوه، ولكن لا تحاول النكران. إذا كان هذا الشاب مسكينا فدعه لخالقه، والدنيا ملأى بالمحتاجين إن أحببت إحسانا؟ - ولماذا لا يكون إحساني لهذا الشاب؟ يؤسفني أنك لا تصدقني وأنا رجل بريء.

ونظر السيد إلى الوجه المشرب بالسواد في استياء مكتوم، وقال بتؤدة: هذا شاب رقيع سيئ السمعة، ولقد أخطأت في محاولة خداعي، وكان الأخلق بك أن تقدر نصحي، وتواجهني صادقا صريحا.

وأدرك المعلم أن السيد قد استاء، وإن لم يلح الاستياء في وجهه، فلاذ بالصمت كاظما غيظه، وأخذ يفكر في الانصراف. ولكن السيد استدرك قائلا: إني أدعوك لما فيه صلاحك وصلاح بيتك، ولست يائسا من جذبك للخير. اهجر هذا الشاب، إنه رجس من عمل الشيطان، وتب إلى ربك، إنه غفور رحيم. لو كنت من الصالحين لكنت الآن من الموسرين، ولكنك تربح كثيرا وتخسر في بالوعة الرجس كثيرا، وتبقى على الأيام فقيرا معدما. فماذا قلت؟

وعدل المعلم عن المكابرة بصفة نهائية، وخاطب نفسه قائلا: إنه حر يفعل ما يشاء، وليس لأحد من سلطان عليه، ولو كان السيد رضوان الحسيني نفسه! ولكنه لم يفكر لحظة واحدة في إغضاب السيد ولا تحديه، فأطبق جفنيه على عينيه المظلمتين، وقال بصوت منكر: هذا أمر الله!

فلاح الانزعاج في الوجه الصبيح وقال بحدة: بل أمر الشيطان! حرام عليك يا شيخ.

فغمغم المعلم قائلا: لما يأمر الله بالهدى! - لا تطع الشيطان يهدك الله لما فيه صلاحك، اهجر هذا الشاب، أو دعني أصرفه بسلام.

فانزعج المعلم وغلبه الجزع، ولم يعد يستطيع مداراة عواطفه، فقال بحزم: كلا يا سي السيد، لا تفعل.

فرمقه الرجل بنظرة استياء وازدراء، وقال بصوت ينم عن الأسى: أرأيت كيف تؤثر الغواية على الهداية؟! - ربنا الهادي!

وتولاه اليأس من هدايته، فقال متضجرا: أقول لك للمرة الأخيرة: اهجره، أو دعني أصرفه بسلام.

فقال المعلم بعناد وهو يتزحزح إلى طرف الكنبة كأنما يهم بالنهوض: كلا يا سي السيد، أضرع إليك أن تدع هذا الأمر حتى يأمر الله بالهداية.

فتعجب السيد من عناده الوقح، وتساءل متقززا: ألا يخجلك هذا الحرص على هذا الفعل الشائن؟!

ونهض المعلم قائما - وقد ضاق صدره بالسيد ووعظه - وهو يقول: إن الإنسان ليقارف أفعالا كثيرة شائنة، وهذا واحد منها، فادع لي بالهداية، ولا تغضب علي، وتقبل عذري وأسفي، ماذا يملك الإنسان من أمر نفسه؟

فابتسم السيد ابتسامة حزينة، وقال وهو ينهض قائما كذلك: يملك كل شيء لو أراد؛ ولكنك لن تفقه معنى لقولي، فالأمر لله.

ومد له يده قائلا: مع السلامة.

وغادر المعلم كرشة البيت مقطبا مدمدما، يسب الناس والزقاق والسيد رضوان.

12

وانتظرت أم حسين متصبرة متجلدة يوما ويومين. كانت تقف وراء خصاص النافذة المطلة على القهوة تترقب مقدم الشاب، فتراه قادما يخطر، ثم تراه مرة أخرى - عند انتصاف الليل - وزوجها منصرفين صوب الغورية! ابيضت عيناها من المقت والغضب، وتساءلت: يا ترى هل ذهبت نصيحة السيد رضوان هباء؟ وزارت السيد مرة أخرى، فهز رأسه آسفا، وقال لها: «دعيه لحاله حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.» فرجعت إلى شقتها تغلي غليانا، وتتوعد شرا. لم تعد تقيم وزنا لشماتة الشامتين، وانتظرت بالنافذة حتى أتى الليل وقدم الشاب، فتلفعت بملاءتها وغادرت الشقة كالمجنونة، ونزلت السلالم وثبا؛ فكانت أمام القهوة في دقيقة واحدة. كانت الدكاكين قد أغلقت وأوى أهل الزقاق إلى القهوة كعادتهم كل ليلة، وكان المعلم كرشة مكبا على صندوق الماركات في شبه نعاس، فلم ينتبه لحضورها، واستقر بصرها الزائغ على الشاب وهو يرشف الشاي من قدح في يده، فاقتربت منه مارة أمام المعلم الذي لم يرفع بصره إليها، وضربت القدح بكفها فاندلق على حجر الشاب الذي قام فزعا صارخا! وصاحت به بصوت كالرعد: تشرب شايا يابن العاهرة!

وأحدقت الأعين بالمرأة سواء من يعرفها من أهل الزقاق أو من لا يعرفها من بقية الجلوس. والتفت نحوها المعلم كرشة كأنه يستيقظ بصب دلو ماء على وجهه، وهم بالوقوف، ولكن المرأة دفعته في صدره، وهي تصرخ في وجهه وقد أخرجها الغضب عن وعيها: إياك وأن تتحرك يا فاجر (والتفتت نحو الشاب واستدركت) ماذا أفزعك يا شاطر؟ يا مرة في ثياب رجل، هلا أخبرتني عما يدعوك إلى المجيء هنا؟!

ووقف المعلم كرشة وراء الصندوق وقد ألجم الغضب لسانه، واربد وجهه، ولكنها صاحت في وجهه: إن حدثتك نفسك بالدفاع عن رفيقك هشمت عظمك أمام الناس.

واندفعت نحو الشاب الذي تقهقر حتى التصق بالشيخ درويش وهي تصيح: أتريد أن تخرب بيتي يا رقيع يابن الرقعاء!

فقال لها الشاب مرتعدا: من أنت يا ستي، ماذا فعلت حتى ... - من أنا؟ ألا تعرفني؟! .. أنا ضرتك.

وانهالت عليه ضربا، فسقط طربوشه، وسال الدم من أنفه، ثم قبضت على ربطة رقبته وشدت عليها بعنف حتى اختنق صوته. وقد ذهل الجلوس، وحملقوا فيما يقع أمامهم بأعين دهشة؛ ولكن قلوبهم رقصت جذلا، ومنوا أنفسهم برؤية منظر بهيج مسل. في حين دعا صراخ أم حسين المعلمة حسنية الفرانة فجاءت مهرولة يتبعها زوجها جعدة فاغرا فاه. ثم ظهر بعد قليل زيطة صانع العاهات، ولكنه وقف بعيدا كأنه شيطان انشقت عنه الأرض. ولم تلبث نوافذ البيتين أن فتحت وأطلت منها الرءوس تستطلع ما هنالك. وأهاج الغضب المعلم كرشة، ورأى فتاه يتضور ملتويا، محاولا عبثا أن يخلص عنقه من قبضة المرأة القوية، فاندفع نحوهما ثائرا وهو يرغي زبدا كالفحول، وشد على ساعدي امرأته صائحا في وجهها: اتركيه يا مرة، وكفى فضيحة!

وأجبرت المرأة تحت ضغط زوجها على ترك غريمها وقد سقطت ملاءتها عند قدميها، فجن جنونها، وتعالى صراخها، وأمسكت بتلابيب المعلم وهي تصيح: أتضربني يا فاجر دفاعا عن رفيقك؟! اشهدوا يا ناس على الرجل الفاجر!

وانتهز الشاب فرصة إفلاته فتطاير خارج القهوة، وعدا لا يلوي على شيء. واستمرت المعركة بين المعلم وزوجته؛ هي تشد على تلابيبه، وهو يحاول دفعها والتخلص منها، حتى نهض إليهما السيد رضوان الحسيني وخلص بينهما. وتلفعت المرأة بملاءتها وهي تلهث، وصرخت بصوت كادت تتصدع له أركان القهوة: يا حشاش، يا مذهول، يا وسخ، يابن الستين، يا أبا الخمسة وجد العشرين، يا عرة، يا رطل، سفخص على وجهك الأسود.

فحدجها المعلم بنظرة قاسية وهو ينتفض من الانفعال، وصاح بها: لمي لسانك يا مرة، وسدي هذا المرحاض الذي يقذفنا بوسخه! - اقطع لسانك، ما مرحاض إلا أنت، يا خرع، يا مفضوح، يا ظل العيال.

فلوح لها بقبضته وهو يقول: تخرفين كعادتك. كيف سولت لك نفسك الاعتداء على زبائن القهوة؟

فضحكت المرأة ضحكة مروعة وقالت بسخرية مريرة: زبائن القهوة؟! العفو! ما قصدت زبائن القهوة بسوء؛ ولكني اعتديت على زبون المعلم الخصوصي!

وتدخل السيد رضوان مرة أخرى، وطلب من المرأة أن تمسك، وأن تعود إلى بيتها؛ ولكنها قالت وقد غيرت نبرات صوتها بجهد شديد: لن أعود إلى بيت الفاسق ما حييت.

فألح عليها، وتطوع عم كامل لمعاونته، فقال لها بصوته الرفيع الملائكي: عودي إلى بيتك يا ست أم حسين .. عودي ووحدي الله واسمعي كلام السيد رضوان.

وحال السيد بينها وبين مغادرة الزقاق، ولم يتركها حتى رجعت إلى البيت مظهرة السخط والتذمر. واختفى عند ذاك زيطة، وانسحبت حسنية الفرانة يسبقها زوجها، وقد لكمته في ظهره وهي تقول له: لا تفتأ تندب حظك وتقول ما لي أضرب من دون الرجال جميعا! أرأيت كيف يضرب أسيادك وأسياد من خلفوك.

وخلفت جعجعة المعركة صمتا ثقيلا. وتبادلت اللحاظ نظرات ساخرة تشي بالخبث والسرور، وكان أشد الحاضرين سرورا وارتياحا الدكتور بوشي، وهو الذي هز رأسه آسفا وقال في نبرات حزينة: لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أصلح الحال!

وكان المعلم «كرشة» لا يزال ملازما مكانه - الذي باشر فيه المعركة - فتنبه إلى فرار فتاه، وقطب في عناد، وبدا أنه يريد اللحاق به؛ ولكن السيد رضوان - وكان غير بعيد عنه - وضع يده على كتفه وقال بهدوء: اقعد يا معلم واسترح.

فنفخ مغيظا محنقا، وتراجع متثاقلا وهو يخاطب نفسه في حقد شديد: لبؤة، فاجرة؛ ولكن الحق علي، أنا أستاهل أكثر من هذا، مغفل من لا يبيت امرأته بالعصا.

وعلا صوت عم كامل وهو يقول: وحدوا الله يا هوه.

وارتمى المعلم كرشة على مقعده، ثم أخذه الغضب كرة أخرى، فثارت ثائرته، وراح يضرب جبهته بكف غليظة قاسية صائحا: أنا في الأصل مجرم قاتل، وجميع هذا الحي عرفني مجرما يرتوي بالدماء. أنا مجرم، أنا ابن كلب، أنا وحش، ولكني أستاهل كل إهانة؛ لأني تبت بمحض إرادتي عن الشر. (ورفع رأسه) انتظريني يا مرة يا وسخة، ستلقين الليلة كرشة الزمان الأول.

وصفق السيد رضوان بيديه وهو يتربع على الأريكة وخاطب المعلم قائلا: وحد الله يا معلم كرشة، نريد أن نشرب الشاي في هدوء!

ومال البوشي على أذن عباس الحلو وهمس قائلا: لا بد أن نصلح بينهما.

فسأله الحلو بخبث: بين من ومن؟

فكتم الدكتور ضحكة فخرجت من أنفه ريحا كالفحيح، وقال: أتظنه يعود إلى القهوة وقد حصل ما حصل؟

فمط الحلو بوزه وقال: إن لم يعد هو جاء غيره!

ثم شمل القهوة جوها المألوف، وعاد القوم إلى ما كانوا فيه من لعب وسمر، وكادت تنسى المعركة وتذهب آثارها، لولا أن هاج المعلم كرشة مرة أخرى، وصاح مرعدا كالوحوش الضارية: لا لا .. لا يمكن أن أذعن لإرادة امرأة. أنا رجل حر، أفعل ما أشاء، لتترك البيت إذا شاءت، ولتتسكع مع الشحاذين، أنا مجرم .. أنا من آكلي لحوم البشر.

ورفع الشيخ درويش رأسه بغتة وقال دون أن يلتفت نحو المعلم: يا معلم، امرأتك قوية، فيها من الرجولة ما يعوز الكثيرين من الرجال، هي ذكر وليست بأنثى، فلماذا لا تحبها؟

وصوب المعلم نحوه عينين ناريتين وصاح في وجهه: اقطع لسانك!

وصاح أكثر من واحد من الجالسين: حتى الشيخ درويش!

وولاه المعلم ظهره صامتا، وراح الشيخ درويش يقول: هذا شر قديم، يسمونه في الإنجليزية

Homoscxuality

وتهجيتها:

H o m o s c x u a l i t y

ولكنه ليس بالحب .. الحب الحقيقي لآل البيت. تعالي يا حبيبتي .. تعالي يا ست .. أنا عاجز يا أم العواجز.

13

كانت مقابلة الأزهر فتحا جديدا في حياة عباس الحلو. عهده الحب، شعلة وهاجة تضطرم في الفؤاد، نشوة سحر تسكر العقل، شهوة تصهر الأعصاب. كان مرحا مختالا مزهوا، كأنه فارس لا يشق له غبار، أو ثمل قد أمن عوادي الخمار. وتقابلا بعد ذلك مرات، فلم يملا الحديث عن مستقبلهما. أجل بات مستقبلهما واحدا، ولم تنكر حميدة ذلك، لا في حضوره ولا في غيابه! ولكن تساءلت: ترى هل تظفر واحدة من صويحباتها بنات المشغل بخير منه؟ .. وتعمدت أن تسير معه وقت ظهورهن، وجعلت تسترق النظر إلى أعينهن الفاحصة وكأنها ارتاحت إلى ما تركه فيهن من أثر. وقد سألنها يوما عن الشاب «الذي رأينه معها» فقالت: خطيبي .. صاحب صالون حلاقة!

وقالت لنفسها: إن أية واحدة منهن لتعد نفسها سعيدة إذا خطبها صبي قهوة أو صبي حداد، وهذا صاحب دكان .. أوسطى، وأفندي أيضا! كانت مشغولة أبدا بالموازنة والاختيار والتفكير، فلم تنجذب إلى الدنيا السحرية التي يهيم في سماواتها. بيد أنه كان يبلغ بها التأثر في لحظات منتهاه، فكأنها كانت - في تلك اللحظات - محبة حقا. وفي إحدى هذه اللحظات استوهبها قبلة. فلم تقل لا، ولم تقل نعم. أرادت أن تذوق هذه القبلة التي سمعت عنها كثيرا وتغنت بها كثيرا. ونظر هو محاذرا يراقب المارة، وتحسس ثغرها في ظلمة المساء. ثم وضع شفتيه على شفتيها وهو يرتعد، وغمرتها أنفاسه الملتهبة، فسالت على نحرها وطرفت عيناها.

ثم دنا موعد سفره فرأى أن يخطو الخطوات الحاسمة، واختار الدكتور بوشي - الذي تيسر له مهنته التردد على بيوت الزقاق - سفيرا له لدى أم حميدة. وسرت المرأة بالشاب الذي تراه الصالح الوحيد لابنتها في الزقاق، وكانت تعده دائما «صاحب صالون وقد الدنيا »، ولكنها خافت شماس ابنتها المتمردة، وظنت أنها مقبلة على معركة طاحنة، فما أدهشها بعد ذلك إلا أن تتلقى الفتاة الخبر برضا وتسليم، مما جعلها تهز رأسها وتقول: هذا فعل النافذة وراء ظهري!

وكلف الحلو عم كامل بصنع صينية بسبوسة فاخرة وإرسالها لأم حميدة، واستأذن في مقابلتها، ومضى إليها مصحوبا بعم كامل شريكه في بيته وحياته، وقد وجد عم كامل صعوبة شديدة في ارتقاء السلم، وجعل يتوقف كل درجتين لاهثا متوكئا على الدرابزين حتى قال للحلو عند أول «بسطة»: هلا أجلت الخطبة لحين عودتك من الجيش؟!

ورحبت بهما أم حميدة. وجلس ثلاثتهم يتبادلون طيب المجاملات، حتى قال عم كامل: هذا عباس الحلو ابن زقاقنا، وابنك، وابني، يطلب إليك يد حميدة.

فابتسمت المرأة وقالت: أهلا بالحلو الذي هو حلو، ستكون ابنتي عنده وكأنها لم تفارقني!

وتحدث عم كامل عن الحلو وأخلاقه، وعن الست أم حميدة وأخلاقها، ثم قال: سيغادرنا الفتى، فتح الله عليه، وقريبا تتحسن حاله فيتم له ولنا المراد بإذنه تعالى.

ودعت أم حميدة له، ثم داعبت عم كامل قائلة: وأنت يا عم كامل متى تنوي وتتوكل على الله؟!

فضحك عم كامل حتى صار وجهه كالطماطم في إبانها، ومسح على كرشه المحيط وقال: دون ذلك هذا الحصن المنيع!

وقرءوا الفاتحة وشربوا الشربات.

ثم كان بعد ذلك بيومين اللقاء الأخير بالأزهر. ساروا واجمين. والحلو يشعر بدموعه تدق أبواب صدره لتجد سبيلا إلى مجاري عينيه، وقد سألته: هل تغيب طويلا؟

فقال الشاب بصوت رقيق حزين: ربما امتدت خدمتي عاما أو عامين؛ ولكن لن تفوتني فرصة مناسبة للحضور.

فغمغمت قائلة، وكانت تجد نحوه في تلك اللحظة ودا عميقا: يا له من زمن!

فابتهج قلبه - على أساه - لهذه العبارة التي تنم عن الجزع، وقال منفعلا: هذا آخر لقاء قبل السفر، والله وحده يدري متى يكون اللقاء التالي، وإني لفي حيرة يا حميدة ما بين الحزن والسرور؛ أجدني محزونا لأني مبتعد عنك، ثم أجدني مسرورا لأن هذا الطريق الطويل الذي اخترت هو الطريق الوحيد المفضي إليك . ولكني سأترك قلبي ورائي في الزقاق، فتصوري رجلا مهاجرا بلا قلب، رمى به السفر إلى بلد ناء، وأبى قلبه أن يسافر معه. وغدا في التل الكبير، وعند مطلع كل صباح، سأفتقد النافذة المحبوبة التي كنت أراك تكنسين حافتها، أو تمشطين شعرك وراء فرجة مصراعيها، وهيهات أن أجد لها أثرا. ولقاؤنا في الموسكي والأزهر ماذا يبقى لي منه؟ أواه يا حميدة، هذا ما يتقطع له قلبي. دعيني آخذ منك كل ما أستطيع أخذه. ضعي راحتك في يدي، وشدي على يدي كما أشد على يدك. لله ما أطيب مسك، إنه يرعش قلبي، إنه قلب كبير بين يديك، يا عزيزة، يا حبيبة، يا روح قلبي يا حميدة. ما أجمل اسمك، كأني إذا نطقت به أستحلب سكرا!

واستنامت الفتاة إلى كلامه المتدفق الحار، فلانت نظرة عينيها، وغمغمت قائلة: أنت الذي اخترت السفر.

فقال بصوت كالنواح: أنت السبب يا حميدة .. أنت أنت السبب .. أنا والله أحب زقاقنا، وأحمد الله على ما يرزقني به من كفاف. وما أحب أن أنأى عن الحسين الذي أقوم وأقعد باسمه؛ ولكني وا أسفاه لا أستطيع أن أهيئ لك الحياة التي ترضينها، فلم أجد عن السفر مذهبا. وربنا يأخذ بيدي، ويجمعنا على أهنأ حال.

فقالت حميدة بتأثر شديد: سأدعو لك بالتوفيق، وسأزور سيدنا الحسين وأسأله أن يرعاك ويكتب لك النجاح، والصبر طيب، والحركة بركة.

فتنهد من الأعماق وقال: أجل الحركة بركة، ولكن يا ويلي من بلد لا أجد لك فيه ظلا!

فغمغمت برقة: لن تكون هكذا وحدك.

فالتفت نحوها وقد سكر بقولها، ورفع يدها حتى مست قلبه، وهمس: حقا؟!

فابتسمت ابتسامة عذبة لاحت لعينيه الغائمتين على الضوء المنبعث من بعض الدكاكين. وغاب في تلك اللحظة عن كل شيء ما عدا وجهها المحبوب، وسالت هذه الكلمات من بين شفتيه: ما أجملك! ما أرقك! ما أعذبك! هذا هو الحب .. إنه عذب جميل يا حميدة، الدنيا من غيره لا تساوي مليما واحدا.

ولم تدر ماذا تقول؟! فتعوذت بالصمت، وجرت كلماته متناغمة في أذنيها، فأخذتها نشوة الطرب، وودت ألا يسكت أبدا. وكانت حرارة العاطفة قد أذهلته عن وعيه فراح يقول: هذا هو الحب، هو كل ما لنا، فيه الكفاية وفوق الكفاية .. هو في القرب السرور، وفي البعد العزاء، وفي الحياة حياة فوق الحياة.

وسكت لحظة متنهدا، ثم استطرد: أسافر باسمه، وبفضله أعود وقد ربحت كثيرا ...

فتمتمت وهي لا تدري: كثيرا إن شاء الله. - بإذن الله، وببركة الحسين، وسوف يحسدك جميع أولئك الفتيات.

فابتسمت في سرور قائلة: آه .. ما أمتع هذا!

وانطوى الطريق وهما لا يشعران، فضحكا معا في فرح، ثم دارا على عقبيهما. وأحس في العودة أن اللقاء يقترب من نهايته، فعاودته أفكار الوداع والفراق، وخبت كثيرا نشوته، واعتوره الشجن، وعند انتصاف الطريق سألها بلهفة: أين أودعك؟

وأدركت ما يعنيه، وقلقت شفتاها، فقالت متسائلة: هنا؟!

ولكنه اعترض قائلا: لا أستطيع أن أخطف الوداع خطفا. - أين تريد إذا؟ - اسبقيني على البيت وانتظريني على السلم.

وحثت خطاها، وسار هو متمهلا فبلغ الزقاق وقد أغلقت دكاكينه، واتجه نحو بيت الست سنية عفيفي لا يلوي على شيء. وارتقى السلم محاذرا في ظلمة دامسة، كاتما أنفاسه، يدا على الدرابزين، ويدا تتحسس الظلام. وعند «البسطة» الثانية لمست أنامله طرف الملاءة، فخفق قلبه باعثا الشوق الحبيس في أطرافه، وقبض على ذراعها، واقترب منها في رفق، وأحاطها بذراعيه، ثم ضمها إلى صدره بقوة عنيفة تنطلق من صدر حنون مشوق، وهوى إليها بفمه، فوقع على أنفها، ثم هبط على شفتيها، وكانتا منفرجتين لاستقباله، وأخذته سنة من ذهول الحب لم يستيقظ منها حتى تخلصت من ذراعيه بلطف، ومضت مصعدة وهو يهمس وراءها «مع السلامة.» لم يبلغ بها الانفعال يوما ما بلغه هذا المساء على السلم؛ حيث في دقيقة قصيرة حياة طويلة مفعمة بالإحساس والعاطفة والحرارة، وحسبت أن حياتها قد ارتبطت به إلى الأبد. •••

وزار عباس الحلو أم حميدة تلك الليلة، مودعا .. ثم مضى إلى القهوة ومعه صديقه حسين كرشة ليمضي آخر سهرة فيها قبل سفره. وكان حسين يبدو مسرورا ظافرا لانتصار رأيه، وجعل يقول لصاحبه بصوته الذي ينم عن التحدي لسبب ولغير ما سبب: ودع هذه الحياة القذرة واستمتع بالحياة الحقيقية.

فابتسم الحلو صامتا، وقد أخفى عن صاحبه الكآبة القابضة على قلبه لفراق الزقاق الذي يحبه، والفتاة التي يهيم بها. وجلس بين رفاقه يعاني أشواقه المكتومة، ويتلقى كلمات التوديع وما تحمل من جميل الدعاء. وقد باركه السيد رضوان الحسيني ودعا له طويلا، وقال له ناصحا: اقتصد ما يفيض عن حاجتك من مرتبك، واحذر الإسراف والخمر ولحم الخنزير، ولا تنس أنك من المدق، وأنك إلى المدق راجع.

وقال له الدكتور بوشي ضاحكا: ستعود إلينا إن شاء الله من الموسرين، ولا بد عند ذاك من خلع أسنانك المسوسة هذه وتركيب طقم ذهبي يليق بالمقام.

فابتسم الحلو، وكان يشعر نحو الدكتور بامتنان؛ لأنه هو الذي أسفر بينه وبين أم حميدة، ولأنه هو أيضا الذي باع له أدوات صالونه بثمن لا بأس به كي ينتفع به في سفره. وكان عم كامل واجما ساهما، يحز الفراق الوشيك في فؤاده، ولا يدري كيف يلقى غدا الوحشة والوحدة، بعد أن يذهب الشاب الذي شاطره العيش أعواما طويلة، والذي أحبه كأنه فلذة كبده. وكان كلما أثنى أحد على الحلو أو توجع لفراقه اغرورقت عيناه حتى ضحكوا منه جميعا.

وقرأ الشيخ درويش على رأسه آية الكرسي وقال له: أصبحت الآن من المتطوعين في الجيوش البريطانية، وإذا أظهرت بسالة فليس بعيدا أن يقطعك ملك الإنجليز مملكة صغيرة ينصبك عليها نائب ملك، ومعناه بالإنجليزية

Viccroy

وتهجيتها:

V i c c r o y . •••

وفي الصباح الباكر غادر الحلو البيت حاملا بقجة ثيابه، كان الجو باردا شديد الرطوبة، ولم يكن أحد من أهل الزقاق قد استيقظ إلا الفرانة وسنقر صبي القهوة، ورفع الشاب رأسه إلى النافذة المحبوبة فوجدها مغلقة، فودعها بنظرة عطف وحنان أذابت الطل على خصاصها. وسار متمهلا مطرقا حتى بلغ باب دكانه فألقى عليها نظرة أخرى متنهدا، وعلق بصره بلافتة ثبتت على الباب قد كتب عليها بخط كبير «للإيجار»، فانقبض صدره وأوشكت عيناه أن تدمعا.

وحث خطاه كأنما ليفر من عواطفه، فما إن ترك الزقاق وراء ظهره حتى شعر بأن قلبه يفارقه إليه.

14

كان حسين كرشة الذي أغرى عباس الحلو بالخدمة في الجيش البريطاني. ولما أن سافر الشاب إلى التل الكبير، وخلا منه الزقاق - حتى دكانه اشتراها حلاق عجوز - جن حسين جنونا واجتاحته ثورة عنيفة تفور مقتا للزقاق وأهله. أجل كان من زمن بعيد يعلن كراهيته للزقاق وأهله، ويتطلع لحياة جديدة، ولكنه لم يستبن سبيله، ولم يعزم عزمة صادقة على تحقيق أحلامه، حتى ذهب الحلو، فجن جنونه. وكأنما كبر عليه أن يجدد الحلو حياته وينأى بنفسه عن الزقاق القذر، وهو باق فيه لا يدري كيف يتخلص منه، فأجمع عزمه على تجديد حياته مهما كلفه الأمر. وبفظاظته المعهودة قال لأمه يوما وقد امتلأ بعزمه حتى فاض عنه: أصغي إلي، لقد عزمت عزما لا رجعة فيه، فهذه حياة لا تطاق ولا داعي مطلقا لتحملها قسرا!

وكانت المرأة آلفة سخطه، معتادة سماع سبابه للزقاق وأهله، وكانت تراه - كأبيه - سفيها لا يصح أن تحتفي بهذيانه، فسكتت عنه وهي تغمغم: اللهم تب علي من هذه الحياة!

ولكن حسين عاد يقول وقد تطاير الشرر من عينيه الصغيرتين واربد وجهه الضارب للسواد: هذه الحياة لا تطاق، ولن أحتملها بعد اليوم!

ولم يكن في وسعها أن تلزم الصمت طويلا حيال هياج أحد، فنفد صبرها الرقيق وصاحت به بصوت دل على أن صوته متوارث عنها: ما لك؟! ما لك يابن اللئيم؟

فقال الشاب بازدراء: لا بد من هجر هذا الزقاق.

فحدجته بحنق، وانتهرته قائلة: أجننت يابن المجنون؟!

فشبك ذراعيه على صدره وقال: بل ثبت إلى رشدي بعد جنون طويل. افهميني جيدا، فلست ألقي القول على عواهنه، ولكني أعني ما أقول، ولقد جمعت ثيابي في البقجة ولم يبق الآن إلا أن أستودعك الله .. بيت قذر .. زقاق نتن، أناس بهائم!

وحدجته بنظرة متفحصة لتقرأ عينيه، فخبلها عزمه المتوثب وصاحت به: ماذا تقول؟

فعاد يقول وكأنه يخاطب نفسه: بيت قذر، زقاق نتن، أناس بهائم.

فهزت رأسها ساخرة وقالت: مرحبا بك يابن الأماثل! يابن كرشة باشا ! - كرشة قطران .. كرشة المشبوه .. أف أف، ألم تعلمي بأن فضيحتنا زكمت الأنوف جميعا؟! .. يغمزونني في كل مكان، يقولون: هربت أخته مع واحد، وسيهرب أبوه مع واحد آخر! وضرب الأرض بقدمه حتى طقطق زجاج النافذة وصرخ غاضبا: ماذا يضطرني إلى البقاء في هذه الحياة؟ سأحمل ثيابي وأذهب إلى غير رجعة.

وضربت المرأة صدرها بيدها وقالت: جننت والله، أورثك الحشاش جنونه؛ ولكني سأدعوه ليردك إلى عقلك.

فصاح حسين باستهانة: ادعيه .. نادي أبي، نادي الحسين نفسه! أنا ذاهب .. ذاهب .. ذاهب.

ولما وجدته المرأة جادا معاندا، ذهبت إلى حجرته فرأت البقجة منتفخة بالثياب كما قال، فتولاها القنوط، وصممت على إحضار أبيه مهما تكن العواقب. كان حسين عزاءها الوحيد في حياتها، ولم تكن تتصور أن يهجر البيت ويتركها كالوحيدة، ولم تستطع مغالبة قنوطها، وأرسلت في طلب أبيه وهي تصيح نادبة حظها: «علام يحسدوننا؟ .. على خيبتنا القوية! .. على فضائحنا! .. على شقائنا!» وجاء المعلم كرشة بعد قليل مكشرا عن أنيابه، وانتهرها قائلا: ماذا تريدين؟ فضيحة جديدة؟ زبون جديد رأيتني أقدم له الشاي!

فقالت المرأة ملوحة بيدها كالنادبة: فضيحة ابنك! أدركه قبل أن يهجرنا، فقد ضاق بنا ذرعا!

فضرب المعلم كفا بكف وقال وهو يهز رأسه مغيظا محنقا: أمن أجل هذا أترك عملي يا هوه! .. أمن أجل هذا أصعد مائة درجة؟ آه يا أولاد الكلب، لماذا تعاقب الحكومة على قتل أمثالكم؟!

وجعل يردد بصره بين الأم وابنها واستطرد قائلا: ربنا ابتلاني بكما ليقتص مني، ما هذا الذي تقوله أمك؟

ولزم حسين الصمت. وراحت أمه تقول بهدوء ما وسعها الصبر: هدئ روعك يا معلم، فهذه ساعة تحتاج لحكمتك لا لغضبك، لقد جمع ثيابه في بقجة، ونوى مغادرتنا.

فسدد نحوه نظرة حقد وغضب، وهو بين مصدق ومكذب، وقال كالمتسائل: جننت يابن القديمة!

وكانت أعصاب المرأة متوترة فلم تملك أن صاحت به: دعوتك لتعقله، لا لتشتمني.

فالتفت نحوها غاضبا وهو يقول: لولا جنونك الموروث لما شب ابنك مجنونا. - الله يسامحك، أنا مجنونة بنت مجانين، فدعنا من هذا، واسأله عما خالط عقله ؟!

وحدج ابنه بنظرة قاسية، وسأله بصوت كالزئير وقد تناثر ريقه: ما لك لا تتكلم يابن القديمة! هل تروم حقا مغادرتنا؟

وكان الفتى يتحامى أباه عادة، ولا يصطدم به إلا إذا ضاقت به السبل؛ ولكنه كان قد عزم عزما صادقا على نبذ ماضيه مهما كلفه الأمر، فلم يتردد ولم يتراجع، خصوصا أنه كان يرى مسألة إقامته في البيت أو مغادرته من صميم حقه الذي لا ينازعه فيه منازع، فقال بهدوء وعزم معا: نعم يا أبي.

فسأله الرجل وهو يعاني خناق غيظه: ولماذا؟

فتفكر الشاب قليلا ثم قال: أريد أن أحيا حياة أخرى.

فقبض الرجل على ذقنه، وهز رأسه ساخرا وقال: فهمت .. فهمت .. تريد حياة أخرى تناسب المقام! لأن كلبا مثلك نشأ محروما جائعا، يجن إذا امتلأ جيبه، وأنت الآن صاحب قرش إنجليزي، فمن الطبيعي أن ترتاد حياة أخرى تليق بمقامك العالي يابن قنصل الأوز!

فكظم حسين غيظه وقال: لم أكن كلبا جائعا قط؛ لأني نشأت في بيتك، وبيتك لم يعرف الجوع أبدا والحمد لله، وكل ما في الأمر أني أريد أن أغير حياتي، وهذا حقي لا مراء فيه، ولا داعي مطلقا لغضبك وسخطك.

ولم يفهم المعلم مراده، كان الشاب يتمتع بحرية مطلقة، فلا يسأل عما يفعل، فلماذا يريد أن ينشئ لنفسه بيتا خاصا؟ وكان المعلم، على رغم ما يقوم بينهما من أسباب الشقاق والملاحاة والخصام، يحبه؛ ولكنه حب لم يظفر قط بالجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه، وغشيته دائما غواشي الغيظ والحنق والسباب، ولطالما نسي كثيرا أنه يحب ابنه الوحيد. وحتى في هذه الساعة والفتى ينذره بهجره غاب حبه وإشفاقه تحت ستار الغضب والحنق، وتمثل له الأمر تحديا وعراكا، ولذلك سأله في تهكم مر: نقودك في جيبك، تنفقها كما تشاء وينعم بها الخمارون والحشاشون والقوادون، هل سألناك مليما؟ - أبدا .. أبدا، أنا لا أشكو هذا مطلقا.

فتساءل المعلم بنفس اللهجة المرة: أمك الجشعة ذات العينين اللتين لا يشبعهما إلا التراب، هل أخذت منك مليما؟

فقطب حسين ضجرا وقال: قلت: إني لا أشكو هذا، كل ما في الأمر أني أريد حياة غير هذه الحياة، إن كثيرين من زملائي يقطنون في بيوت فيها الكهرباء! - الكهرباء! أمن أجل الكهرباء تترك بيتك؟! .. الحمد لله على أن أمك بفضائحها قد جعلت بيتنا أحمى من الكهرباء.

وهنا خرجت المرأة عن صمتها مولولة: مظلومة والله يا ربي ظلم الحسن والحسين.

واستدرك حسين قائلا: إن زملائي جميعا يحيون حياة جديدة، وقد انقلبوا جميعا جنتلمان كما يقول الإنجليز.

ففغر المعلم فاه، فانفرجت شفتاه الغليظتان عن أسنانه الذهبية وقال: ماذا تقول؟

فلزم الفتى الصمت مقطبا، واستدرك المعلم: جلمان؟! ما هذا؟ .. صنف حشيش جديد؟!

فقال حسين متذمرا: أعني رجلا نظيفا. - ولكنك وسخ، فكيف تريد أن تكون نظيفا .. يا جلمان!

وضاق حسين بتهكم أبيه فقال منفعلا: أبي، أريد أن أحيا حياة جديدة، هذا كل ما هنالك، وسأتزوج من بنت ناس! - بنت جلمان! - بنت ناس طيبين. - ولماذا لا تتزوج بنت كلب كما فعل أبوك؟!

فتأوهت أم حسين قائلة: الله يرحمك يا أبي، كنت فقيها وقورا.

فالتفت نحوها بوجهه المربد وقال: فقيه! .. كان قارئ قبور، يتلو السورة بمليمين!

فقالت المرأة متوجعة: كان يحفظ كلام الله وكفى!

تحول عنها المعلم واقترب خطوات فصار من ابنه على بعد ذراع، وسأله بصوت مخيف: حسبنا كلاما، فليس لدي من وقت أضيعه بين مجانين، أتريد حقا أن تترك هذا البيت؟!

فلم حسين أطراف شجاعته وقال باقتضاب: نعم.

فأدام المعلم النظر إليه مليا، ثم ثارت ثائرته بغتة، فضربه براحته على وجهه. ولم يستطع الفتى أن يتفادى الضربة العنيفة فتلقاها بحنق جنوني، وابتعد عن الرجل وهو يصيح: لا تضربني، لا تمسسني، لن تراني بعد اليوم.

وهجم الرجل عليه فحالت دونه المرأة القانطة، وتلقت لكماته على صدرها ووجهها، حتى كف الرجل وهو يصرخ: اغرب عني بوجهك الأسود! ولا تعد أبدا، سأفرض أنك مت واندلقت في الجحيم.

جرى الفتى إلى حجرته، وتناول البقجة، ونزل السلم وثبا، وقطع الزقاق لا يلوي على شيء، وقبل أن يعدل إلى الصنادقية بصق عليه، وهتف بصوت مرتعش من الحنق: غر .. انجحر، لعنة الله عليك وعلى أهلك.

15

سمعت الست سنية عفيفي طرقا على الباب ففتحته، فرأت - في فرح لا يوصف - وجه أم حميدة يطالعها بصفحته المجدورة، وهتفت من الأعماق: أهلا وسهلا بالحبيبة.

وتعانقتا عناقا حارا - أو هكذا بدا على الأقل - وقادتها إلى حجرة الاستقبال وهي تأمر الخادم بصنع القهوة، وجلستا على كنبة متلاصقتين، واستخرجت من علبة سيجارتين، وجعلتا تدخنان في انبساط وسرور. وكانت الست سنية تكابد آلام الترقب والانتظار مذ وعدت أم حميدة بالبحث لها عن زوج. ومن عجب أنها صبرت على العزوبة أعواما طوالا، ولكنها لم تستطع مع فترة الانتظار - على قصرها - صبرا. واعتادت في هذه الفترة أن تتردد على زيارة أم حميدة دون انقطاع طويل، والمرأة لا يخفى عليها من أمرها شيء، وما انفكت تعدها وتمنيها، حتى أيقنت الست سنية أن المرأة تسوف وتماطل حتى تظفر منها بأكبر نفع مرجو. ومع ذلك كانت معها جوادة كريمة، فأعفتها من دفع إيجار الشقة، وتنازلت لها عن عدد من كوبونات الكيروسين، ونصيبها من الأقمشة الشعبية، غير صينية بسبوسة كلفت عم كامل بصنعها لها. ثم آذنتها المرأة بخطبة عباس الحلو لابنتها حميدة! وتظاهرت الست سنية بالسرور، ولكن الخبر وقع من نفسها موقعا مقلقا، وتساءلت: ترى هل تضطر إلى المساهمة في تجهيز الفتاة لعرسها قبل أن تجهز نفسها؟! هكذا تنازعها الخوف من أم حميدة والتودد إليها طوال فترة الانتظار. وقد جلست لصقها تسترق إليها النظر بين آونة وأخرى متسائلة عما عسى تتمخض عنه زيارتها هذه: وعود وأماني كالعادة، أم البشرى التي يتلهف قلبها عليها؟! وراحت تداري اضطرابها بشجون الحديث، فكانت - على غير المألوف - المحدثة، وأم حميدة المنصتة. تكلمت عن فضيحة المعلم كرشة، ومغادرة ابنه حسين لبيته، وانتقدت أم حسين في تصرفاتها الفاضحة التي تحاول بها تقويم سلوك زوجها الشاذ، ثم تدرج الحديث إلى عباس الحلو، فأثنت عليه قائلة: أنعم به من شاب طيب! سيفتح الله عليه ويرزقه، ويمكنه من تهيئة الحياة السعيدة لعروسه التي تستأهل كل خير.

وابتسمت أم حميدة عند ذاك وقالت: الشيء بالشيء يذكر، اعلمي أني حاضرة اليوم لأخطبك يا عروس!

وخفق فؤادها بعنف، وذكرت كيف حدثها قلبها بأن زيارة اليوم خطيرة، وبأن المرأة تطوي صدرها على سر تضن به إلى حين، وتورد وجهها، وجرى في عوده الذابل ماء شباب، ولكنها تمالكت نفسها وقالت في حياء مصطنع: واخجلتاه! ماذا تقولين يا ست أم حميدة؟!

فقالت المرأة وقد افتر ثغرها عن ابتسامة ظفر وارتياح: أقول إني حاضرة لأخطبك يا ست الناس! - حقا! يا له من أمر خطير! أجل أذكر ما تم الاتفاق عليه، ولكن لا يسعني إلا أن أضطرب، وأن أخجل أيضا، واخجلتاه!

فجارتها أم حميدة في تمثيلها وقالت محتجة: حاشا الله أن تخجلي لغير ما عيب أو نقيصة، ولكنك تتزوجين على شرع الله وسنة الرسول.

فتنهدت الست سنية تنهد من يدفع إلى التسليم على غير إرادته، وقد رن قول الأخرى لها «ستتزوجين» رنينا حلوا محبوبا في أذنيها. أما أم حميدة فقد أخذت نفسا طويلا من سيجارتها، وهزت رأسها هزة الثقة والاطمئنان وقالت: موظف.

ودهشت الست سنية، ونظرت إلى محدثتها بعينين لا تكادان تصدقان .. موظف! إن الموظف فاكهة محرمة على زقاق المدق! وتساءلت قائلة: موظف؟ - أي نعم، موظف! - في الحكومة؟!

وسكتت أم حميدة هنيهة لتستمتع بظفرها، ثم استطردت: في الحكومة، وفي قسم البوليس بالذات.

فازداد عجب الست وقالت متسائلة: وماذا يوجد في القسم غير الضابط والعساكر؟!

فرمقتها المرأة بنظرة عارف لجاهل وقالت: يوجد موظفون أيضا .. اسأليني أنا .. أنا أعرف الحكومة والوظائف والدرجات والعلاوات .. هذه مهنتي يا ست!

فقالت الست سنية بدهشة يخالطها سرور لا يصدق: هو أفندي إذا! - أفندي بسترة وبنطلون وطربوش وحذاء! - الله يشرف قدرك يا ست أم حميدة. - إني أختار الطيب للطيب، وأعرف لكل إنسان قدره، ولو كان في أقل من الدرجة التاسعة ما وقع اختياري عليه.

فتمتمت الست سنية متسائلة: الدرجة التاسعة؟ - الحكومة درجات، ولكل موظف درجة، والتاسعة إحدى هذه الدرجات؛ ولكنها درجة ولا كل الدرجات يا حبيبتي!

فقالت الست وعيناها تتألقان سرورا: دمت من صديقة محبة عزيزة!

فاستدركت أم حميدة تقول بصوتها الواشي بالظفر والثقة: يجلس إلى مكتب كبير، تتكدس عليه الملفات والأوراق للسقف، والقهوة داخلة خارجة، هذا يرجوه وهذا يسأله، وهو ينهر هذا ويشتم ذاك، العساكر تحييه، والضباط تحترمه.

فابتسمت الست سنية، ولاحت في عينيها نظرة أحلام، وواصلت أم حميدة الحديث قائلة: مرتبه عشرة جنيهات لا تنقص مليما.

وصدقتها الست سنية فهتفت قائلة: عشرة جنيهات!

فقالت المرأة ببساطة: هذا قليل من كثير، وما مرتب الموظف إلا بعض رزقه، وبالحذق والشطارة يستطيع أن يربح أضعافه، ولا تنسي علاوة الغلاء، وعلاوة الزواج، ثم علاوة الأطفال.

فضحكت الست ضحكة عصبية وصاحت: سامحك الله يا ست أم حميدة، ما لي أنا والأطفال؟! - ربك قادر على كل شيء. - نحمده ونشكر فضله على أي حال. - أما عمره فثلاثون عاما.

فصاحت الست في إنكار: رباه! أكبره بعشرة أعوام!

ولم يخف على المرأة أنها تناست عشرة أعوام من عمرها، ولكنها قالت في لهجة تنم عن العتاب: لا زلت شابة يا ست سنية! ومع ذلك فقد صارحته بأنك في الأربعين ووافق مسرورا. - أرضي حقا؟! .. ما اسمه؟! - أحمد أفندي طلبة، من أهل الخرنفش، وابن الحاج طلبة عيسى صاحب المقلة بأم الغلام، أسرة طيبة تنحدر من صلب سيدنا الحسين. - أسرة طيبة حقا، وأنا شريفة أيضا كما تعلمين يا ست أم حميدة. - أعلم هذا يا حبيبتي، وهو لا يتحرى إلا الأخلاق الطيبة، ولولا هذا لتزوج من عهد طويل، ولكنه يزدري بنات اليوم وينقم عليهن قلة الحياء، ولما أن حدثته عن أخلاقك واحتشامك، وقلت له: إنك سيدة شريفة وصاحبة قرش، سر سرورا لا مزيد عليه، وقال لي: هذه طلبتي، بيد أنه سألني شيئا واحدا لا يخرج عن حدود الأدب، وهو أن يرى صورتك!

فتورد الوجه النحيل، وقالت بإشفاق: والله ما صورت منذ أمد بعيد! - أليس لديك صورة قديمة؟

فأومأت الست إلى صورة على منضدة وسط الحجرة دون أن تنبس بكلمة، فانحنت المرأة قليلا وتناولتها بيدها ونظرت فيها متفحصة. كانت صورة يرجع تاريخها إلى ما قبل ستة أعوام، وكانت صاحبتها وقتذاك على شيء من الامتلاء والحياة، فرددت المرأة بصرها بين الصورة والأصل، ثم قالت جازمة: طبق الأصل، كأنها صورت بالأمس القريب.

فتهدج صوت المرأة وهي تقول: الله يحلي دنياك.

وأودعت جيبها الصورة بإطارها، وأشعلت سيجارة أخرى قدمت لها، ثم قالت بلهجة رزينة: ولقد تحدثنا طويلا فعرفت أمورا عما في مرجوه.

ولحظتها الست بنظرة حذرة لأول مرة، وانتظرت أن تواصل حديثها، فلما أن طال الصمت، سألتها مبتسمة ابتسامة باهتة: ترى ماذا في مرجوه؟

أتجهل حقا أم تظنه يريد الزواج منها حبا في سواد عينيها؟ واغتاظت المرأة قليلا؛ بيد أنها قالت بهدوء وبصوت منخفض قليلا: أظن ليس لديك مانع من إعداد جهازك بنفسك؟!

وفهمت الست سنية المقصود لأول وهلة، فالرجل لا يريد أن يدفع صداقا، ويرغب ولا شك في أن يترك لها وحدها عبء الجهاز، ولم يكن ذلك ليغيب عنها من أول الأمر، منذ تملكتها الرغبة في الزواج. وسبق أن لمحت أم حميدة إلى هذا في ثنايا أحاديثها، فلم تفكر قط في الاعتراض عليها. فقالت بلهجة تنم عن التسليم: ربنا المعين.

فابتسمت أم حميدة وقالت: نسأل الله التوفيق والسعادة.

ونهضت المرأة تريد الانصراف، فتعانقتا عناقا حارا، وسارت الست في توديعها حتى الباب الخارجي، ووقفت مرتفقة الدرابزين، وأم حميدة تنزل السلم إلى شقتها، وقبل أن تغيب عن ناظريها هتفت بها: مع ألف سلامة، قبلي عني حميدة.

ثم عادت إلى حجرتها بقلب فتي، ابتعث حرارته الأمل الجديد. وجلست تستعيد ما قالت أم حميدة جملة جملة وكلمة كلمة. كانت الست سنية على شيء من الحرص؛ ولكنه ليس الحرص الذي يقف عثرة في سبيل سعادتها. أجل فطالما آنس المال وحدتها، سواء ذاك الذي تحفظه في صندوق التوفير، أو هذا الذي تتملاه رزما جديدة بديعة في صندوقها العاجي، ولكن لا هذا ولا ذاك بمغن عن الرجل الخطير الذي سيصبح بإذن الله بعلا لها. ولكن هل تعجبه الصورة؟ وتورد وجهها حتى أحست بحرارة دمها تلفح جبينها، ونهضت إلى المرآة تعاين صورتها، وجعلت تحرك وجهها يمنة ويسرة حتى تراءى لعينيها أحسن الأوضاع فثبتته عليه، وأنعمت في الصورة النظر، ولاح في وجهها شيء من الرضا، وغمغمت برجاء: «ربنا يستر»، ثم عادت إلى جلستها وهي تقول: «المال يغطي العيوب.» ألم تقل له المرأة: إنها صاحبة قرش؟! وإنها لكذلك. وليست الخمسون بسن اليأس، فلا يزال أمامها عشرة أعوام، وكم من امرأة في الستين تستطيع أن تتمتع بالسعادة إذا كفاها الله شر الأمراض. والزواج كفيل بري العود الذابل، وبعث الجسد الخامد. هكذا سرحت مع أفكارها الوردية حتى اعترض تيارها الصافي زبد متلبد، فقطبت فجأة، وتساءلت مغيظة: ترى ماذا يقول الناس غدا؟ آه، إنها تعرفهم حق المعرفة، وستكون أم حميدة نفسها في طليعة المتقولين؛ سيقولون: لقد جنت الست سنية، ويقولون: امرأة في الخمسين تتزوج من ابن في الثلاثين، وسوف يتحدثون طويلا عن المال الذي يصلح ما أفسد الدهر، وربما قالوا غير هذا وذاك كثيرا مما لا يخطر لها ببال. فليقولوا ما شاء لهم القول. وهل كانوا أعتقوها من شر ألسنتهم وهي أرملة؟! وهزت الست كتفيها استهانة، ثم دعت ربها من الأعماق قائلة: اللهم احفظني من شر العين!

ثم خطر لها خاطر سرعان ما رحبت به، وصدقت نيتها على تنفيذه، وهو أن تذهب إلى الشيخة رباح بالباب الأخضر تستقرئها الطالع، وتستوهبها بعض الرقى، فما أحوجها في حالتها هذه إلى حجاب مفيد أو بخور نافع.

16 - ماذا أرى؟! إنك لرجل وقور!

قال زيطة ذلك وهو يتفرس وجه رجل عجوز منتصب القامة، يمثل بين يديه في خضوع واستكانة .. كان رث الجلباب، نحيل الجسد، ولكنه ذو مظهر وقور كما قال صانع العاهات، كبير الرأس أبيض الشعر، مستطيل الوجه، له عينان هادئتان خاشعتان، كأنه لوقاره وطول قامته واعتدالها من رجال الجيش المتقاعدين. وراح زيطة يتفحصه بدهشة وأناة على ضوء المصباح الخافت، ثم عاد يقول: إنك لرجل وقور، أترغب في امتهان الشحاذة حقا؟!

فقال الرجل بصوت هادئ النبرات: أنا شحاذ بالفعل؛ ولكني غير موفق.

فتنحنح زيطة، وبصق على الأرض ومسح شفتيه بكم جلبابه الأسود، وقال: إنك أرق من أن تحتمل أي ضغط شديد على أعضائك. والحق أنه لا يصح التقدم لاتخاذ عاهة كاذبة بعد العشرين، فالعاهة الكاذبة والصادقة سواء فيما تقتضيه من عناء! وكلما كان العظم طريا ضمن الشحاذ عاهة في حكم المستديمة حقا، وأنت شيخ كبير على عتبة الفناء، فما عسى أن أصنع بك؟

ومضى يفكر. وكان إذا اعتراه الفكر فغر فاه وأرعش لسانه، فلاح في فمه كرأس أفعى، ثم ومضت عيناه البراقتان بغتة وصاح: الوقار أنفس عاهة!

فسأله الرجل متحيرا: ماذا تعني يا أستاذ؟!

فانكفأ وجه زيطة غضبا وصاح به محتدا: أستاذ؟! أسمعتني أقرأ على القبور؟

فدهم غضبه الرجل، وبسط راحتيه مستعطفا وقال بصوت منكسر: معاذ الله .. ما قصدت إلا تبجيلك.

فبصق زيطة مرتين وقال منفعلا في زهو وعجب: إن عملي ليعجز أعظم أطباء البلد لو حاولوه. ألا تعلم أن إحداث عاهة كاذبة أشق من إحداث عاهة حقيقية ألف مرة؟ .. إن عاهة حقيقية لا تستقضيني أكثر من أن أبصق على وجهك.

فقال الرجل بأدب جم: لا تؤاخذني يا سيدي، إن الله غفور رحيم.

وسكت الغضب عن زيطة، وحدج الرجل بنظرة حادة، ثم قال بصوت لم تمح منه بعض آثار الحدة: قلت: إن الوقار أنفس عاهة. - كيف يا سيدي؟ - الوقار كفيل بأن يكتب لك النجاح كشحاذ نادر المثال. - الوقار يا سيدي؟!

فمد زيطة يده إلى كوز على الرف، واستخرج منه نصف سيجارة، ثم أعاده إلى موضعه، وأشعلها من فوهة زجاجة المصباح، وأخذ نفسا طويلا وهو يضيق عينيه البراقتين، وقال بهدوء: ليست العاهة بمطلبك، بل أنت في حاجة إلى مزيد من التحسين والتجميل. اغسل جلبابك جيدا، واحصل بأية طريقة على طربوش نصف عمر، وامش بقامتك المعتدلة هذه في خشوع وأدب، واقترب في إشفاق من رواد المقاهي، ثم قف في حياء، ومد يدك في تألم دون أن تنبس بكلمة، وتكلم بعينيك .. ألا تعرف لغة الأعين؟ .. ستحدق فيك العيون بدهشة، سيقولون: عزيز قوم ذل، ويقولون: محال أن يكون هذا من أولئك الشحاذين المحترفين. أفهمت الآن ما أريد؟ ستربح بوقارك أضعاف ما يربحه الآخرون بعاهاتهم.

وأمره أن يقوم بتجربة لدوره الجديد، ووقف يراقبه مدخنا سيجارته، وتفكر قليلا ثم قال مقطبا: ربما سولت لك نفسك أن تأكل أجري بحجة أني لم أصنع لك عاهة تستحق الأجر، وأنت حر تفعل ما تشاء، على شرط أن تولي وجهك وجهة غير حي الحسين العامر.

فتعوذ الرجل في إنكار وقال متألما: حاشاي أن أخون صاحب الفضل علي.

وانتهت المقابلة عند ذاك، فسار زيطة بين يدي الرجل ليدله على الطريق، ووصله حتى الباب الخارجي للفرن، وفي أثناء عودته لاحظ أن المعلمة حسنية متربعة على حصيرة بمفردها، وليس لجعدة من أثر، وكان من عادته إذا التقى بها أن يخلق سببا لمبادلتها كلمة أو كلمتين، توددا إليها، وإفصاحا عن إعجابه الكمين، فقال لها: أرأيت هذا الرجل؟

فقالت المعلمة حسنية بغير مبالاة: طالب عاهة، أليس كذلك؟

فضحك زيطة وراح يقص عليها قصته، والمرأة تضحك وتلعنه على شيطنته، ثم اتجه نحو الباب الخشبي القصير الذي يؤدي إلى مأواه، وتردد على عتبته لحظة ثم سألها: أين جعدة؟

فأجابته المرأة: في الحمام.

وظن الرجل لأول وهلة أنها تسخر منه لقذارته المعروفة، فرمقها بحذر؛ ولكنه وجدها جادة، فأدرك أن جعدة قد ذهب إلى حمام الجمالية، وهو ما يفعله مرتين في العام، وأنه لن يعود قبل منتصف الليل على وجه التقريب، فحدثته نفسه بأن يجالس المعلمة قليلا، متشجعا بما أثارته قصته من سرور. وجلس على عتبة بابه مستندا إلى مصراع الباب، مادا ساقيه كعمودين رقيقين من الفحم، غير عابئ بما أحدثه جلوسه من دهشة وإنكار لاحت آياتهما في عينيها. وكانت المرأة تعامله كما يعامله بقية أهل الزقاق، غير كلمات يتبادلانها في ذهابه أو إيابه، بوصفها مالكة مأواه. ولم تكن تشك في أن علاقته بها تنقطع عند هذا الحد، ولم يدر لها بخلد أنه يطلع على الكثير من دخائل حياتها ودقائقها. ولكن مخلوقا كزيطة لا يعدم أن يجد منفذا في الجدار بينه وبين الفرن يطلع منه على ما يروي غلته المتطفلة، وأحلامه البهيمية، فصار وكأنه واحد من هذه الأسرة، يشهد عملها وراحتها، ويلذه، بوجه خاص، أن يرى المعلمة وهي تكيل الضرب لبعلها لأقل هفوة، وما أكثر هفوات جعدة التي يقع فيها كل يوم ويعاقب عليها كل يوم، حتى بات الضرب من غذائه اليومي، يتلقاه تارة في تصبر وتجلد، وتارة في بكاء وصراخ وعواء. وهو لا يفتأ يحرق بعض الأرغفة في أثناء خبزها، أو يسرق البعض الآخر ليلتهمه خفية فيما بين الوجبات، أو يبتاع بسبوسة بنصف قرش من أجر الخبز الذي يحصله من البيوت، ولا يتورع عن ارتكاب هذه الجرائم يوما بعد يوم، دون توفيق في طمس معالمها، ولا قدرة على منع عقوباتها الصارمة. وكان زيطة يعجب لخنوع الرجل وجبنه وعتهه. وأعجب من هذا أنه - زيطة - كان يستقبحه ويهزأ بصورته! كان جعدة طويل القامة لحد مفرط، طويل الذراعين، ممطوط الفك الأسفل، غائر العينين، غليظ الشفتين. ولطالما حقد عليه زيطة تمتعه بهذه الزوجة الهائلة التي يرمقها بعين الإعجاب والرغبة، ولذلك مقته واحتقره، وتمنى لو يستطيع قذفه داخل الفرن مع العجين والصواني. ولذلك أيضا سره أن يجد في غياب الحيوان فرصة ليجالس المعلمة قليلا، فجلس ومد ساقيه، غير عابئ بما يحدثه جلوسه من دهشة وإنكار. ولم تتردد المعلمة حسنية بجرأتها المعهودة أن سألته بجفاء بصوت غليظ: ما لك جلست هكذا؟!

فقال زيطة لنفسه: «اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا.» ثم قال لها بلطف وتودد: أنا ضيف يا معلمة، والضيف لا يهان.

فقالت بتقزز: ولماذا لا تنجحر وتريحني من وجهك؟

فقال زيطة برقة مبتسما عن أنيابه الوحشية: لا يمكن أن يقضي الإنسان حياته كلها بين الشحاذين والقاذورات والديدان، ولا مفر من أن يتطلع لمنظر أبهج وأناس أفضل.

فانتهرته بعنف قائلة: يعني لا مفر من أن يؤذي الناس بمنظره الكريه ورائحته الخبيثة! .. أف .. أف .. انجحر وأغلق الباب وراءك!

فقال زيطة بخبث: ومع ذلك فعسى أن توجد مناظر أفظع وروائح أخبث.

وأدركت المعلمة أنه يلمح إلى زوجها، فاربد وجهها وقالت بلهجة تنم عن الوعيد: ماذا تعني يا أخا الديدان؟!

فقال الرجل ولم تكن تعوزه الجرأة: أخونا الفاضل جعدة .

فصاحت به بصوت مخيف: حذار يابن اللئيمة .. لو بلغتك يدي شطرتك اثنين.

ولم يتعام الرجل عن الخطر الماثل أمامه فقال مستعطفا: قلت: إني ضيف يا معلمة، والضيف لا يهان. ثم إني لم أعرض بجعدة إلا بعد أن ثبت لي ازدراؤك له، وانهيالك عليه بالضرب لأتفه الأسباب. - جعدة هذا ظفره برقبتك!

فقال زيطة محتجا: ظفرك أنت بألف رقبة كرقبتي؛ أما جعدة ... - أتحسب أنك خير من جعدة؟!

فلاح الانزعاج في وجه زيطة وفغر فاه دهشة، لا لأنه - في حسبانه - خير من جعدة فحسب؛ ولكن لأنه كان يعتقد أن مجرد مقارنته به سبة لا تغتفر، فأين هذا الحيوان الأعجم من شخص مقتدر مثله، يعد بحق ملكا على دنيا برمتها أيا كانت هذه الدنيا؟ وسألها بدهشة: ماذا ترين أنت يا معلمة؟

فقالت حسنية بتحد وازدراء: أرى أن ظفره برقبتك. - هذا الحيوان؟!

فهتفت بصوت فظ: هذا رجل ولا كل الرجال يا وجه العفريت. - هذا المخلوق الذي تعاملينه كما تعامل الكلاب الضالة؟

وأدركت المرأة في كلامه حنقا وغيرة، فراقها ذلك على انفعالها، وعدلت عن ضربه بعد أن حدثتها نفسها به، وراحت تقول كأنما لتضاعف حنقه وغيرته: هذا شيء لا تفهمه، وما أجدر أن تموت حسرة على لكمة مما يصيبه.

فقال زيطة حانقا: لعل الضرب شرف لا أدركه! - شرف لا تطمح إليه يا عشير الديدان.

وتفكر زيطة مليا، ترى هل تطيب لها معاشرة هذا الحيوان حقا؟ وقد طالما طرح هذا السؤال على نفسه، ولكنه كان يأبى أن يصدق هذا. إن المرأة لا تملك أن تقول غير ما قالت، ولكنها تبطن شيئا آخر بلا جدال. ورمق بنيانها الضخم المكتنز بعين نارية، فازداد إباء وعنادا، ونشط خياله بارعا مجنونا فصور له المستقبل في ألوان زاهية، وأوحى له خلو المكان بتخيلات محمومة، فلمعت عيناه المخيفتان .. أما حسنية الفرانة فقد استلذت غيرته، ولم يقلقها انفراده بها لعظيم ثقتها بقوتها، فقالت في تهكم: حتى أنت يا تراب الأرض .. استخرج جسمك من التراب الذي يغطيه أولا، ثم كلم الناس بعد ذلك.

ليست المرأة غاضبة .. ولو كانت غاضبة حقا لما دارت غضبها، ولصفعته بوحشيتها! إنها تمازحه ولا شك، فلا يجوز أن تفلت الفرصة من يديه، قال: أنت لا تفرقين يا معلمة ما بين التراب والتبر.

فقالت المرأة بتحد: هل تستطيع أن تنكر أنك من طين؟

فهز منكبيه استهانة وقال ببساطة: كلنا طين.

فقالت المرأة ساخرة: خسئت! إنك طين على طين، وقذارة على قذارة، ولذلك لا عمل لك إلا تشويه البشر، كأنك تنبعث إلى ذلك برغبة شيطانية في النزول بالبشر إلى مستواك القذر.

فتضاحك زيطة وما يزداد إلا أملا، وقال: ولكني أحسن الناس ولا أقبحهم، ألا ترين أن الشحاذ بغير العاهة لا يساوي مليما، حتى إذا ما صنعتها له ساوى ثقله ذهبا؟! والرجل يقوم بثمنه لا بصورته .. أما أخونا جعدة فلا ثمن ولا صورة.

فزمجرت المرأة بصوت ملؤه الوعيد: أتعود إلى هذا الحديث مرة أخرى؟!

فتعامى عن وعيدها، وتجاهل الموضوع الذي طرقه متعمدا، وتخطاه قائلا: ومع ذلك فجميع زبائني من الشحاذين المحترفين، فماذا تريدينني على أن أفعل بهم؟ .. أكنت تريدين أن أحليهم وأزينهم وأسرحهم في الطرقات لغواية المحسنين؟! - يا لك من شيطان! لسان شيطان، وصورة شيطان!

فتنهد بصوت مسموع، وقال باستكانة المستعطف: كنت مع ذلك ملكا في يوم ما!

هزت رأسها متسائلة في سخرية: ملكا من الأسياد والعفاريت؟

فقال بلهجة الاستكانة والاستعطاف نفسه: بل من البشر أنفسهم .. وأي واحد منا تستقبله الدنيا كملك من الملوك، ثم يصير بعد ذلك ما يشاء له نحسه. وهذا خداع حكيم من الحياة، وإلا فلو أنها أفصحت لنا عما في ضميرها منذ اللحظة الأولى لأبينا أن نفارق الأرحام. - ما شاء الله يابن الدائخة!

فاستدرك زيطة في حماسة وسرور: وهكذا كنت يوما ما مولودا سعيدا، تلقفته الأيدي بالسرور، وحاطته العناية والرحمة، فهل تشكين بعد ذلك أني كنت ملكا؟ - أبدا يا مولانا!

وأسكرته حرارة الحديث ولذة الأمل، فمضى قائلا: وكان مولدي يمنا وبركة أيضا؛ ذلك أن والدي كانا شحاذين محترفين، وكانا يكتريان طفلا تحمله أمي في أثناء تجوالهما، فلما أن رزقهما الله بي أغناهما عن أطفال الناس، وفرحا بي فرحا عظيما.

فلم تملك حسنية أن ضحكت ضحكة مجلجلة، فازداد حماسة وحرارة، وقال مواصلا حديثه: آه من ذكريات طفولتي السعيدة! لا زلت أذكر مستراحي من الطوار؛ كنت أزحف على أربع حتى أبلغ حافة الطوار المطلة على الطريق، وكانت توجد تحت المكان المختار ثغرة في الأرض يركد فيها ماء من مطر أو رش أو دابة، يتكتل الطين في قعرها، وعلى سطحها يغني الذباب، وعلى شطآنها تتجمع نفاضة الطريق .. منظر ساحر يأخذ بالألباب .. ماؤها مطين، وساحلها زبالة متعددة ألوانها .. قشر طماطم، ونفاية مقدونس وتراب وطين، والذباب يحوم حولها ويقع عليها، فكنت أرفع جفني المثقلين بالذباب، وأسرح طرفي في ذاك المصيف الطروب، والدنيا لا تسعني فرحا.

فهتفت المعلمة ساخرة: يا بختك .. يا حظك.

ولذه سرورها وإقبالها على حديثه، فقال متشجعا: هذا سر ولعي بما يسمونه ظلما بالقاذورات، والإنسان خليق بأن يألف أي شيء مهما شذ وغرب، ولذلك أخاف عليك أن تألفي ذاك الحيوان. - أتعود أيضا إلى هذا؟

فقال وقد أعمته الشهوة وأصمته: طبعا .. لا قبل لإنسان بإغفال الحق. - الظاهر أنك زهدت في الدنيا. - لقد ذقت الرحمة مرة كما قلت لك في المهد.

ثم أومأ بيده إلى المزبلة التي تسكنها واستدرك: وقلبي يحدثني بأن لي حظا أن أذوقها مرة أخرى في مأواي هذا.

وأومأ برأسه إلى الداخل كأنه يقول لها: «هلمي» .. فتميزت المرأة غيظا، وأحنقتها جرأته، فصاحت في وجهه: حذار يابن الشيطان.

فقال بصوت متهدج: كيف لابن الشيطان أن يحذر غواية أبيه؟ - إذا هشمت عظمك؟ - من يعلم .. ربما أستلذ ذلك أيضا.

ونهض الرجل بغتة، وتراجع قليلا متقهقرا، كان يظن أنه بلغ مناه، وأن المعلمة أصبحت طوع يمينه، وقد تلبسته حال جنونية جعلته ينتفض انتفاضا، وثبتت عيناه على عيني المرأة في ذهول وبهيمية. ثم مد يديه بغتة إلى طرف جلبابه وخلعه بسرعة فائقة، وتجرد عاريا! وبهتت المعلمة لحظات، ثم امتدت يدها إلى كوز غير بعيد، وقذفته به بسرعة وقوة، فأصاب بطنه، وندت عنه آهة كالخوار، وسقط يتلوى.

17

كان السيد سليم علوان جالسا كعادته إلى مكتبه بالوكالة حين جاءت أم حميدة لابتياع بعض اللوازم. وكان الرجل يستقبلها إذا جاءته بلطف؛ ولكنه لم يقنع هذه المرة بذلك، فدعاها إلى الجلوس على كرسي قريب منه، وكلف أحد العمال باستحضار ما تريد من ألوان العطارة. ونال هذا العطف من أم حميدة، فلهجت بشكره والدعاء له. والحق أن هذا العطف لم يكن ارتجالا، ولكن السيد كان قد نوى أمرا لا رجوع فيه؛ لأنه من العسير أن يعيش الإنسان موزع النفس، مضطرب الإرادة، لا يقر له قرار. وقد ساءه كثيرا أن يرى سماء حياته غائمة بالمشكلات المعلقة التي تستوجب الحلول، ثم لا يجد الإرادة التي تحلها. فهؤلاء الأبناء لا يخفى عليه قلقهم، وهذه الأموال المكدسة لا يدري متى يتاح له استغلالها، خصوصا وقد أرجف المرجفون باحتمال هبوط قيمتها النقدية بعد الحرب، ورتبة البكوية كلما ظن أنه حسم أمرها وانتهى منه عادت تلح عليه كأنها دمل كامن، وعلاقته بزوجه وهمه الناشئ من ذبول شبابها ونضوب حيويتها، وأخيرا - وليس آخرا - هذه العاطفة التي يعانيها ويلقى من اضطرامها ما يلقى من أشواق وآلام .. لبث بين هذه الهموم متحيرا، ثم رأى أن يفض أحدها بعزم ورغبة، ولكنه انساق في الاختيار مع هواه وهو لا يدري، فارتأى أن يسكن هذه العاطفة الغشوم، وتركز اهتمامه في ذلك، حتى لكأنه بالانتهاء منها إنما ينتهي من همومه جميعا. ولكنه لم يكن بالغافل عن العواقب، ولم يكن ليغيب عنه أنه بصدد مشكلة يعقب فضها المزعوم مشكلات جديدة لا تقل خطرا عن سابقاتها .. ولكنه الهوى .. لقد غلبه الهوى على أمره، وتسرب إلى أعماق نفسه، فتشبعت به جذور تفكيره وإرادته، وهانت عليه الصعاب التي كانت تعترض أحلامه، وقال لنفسه متبرما: «لقد انتهت زوجي كامرأة، ولست من الرجال الذين ينزلقون إلى الفسق في مثل هذه السن، ولا داعي مطلقا للرضا بالعذاب والغم. لقد يسر الله لنا، فلماذا نعسر على أنفسنا؟!» وهكذا انتهى إلى رأي لا عدول عنه، وأجمع على تحقيق رغبته، ولذلك دعا أم حميدة إلى الجلوس على كثب منه معتزما مفاتحتها بالأمر الخطير. ولبث السيد متخوفا من الكلام قليلا، لا لأن ترددا ساوره، ولكن لأنه لم يكن من اليسير أن ينزل عن مرتبته العالية دفعة واحدة ويخلط نفسه بامرأة كأم حميدة. وتصادف في تلك اللحظة أن دخل عامل حاملا صينية الفريك المشهورة، فرأتها أم حميدة وجرت على شفتيها شبه ابتسامة لم يفته ملاحظتها، وابتهل لهذه الفرصة ورأى أن يجعلها فاتحة حديثه، وتناسى تزمته ووقاره، وقال لها بلهجة تنم عن السخط: لكم تكدرني هذه الصينية!

وخافت أم حميدة أن يكون قد رأى ابتسامتها فقالت بعجلة: لماذا كفى الله الشر؟

فقال السيد باللهجة نفسها: لكم تحدث لي من متاعب!

فتساءلت المرأة وهي لا تدري ما يعنيه: لماذا يا سيدنا البك؟

فقال السيد سليم بهدوء متشجعا بأنه يحادث خاطبة: لا يرضى عنها الطرف الآخر.

فدهشت أم حميدة، وذكرت كيف تحلب ريق أهل الزقاق يوما على قطعة من هذه الصينية، وها هي ذي امرأة زاهدة لا ترضى عنها! وقالت المرأة لنفسها: «يعطي الحلق لمن ليس له أذنان.» ثم غمغمت مبتسمة، وبلا حياء: هذا شيء عجيب!

فهز السيد رأسه متأسفا. وكانت زوجه لا ترحب بالصينية من بادئ الأمر وهي بعد شابة في ريعان الشباب. كانت ذات فطرة سليمة تنفر من الشذوذ عن الطبيعة، ولكنها تحملت ما كانت تعده إرهاقا؛ إكراما لزوجها النهم، وإشفاقا من تكدير صفوه. ومع ذلك لم تتردد عن نصحه بالعدول عن أمر في المداومة عليه خطر، وأي خطر على صحته. ولما أن تقدم بها العمر قل صبرها، وتضاعف إحساسها بالأمر، وبدا تذمرها صريحا، حتى كانت تهجر بيت الزوجية إلى بيوت أبنائها، زيارة في الظاهر وهروبا في الحقيقة. وضاق بها السيد ذرعا، ورماها بالبرود والنضوب، وتكدر صفوهما، وتنغص عيشهما، دون أن يعدل عن هواه، أو يعطف على ضعفها الملموس. وقد اتخذ نشوزها - هكذا دعاه - حجة له في هواه وفيما يرتاد من حياة زوجية جديدة!

هز السيد رأسه متأسفا وقال بلغة لا يخفى مرماها عن مثل أم حميدة: لقد أنذرتها بالزواج من أخرى، وإني لفاعل بإذن الله.

وثار اهتمام المرأة، وتحركت غريزة العمل في باطنها، وحدجته بنظرة التاجر إلى زبون نادر الوجود، ولكنها قالت بشيء من الارتياب: لهذا الحد يا سي السيد؟!

فقال الرجل باهتمام جدي: لقد انتظرتك طويلا، وكنت على وشك أن أرسل في طلبك. فما رأيك؟

فتنهدت المرأة وقد غلبها سرور لا يوصف، وقد قالت فيما بعد: إنها ذهبت تبتاع حناء فعثرت على كنز. ثم نظرت إليه مبتسمة وقالت: يا سي السيد أنت رجل قد الدنيا، ومثلك في الرجال قليل، ويا حظ من تكون نصيبك، وأنا رهن إشارتك، فعندي البكر والثيب، والشابة والنصف، الغنية والفقيرة .. اختر ما تشاء.

وفتل السيد شاربيه الغليظين، واعتراه شيء من الارتباك قليلا، ثم مال نحوها، وقال بصوت منخفض، وعلى فمه ابتسامة: لا داعي للبحث والتعب، إن من أريد في بيتك أنت!

واتسعت عينا المرأة دهشة وتمتمت بلا وعي: في بيتي أنا؟!

فقال السيد وقد سرته دهشة المرأة: أجل في بيتك أنت دون سواك، ومن لحمك ودمك؛ أعني كريمتك حميدة.

ولم تصدق المرأة أذنيها، وتولاها الذهول. أجل كانت تعلم - عن طريق حميدة نفسها - أن السيد يتبعها أينما ذهبت عينين براقتين، ولكن الإعجاب شيء والزواج شيء آخر. فمن عسى أن يصدق أن السيد سليم علوان صاحب الوكالة يطلب يد حميدة؟! وقالت المرأة بصوت مضطرب: لسنا قد المقام يا سي السيد!

فقال الرجل برقة: إنك سيدة طيبة، وقد أعجبتني كريمتك وكفى .. ألا يكون الناس أهلا للخير إلا إذا كانوا أغنياء؟! وما حاجتي للمال وعندي منه ما فوق الكفاية؟!

وأصغت إليه والدهشة لا تفارقها، ثم ذكرت فجأة أمرا غاب عنها حتى هذه اللحظة .. ذكرت أن حميدة مخطوبة، وقد ندت عنها «آهة» كالمنزعجة، حملت السيد على أن يسألها قائلا: ما لك؟

فقالت المرأة باضطراب: رباه، نسيت يا سي السيد أن أقول لك إن حميدة مخطوبة! خطبها عباس الحلو قبل سفره إلى التل الكبير.

فانكفأ وجه الرجل، واصفر وجهه غضبا، وقال بحدة وكأنه ينطق باسم حشرة قذرة: عباس الحلو!

فقالت المرأة بعجلة ولهوجة: رباه، لقد قرأنا الفاتحة!

فقطب السيد سليم قائلا في غضب وازدراء: ذاك الحلاق الشحاذ؟

فقالت أم حميدة كالمعتذرة: قال إنه سيشتغل في الجيش ليجمع ثروة، وسافر بعد أن قرأنا الفاتحة.

وازداد غضب السيد لانزلاقه بغتة - مع الحلو - إلى مضمار واحد، وقال بحدة: أيحسب هذا الأحمق أن الجيش نعيم يدوم! ولكني أعجب لما جعلك تذكرين هذه «الحكاية»!

فقالت المرأة معتذرة: لقد ذكرتها فجأة، هذا كل ما في الأمر. ما كنا نحلم بهذا الشرف الرفيع، ولذلك لم يكن لدي حيلة في رفض يده! لا تؤاخذني يا سي السيد، إن مثلك إذا طلب أمر .. ما كنا نحلم بهذا الشرف الرفيع، فلا تؤاخذني .. سأذهب الآن وأعود إليك في الحال: لا تغضب علي، لماذا غضبت هكذا؟

وبسط السيد وجهه، وذكر أنه غضب حقا أكثر مما ينبغي، كأنما الحلو هو المعتدي لا المعتدى عليه، ولكنه قال: ألا يحق لي أن أغضب؟

ثم توقف بغتة كأنه تذكر أمرا اربد له وجهه وسألها منزعجا: وهل وافقت الفتاة؟ أعني هل تريده؟

فقالت المرأة بسرعة: لا شأن لابنتي بهذا الأمر! وما حدث لا يعدو أن جاءني الحلو يوما مصحوبا بعم كامل ثم قرأنا الفاتحة.

فقال السيد: غريب والله أمر هؤلاء الشبان! لا يكاد يجد الواحد منهم لقمته، ولكنه لا يجد بأسا من أن يتزوج ويخلف ويزحم الحارة أولادا يلتقطون رزقهم من الزبالة .. لننس هذه الحكاية. - نعم الرأي يا سي السيد .. سأذهب الآن، وسأعود دون إبطاء، وربنا المستعان.

ونهضت المرأة واقفة، وانحنت على يده مسلمة، ثم تناولت لفافة الحناء، وكان العامل قد وضعها على المكتب، ومضت إلى حال سبيلها.

ولبث السيد متغيرا، متجهم الوجه، تنطق نظرة عينيه الحادة بالنرفزة والغضب .. أولى الخطى عثار! حلاق قذر لا يساوي مليما، ومع ذلك فهو يزحمه في حلبة واحدة. وبصق على الأرض بازدراء كأنما البصقة هي الحلو نفسه، وخال أنه يسمع طنين المرجفين إذ يخوضون في هذا الأمر بما يحلو لهم من تهكم وسخرية؛ ستقول زوجه إنه خطف ابنة ماشطة من صالون حلاق بالمدق! أجل ستقول زوجه وتعيد، وسيقول الناس ويتفننون في القول، وسيتناهى ذلك كله إلى أبنائه وبناته وأصدقائه وأعدائه .. تفكر في ذلك جميعه، بيد أن التراجع لم يخطر له ببال، فقد انتهت المعركة قبل اليوم، ومد يده بالفعل، وتوكل على الله. ومضى يفتل شاربه بأناة، ويهز رأسه استهانة، وقد ملكت الرغبة الجامحة عليه نفسه، وهونت عليه القيل والقال. وهل كف الناس عنه ألسنتهم من قبل؟ ألم يجعلوا من صينية الفريك أسطورة يتناقلونها؟ فليقولوا ما بدا لهم، وليفعل ما بدا له، وسيظل بلا ريب سيد الجميع الذي يشق سبيله بين هامات متطامنة. أما أسرته فثروته كفيلة بإرضاء أفرادها جميعا، ولن يسلبهم زواجه الجديد أكثر مما كانت تسلبهم إياه رتبة البكوية فيما لو سعى إليها. وانفثأ غضبه، وانبسطت أساريره، وارتاح إلى تفكيره ارتياحا عظيما. ينبغي أن يذكر دائما أنه إنسان من لحم ودم، وإلا أغفل حق نفسه، وقدمها لقمة سائغة للهموم تزدردها. ما جدوى ثروته الطائلة إذا ذهبت نفسه حسرات على رغبة تحقيقها بيده؟! أو ترك قلبه يحترق بالشوق إلى جسد بشري رهن إشارة منه؟!

18

ومضت أم حميدة مهرولة إلى شقتها، وفي هذا الشوط القصير - ما بين الوكالة والشقة - ثمل خيالها بأحلام عراض، ووجدت حميدة واقفة وسط الحجرة تمشط شعرها، فتفحصتها بعينين ثاقبتين كأنها تراها لأول مرة، أو كأنها تعاين الأنثى التي خبلت رجلا له وقار السيد سليم علوان وسنه وثروته. ووجدت المرأة عاطفة تشبه الحسد. كانت تؤمن بلا شك أن كل قرش يجلبه هذا الزواج المرتقب للفتاة سيكون لها نصفه، وأن كل نعيم ستذوقه ستحظى هي بنصيبها الموفور منه، ومع ذلك لم تخل من هذا الإحساس الغريب الذي خالط سرورها وأطماعها! وقالت لنفسها: «أكان القدر حقا يدخر هذه السعادة لهذه الفتاة التي لا تعرف لنفسها أبا ولا أما؟!» وتساءلت في عجب: «ألم يسمع السيد صوتها المخيف وهي تزعق في وجوه الجيران؟ ألم يشهد معركة من معاركها؟ يا ويل الرجال من لحم النساء!» ثم قالت لها دون أن تحول عنها عينيها: مولودة في ليلة القدر والحسين!

فأمسكت حميدة عن تمشيط شعرها الأسود اللامع، وسألتها ضاحكة: ليه؟ ماذا وراءك؟ هل من جديد؟!

فخلعت المرأة ملاءتها وطرحتها على الكنبة، ثم قالت بهدوء وهي تتفرس وجهها لتمتحن أثر كلامها فيه: عروس جديد!

فلاح في العينين السوداوين اهتمام ويقظة تخالطهما دهشة، وتساءلت الفتاة: أتقولين حقا؟ - عروس كبير المقام، يتمنع عن الأحلام يا بنت الكلب!

فخفق قلب حميدة بقوة، وتألقت عيناها حتى بدا حورهما ساطعا وتساءلت: من عساه يكون؟ - خمني؟!

فتساءلت الفتاة بلهفة وإن ساورتها الظنون: من؟

فقالت أم حميدة وهي تهز رأسها وترعش حاجبها: السيد سليم علوان على «سن ورمح»!

فشدت قبضتها على المشط حتى كادت تنفذ أسنانه في راحتها، وهتفت: سليم علوان صاحب الوكالة؟! - صاحب الوكالة، وصاحب الأموال التي لا يفنيها المحيط!

فأضاء وجه الفتاة نورا، وغمغمت لا تدري من الدهشة والسرور: يا خبر أسود! - يا خبر أبيض، يا خبر مثل اللبن والقشدة. لم أكن لأصدق لولا أنه حادثني بنفسه.

غرزت الفتاة المشط في شعرها، وهرعت إلى أمها وارتمت إلى جانبها، وسألتها وهي تشد على كتفها: ماذا قال لك؟ خبريني بكل ما قال، كلمة كلمة.

وأنصتت إلى المرأة بانتباه عميق وهي تروي قصتها .. وخفق قلبها خفقانا متواصلا، وتورد وجهها، وتألقت عيناها بشرا وسرورا. هذه هي الثروة التي تحلم بها، هذا هو الجاه الذي تهيم به. وإنها من حب الجاه لفي مرض، وإن الشغف بالقوة لغريزة جائعة في باطنها، فهل يتاح لها شفاء أو ارتواء إلا بالثروة؟ لم تكن تدري دواء لهذا التشوف الأليم يضطرم في أعماقها إلا الثراء الكبير، فهو الجاه العريض، وهو القوة الشاملة، وهو بالتالي السعادة الكاملة. كانت في سرورها المباغت كمحارب أعزل عثرت يده بسلاح مصادفة في أشد المواقف حرجا .. كانت كطائر مقصوص الجناحين يسف في يأس وقنوط على رغم محاولاته الفاشلة، ثم ينبت له ريش بمعجزة تدق على الأفهام. فيبدله من محاولاته الفاشلة تحليقا يسمو به إلى قنن الجبال. وكانت أمها تنظر إليها بلحظ خفي فسألتها: ماذا ترين؟

لم تدر أم حميدة ماذا تقول، ولكنها كانت مشمرة للمعارضة أيا كان رأي الفتاة؛ فإذا قالت: السيد، قالت: والحلو؟ وإذا قالت: الحلو، قالت: أونفرط في السيد؟! أما حميدة فقالت بإنكار شديد: ماذا أرى؟! - أجل ماذا ترين؟ فليس الأمر مما يسهل الفصل فيه، أنسيت أنك مخطوبة؟! .. وأني قرأت الفاتحة مع الحلو؟

فلاحت في عيني الفتاة نظرة حادة غشت جمالهما، وقالت في انزعاج وازدراء: الحلو؟!

وعجبت أمها لسرعتها الفائقة في البت في مثل هذا الأمر الخطير، وكأن الحلو لم يكن قط، وعاودها شعورها القديم بأن ابنتها فتاة شاذة مخيفة. والحق أن المرأة لم يداخلها شك جدي في النهاية المحتومة، ولكنها كانت تريد أن تبلغها بعد لأي. كانت ترغب أن تتردد الفتاة فتتطوع هي إلى إقناعها بالقبول، لا أن تلفظ اسم الحلو بمثل هذا الازدراء الغريب. واستدركت تقول بلهجة تنم عن الانتقاد: أجل الحلو، أنسيت أنه خطيبك؟!

كلا لم تنس؛ ولكن سيان التذكر والنسيان، ترى هل تعترض أمها حقا؟ وحدجتها بنظرة نافذة، فأيقنت أنها كاذبة في انتقادها، وهزت منكبيها استهانة، وقالت باستخفاف واحتقار: ذبحة. - ماذا يقول الناس عنا؟ - دعيهم يقولون ما بدا لهم. - سأستشير السيد رضوان الحسيني.

فجفلت الفتاة من هذا الاسم واعترضت قائلة: ما شأنه في أمر يخصني وحدي؟ - نحن أسرة لا رجل لها، فهو رجلنا.

ولم تطق المرأة انتظارا فنهضت واقفة، وتلفعت بملاءتها، وغادرت الحجرة وهي تقول: «لا سأشاوره وأعود توا.» وشيعتها الفتاة بنظرة غيظ، ثم تنبهت إلى أنها لم تتم تمشيط شعرها، فمضت تمشطه بحركات آلية وعيناها شاخصتان إلى دنيا الأحلام الزاهرة. ثم نهضت دالفة من النافذة وجعلت تنظر خلال خصاصها إلى الوكالة الكبرى ساعة، وعادت إلى جلستها.

لم يكن تحولها عن عباس الحلو بغير تمهيد كما ظنت أمها، أجل لقد حسبت حينا أنها وصلت - راضية - أسبابها بأسبابه إلى الأبد، فمنحته شفتيها يقبلهما بما أوتي من شغف وحب، وجاذبته حديث المستقبل كأنه مستقبلهما معا، ووعدته أن تزور الحسين لتدعو له، وزارته بالفعل ودعت له - ولم تكن تزوره إلا لتستعديه على عدوة عقب شجار - وانتظرت على أمل أن تظفر بهذه السعادة المرموقة، وفضلا عن ذلك فقد رفعها الحلو من مجرد بنت إلى فتاة مخطوبة، فلم يعد في وسع أم حسين أن تمسك بسوالفها وتقول لها شامتة: «أحلق هذه لو خطبك إنسان.» بيد أنها كانت تنام على فوهة بركان .. ولم تذق بادئ الأمر الطمأنينة الكاملة، ووجدت في النفس شيئا يضطرب يرتاد متنفسا. حقا لوح عباس الحلو لطموحها العنيف ببعض الزاد؛ ولكن الحلو نفسه ليس بالرجل الذي تريد، وقد حيرها أمره مذ أول لقاء. ولم تكن تدري كيف يكون رجلها على وجه التحقيق. ولكن الحلو لم يقبض على ملاك قلبها على أية حال. ومع ذلك فلم تستسلم لمخاوفها بغير مقاومة، فجعلت تقول: لعل المعاشرة تهيئ لها حياة لم تكن تحلم بها قط. ثم لم تكف عن التفكير، والتفكير فضيلة ذات حدين، فتساءلت: ترى ما هذه السعادة التي يمنيها بها؟ ألا تكون مغالية في أحلامها؟ يقول الفتى: إنه سيعود بثروة، وإنه سيفتح صالونا في الموسكي؛ ولكن هل يضمن لها هذا حياة أرغد من حياتها الراهنة؟ وهل هذا حقا ما تطمح إليه نفسها المجنونة؟! وضاعف هذا التفكر من حيرتها، وقوي شعورها بأن الشاب ليس رجلها المرموق، وباتت تدرك أن نفورها منه أشد من أن تلطفه المعاشرة. ولكن ما عسى أن تفعل؟ ألم ترتبط به إلى الأبد .. رباه، لماذا لم تتعلم حرفة كأولئك الفتيات من صويحباتها؟ أما لو كانت صاحبة حرفة لأمكنها أن تنتظر حتى تتزوج كما تشاء، أو لما تزوجت على الإطلاق! وأخذت حماستها تفتر، وشعورها يخمد، وعادت إلى ما كانت عليه قبل أن تهزها المقابلات وتغرها الآمال. هكذا كانت حين طلب السيد سليم يدها، وهكذا نبذت خطيبها الأول بغير تردد، ولكن بعد أن كانت نبذته في قلبها منذ أمد طويل.

ولم يطل المطال بغياب الأم، فعادت من بيت السيد رضوان بوجه تلوح فيه أمارات الجد، وقالت وهي تخلع ملاءتها: لم يوافق السيد أبدا.

ثم قصت عليها ما دار بينها وبين السيد رضوان، وكيف قال لها وهو بصدد المقارنة بين الرجلين: إن الحلو شاب، والسيد سليم شيخ، وإن الحلو من طبقتها، والسيد من طبقة أخرى، وإن زواج رجل كالسيد من فتاة مثل ابنتها لا بد محدث متاعب ومشكلات لا يبعد أن يصيب الفتاة بعض من رشاشها، وكيف ختم حديثه بقوله: «الحلو شاب طيب، وقد هاجر في سبيل الرزق طامحا لهذا الزواج، فهو رجلها المفضل، وما عليك إلا أن تنتظري، فإذا عاد خائبا - لا قدر الله - كان من حقك بلا جدال أن تزوجيها ممن تختارين.»

وأصغت الفتاة إليها والشرر يتطاير من عينيها، ثم صاحت بصوت جاف فضح الغضب قبحه: السيد رضوان ولي من أولياء الله، أو هذا ما يحب أن يتظاهر به أمام الناس، فإذا قال رأيا لم يبال مصلحة الناس في سبيل اكتساب الأولياء أمثاله، فسعادتي لا تهمه في كثير أو قليل، ولعله تأثر بقراءة الفاتحة كما ينبغي لرجل يرسل لحيته مترين، فلا تسألي السيد عن زواجي، وسليه إن شئت عن تفسير آية أو سورة .. أما والله لو كان طيبا كما تزعمون لما رزأه الله في أبنائه جميعا.

وارتاعت المرأة، وقالت لها بإنكار وألم: أهذا كلام يقال عن أكرم الناس وأفضلهم؟

فصاحت الفتاة بحدة وقد أنذرت حالتها بشر مستطير: هو فاضل إن أردت، وولي من أولياء الله إن شئت، ونبي أيضا إن أحببت، ولكنه لن يقف حجر عثرة في سبيل سعادتي.

وتألمت المرأة للإهانة التي لحقت السيد؛ لا دفاعا عن رأيه الذي كانت لا توافق عليه في باطنها، ومع ذلك قالت مدفوعة برغبة في إغاظة الفتاة والانتقام من سوء خلقها: ولكنك مخطوبة.

فضحكت حميدة ساخرة وقالت: إن الفتاة حرة حتى يعقد عليها، وليس بيننا وبينه إلا كلام وصينية بسبوسة. - والفاتحة؟ - المسامح كريم. - الفاتحة ذنبها كبير.

فصاحت باستهانة: بليها واشربي ماءها!

فضربت المرأة صدرها وقالت: آه يا بنت الثعبان!

ولاحظت حميدة بوادر الإذعان تلوح في عيني أمها، فقالت ضاحكة: تزوجيه أنت.

فضربت المرأة كفا بكف وهي تغالب الضحك، ثم قالت بسخرية: من حقك أن تبيعي صينية البسبوسة بصينية الفريك!

فنظرت إليها بتحد وقالت بغيظ: بل رفضت شابا واخترت شيخا.

فضحكت أم حميدة ضحكة مجلجلة وتمتمت: «الدهن في العتاقي»، وتربعت على الكنبة في سرور وقد تناست معارضتها الكاذبة، واستخرجت سيجارة من علبة سجائرها وأشعلتها، وراحت تدخن بلذة لم تشعر بمثلها من زمن بعيد، فنظرت حميدة إليها بغيظ وقالت: تالله لقد فرحت بالعروس الجديد أضعاف سروري؛ ولكنها المكابرة والمعاندة والرغبة في إغاظتي .. سامحك الله.

فحدجتها أمها بنظرة عميقة، وقالت بلهجة ذات معنى: إذا تزوج رجل مثل السيد سليم من فتاة، فهو في الواقع إنما يتزوج من أهلها جميعا، كالنيل إذا فاض أغرق البلاد .. أفهمت؟ .. أم تحسبين أن تزفي إلى قصرك الجديد وأبقى أنا ها هنا تحت رحمة الست سنية عفيفي وأمثالها من المحسنين؟!

قهقهت حميدة وقد بدأت تضفر شعرها، وقالت بكبرياء مصطنع: تحت رحمة الست سنية عفيفي، والست حميدة هانم. - طبعا .. طبعا يا لقيطة الطوار، يابنة المجهول!

فاسترسلت الفتاة في ضحكها وقالت: مجهول .. مجهول .. كم من أب معروف لا يساوي شيئا. •••

وعند ضحى الغد ذهبت أم حميدة إلى الوكالة سعيدة رخية البال، لتقرأ الفاتحة مرة أخرى؛ ولكنها لم تجد السيد سليم بمجلسه المعهود، واستعلمت عنه، فقيل لها: إنه تخلف عن الحضور اليوم، فرجعت إلى البيت غير مرتاحة وقد تولاها الجزع، ولما أن انتصف النهار ذاع نبأ في الزقاق بأن السيد سليم علوان أصيب ليلة أمس بذبحة صدرية، وأنه في فراشه بين الحياة والموت! وقد عم الأسف الزقاق كله. أما بيت أم حميدة فقد سقط عليه النبأ كالصاعقة.

19

واستيقظ الزقاق ذات صباح على صخب وضوضاء، ورأى أهله رجالا يقيمون سرادقا على أرض خراب بالصنادقية فيما يواجه زقاق المدق. وانزعج عم كامل وظنه سرادق ميت، فهتف بصوته الرفيع: «إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فتاح يا عليم، يا رب.» ونادى غلاما من عرض الطريق وسأله عن شخص المتوفى، ولكن الغلام قال له ضاحكا: ليس السرادق لميت، ولكنها حفلة انتخابية!

فهز عم كامل رأسه وغمغم: «سعد وعدلي مرة أخرى!» وكان الرجل لا يدري شيئا على الإطلاق عن عالم السياسة، إن هو إلا اسم أو اسمان يحفظهما دون أن يفقه لهما معنى. أجل إنه يعلق في صدر محله صورة كبرى لمصطفى النحاس؛ ولكن كان ذلك لأن عباس الحلو ابتاع يوما صورتين للزعيم ثبت إحداهما في الصالون، وأهدى الأخرى لصاحبه، ولم ير الرجل في تثبيتها بدكانه من بأس، خصوصا وأنه يعلم أن هذه الصورة وأمثالها من تقاليد الدكاكين؟ ففي دكان الطعمية بالصنادقية صورتان لسعد زغلول ومصطفى النحاس، وفي قهوة كرشة صورة للخديوي عباس. وراح الرجل يرمق العمال العاكفين على عملهم بإنكار وقد توقع يوما صاخبا مرهقا. ومضى السرادق يتكون جزءا جزءا، فنصبت الأعمدة، ووصلت بالطنب ومدت عليها الستائر، وفرشت الأرض بالرمل، وصفت المقاعد على جانبي ممر ضيق يفضي إلى مسرح أقيم في الداخل عاليا، وركبت مكبرات الصوت على مفارق الطريق بين الحسين والغورية، وأجمل من هذا كله أن ترك مدخل السرادق بلا حاجز من ستار أو ظلة؛ مما بشر أهل المدق بأنهم سيشاركون في الحفلة من منازلهم. وفي أعلى المسرح علقت صورة كبرى لرئيس الحكومة، وألصقت بها من تحت صورة المرشح فرحات الذي تعرفه أكثرية أهل الحي؛ لأنه كان تاجرا بالنحاسين. ودار فتيان بإعلانات وجعلوا يلصقونها بالجدران وقد سطر عيها بألوان زاهية:

انتخبوا نائبكم الحر إبراهيم فرحات.

على مبادئ سعد الأصلية.

زهق عهد الظلم والعري.

وجاء عهد العدل والكساء.

وأرادوا أن يلصقوا إعلانا بدكان عم كامل، ولكن الرجل الذي ترك غياب عباس الحلو في نفسه أسوأ الأثر تصدى لهم ساخطا وهو يقول: ليس هنا يا أولاد الحلال، هذا شؤم يقطع الرزق.

فقال له أحدهم ضاحكا: بل تجلب الرزق .. وإذا رآها حضرة المرشح اليوم ابتاع بسبوستك بالجملة، وأعطاك الثمن مضاعفا وعليه قبلة.

وانتهى العمل عند منتصف النهار، وعاود المكان هدوءه المعهود. واستمر هذا حتى العصر حين جاء السيد إبراهيم فرحات في هالة من حاشيته ليعاين الأمور بنفسه، وكان الرجل لا يقبض يده عن الإنفاق، إلا أنه كان كذلك تاجرا لا يفوته الاطلاع على دقائق ميزانيته حتى لا يجوز عليه ما لا ينبغي أن يجوز. وقد تقدم القوم بجسمه البدين القصير، يرفل في جبته وقفطانه، ويقلب فيما حوله وجها أسمر كرويا ذا عينين ساذجتين. كانت مشيته تنم عن الزهو والثقة، وعيناه تنطقان بالطيبة والسذاجة، ومظهره عامة يشي بأن بطنه أهم كثيرا من رأسه. وقد أحدث ظهوره اهتماما كبيرا في الزقاق وما يحيط به؛ لا لأنهم اعتبروه عروس الليلة، وأملوا من وراء «زفته» خيرا كثيرا، خصوصا وأنهم لم يفيقوا بعد من الصدمة التي دهمتهم في الانتخابات السابقة بفوز مرشح الدائرة بالتزكية! ثم جاءت على أثره جماعات من الغلمان تسير وراء أفندي مرددة هتافات عالية، كان يصيح بصوت كالرعد: «من نائبنا؟» .. فيجيبونه بصوت واحد: «إبراهيم فرحات»، فيهتف ثانية: «من ابن الدائرة؟» فيهتفون: «إبراهيم فرحات»، وهكذا، وهكذا، حتى امتلأ بهم الطريق، وتسرب منهم كثيرون إلى السرادق. وجعل المرشح يرد الهتافات برفع يديه إلى رأسه، ثم اتجه نحو الزقاق تتبعه بطانته وجلها من رافعي الأثقال بنادي الدراسة الرياضي. واقترب من الحلاق العجوز الذي حل محل الحلو ومد له يده وهو يقول: «السلام عليك يا أخا العرب.» فانحنى الرجل على يده في استحياء وترحيب، وتحول عنه إلى عم كامل قائلا: «لا تتجشم مشقة النهوض، حلفتك بالحسين إلا ما لزمت مكانك .. كيف حالك؟ .. الله أكبر .. الله أكبر، هذه بسبوسة فريدة، وسيعرف الناس جميعا قدرها هذه الليلة» .. وتقدم مسلما على كل من لاقاه، حتى انتهى إلى قهوة كرشة، فحيا المعلم، وجلس ودعا رفاقه للجلوس، واستبق إلى القهوة كثيرون حتى جعدة الفران وزيطة صانع العاهات. وردد المرشح نظره بين الحاضرين في سرور، ثم قال مخاطبا المعلم كرشة: قدم الشاي للجميع.

وابتسم تحية لكلمات الشكر التي تناثرت عليه من كل حدب وصوب، ثم التفت صوب المعلم قائلا: أرجو أن تقوم القهوة بتقديم ما يحتاج السرادق من الطلبات. - فقال المعلم كرشة بشيء من الفتور: نحن في الخدمة يا سي السيد.

ولم يغب عن المرشح فتوره، فقال برقة: نحن جميعا أبناء حي واحد، وكلنا إخوان.

والحق أن السيد فرحات جاء القهوة خصوصا لاسترضاء المعلم كرشة؛ ذلك أنه كان قد استدعاه قبل ذلك بأيام ليستميله إلى جانبه فيضمن صوته وأصوات من يلوذ به من المعلمين وعمالهم، وقدم له خمسة عشر جنيها مقدم أتعاب، ولكن المعلم كرشة أبى أن يمسها محتجا بأنه ليس دون الفوال - صاحب قهوة الدراسة والذي ذاع أنه أخذ عشرين جنيها - منزلة، وما زال به حتى حمله على قبول المبلغ واعدا إياه بالمزيد. ثم افترقا والسيد مشفق من انقلاب المعلم عليه؛ والواقع أن المعلم كرشة لم يخل من غضب على «محدث السياسة» هذا على حد قوله، وأضمر له شر النوايا إذا هو لم يبادر إلى إصلاح خطئه. وكان المعلم كرشة يتيقظ - على غلبة الذهول عليه - في المواسم السياسية. وقد اكتسب في شبابه شهرة في عالم السياسة تضارع ما اشتهر به بعد ذلك في الأمور الأخرى! فاشترك في ثورة سنة 1919 اشتراكا فعليا عنيفا، وقد نسب إليه الحريق الكبير الذي التهم الشركة التجارية اليهودية للسجائر بميدان الحسين، وكان من أبطال المعارك العنيفة التي دارت بين الثوار من ناحية وبين الأرمن واليهود من ناحية أخرى. ولما أن خمدت الثورة الدموية وجد فيما جد من معارك انتخابية ميدانا جديدا على ضيقه لنشاطه وحماسته، فبذل في انتخابات سنة 1924 جهدا مشكورا، وصمد ببطولة لمغريات انتخابات سنة 1925 - ولو أنه قيل وقتذاك إنه قبل رشوة مرشح الحكومة، ولكنه أعطى صوته لمرشح الوفد - وأراد أن يلعب الدور نفسه في انتخابات صدقي - فيأخذ النقود ويقاطع الانتخابات - ولكن عيون الحكومة راقبته يوم المعركة، وحملته مع غيره في لوري إلى مركز الانتخاب، فخرج على إرادة الوفد مرغما لأول مرة. وكان عام 1936 آخر عهده بالسياسة، فطلقها بعد ذلك وتزوج التجارة، ورصد الانتخابات فيما تلا ذلك من عهود كما يرصد الأسواق النافقة، وانقلب نصيرا لمن «يدفع أكثر»، وجعل يعتذر عن مروقه بما طرأ على الحياة السياسية من فساد، قائلا: إنه إذا كان المال غاية المتنابذين في ميدان الحكم، فلا ضير أن يكون كذلك غاية الناخبين المساكين! وفضلا عن هذا وذاك فقد لحقه الفساد هو نفسه، وغلبه الذهول، وركبته الشهوات، ولم يبق في روحه من الثورات القديمة إلا ذكرى غامضة ربما كر إليها الخيال فأشاد بها متباهيا في بعض ساعات الصفاء حول المجمرة، ولكنه نبذ في قلبه جميع قيم الحياة الشريفة، ولم يعد يعبأ شيئا من بعد ذلك إلا «الكيف» و«الهوى»، وما عدا ذلك «اردم» على حد قوله. لم يعد يكره أحدا، لا اليهود ولا الأرمن ولا الإنجليز أنفسهم. ولم يعد يحب أحدا كذلك، ولذلك كان من العجيب حقا أن تدب فيه حماسة مفاجئة في هذه الحرب فيتعصب للألمان، وأن يتساءل - في هذه الأيام خاصة - عن موقف هتلر، أحقيقة قد أصبح مهددا؟ وألا يجمل بالروس أن يسارعوا شاكرين لقبول ما يعرض عليهم من صلح منفرد؟! ولكن إعجابه بهتلر كان ينعقد حول ما يذيع عن بأسه وبطشه ليس إلا، فكان يعده شيخ فتوات الدنيا، ويتمنى له النصر كما تمناه طويلا لعنترة وأبي زيد. بيد أنه ظل محافظا على خطره في ميدان الانتخابات؛ لأنه كان زعيم المعلمين الذين يتحلقون مجمرته كل ليلة ومن يتبعهم من فعلة وصبيان وبطانات، ولذلك حرص السيد إبراهيم فرحات على استرضائه، ونزل عن ساعة طويلة من وقته الثمين يقطعها في قهوته متوددا مستعطفا.

وكان يسترق إليه النظر، فمال على أذنه وسأله بصوت خافت: أراض أنت يا معلم؟

فتدلت شفته عن ابتسامة، وقال في شيء من التحفظ: الحمد لله، أنت الخير والبركة يا سي السيد.

فهمس في أذنه: سأعوضك عما فاتك خيرا كثيرا.

وانبسطت أساريره وهو يقلب عينيه في وجوه الحاضرين، ثم قال برقة ورجاء: إن شاء الله لن تخيبوا لنا أملا.

فتعالت الأصوات في وقت واحد تقول: معاذ الله يا سيد فرحات .. أنت ابن خطنا.

فابتسم الرجل مطمئنا وأنشأ يقول: إني كما تعلمون مستقل، ولكني أستظل بمبادئ سعد الحقيقية. وماذا أفدنا من الأحزاب؟ ألا تسمعون مهاتراتهم؟ إنهم مثل (كاد يقول أبناء الحواري)، ثم ذكر أنه يخاطب بعضا من هؤلاء الأبناء فتدارك نفسه قائلا: دعونا من ضرب الأمثال، لقد اخترت الاستقلال عن الأحزاب حتى لا يمنعني مانع من قول الحق، ولن أكون عبدا لوزير أو زعيم، وسأذكر في البرلمان إذا وفقنا الله للنجاح أنني إنما أتكلم باسم أبناء المدق والغورية والصنادقية. ولقد ولى عهد الثرثرة والنفاق، وهاكم عهدا لا يشغله شيء عن أموركم العاجلة، كزيادة الأقمشة الشعبية والسكر، والكيروسين، والزيت، وعدم خلط الرغيف، وتخفيض أسعار اللحوم.

وسأل سائل باهتمام شديد: هل حقا تتوفر هذه الضروريات غدا؟

فقال الرجل بثقة ويقين: بغير جدال .. وهذا سر الانقلاب الحاضر .. كنت أمس أزور رئيس الحكومة (ثم ذكر أنه قال إنه مستقل، فاستدرك قائلا) وهو يستقبل المرشحين على اختلاف ألوانهم، فأكد لنا أن عهده هو عهد الكساء والغذاء.

وازدرد ريقه، ثم استطرد: سترون العجب العجاب .. ولا تنسوا الحلوان إذا فزت في الانتخابات.

فسأل الدكتور بوشي: الحلوان بعد ظهور النتيجة؟

فالتفت السيد نحوه وقال وقد داخله شيء من القلق: وقبل ظهور النتيجة أيضا.

فخرج الشيخ درويش من ذهوله وصمته وقال: كالصداق له مقدم ومؤخر .. إلا أنت يا ست الستات فلا صداق لك؛ لأن حبك روحي من السماء.

فتحول السيد إلى الشيخ منزعجا، ولكنه سرعان ما أدرك حين وقع بصره على زيه - الجلباب ورباط الرقبة والنظارة الذهبية - أنه من أولياء الله الصالحين، فارتسمت ابتسامة على وجهه الكروي وقال برقة: أهلا وسهلا بسيدنا الشيخ.

ولكن الشيخ درويش لم يجبه بكلمة واستغرق في ذهوله، ثم انبرى أحد تابعي المرشح قائلا: لكم ما تريدون، ولنا القسم بكتاب الله، وبالطلاق.

فقال أكثر من صوت: وجب!

وأخذ السيد فرحات يسأل الحاضرين عن تذاكرهم الانتخابية، ولما أن سأل عم كامل أجابه: ليس لي تذكرة، ولم أشترك في أي انتخاب على الإطلاق!

فسأله المرشح: أين مسقط رأسك؟

فقال بغير مبالاة: لا أدري.

وضج الجلوس بالضحك، وشاركهم السيد فرحات، ولكنه غمغم دون يأس: سأسوي هذه المسألة البسيطة مع شيخ الحارة.

وجاء فتى بجلباب، حاملا مجموعة من الإعلانات الصغيرة، فانتهز فرصة امتلاء القهوة بالجلوس وراح يفرق فيهم إعلاناته، وظن كثيرون أنها إعلانات انتخابية، فأقبلوا عليها باحتفاء مجاملة للسيد المرشح، وتناول السيد فرحات إعلانا وقرأه فإذا فيه:

حياتك الزوجية ينقصها شيء.

عليك باستعمال عنبر السنطوري.

عنبر السنطوري

مركب بطريقة علمية خالية من المواد السامة، محلل بمعرفة وزارة الصحة رقم 128، وهو منعش ومفرفش، ويعيدك من الشيخوخة إلى الصبا في خمسين دقيقة.

طريقة الاستعمال:

خذ منه قدر القمحة على كباية شاي حلو كثير، فتجد عندك النشاط. ومقدار ربع الحق دفعة واحدة أقوى من جميع المكيفات، يسري في العروق كالتيار الكهربائي، اطلب علبة عينة من موزع الإعلان، الثمن 30 مليما .. يا بلاش.

سعادتك ب 30 مليما، والمحل مستعد للاستماع لملاحظات الجمهور.

وضج المكان بالضحك مرة أخرى، وارتبك المرشح قليلا، وتطوع أحد بطانته بالتسرية عنه فصاح: هذا فأل حسن.

ثم مال على أذنه وهمس قائلا: هلم بنا، أمامنا أحياء وأحياء.

فنهض الرجل وهو يقول: نستودعكم الله، إلى لقاء قريب إن شاء الله، اللهم حقق الآمال.

وحدج الشيخ درويش بنظرة رقيقة وقال له وهو يهم بمغادرة القهوة: يا سيدنا الشيخ ادع لي.

فخرج الشيخ درويش عن صمته قائلا وقد بسط ذراعيه: الله يخرب بيتك!

وما آذنت الشمس بالمغيب حتى كان السرادق قد ضاق عن القاصدين، وتناقل الحاضرون أن سياسيا كبيرا سيلقي خطابا هاما. وذاع أن شعراء وزجالين سيتبارون على المسرح. ولم يطل الانتظار، فارتقى المسرح قارئ وتلا ما تيسر من الذكر الحكيم، وأعقبته فرقة موسيقية من شيوخ مهدمين مهلهلي الثياب فعزفوا النشيد الوطني، وكان لإذاعة المكبرات لموسيقاهم أثر واضح في دعوة الغلمان والصبية من الأزقة والحواري حتى سدوا الصنادقية سدا. وتعالى الهتاف والضوضاء. وانتهى النشيد دون أن يبرح رجال الفرقة أماكنهم، حتى ظن أن الخطباء سيلقون خطبهم على أنغام الموسيقى. ثم كانت المفاجأة السارة إذ دق بعضهم أرض المسرح حتى شمل الصمت الجمع المحتشد، ثم بدأ مونولوجست معروف في لباسه البلدي، فما كادت تراه الأعين المحدقة حتى جن جنونهم فرحا وسرورا، وراحوا يهللون ويصفقون، وقال المونولوجست وتفنن .. ورقصت امرأة شبه عارية وهي تهتف المرة تلو المرة: «السيد إبراهيم فرحات .. ألف مرة .. ألف مرة .» وجعل الرجل المشرف على المكبرات يصيح في المذياع (السيد إبراهيم فرحات أحسن نائب .. ميكروفون بهلول أحسن ميكروفون). واتصل الغناء بالرقص والهتاف، وانقلب الحي جميعا إلى مولد.

ولما عادت حميدة من مشوارها المعهود وجدت الحفلة في إبان ازدهارها وسرورها. وكانت تظن كأهل الزقاق كافة أنها ستكون حفلة هتاف وخطب (بالنحو) على حد تعبيرهم. وما إن رأت المنظر البهيج حتى شملها السرور وتلفتت يمنة ويسرة باحثة عن مكان تشاهد منه حفلة الطرب والرقص التي نادرا ما ترى مثلها في حياتها. ومضت تشق طريقها بصعوبة بين الغلمان والبنات حتى بلغت مدخل المدق، واقتربت من جدار الصالون، وارتقت حجرا منغرسا لصق الحائط، وتطلعت باهتمام وسرور إلى السرادق.

كان الغلمان والبنات يكتنفنها من كل جانب، ووقفت نسوة كثيرات يقبضن على أيدي أطفالهن أو يحملنهم على أكتافهن. واختلط الغناء بالهتاف .. بالحديث .. بالصياح .. بالضحك بالعويل. واستولى المنظر الخلاب على لبها فانجذبت روحها إليه، والتمع السرور في عينيها الفاتنتين، وفمها المفتر عن ابتسامة لؤلؤية. وكانت متلفعة بملاءتها، فلا يبدو منها إلا وجهها البرنزي، وأسفل ساقيها، وما انحسر عنه طرف الملاءة من مقدم شعرها الفاحم. ورقص قلبها سرورا، وتنبهت حواسها جميعا، وجرى دمها حارا دافقا، سرها المونولوجست سرورا لم تشعر بمثله من قبل، حتى شعورها المر القارص نحو الراقصة لم يستطع أن يفسده عليها. وظلت مستغرقة في ما ترى غير ملقية بالا إلى هبوط الظلام حتى أحست شيئا ما يجذب عينيها نحو اليسار، كأنه نداء يدعو حواسها إليه، أو ذاك الشعور الذي يقلقنا إذا أحدقت فينا عينان، ولبته على رغمها، فتحولت عن المونولوجست عاطفة رأسها إلى يسارها، فالتقت عيناها بعينين تتفرسان فيها بقوة وقحة! ولبثتا مقدار ثانية ثم عادتا إلى هدفهما، ولكنها لم تستطع أن تنعم باستغراقها الأول، وظل شعورها منتبها إلى العينين العارمتين، وجعلت حدقتاها تميلان ناحية اليسار، وساورها شك وقلق، فالتفتت مرة أخرى فالتقت بالعينين تتفرسان فيها بالقحة نفسها، وقد نمتا - إلى ذلك - عن ابتسامة غريبة. ولم تتمالك نفسها فأعادت رأسها إلى موضعه الأول في شيء من الحدة وقد ملأها الحنق. أحنقتها هذه الابتسامة الغريبة؛ لأنها أفصحت عن ثقة وتحد لا حد لهما؛ فهيجت موضع الالتهاب والانفجار من نفسها الشرسة المتفجرة، وشعرت برغبة جامحة أن تنشب أظافرها في شيء ما .. في رقبته لو أمكن مثلا! وصممت على أن تهمله، على نفورها من هذه الطريقة السلبية في العراك، وإن ظل شعورها قويا بعينيه الوقحتين! ونغص عليها سرورها، وركبتها روح الشر التي تلبسها بسرعة جنونية. وكأن صاحب العينين لم يقنع بما فعل، أو كأنه لا يبالي هذه النار التي شبها، فراح يشق طريقه إلى موضع في طريق بصرها الشاخص إلى السرادق، متعمدا بلا شك أن يعترض سبيلها، ووقف هناك موليا إياها ظهره .. كان طويل القامة، نحيفا، عريض المنكبين، حاسر الرأس، غزير الشعر، مرتديا بدلة ذات لون ضارب للاخضرار، متأنقا في ملبسه ومظهره، فلاح غريبا في هذا الوسط الذي يكتنفه، وسرعان ما أنستها الدهشة ما تولاها من حنق وتوحش. هذا أفندي وجيه، وأين من زقاقها الأفندية؟! ترى هل يعاود النظر وسط هذا الزحام؟ .. ولكن لم يكن شيء ليردعه، فما عتم أن التفت وراءه مرسلا نحوها نظرا عارما. وكان وجهه نحيلا مستطيلا، لوزي العينين، كثيف الحاجبين، تنطق نظرة عينيه بالحذق والقحة. ولم يكتف بهذا التفرس على الملأ فصوب فيها نظرة، وصعد من شبشبها المنجرد إلى شعرها، حتى انساقت وهي لا تدري إلى النظر إلى عينيه كأنما لتسبر ما تركه تفحصه من أثر، فالتقت عيناهما، ولاحت في عينيه هذه النظرة المثيرة الوقحة الواشية بما يتيه به من ثقة وتحد وظفر، فتناست دهشتها، وعاودها الحنق والغيظ والرغبة في العراك، فغلا دمها غليانا، وهمت أن تشتمه علانية .. همت أكثر من مرة، ولكنها لم تفعل، وتولاها قلق وانفعال وضاقت بوقفتها، فنزلت عن الحجر، ومرقت إلى الزقاق مندفعة على عجل، فقطعته في ثوان. وعندما اجتازت عتبة البيت شعرت برغبة في الالتفات إلى الوراء، ولكنه تمثل لعينيها في وقفته مرسلا عينيه في وقاحة وثقة، وقد ازدادت ابتسامته افتضاحا، فرغبت عن رغبتها، وارتقت السلم متعجلة حانقة تلوم نفسها على تساهلها معه وتفريطها في تأديبه. واتجهت نحو حجرة النوم وخعلت ملاءتها، ثم دلفت من النافذة المغلقة، ونظرت إلى الطريق من خلال خصاصها، وبحثت عيناها عن ضالتها حتى استقرتا عليه عند مدخل الزقاق، وكان يرمق النوافذ المطلة على الزقاق باهتمام، وقد فارقت عينيه ابتسامة الثقة والتحدي وحل محلها احتفال وتطلع. وسرها مظهره الجديد فانفثأ حنقها، ولبثت بموقفها تستلذ حيرته، وتنتقم لغيظها وحنقها. أفندي وجيه ما في ذلك من شك، وغير السابقين بلا جدال، وقد أعجبته، وإلا ففيم هذا الاهتمام الشديد؟! وأما نظرة عينيه فقاتلها الله من نظرة تستوجب أعنف عراك! .. فيم هذه الثقة التي لا حد لها؟ أيحسب نفسه بطل الأبطال أو أمير الأمراء؟ وخالط ارتياحها حنق، ووجدت رغبة غامضة إلى العنف والتحدي. ولكنه بدأ ييئس من النوافذ، وأعياه البحث عنها، وخافت أن ينصرف عن تطلعه ويغيب في الزحام. وترددت لحظة، ثم أدارت الأكرة، وفرجت ما بين مصراعي النافذة عن زيق ووقفت وراءه كأنما لتشاهد الحفلة. كان موليا الزقاق ظهره، ولكنها كانت مطمئنة إلى أنه سيعاود البحث والفحص والاستقصاء. وقد فعل، فتلفت رأسه مرة أخرى وتردد بين النوافذ، حتى علق بالزيق فأضاءت صفحة وجهه، ولبث لحظات كالمرتاب، ثم .. ثم ارتسمت على شفتيه الابتسامة الوقحة، ورد إليه مظهر التيه والخيلاء بأفظع مما كان، وأدركت أنها انزلقت إلى خطأ لا يغتفر بظهورها، وثارت ثائرتها واستولى عليها الحنق والغيظ، ووجدت في ابتسامته تحديا يدعوها للنزال! وجدت في هاتين العينين ما لم تجد عند أحد من قبل، وقرأتهما بوضوح على ضوء نفسها الغاضبة المتعطشة للعراك. وبدا الرجل وكأن شيئا لا يمكن أن يقفه عند حد فتحرك مصعدا في الزقاق بقدمين ثابتتين حتى خيل إليها أنه قادم إلى البيت. ثم مال إلى قهوة كرشة، واختار مجلسا ما بين المعلم كرشة وأريكة الشيخ درويش حيث كان يجلس عباس الحلو في الأيام الخوالي مستطلعا إلى شبحها وراء الخصاص. خطا بجلوسه هذا خطوة جريئة. ولكنها لم تتراجع، لبثت بموقفها مرسلة عينيها إلى المسرح، وإن كانت لا تكاد تدري بما يدور عليه، شاعرة ببصره يصوب نحوها من آونة لأخرى في ومضات متقطعة كالكشاف الكهربائي.

ولم يفارق الرجل مكانه حتى انتهت الحفلة وأغلقت النافذة.

وما انفكت حميدة تذكر هذه الليلة فيما أعقب ذلك من ليال وعهود.

20

ولم ينقطع بعد تلك الليلة عن زقاق المدق، فكان يجيء عند العصر ويتخذ مجلسه المختار، ويقطع وقته بتدخين النارجيلة واحتساء الشاي. وقد أحدث ظهوره الطارئ - بوجاهته وأناقته - دهشة في القهوة، ولكن سرعان ما سحبت العادة عليها ذيول الإهمال، فليس من الخوارق أن يقصد أفندي مثله قهوة مفتوحة لكل طارق. بيد أنه أتعب المعلم كرشة بما كان يقدم عند الحساب من أوراق نقدية ضخمة لا تقل في كثير من الأحيان عن الجنيه، كما أنه أسر سنقر بما كان ينفحه من بقشيش لا عهد له به من قبل. وراقبت حميدة مجيئه يوما بعد يوم بعين متفتحة ونفس متوثبة. ولكنها أحجمت بادئ الأمر عن خروجها إلى فسحتها اليومية لرقة ثيابها وتفاهتها، حتى ضاقت بالبيت ضيقا شديدا. ثم أغضبها إحجامها وعدته نوعا من الجبن لا يسيغه طبعها الجريء، وعز عليها أن يقضي مخلوق عليها بالتزام شيء تستكرهه، فنشبت معركة جديدة في صدرها الذي لا يستريح من المعارك. وقد رأت الأوراق النقدية التي كان يتعمد تقديمها لسنقر تحت بصرها، وفطنت بطبيعة الحال إلى دلالتها. وربما كانت هذه لغة ساقطة في غير هذا المكان، أما في زقاق المدق فهي لغة بليغة لا يخيب لها أثر، ومع أن الرجل كان شديد الحرص على ألا يبدو منه ما ينبه أحدا إلى الباعث الحقيقي لغشيانه القهوة، إلا أنه كان لا يعدم فرصة فيسترق النظر إلى خصاص النافذة، أو يضع مبسم النارجيلة على فيه زاما شفتيه كأنه يقبله، ثم يرسل الدخان إلى عل كأنما يرسل القبلة في الهواء إلى شبحها الجاثم وراء النافذة. وكانت ترى ذلك باهتمام، وتساورها أحاسيس متباينة لا تخلو من لذة ولا تخلو من حنق. وقد حدثتها نفسها بأن تنطلق إلى نزهتها ملقية بمخاوفها تحت نعليها، وأن تتلقاه إذا سولت له نفسه التعرض لها - الأمر الذي لا يداخلها فيه أدنى شك - بما تعهده في نفسها من قحة حقيقة بأن تهزم قحته شر هزيمة، وأن تسلقه بلسانها سلقا لا ينساه مدى الحياة. وإنه لأعدل جزاء على زهوه الكاذب، وابتسامته الظافرة، وتحديه الوقح. تبا له، ما الذي يدعوه لهذا التظاهر بالغلبة والقهر؟! لا ارتاح لها بال حتى تمرغ أنفه في الرغام، ولكن آه لو كانت تملك ملاءة حسنة أو شبشبا جديدا؟!

وقد اعترض سبيل حياتها وهي تعاني اليأس المرير؛ إذ سقط السيد سليم علوان بين حي وميت بعد أن مناها يوما وبعض يوم بالحياة العريضة التي تهيم بها، وبعد أن نبذت من أحلامها عباس الحلو ولفظته. وعلمت بعد ذلك أنه لم يعد ثمة أمل في ذاك الزواج المأمول، فردت على رغمها خطيبة للحلو، وقد ازدادت له مقتا ونفورا. وأبت أن تسلم بسوء حظها، وراحت تنتهر أمها وتتهمها بأنها حسدتها وطمعت في مال الرجل، فخيب الله آمالها. على هذه الحال لاح الرجل الجديد في أفق حياتها، وقد بعث ظهوره في نفسها ثورة عارمة جارفة استثارت كوامن غرائزها جميعا .. أغضبها زهوه، وأحنقها تحديه، وأغرتها وجاهته، وأيقظتها فحولته وجماله .. جذبتها نحوه قوة خفية من غرائزها المطمورة، ووجدت فيه ما لم يجتمع لسواه ممن عرفت من الرجال .. القوة والمال والعراك! ولم تكن تدرك مشاعرها بوضوح وجلاء، أو تدري حاجات نفسها الملتوية، فتحيرت بين انجذابها إليه، وبين رغبتها المضطرمة في الأخذ بتلابيبه، ثم وجدت في الانطلاق مهربا من سجنها وحيرتها معا، وفي فسحة الطريق مجالا تسبر فيه نفسها وغرائزها .. في الطريق يجوز أن يتعرض لها، فتتاح لها فرصة أن تتحداه كما تحداها، وأن تنفس عن غضبها وحنقها، وأن تلبي هذا النداء الخفي الذي يهيب بها إلى النزال والعراك .. والانجذاب! •••

وفي عصر يوم من تلك الأيام، أخذت زينتها، والتحفت ملاءتها وغادرت الشقة لا تعبأ شيئا في الوجود .. وانتهت إلى الطريق في أقل من دقيقة، ثم قطعت الزقاق لا تلوي على شيء. وخطر لها خاطر وهي تميل إلى الصنادقية، ألا يحق له أن يظن، بخرجتها هذه، الظنون؟ ألا تزعم له نفسه المغرورة أنها غادرت بيتها عمدا لتلقاه في الطريق؟! خصوصا وأنه لا يدري شيئا عن نزهتها اليومية المعتادة، وقد جاء أياما فلم يرها يوما تغادر البيت. فسيتبعها على الأثر، ويتعرض لها في الطريق. وقد أبت أن تقيم وزنا لظنونه، ورحبت بما عسى أن يدفعه إليه الغرور، وتوثبت للقائه بنفس تتحرق على التحدي والعراك متوعدة إياه بأن تمحو عن شفتيه هذه الابتسامة الظافرة السخيفة. وبلغت في سيرها الوئيد السكة الجديدة، فتخيلته وقد نهض من جلسته بالقهوة، وغادرها متعجلا حتى لا يضلها، ولعله ينحدر الآن بخطواته الواسعة إلى الغورية، ولعله يفتش عنها بعينيه المتفرستين الجسورتين. إنها تكاد تراه بظهرها وهو يهرول بجسمه الطويل، بينما لا تكاد ترى عيناها ما يضطرب به الطريق من أناس وسيارات وعربات. ترى هل أدرك بصره ما خرج في ابتغائه؟ .. وهل عاودته الابتسامة المتحدية الظافرة؟ .. قاتله الله من حيوان يجهل ما ينتظره! فلتواصل السير دون أن تلتفت إلى الوراء، حذار من الالتفات، فالتفاتة واحدة شر من الهزيمة. إنه وقح جريء، ولعله لا يفصلهما الآن سوى خطوات. ترى ماذا هو فاعل؟! أيقنع بتأثرها كالكلب؟ أم يسبقها قليلا ليريها نفسه؟ أم يحاذيها ويأخذ في مخاطبتها؟ وواصلت السير متنبهة قلقة، مترقبة متوثبة، تتوقع في كل خطوة جديدا، وتتفحص عيناها جميع الذين يلحقون بها من المارة، وتنصت بيقظة للأقدام التي تتحرك وراءها .. أرهقها الانتظار والتربص والتوثب، وكادت تراود إرادتها في التلفت؛ بيد أنها استعادت عنادها وفظاظتها وسارت لا تلوي على شيء، فما تدري إلا وصويحباتها من بنات المشغل يقبلن نحوها غير بعيدات، فخرجت من غيبوبتها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة، ثم سلمت، ودارت على عقبيها تسير وسطهن، وهن يسألنها عن سر غيابها أياما على غير عادة، واعتلت بالمرض وهي تعاين الطريق لترى موقعه منه. ومضت تنازعهن الحديث والمزاح وعيناها تترددان من طوار لطوار، ترى في أي مكان ينزوي؟ لعله يراها من حيث لا تراه، ومهما يكن من أمر فقد أفلتت من يديها فرصة تأديبه اليوم. كانت ترجو أن يتعرض لها بخيلائه فتزفر عليه غضبها وترعد فرائصه، ولكنه نجا من مخالبها. ولكن أين يكون؟ أيمكن أن يكون متأخرا عنهن إلى الوراء؟ ولم تستطع أن تقاوم رغبتها في التلفت هذه المرة. فالتفتت، وفحصت الطريق ببصر حاد، ولكنه لم يكن هناك .. لا إلى الوراء ولا إلى الأمام، ولا إلى اليمين ولا إلى اليسار! لعله تأخر قليلا في الإفلات من القهوة فأضلها، ولعله يتخبط الآن في الطريق لا يدري مكانها! وسرعان ما فترت حماستها وخمد نشاطها. وعندما انتهت إلى الدراسة خطر لها أنه ربما بدا لها هنا فجأة كما بدا يوما عباس الحلو، وتجدد الأمل، ونشطت الحماسة فودعت آخر صويحباتها، وعادت متمهلة تقلب عينيها في جنبات الطريق، ولكنه كان خاليا، أو كان خاليا ممن تبتغي. وقطعت ما تبقى منه بقلب كسير .. تنوء بهزيمة نكراء. وصعدت مع أرض الزقاق، واتجهت عيناها إلى القهوة، وأخذ المعلم كرشة يبدو لها شيئا فشيئا ابتداء من طرف عباءته، فكتفه الأيسر، حتى رأسه المتطامن، ثم .. رباه ما هذا؟ .. إنه لم يبرح مكانه، قابضا على خرطوم نارجيلته! .. وخفق قلبها بعنف، وتصاعد الدم إلى وجهها ورأسها، وهرولت إلى البيت لا تكاد ترى ما بين يديها، وارتقت السلم ذاهلة من الخجل - ولو أن الخجل ليس من سجاياها - وما كادت الحجرة تحتويها حتى انفجرت براكينها واستولى عليها غضب جنوني، فطرحت الملاءة على الأرض وارتمت على الكنبة. لمن إذا يجيء القهوة كل مساء؟ وكيف يسترق إليها النظر بعينيه الفاجرتين؟ .. ولمن يرسم تلك القبلة الخفية في الهواء؟! .. وتناوبت قلبها مشاعر الخيبة والحيرة والخجل والغضب. ثم انثالت عليها الفكر والخواطر: أيمكن ألا يوجد ارتباط بين مجيئه كل مساء وبين أفكارها، وأن ليست هذه الأفكار إلا أوهاما وأحلاما كاذبة؟ .. أم إنه تعمد أن يهملها اليوم تأديبا لها وتعذيبا، فهو يعبث بها عبث القوي بالضعيف؟! .. أتنهض إلى القلة وتقذفه بها فتحطم رأسه وتروي غلة الحنق والانتقام؟! واستولى عليها شعور ممض بالامتعاض لم تشعر بمثله من قبل، حتى لقد تساءلت في حيرة عما أصابها. بيد أنها لم تكن تجهل ما كانت تريد .. كانت تريد بلا شك أن يتبعها وأن يتعرض لها في الطريق.

ثم ماذا؟ ثم تقذفه بحمم الغضب، والحنق والوعيد .. لماذا؟ تحديا لثقته بنفسه وزهوه وابتسامته الواشية بالظفر. كانت ابتسامة الظفر أصل البلاء كله، فأدركت مغزاها بعقلها وغريزتها وروحها وجسمها. هي ابتسامة الصراع والعراك! وإنها على مساجلتها لقادرة، لا بل إنها لم تخلق إلا لتتلقى هذه الابتسامة ومثيلاتها فتجيب عليها. كانت تأسى على فوات معركة طالما ترقبتها بلهفة وشغف. وكانت في أعماقها تتحرق إلى أن تقيس قوتها بقوة هذا الرجل ذي الفحولة والجاه والخيلاء. هكذا تيقظت في عنف وشدة، وانبثت في نفسها روح اللهفة والتمرد والعراك والشوق.

لبثت على الكنبة فريسة لهياجها الوحشي، ثم تلفتت إلى النافذة ترمقها شزرا. وجعلت تتزحزح حتى صارت وراءها، ثم أرسلت بناظريها من خلال الخصاص، ترى ولا ترى، متلفعة بالعتمة التي غشيت الحجرة .. رأته في جلسته الهادئة، يدخن النارجيلة في طمأنينة وسلام، تلوح في عينيه الثقة بالنفس والحذق، وكأنه يعيش في عالم وحده منقطع عما حوله، وقد خلا وجهه من آثار هذه الابتسامة المثيرة. ها هو هادئ مطمئن؛ بينا هي تشتعل نارا. وتفرست فيه بقوة وحنق وما تزداد إلا انفعالا وحيرة. وظلت ملازمة مكانها حتى نادتها أمها لتناول العشاء فغادرت الحجرة. وقطعت ليلة مملة مضنية، ونهارا كئيبا، وانتظرت عصر اليوم الثاني في قلق متواصل. لم يكن يداخلها شك في مجيئه في الأيام الماضية. أما اليوم فباتت تترقب قلقة شاردة النفس. وراحت تراقب ضوء الشمس وهو ينحسر عن أرض الزقاق ويرقى وئيدا جدار القهوة. ومن عجب أن خامرها الخوف من عدم مجيئه، ولعلها ابتدعت ذلك بغريزة المحارب المشاكس وكيده. وجاء موعده دون أن يبدو له أثر، وتصرمت دقائق، فمن المؤكد أنه لا يحضر اليوم. بيد أن هذا التخلف قد حقق ظنها، فأدركت أنه تغيب متعمدا: وارتسمت ابتسامة على شفتيها وتنهدت من الأعماق ارتياحا. لم يكن من شيء واضح يدعو للارتياح حقا، ولكن غريزتها أسرت إليها بأنه إذا كان اليوم قد تخلف عن الحضور متعمدا، فلا شك أنه بالأمس تعمد كذلك ألا يطاردها، فليس ثمة إهمال أو عدم مبالاة، لا بل على العكس من ذلك فإنه يخوض غمار المعركة بمهارة وحذق، وإنه لصامد في الميدان حتى في هذه الساعة التي لا يرى له أثر فيها. وارتاحت إلى سرار غريزتها، واطمأنت إليه، وتوثبت للنضال بعزم جديد. ونبا بها المكوث في البيت فتلفعت بملاءتها وغادرت البيت دون أن تعنى بزينتها كما اعتنت بها أمس. ولفح الهواء البارد في الطريق وجهها فأنعشها، وذكرها انتعاشها بما قاست يومها من قلق وفكر، فغمغمت ساخطة: «يا لي من مجنونة! .. كيف جشمت نفسي هذا العذاب؟! ألا فليزدرده الموت!» واستحثت خطاها حتى التقت بصويحباتها، ثم عادت معهن وقد أنذرنها بأنهن سيفقدن قريبا إحداهن التي ستتزوج من زنفل صبي دكان طعمية سيدهم، وقالت إحدى الفتيات: لقد خطبت قبلها؛ ولكنها ستتزوج قبلك!

وأثارها قولها فقالت بحدة وخيلاء: إن خطيبي مشغول بإعداد مستقبل باهر.

تباهت بالحلو على رغمها، ثم ذكرت متحسرة السيد سليم علوان - قتله الله ككل شيء غير ذي نفع - فتنزى قلبها ألما، وتولاها الوجوم بقية الطريق .. شعرت بأن الحياة تعاندها وتكيد لها، والحياة هي العدو الوحيد الذي لا تدري كيف تأخذ بتلابيبه. وسارت في رفقة الفتيات حتى آخر الدراسة، ثم ودعت أخراهن ودارت على عقبيها لتعود من حيث أتت. وعلى بعد أذرع رأته - رجلها دون غيره - واقفا على الطوار كالمنتظر! وثبتت بصرها عليه لحظات تحت تأثر المفاجأة التي دهمتها، واعتراها شيء من الارتباك عضت عليه أصابع الندم بعد فوات الفرصة، ثم واصلت السير في شبه ذهول. لم تكن مستعدة لهذا اللقاء، ولم يعد يداخلها شك في أنه كان يتأثرها طوال هذا الوقت. وهكذا يحكم هو التدبير في هدوء، ويدهمها هي في كل مرة الارتباك والذهول. وأخذت تنادي قواها المبعثرة وتستعدي وحشيتها، وقد آلمها أشد الألم أنها لم تجد زينتها كما ينبغي، وأحدث لها ذلك غير قليل من القلق. كان الجو متخشعا تحت سمرة المغيب، والمكان كالمقفر، وكان الرجل ينتظر دنوها في هدوء، بوجه وديع لا أثر فيه لنظرة التحدي ولا لابتسامة الظفر، فلما حاذته خاطبها بصوت منخفض قائلا: من يتحمل مرارة الصبر يبلغ.

ولم تسمع تتمة عبارته لأنه غمغمها، فحدجته بنظرة حادة، ولم تنبس بكلمة، وسارت لحال سبيلها، فسايرها وهو يقول بصوته الهادئ العميق: أهلا وسهلا .. كدت أجن بالأمس لأني لم أستطع الجري وراءك حذر العيون، وكنت أنتظر مثل تلك الخرجة صابرا يوما بعد يوم، فلما جاءت الفرصة دون أن أستطيع انتهازها كدت أجن.

إنه يطالعها بوجه وديع، غير الوجه الذي أهاجها، فلا تحد ولا ظفر، وكلامه أشبه بالشكوى والتوجع والاعتذار، وهي إنما توثبت لغير هذا، فما عسى أن تصنع الآن؟ أتهمل شأنه وتحث خطاها فينتهي كل شيء؟

تستطيع أن تفعل هذا لو أرادت؛ ولكنها لم تجد مشجعا من قلبها، وكأنها تنتظر هذا اللقاء منذ اليوم الأول بشعور امرأة ليس الحياء من سجاياها.

وكان الرجل من ناحيته يمثل دوره بمهارة، ويحيك أكذوبة ماكرة، فلم يكن خوفه الذي أقعده أمس عن تعقبها، ولكنه استوحى غريزته اليقظة وخبرته الفائقة فأوحتا إليه بأن القعود في حالته خير من العجلة، كما أوحتا إليه اليوم بأن يتلثم بهذا القناع الزائف من الأدب والوداعة .. وعاد يقول لها برقة: تمهلي قليلا .. عندي ...

فالتفتت إليه وقاطعته بحدة: كيف سولت لك نفسك أن تخاطبني؟! .. أتعرفني يا هذا؟!

فقال بأدبه الزائف: كيف لا؟ .. نحن أصدقاء قدماء .. وقد رأيتك في الأيام الماضية أكثر مما رآك الجيران في أعوام طوال، وفكرت فيك أكثر مما فكر ألصق الناس بك مدى عمره، فكيف لا أعرفك بعد هذا كله؟!

تكلم برقة ولكن بلا تلعثم ولا تهدج .. وازدادت هي تعلقا بكلامه ورغبة في مساجلته، وتولاها شعور بالاستهانة، هو السلاح الوحيد الذي تستطيع أن تشهره في وجه عناد الحياة. بيد أنها لم ترد الخروج على «سنة التصنع والتمثيل»، فقالت بحدة وهي تحرص على ألا يعلو صوتها فيفضح جرسه الخشن: لماذا تتبعني؟

فابتسم الرجل وقال بدهشة: لماذا أتبعك؟! .. لماذا أهمل أعمالي وألزم القهوة تحت نافذتك؟ لماذا أهجر الدنيا جميعا مقيما بزقاق المدق؟ .. ولماذا انتظرت هذا الزمان الطويل؟!

فقطبت وقالت بازدراء: لست أسألك حتى تجيبني بهذه السخافات؛ ولكني أنكر عليك أن تتبعني وتخاطبني.

فقال بلهجة جديدة تنم عن الثقة واللباقة: الأصل أن نتبع الحسناء أينما سارت. هذه هي القاعدة؛ فإذا ما سارت ولم يتبعها أحد فهذا هو الشذوذ الموجب للإنكار حقا، أو بمعنى آخر إذا سرت ولم يتبعك أحد فهذا إيذان بقرب القيامة.

ومرت عند ذاك بعطفة العوارجة حيث يقيم بعض صويحباتها، فتمنت أن يرينها وهذا الأفندي يغازلها! ولاح لها ميدان المسجد غير بعيد فانتهرته قائلة: ابتعد .. هذا حي يعرفني!

وكان يتفحصها بنظر ثاقب، فأيقن أنها تجاذبه الحديث وهي لا تدري، أو وهي تدري، فارتسمت على شفتيه ابتسامة لو رأتها لأعادت إلى رأسها ذكريات وحشية .. وقال لها: لا هذا الحي حيك، ولا هؤلاء الناس أهلك! أنت شيء آخر، إنك ها هنا غريبة.

فأمن قلبها على قوله، وسرت به سرورا لم تشعر بمثله لقول قبله. واستدرك الرجل قائلا كالساخط: كيف تسيرين بملاءتك بين هؤلاء الفتيات! .. أين هن منك؟ أميرة في ملاءة، ورعية ترفل في الثياب الجديدة!

فقالت بحدة: ما لك أنت ولهذا؟ ابتعد.

فقال محتجا: لن أبتعد أبدا.

فسألته بحدة: ماذا تريد؟

فقال بجرأة عجيبة: أريدك أنت، ولا شيء غيرك! - ذبحة. - سامحك الله .. لماذا تغضبين؟ .. ألست في الدنيا لتؤخذي؟ .. وإني لآخذك.

ومرا في طريقهما ببعض الدكاكين، فنهرته قائلة: لا تخط خطوة واحدة، وإلا ...

فقال مبتسما: الضرب!

وخفق قلبها، وتألقت عيناها، فقالت: صدقت.

فقال وهو يبتسم ابتسامة خبيثة: سنرى .. سأتركك الآن على رغمي، ولكني سأنتظرك كل يوم .. لن أعود إلى القهوة حتى لا أثير الشبهات في الزقاق، ولكني سأنتظر كل يوم، مع سلامة الله يا أجمل من حملت الأرض.

واصلت السير وقد انبسطت أسارير وجهها، ولاح فيه البشر والسرور والغرور .. «أنت شيء آخر» .. أجل، وماذا قال أيضا؟ «إنك ها هنا غريبة» .. «ألست في الدنيا لتؤخذي؟ .. وإني لآخذك» .. وماذا قال أيضا؟ .. «الضرب!» داخلتها لذة جنونية، وسرور وحشي، فقطعت الطريق لا تكاد ترى شيئا. ولما أوت إلى غرفتها واستردت أنفاسها، ذكرت في عجب وزهو أنها استطاعت أن تساير رجلا غريبا وتحادثه بلا حياء ولا ارتباك! .. وأنها تستطيع أن تفعل ما تشاء بلا تردد، وغمرتها موجة عارمة من الاستهانة والاستهتار حتى أفلتت منها ضحكة عالية. ثم ذكرت ما كانت عقدت العزم عليه من الأخذ بتلابيبه! .. فاستولى عليها الوجوم لحظة قصيرة، ثم جعلت تعتذر لنفسها بأنه لم يلقها بذاك الوجه الصفيق المتحدي؛ لا بل راح يحدثها حديثا رقيقا مؤدبا، لا عن وداعة طبيعية، فقلبها يحدثها بأنه نمر يتحين فرصة للوثوب، فلتنتظر .. لتنتظر حتى يتكشف عن حقيقته، وهنالك؟!

وعاودتها لذتها الجنونية وسرورها الوحشي.

21

كان الدكتور بوشي يهم بمغادرة شقته حين جاءته خادمة الست سنية عفيفي تدعوه لمقابلة سيدتها. وعبس وجه الدكتور وتساءل في إنكار: «ماذا تريد المرأة؟! .. زيادة إيجار؟!» ولكنه سرعان ما نفى هذا الظن عن خاطره؛ لأن الست سنية لا تستطيع أن تتحدى القوانين العسكرية التي تحدد أجور المساكن في أثناء الحرب. وغادر شقته وارتقى السلم متجهم الوجه. كان الدكتور بوشي - كعادة السكان - يستثقل الست سنية عفيفي، ولا يفتأ يشهر ببخلها في كل زمان ومكان. وقد شنع عليها يوما فقال: إنها تفكر في بناء حجرة خشبية على سطح بيتها لتقيم فيها وتؤجر شقتها. وضاعف حقده عليها أنه لم يقدر - ولو مرة واحدة - على الإفلات من أداء أجرة شقتها إليها؛ إذ كانت المرأة تستعين بالسيد رضوان الحسيني إذا حرج الأمر. فلم يسر الرجل بهذه الدعوة، ودق الباب وهو يتعوذ قائلا: «لطفك يا دافع البلاء!» وفتحت له الست بنفسها، وكانت ملتفعة بخمار، ودعته إلى حجرة الاستقبال ودخل الرجل وجلس. ولحقت به الخادم بالقهوة فشرب، ثم قالت له الست: دعوتك يا دكتور لتكشف على أسناني.

ولاح الاهتمام في عيني الرجل، واستولى عليه السرور لهذه المفاجأة التي لم يتوقعها قط، وشعر نحو الست بمودة لأول مرة في حياته وسألها: وهل وجدت ألما لا سمح الله؟

فقالت الست سنية: كلا والحمد لله، ولكني فقدت بعض الضروس والأسنان ونغض البعض الآخر.

وتضاعف سرور الدكتور، وذكر ما تهامس به أهل الزقاق من أن الست ستغدو عما قريب عروسا، فلعب الطمع بقلبه وقال: الأوفق أن تركبي طقما جديدا.

فقالت الست: هذا ما فكرت فيه، ولكن هل يلزم وقت طويل لذلك؟

فنهض الرجل واقفا واقترب منها وهو يقول: افتحي فمك.

ففغرت المرأة فاها، وتفحصه الرجل بعينين ضيقتين، ولم يجد به إلا أسنانا معدودات، فدهش وأحس ببعض الخيبة، ولكنه حذر أن يهون من خطورة عمله، فقال في تؤدة: يلزمنا بضعة أيام لاقتلاع هذه الأسنان، ولكن ربما اضطررنا إلى الانتظار ستة أشهر قبل تركيب الطقم حتى تجف اللثة وتأخذ راحتها.

ورفعت المرأة حاجبيها المزججين في انزعاج، وكانت تتوقع أن تزف إلى بعلها في بحر شهرين أو ثلاثة على الأكثر، وقالت بجزع: لا .. لا، أريد عملا سريعا، لا يتأخر عن شهر بحال.

فقال الرجل بمكر وخبث: شهر يا ست سنية؟! .. مستحيل.

فقالت المرأة باستياء: إذن مع السلامة!

فتريث الرجل قليلا ثم قال: هناك سبيل واحد إن شئت.

فأدركت أن الرجل يحاورها بمكر التاجر الخبيث، وامتلأت حنقا عليه ولكنها دارت حنقها لحاجتها إليه، وسألته: ما هو؟ - أن أركب لك طقما ذهبيا، فهذا يمكن تركيبه عقب الخلع مباشرة.

وانقبض قلبها خوفا، وراحت تفكر في تكاليف الطقم الذهبي. وكادت تنبذ اقتراح الرجل لولا أن تذكرت العروس المرتقب؛ إذ كيف يمكن أن تلقى عروسها بهذا الفم الخرب؟ كيف تؤاتيها شجاعتها على الابتسام إليه؟ وكان من المعروف لدى أهل الزقاق جميعا أن أسعار الدكتور بوشي هينة، وأنه يستبضع طقومه من هنا وهناك بمهارة ويبيعها بأبخس الأثمان، فلا يسأل من أين يأتي بها، وبحسبهم رخصها. ولكن الطقم الذهبي - على رغم هذه الحقائق جميعا - شيء له خطره، فلذلك تخوفت المرأة التي ألفت الحرص، وسألته بغير احتفال شأن المستهين باقتراحه: وكم يكلفني الطقم؟

فقال الدكتور الذي لم يخدع باستخفافها الظاهري: عشرة جنيهات؟

وانزعجت المرأة التي تجهل الأثمان الحقيقية للطقوم الذهبية ورددت قوله في إنكار: عشرة جنيهات!

وتميز الرجل غيظا وقال: إن ثمنه لا يقل عن خمسين جنيها عند أولئك الأطباء الذين يتاجرون بفنهم؛ ولكننا وا أسفاه قوم سيئو الحظ.

وتجاذبا الثمن الذي اقترحه؛ هو يحاول أن يستمسك به، وهي تروم خفضه، حتى تم الاتفاق على ثمانية جنيهات، وغادر الدكتور الشقة وهو يلعن في سره العجوز المتصابية.

وكانت الست سنية عفيفي، تلك الأيام، تلقى الحياة بوجه جديد، كما كانت الحياة تطالعها بوجه جديد كذلك .. بات الأمل السعيد قاب قوسين أو أدنى، وأصبحت الوحدة ضيفا ضعيف الظل يأخذ أهبته للرحيل، وأوشكت البرودة الجاثمة في روحها أن تذوب وتجري ماء دافئا. بيد أن السعادة لا تنهل بغير ثمن، وبغير ثمن فادح أيضا. ولقد عرفت هذا الثمن الفادح في ترددها على محال الأثاث بشارع الأزهر، ومعارض الثياب بالموسكي. ومضت تنفق مما اكتنزت ذاك الدهر الطويل، بل وتنفق بغير حساب. وكانت أم حميدة لا تكاد تفارقها في حلها وترحالها، وأثبتت لها بمهارتها الفائقة، وبما تقدم لها من معونة في كل خطوة تخطوها، أنها كنز نفيس لا يقدر بثمن، وإن كان باهظ التكاليف في الوقت نفسه. ولم تقبض عنها يدها معللة نفسها بوشك انتهاء هذه المحنة. على أن الأثاث والثياب لم تكن كل شيء، ولم يكن بيت العروس الشيء الوحيد الذي يستوجب التجديد؛ وإنما كانت العروس نفسها تستوجب الرعاية والعناية والترميم، وقد قالت يوما لأم حميدة وهي تضحك في غير قليل من الارتباك: يا ست أم حميدة، ألا ترين أن الهموم قد أشعلت الشيب في سوالفي؟!

فقالت أم حميدة التي كانت تعلم أن الهموم بريئة مما ترميها به: نداوي الهموم بالصبغة، وهل توجد ثمة امرأة لا تصبغ شعرها في زماننا هذا؟

فضحكت المرأة بسرور وقالت: بورك فيك يا ست النساء كلهن، ترى ماذا كنت أفعل بحياتي لولاك أنت؟

وتريثت قليلا، ثم مسحت على صدرها وقالت: رباه، هل يرضي هذا الجسد الجاف عروسك الشاب؟ .. ولا أثداء ولا أرداف ولا شيء مما يجذب الرجال!

فقالت أم حميدة: لا تستقلي نفسك، ألم تعلمي بأن النحافة موضة وأية موضة! ومع ذلك فإن شئت صنعت لك أقراصا عجيبة تسمنك في وقت قصير.

وهزت أم حميدة وجهها المجدور بفخار واستدركت قائلة: لا تخافي شيئا ما دامت أم حميدة معك .. أم حميدة مفتاح سحري تفتح له جميع الأبواب المغلقة، وغدا تلمسين قدري في الحمام إذا حوانا معا!

وهكذا كرت أيام الاستعداد في نشاط وتعب وسرور وأمل، وصبغ شعر وتحضير عقاقير، وخلع أسنان مثرمة وتركيب أسنان ذهبية، وبين يدي ذلك كله نقود تنفق. تغلبت على عادة الحرص، وطرحت معبودها الأصفر عند قدمي الغد المرموق، وفي سبيل هذا الغد المرتقب زارت الحسين ونذرت له ما تيسر من مال وثريد للفقراء الذين يحدقون بجامعه، كما نذرت للشعراني أربعين شمعة.

وقد نال العجب من أم حميدة كل منال وهي تلحظ هذا التغير الكبير الذي قلب الست سنية رأسا على عقب، فجعلت تضرب كفا بكف وتقول لنفسها: هل يستأهل الرجال كل هذا العناء؟! جلت حكمتك يا رب، فأنت الذي قضيت على النساء أن يعبدن الرجال!

22

استيقظ عم كامل من إغفاءته المزمنة على رنين جرس، ففتح عينيه، وأنصت قليلا، ثم اشرأب بعنقه حتى برز رأسه من الدكان، فرأى حنطورا معروفا يقف أمام الزقاق، فنهض في عناء وهو يقول بسرور ودهشة: «رباه، هل عاد السيد سليم علوان حقا؟» وكان الحوذي قد زايل مقعده وهرع إلى باب العربة ليعين سيده على النزول، واعتمد السيد على ذراعه، ثم ظهر جسمه مقوسا، ووقف أخيرا على الأرض يصلح هندامه. حجبه المرض في أواسط الشتاء، وأعاده الشفاء في أوائل الربيع، وقد غمرت برودة الشتاء القارصة موجة لطيفة من الدفء رقصت لها الدنيا طربا. ولكن أي شفاء هذا؟! لقد عاد السيد رجلا آخر .. اختفى الكرش الذي كان يشق الجبة والقفطان، وتقعر الوجه الممتلئ الدموي، فبرزت وجنتاه وغار خداه ولوح الشحوب بشرته، وخبا نور العينين فقلقت فيهما نظرة شاردة ذابلة تحت جبين عابس. ولم يتبين عم كامل بادئ الأمر ما طرأ على السيد من تغير لضعف بصره، حتى إذا اقترب منه ولاحظ ذبوله تولاه الانزعاج، وانحنى على يده كأنما ليخفي انزعاجه، وصاح بصوته الرفيع: حمدا لله على السلامة يا سي السيد، ذا يوم أبيض، والله والحسين ما يساوي الزقاق من غيرك قشرة بصلة!

فقال له السيد سليم وهو يسترد يده: بورك فيك يا عم كامل.

وسار متمهلا متوكئا على عصاه، يتأثره الحوذي عن كثب، ويتبعه عم كامل مترنحا كالفيل، والظاهر أن رنين الجرس قد أعلن حضوره، فسرعان ما ازدحم باب الوكالة بالعمال، وأقبل من القهوة المعلم كرشة والدكتور بوشي، وأحاط به الجميع مهللين داعين، ولكن الحوذي علا صوته وهو يقول: أفسحوا للسيد من فضلكم، دعوه يجلس أولا ثم سلموا.

وأفسحت له اللمة، فواصل مسيره عابسا، وفؤاده يغلي حنقا وغيظا، وقد ود لو لم تقع عيناه على وجه من هذه الوجوه. وما كاد يطمئن به مجلسه وراء المكتب حتى أقبل عمال الوكالة يستبقون، فلم يجد بدا من أن يسلمهم يده يقبلونها واحدا بعد آخر، تأذيا من لمس شفاههم، مخاطبا نفسه: «يا لكم من كذابين مرائين! .. أنتم والله أصل هذا البلاء!» وتفرق العمال فجاء المعلم كرشة وشد على يده وهو يقول: مرحبا بسيد الحي جميعا .. ألف حمد الله على السلامة.

فشكره السيد. أما الدكتور بوشي فقد قبل يده وقال له بلهجة خطابية: اليوم يحق لنا الفرح، واليوم تطمئن جنوبنا، واليوم يتحقق لنا الدعاء!

فشكره أيضا مداريا تأففه؛ لأنه كان يستكره وجهه الصغير المستدير، ولما أن خلا المكان تنهد من صدر ضعيف، وقال بصوت لا يكاد يسمع: «كلاب .. كلهم كلاب .. عضوني بعيونهم الحاسدة!» وراح يطارد أشباحهم في مخيلته لينقي صدره مما استثاره من حنق وغيظ وتأثر، ولم يترك لخلوته طويلا، فجاءه كامل أفندي إبراهيم وكيله ومثل بين يديه، وسرعان ما نسي بمجيئه كل شيء إلا الحساب والمراجعة، وقال له باقتضاب: الدفاتر.

وهم الرجل بالتحرك؛ ولكنه استوقفه فجأة كأنما تذكر أمرا هاما، وقال له بلهجة آمرة: نبه الجميع إلى أني من الآن فصاعدا، لا أحب رائحة تدخين (كان التدخين قد حرم عليه بأمر الطبيب)، وخبر إسماعيل بأنني إذا طلبت إليه ماء أن يهيئ لي قدحا نصفه ماء عادي والنصف الآخر ماء دافئ .. التدخين في الوكالة ممنوع منعا باتا، والدفاتر بسرعة.

وذهب الوكيل لإبلاغ الأوامر الجديدة، متذمرا في باطنه؛ لأنه كان من مدمني التدخين. ثم عاد بعد قليل حاملا الدفاتر، ولم يغب عنه ما ترك المرض في طبع السيد من تغير وتبدل، فركبه الهم، وأيقن أنه مقبل على حساب عسير. وجلس كامل أفندي قبالة السيد، وفتح الدفتر الأول، وبسطه بين يديه، فبدأت المراجعة. كان السيد في عمله محيطا ماهرا لا تفوته فائتة وإن دقت، فأكب على مراجعة الدفاتر دفترا دفترا بهمة لا تكل ولا تمل، غير راحم نفسه المتهالكة، وقد اتصل في أثناء ذلك ببعض عملائه متحققا من مواعيد حضورهم، مطابقا بين أقوالهم وبين المدون في الدفاتر، وكامل أفندي صابر متجهم لا يخطر له الاحتجاج على بال. ولم تكن المراجعة بالشيء الوحيد الذي يتابعه بأفكاره، فكان ينوء صامتا بأمر تحريم التدخين الذين استصبح به على غرة، وهو أمر لم يحرم عليه التدخين في الوكالة فحسب، ولكنه أضاع عليه في الوقت نفسه ما كان يتفضل السيد بتقديمه له من سجائر كوتاريللي الفاخرة. وقد رمق الرجل المكب على الدفاتر بنظرات غريبة، وقال لنفسه متكدرا ساخطا: «رباه .. لشد ما تغير الرجل، هذا شخص غريب لا يعرفه!» وعجب لشاربه الذي احتفظ به رغم هذا التغير بضخامته وفخامته في وجه طمست سماته ومعالمه، وعفى عليها المرض الخطير فكأنه نخلة سامقة في صحراء جرداء .. وأخرجه الحنق والاستياء عن طوره فقال مخاطبا نفسه: «من يدري؟ .. لعله يستأهل ما نزل به، إن الله لا يظلم أحدا.» وانتهى السيد من المراجعة في زهاء ثلاث ساعات، فرد الدفاتر إلى الوكيل، وهو يحدجه بنظرة غريبة؛ نظرة مراجع لم يعثر على ما يريبه، ومع ذلك فلا يخلو من الريب. وجعل يخاطب نفسه قائلا: «سأعاود المراجعة مرة أخرى، لا بل مرات، حتى أكشف عما تبطن هذه الدفاتر، كلهم كلاب .. بيد أنهم أخذوا عن الكلاب نجاستها، وزهدوا في أمانتها!» ثم خاطب الوكيل قائلا: لا تنس ما نبهتك إليه يا كامل أفندي: رائحة التدخين والماء الدافئ.

وجاء بعد ذلك بعض العملاء من الخواجات فهنئوه بالسلامة، ثم خاضوا فيما لديهم من الأعمال، وقد أراد بعضهم أن يؤجل عمله تخفيفا عنه، ولكنه قال باستياء: لو كنت عاجزا عن العمل ما جئت الوكالة.

وما كاد يخلو إلى نفسه حتى استبدت به أفكاره الناقمة الموتورة، فراح يصب غضبه - كديدنه في هذه الأيام الأخيرة - على الناس أجمعين. ولطالما قال عنهم إنهم حسدوه، وإنهم نفسوا عليه الصحة والوكالة والحنطور وصينية الفريك، فلعنهم من أعماق الفؤاد. وكثيرا ما كان يردد هذه الظنون في أثناء مرضه، ولم تنج زوجه نفسها من شر ظنونه، فحدجها يوما بنظرة شزراء، وهي تجلس إلى جانب فراشه وقال لها بصوت يتهدج ضعفا وسخطا: وأنت يا ست لك نصيبك من هذا، فطالما دوختني بقولك: إن أيام الصينية انتهت، وكأنك تنفسين علي صحتي، فالآن كل شيء انتهى، فقري عينا.

وقد تأثرت المرأة لقوله واستعبرت طويلا، ولكنه لم يرق لها، ولم يلن من حدته، واستدرك يقول مغيظا محنقا: حسدوني .. حسدوني، حتى زوجتي وأم أبنائي قد حسدتني.

ولكن إذا كان زمام الحكمة قد أفلت من يديه، فقد كان الموت قبل ذلك تخايل لعينيه غير بعيد. وإن ينس لا ينس تلك الساعة المروعة المزلزلة ساعة الأزمة؛ كان يتهيأ للهجوع حين أحس بنغصة تصدع لها صدره، وشعوره بحاجة ماسة إلى تنفس عميق، ولكن عجز عن الشهيق والزفير، وكان كلما عاود المحاولة حزه الألم وقطعه الوجع، حتى استسلم في قنوط وعذاب مريرين. وجاء الطبيب وتجرع العقاقير، ولكنه لبث أياما يراوح بين يقظة الحياة وغيبوبة الموت. وكان إذا رفع جفنيه المتعبين الثقيلين رأى ببصر زائع زوجته وبناته وأبناءه محدقين به، محمرة أعينهم من البكاء. وهوى إلى تلك الحالة الغريبة التي يفقد الإنسان فيها كل إرادة على جسده وعقله، فيلوح له العالم سحابة دكناء من ذكريات غامضة متقطعة لا تبين ولا تكاد تربط بينها رابطة.

وفي اللحظات القليلة التي استرد فيها شيئا من وعيه يتساءل في رجفة باردة: «هل أموت؟!» أيموت وحوله الأهل جميعا؟! ولكن الإنسان لا يفارق الدنيا عادة إلا منتزعا من أيدي أحبائه، فماذا أفاد الأموات تعلق الأحباء بهم؟! ورغب ساعتئذ أن يدعو الله وأن يتشهد، فخانه ضعفه، وتصاعد الدعاء والشهادة حركة باطنية ابتل بها ريقه الجاف. ولم ينسه إيمانه - على رسوخه - أهوال تلك الساعة، فاستسلم جسمه على رغمه. أما روحه، فتعلقت بأهداب الحياة في فزع وجزع، حتى سحت عيناه دمعا مدرارا ونطقت نظرتهما بالاستصراخ والاستغاثة، ولكن كان في الأجل بقية، فجاز طور الخطر، وبلغ بر النقاهة، ورجع إلى أحضان الحياة رويدا رويدا، ومنى نفسه باسترداد صحته وعافيته وسابق سيرته. ولكن تحذيرات الطبيب ووصاياه اهتصرت أمنيته، وقضت على أمله، ولم تبق له من الحياة إلا على شيء يسير. أجل، أجل، نجا من الموت، ولكنه انقلب شخصا جديدا ذا جسم رقيق وروح مريض، وبكرور الأيام استفحل مرض روحه فصار ضجرا وتمردا وكراهية وعبوسا. وقد عجب لهذه العثرة التي اعترضت سبيل حظه، وتساءل: بأي ذنب آخذه الله سبحانه؟ وكان ذا ضمير من هذه الضمائر الراضية التي تقيم الأعذار لأصحابها وتحسن مسالكهم، وتغضي عن أخطائهم، وكان يحب الحياة حبا جما، فتمتع بماله ومتع به آله، والتزم - فيما يظن - حدود الله، فاطمأن بذلك إلى الحياة اطمئنانا عميقا، حتى انتبه منه على هذه الهزة العنيفة التي ذهبت بصحته، وأوشكت أن تذهب بعقله .. ما ذنبه؟ .. لا ذنب له، ولكنهم الناس غرماؤه هم الذين أوردوه بحسدهم هذا العطب الأبدي! وهكذا أمر من نفسه ما كان حلوا، وارتسم على جبينه عبوس لا يريم. والحق أن ما فقد الرجل من صحته لم يكن سوى شيء يسير بالقياس إلى ما فقد من أعصابه.

وقد تساءل وهو جالس إلى مكتبه في الوكالة: أحقا لم يبق له من الحياة إلا أن يقبع في هذا المكان ويراجع الدفاتر؟! وتراءى له وجه الحياة أشد تجهما من وجهه. وجمد كالتمثال، ومضى وقت لا يدريه وهو غارق في أفكاره، حتى سمع حسا عند مدخل الوكالة، فالتفت نحوه فرأى أم حميدة مقبلة بوجهها المجدور، ولاحت في عينيه نظرة غريبة، فسلم، وأنصت بربع انتباه إلى دعاء المرأة وترحيبها، وقد شغلته الذكريات القديمة عما عداها.

أليس من العجيب أن ينسى حميدة كأنها شيء لم يكن؟! لقد طافت به ذكراها في نقهه مرات، ومرت به دون أن تترك أثرا. لم يأسف عليها بمثل ما طمح إليها، ثم أنسيها بعد ذلك كأنها شيء لم يكن، أو كأنها كانت نقطة في دم الصحة الذي كان يجري في عروقه، فلما أن غاب ونضب تطايرت في الهواء، وغابت من عينيه النظرة الغريبة التي رسمتها الذكريات، وعاد بصره إلى جموده، فشكر للمرأة حضورها لتهنئته ودعاها للجلوس، ووجد مضايقة في حضورها كادت تنقلب كراهية، وتساءل عما دعاها للمجيء حقا، أهو التهنئة الخالصة لوجه الله، أم الاطمئنان على ما سبق منه من رغبة؟ ولكن المرأة لم تكن عند سوء ظنه، لأنها كانت أيست منه منذ أمد بعيد، ومع ذلك قال لها وكأنه يعتذر: أردنا .. وأراد الله!

فأدركت المرأة مقصده وقالت بعجلة: لا عليك من هذا يا سي السيد، وما نسأل الله إلا الصحة والعافية.

وسلمت المرأة مرة أخرى وغادرت الوكالة وقد تركته أسوأ حالا وأشد انقباضا، وقد حدث عند ذاك أن انزلق شوال حناء من بين يدي عامل، فاشتد به الغضب، وانتهره بقسوة صائحا: ستغلق عما قريب الوكالة أبوابها، فابحثوا عن مرتزق جديد.

ولبث برهة ينتفض من شدة الغضب والتأثر. وكأن هذا الغضب ذكره بما اقترحه عليه أبناؤه أخيرا من تصفية أعماله والخلود للراحة، فتضاعف غضبه وهياجه، وجعل يقول لنفسه: إنها ليست راحته التي يبتغون، ولكنه المال، ألم يقترحوا عليه الاقتراح نفسه سابقا وهو في عنفوان قوته؟! .. فالمال طلبتهم، لا صحته ولا راحته. ونسي في غضبه أنه - هو نفسه - كبر عليه أن تنحصر آماله في العمل في الوكالة، وألا يجد لذة في الحياة إلا إرهاق النفس في جمع مال لا يستطيع أن يتمتع به، ولكنه العناد الذي أولع به أخيرا، وسوء ظنه بالناس جميعا الذي لم ينج أولاده أنفسهم وزوجه من بعض آثاره .. وقبل أن يفيق من حمى الغضب والهياج سمع صوتا جهيرا يقول في عمق وحنان معا: حمدا لله على السلامة .. السلام عليكم يا أخي.

فالتفت نحو مصدر الصوت فرأى السيد رضوان الحسيني مقبلا بجسمه الطويل العريض، ووجهه المشرق المتألق، فانبسطت أساريره لأول مرة وهم بالوقوف، ولكن السيد بادره بوضع راحته على منكبه وهو يقول: حلفتك بالحسين إلا ما جلست!

وتصافحا بحرارة. وكان السيد رضوان قد زار قصر الرجل مرات في أثناء مرضه، ولما لم يمكنه مقابلته بعث له بتحياته ودعواته. وجلس السيد على مقعد قريب وراحا يتحدثان في رقة ومودة، قال السيد سليم علوان بتأثر شديد: نجوت بأعجوبة!

فقال السيد رضوان بصوت عميق هادئ: الحمد لله رب العالمين .. نجوت بأعجوبة، وتعيش بأعجوبة، إن استمرار المرء ثانية واحدة من الزمان يحتاج لمعجزة ضخمة من القدرة الإلهية، فعمر أي إنسان فان .. سلسلة من المعجزات الإلهية، وما بالك بأعمار الناس جميعا، وحيوات الكائنات جميعا؟! فلنشكر الله بكرة وأصيلا، آناء الليل وأطراف النهار، وما أتفه شكرنا حيال هذه النعم الربانية!

وأصغى إليه في جمود، ثم تمتم قائلا بضجر: المرض شر قبيح.

فابتسم السيد رضوان وقال: ربما كان كذلك في ذاته؛ ولكنه من ناحية أخرى امتحان إلهي، وهو من هذه الناحية خير.

ولم يرتح الرجل لهذه الفلسفة، وحنق بغتة على قائلها، فضاع الأثر الطيب الذي أحدثه مجيئه، ولكنه لم يستسلم لانفعاله على غير عادته أخيرا، وقال بلغة وشت بتذمره: ماذا فعلت حتى ينزل بي هذا العقاب؟ .. ألا ترى أني فقدت صحتي إلى الأبد؟

فعبث السيد بلحيته الجميلة، وقال بشيء من المعاتبة: أين يقع علمنا الضحل من هذه الحكمة الباهرة؟! حقا إنك رجل طيب، بار، كريم، قوام على الفرائض، ولكن الله امتحن عبده أيوب وهو نبي، فلا تأس ولا تحزن، وأبشر بالإيمان خيرا.

ولكن الرجل زاد انفعاله، وقال بحدة: أرأيت إلى المعلم كرشة كيف يحتفظ بصحة البغال؟ - إنك بمرضك خير منه بصحته وعافيته.

وغلبه الغضب، فرمق محدثه بنظرة ملتهبة وقال: إنك تتحدث في سكينة وطمأنينة، وتعظ في ورع وتقوى؛ ولكنك لم تذق بعض ما ذقت، ولم تخسر شيئا مما خسرت.

وتطامن رأس السيد حتى ختم الرجل خطابه، ثم رفع رأسه وعلى شفتيه ابتسامته الحلوة، وحدجه بنظرة عميقة من عينيه الصافيتين، وسرعان ما استكن غضبه وفتر انفعاله، وكأنه يذكر لأول مرة أنه يخاطب أكبر مصاب من عباد الله. وطرفت عيناه، وتورد وجهه الشاحب قليلا، ثم قال بصوت ضعيف: اعذرني يا أخي، إني تعب مرهق.

فقال السيد ولم تفارق الابتسامة شفتيه: لا عليك من هذا، قواك الله وسلمك، اذكر الله كثيرا، فبذكر الله تطمئن القلوب، ولا تدع الأسى يغلب عليك إيمانك أبدا، فالسعادة الحقة ترتد عنا على قدر ما نرتد عن إيماننا.

فقبض الرجل على ذقنه بشدة وقال بحنق: حسدوني .. نفسوا علي المال والجاه .. حسدوني يا سيد رضوان! - الحسد شر من المرض، وإنه لمن المحزن حقا أن الذين ينفسون على إخوانهم حظهم من المتاع الفاني كثيرون. لا تأس، ولا تحزن، وسلم إلى الله ربك الرحيم الغفور.

وتحادثا طويلا، ثم ودعه السيد رضوان وانصرف، ولبث الرجل هنيهة كالهادئ، ثم أخذ يعود رويدا رويدا إلى عبوسه وتجهمه، ونبا به القعود طويلا، فنهض قائما، ومشى متمهلا إلى باب الوكالة، ووقف عند مدخلها شابكا يديه وراء ظهره .. كانت الشمس تعلو كبد السماء، والجو دافئا مشرفا، وقد بدا الزقاق كالمقفر في تلك الساعة من الظهيرة، اللهم إلا الشيخ درويش الذي جلس أمام القهوة يتشمس، فلبث السيد مليا، ثم تلفت - بحكم عادة قديمة - نحو النافذة، فوجدها مفتوحة خالية، وكأنه ضاق بموقفه فرجع إلى مجلسه متجهما عابسا.

23 «... لن أعود إلى القهوة حتى لا أثير الشبهات.» هذا ما قاله لها عند افتراقهما، وقد ذكرته حميدة في صباح اليوم التالي لمقابلة الدراسة، ذكرته بخيال حي يقظ سعيد، وتساءلت: أتذهب للقائه اليوم؟ فأجاب قلبها: «نعم» دون خفاء؛ ولكنها قالت بعناد: «كلا .. يجب أن يعود إلى القهوة أولا.» وامتنعت عن الخروج في موعدها المألوف، وقبعت وراء النافذة تنتظر ما يكون. وانصرمت ساعة المغيب، وأطبق الليل ناشرا جناحيه، وعند ذاك أقبل الرجل من أسفل الزقاق مصوبا عينيه نحو الزيق الذي انفرج عنه خصاص النافذة تلوح في وجهه ابتسامة تنم عن التسليم، وجلس على كرسيه المختار. وشعرت وهي ترقبه ببهجة الانتصار، ولذة الانتقام لعذابها يوم أعياها العثور عليه في الموسكي .. والتقت عيناهما طويلا - دون أن تغضي أو ترتد عن موقفها - فازداد ظل ابتسامته امتدادا، ووشى وجهها بابتسامة وهي لا تدري. ماذا يبغي يا ترى؟ وبدا لها هذا السؤال غريبا، إذ لا تدري لمثل إلحاحه في طلابها إلا معنى واحدا، سعى إليه من قبل عباس الحلو، وطمح إليه السيد سليم علوان قبل أن يحطمه الدهر، فلماذا لا يكون غاية هذا الأفندي الوجيه؟! أو لم يقل لها: «ألست في الدنيا لتؤخذي؟ .. وإني لآخذك»؟! فما عسى أن يعني هذا إن لم يعن الزواج؟! ولم يعق أحلامها عائق، لشدة شعورها بقوتها وثقتها بنفسها، بل وغرورها الجامح. وجعلت تنظر إليه من وراء خصاصها المنفرج، وتتلقى نظراته المسترقة باطمئنان وثبات وبلا تردد. وحادثتها عيناه حديثا عميقا يعيي اللسان والحواس جميعا، فتردد صداه في أعماق نفسها محركا غرائزها. ولعلها وجدت هذا الشعور العميق الصادق - وهي لا تدري - يوم التقت عيناهما أول مرة، يوم حدجها بنظرته العارمة المتحدية، وابتسم إليها تلك الابتسامة الظافرة، فانجذبت إليه كما تنجذب إلى المعترك المستعر. والحق أنها عرفت قدرا من نفسها على ضوء عينيه، فلم تعد الضالة في متاهة الحياة، ولم تعد الحائرة إلى نظرة عباس الحلو الوديعة وثروة السيد علوان الطائلة، ولكنها شعرت بأن هذا الرجل طلبتها، وأن ما يستثيره في صدرها .. الانفعال والإعجاب والاستفزاز هو لذتها التي تجذب إليها بفطرتها، كما تجذب إبرة البوصلة إلى القطب، وأنه رجل من غير الحثالة التي يستعبدها الفقر والحاجة كما يشهد بذلك مظهره وأوراقه المالية. وراحت ترنو إليه بعينين متألقتين تذكيان ضياء من وجد وتوثب، ولم تبرح مكانها حتى غادر القهوة وهو يودعها بابتسامة خفيفة، فأتبعته ناظريها وهي تقول وكأنها تتوعده: «غدا.»

وفي عصر الغد غادرت البيت بقلب ملؤه الشوق والتحدي والهيام بالحياة. وما كادت تخرج من الصنادقية حتى رأته عن بعد واقفا عند ملتقى الغورية بالسكة الجديدة، فلاحت في عينيها لمعة خاطفة، وانبعث في صدرها شعور غامض غريب؛ وهو مزيج من السرور والرغبة الوحشية في القتال! وقدرت أنه سيتبعها في الذهاب والإياب حتى يخلو لهما الجو في الدراسة. فسارت على مهل دون أن يخالجها شعور بالاضطراب أو الحياء، واقتربت منه كأنها لا تراه، ولكن حدث - وهي تمر به - ما لم يقع لها في حسبان، فقد سار معها ومد يده بجرأة لا توصف فقبض على راحتها، وقال لها بهدوء متجاهلا المارة والواقفين: مساء الخير يا عزيزتي!

أخذت على غرة، فحاولت أن تسترد يدها؛ ولكنها لم تفلح، وخافت إن أعادت الكرة أن تستلفت الأنظار، فاستولى عليها الارتباك والغيظ، ووجدت نفسها بين اثنتين؛ فإما غضب وفضيحة وجرسة ثم قطيعة، وإما استسلام تستكرهه لأنه فرض عليها فرضا مقهرا، فامتلأت حنقا، وهمست بصوت منخفض متهدج من الغضب: كيف تجرؤ على هذا؟ .. دع يدي بسرعة.

فأجابها بهدوء وهو يمشي إلى جانبها كأنهما صديقان ينطلقان معا: حلمك .. حلمك، لا كلفة بين الأصدقاء.

فقالت وهي تتميز غيظا: الناس .. الطريق.

فاستعطفها بابتسامة قائلا: لا تبالي أناس هذا الطريق، فهم مجانين المال، ولا يرون إلا ما في رءوسهم من حسابات. هلا ملت إلى دكان صائغ فأنتقي منه حلية تليق بحسنك؟!

فاشتد غيظها لعدم مبالاته وقالت بوعيد: أتتظاهر بأنك لا تعبأ شيئا؟

فقال بهدوء والابتسامة لا تفارق شفتيه: لست أقصد إثارتك، ولكني انتظرتك لنتمشى معا، ففيم غضبك؟

فقالت بقوة: إني أمقت هذا التهجم، فاحذر أن تخرجني عن وعيي.

وطالع نذر الشر في وجهها فسألها في رجاء: أتعدينني بأن نسير معا؟

فهتفت به: لا أعد شيئا .. دع يدي.

فأطلق يدها دون أن يبتعد عنها، وقال لها متملقا: يا لك من جبارة عنيدة. هاك يدك، ولكننا لن نفترق، أليس كذلك؟

وتنهدت في غيظ، ونظرت إليه شزرا وهي تقول: يا لك من سمج مغرور!

فتقبل الشتيمة بابتسامة وصمت، وسارا جنبا لجنب دون أن تبتعد عنه، وذكرت كيف تربصت له بالأمس القريب لتمثل به في هذا الطريق، ولكنها الآن لا تفكر في هذا، وحسبها أنها أجبرته على إطلاق يدها، بل لعله لو حاول استردادها مرة أخرى لما مانعت، وهل كانت غادرت بيتها وفي عقلها شيء غير لقائه؟! وفضلا عن هذا كله فقد ساءها أن يبدو أشد طمأنينة وجسارة منها، فسارت إلى جانبه غير عابئة بالسابلة، متخيلة ما سيحدثه منظره في نفوس فتيات المشغل من الدهشة المقرونة بالحسد، وسرعان ما عاود قلبها الشوق والاستهانة والرغبة الجامحة في الحياة والمغامرة .. وراح الرجل يقول: إني أعتذر عما بدر مني من خشونة، ولكن ما حيلتي في عنادك؟! تعمدت تعذيبي، وما أستحق إلا عطفك جزاء ما أكن لك من عاطفة صادقة، وما أبذل في سبيلك من عناء متصل.

ما عسى أن تقول له؟ إنها ترغب أن تخاطبه، وأن تبادله الحديث، ولكنها لا تدري كيف، خصوصا وأن آخر ما نطقت به كان نهرا وشتيمة، وقطع عليها تفكيرها أن رأت صويحباتها مقبلات غير بعيدات، فقالت بارتياع كاذب: صاحباتي!

ونظر الرجل فيما أمامه فرأى الفتيات وقد ركزن عليه نظرات متفحصة .. وعادت تقول بلهجة تنم عن التأنيب، وهي تداري سرورها: فضحتني!

فقال بازدراء، وإن سره أن تلازم جانبه، وأن تخاطبه خطاب الرفيق للرفيق: لا عليك منهن .. فلا تباليهن.

واقتربت الفتيات، فبادلتهن نظرات ذات معان، وهي تذكر بعض ما قصصن عليها من مغامرات، ثم مررن بهما متضاحكات متهامسات. وعاد الرجل يقول في خبث ودهاء: هؤلاء صاحباتك؟ .. كلا، لا أنت منهن ولا هن منك، ولكني أعجب كيف يتمتعن بحريتهن، بينما تقبعين أنت في البيت! وكيف يرفلن في الثياب الزاهية بينا تلتحفين أنت في هذه الملاءة السوداء؟! كيف حدث هذا يا مليحة؟ .. أهو الحظ؟ ولكن يا لك من صابرة متجلدة!

وتورد وجهها، وخيل إليها أنها تصغي إلى قلبها يتحدث، وقبست عيناها جذوة من قلبها المستعر حماسا وعاطفة، واستدرك بثقة ويقين: هذا حسن خليق بالنجوم.

واهتبلت هذه الفرصة لتبادله الحديث، فعطفت نحوه رأسها مبتسمة بجرأتها الفطرية، وتساءلت وهي لا تدري ما يعنيه: النجوم؟!

فابتسم إليها ابتسامة حلوة وقال : نعم .. ألا تذهبين إلى السينما؟ .. يدعون الحسناوات من الممثلات بالنجوم.

وكانت تذهب إلى سينما أوليمبيا مع أمها في فترات متباعدة لمشاهدة بعض الأفلام المصرية، فأدركت ما يعنيه، وغمر شعورها سرور راقص لاحت آثاره الوردية في خديها، وساد الصمت خطوات ثم سألها برقة: ترى ما اسمك؟

فقالت بلا تردد: حميدة.

فقال مبتسما: أما الذي سحرت لبه ففرج إبراهيم. في مثل حالتنا يكون الاسم آخر ما يعرف، وهو يعرف عادة بعد أن يكون الشخصان قد أيقنا أنهما واحد، أليس كذلك يا ست الملاح؟

ليتها تتقن الكلام كما تتقن السب والعراك مثلا! إنه يحسن الحديث ولكنها عاجزة عن مجاراته، وقد ضايقها ذلك، ولم تقنع بالدور السلبي الذي يلذ بنات جنسها، وتشوقت بفطرتها إلى شيء آخر، غير الانتظار والسكوت والحياء. ولما كان الإفصاح عن هذا الشعور الغامض غير ميسور، فقد ساورها قلق وانفعال، وحدجته بنظرة ثاقبة. وزاد من أسباب انفعالها أن انتهى الطريق، فشارفا ميدان الملكة فريدة على غير شعور بالوقت، ولم تر بدا من أن تقول وهي تدفن حسرتها في أعماقها: الآن نعود.

فقال بإنكار: نعود! - هذه نهاية الطريق.

فقال محتجا: ولكن الدنيا لا تنتهي بانتهاء الموسكي. لماذا لا نجول في الميدان!

فقالت على رغمها: لا أريد أن أتأخر عن موعد عودتي، أن تقلق أمي.

فقال بإغراء: إذا شئت ركبنا تاكس فيقطع بنا مسافة طويلة في دقائق معدودات.

تاكس! رنت الكلمة في أذنيها رنينا عجيبا. ولم تكن ركبت في حياتها إلا العربة الكارو. ومضت ثوان قبل أن تفيق من سحر الكلمة العجيبة، بيد أن الأمر لا يخلو من اعتبار آخر وهو ركوب التاكس مع رجل غريب، إلا أنها وجدت في هذا الاعتبار داعيا للهجوم لا للنكوص، وتولاها نزوع طاغ إلى المغامرة، كأنما لقيت فيه ترويحا عن ذاك الشعور القلق المكتوم الذي أعياها الإفصاح عنه قبل ذلك بقليل، ولم تكن تدري أن بها مثل هذه الطاقة على الاستهتار والمغامرة حتى ليتعذر القول أيهما كان أشد استحواذا على مشاعرها في تلك اللحظة: الرجل الذي حرك أعماقها أم المغامرة ذاتها، ولعلهما كانا الاثنين معا. ولاحت منها نظرة إليه فرأته ينظر إليها بإغراء وعلى شفتيه ظل الابتسامة التي طالما أهاجتها، فتغير شعورها وقالت: لا أريد أن أتأخر.

فشعر بخيبة وقال متأسفا: أتخافين؟

فازداد شعورها حدة وقالت بتحد: لست أخاف شيئا.

فأضاء وجهه، وكأنه عرف أشياء وأشياء، وقال بسرور: سأدعو تاكس!

وكفت عن المعارضة، وثبتت عيناها على التاكس وهو يقترب من موقفهما حتى وقف قبالتهما، وفتح الباب لها، فانحنت قليلا خافقة الفؤاد وهي تقبض على مساك ملاءتها، وصعدت إليه، وتبعها الرجل وهو يقول لنفسه بارتياح: «وفرنا تعب يومين أو ثلاثة أيام.» ثم سمعته وهو يقول للسائق: «شارع شريف باشا.» شريف باشا، لا المدق ولا الصنادقية ولا الغورية ولا حتى الموسكي، شريف باشا! .. ولكن لماذا عين هذا الشارع بالذات؟! .. وسألته: أين تقصد؟

فقال، وكان كتفه يمس كتفها: نجول قليلا ثم نعود.

وتحرك التاكس فتناست كل شيء إلى حين، حتى ذلك الرجل الذي يكاد يلتصق بها. وقلقت عيناها بين الأنوار التي تتخطفها، فلاحت لها الدنيا الجديدة خلال زجاج النافذة باهرة ضاحكة. وانتقلت حركة التاكس إلى جسمها وروحها، فانبعثت في نفسها نشوة مطربة، وتهيأ لها أنها تطير طيرانا، وتحلق في سماء الدنيا، وكأن وجدانها من البهجة يسجع شاديا متجاوبا مع انسياب الحركة وتجدد المناظر والأنوار، حتى تألقت عيناها بوميض مشرق، وافتر ثغرها عن إشراق وذهول. وجرى التاكس في خفة، يخوض خضما من العربات والسيارات والترام والناس، وجرى معه خيالها، فاستحر حماسها، وسكرت مشاعرها، ورقص قلبها ودمها وخواطرها. ثم أفاقت إفاقة مباغتة على صوته يهمس في أذنها قائلا: «انظري إلى الحسان كيف يرفلن في ثيابهن النورانية!» أجل .. إنهن يتمايلن مبعثرات كالكواكب المنيرة .. ما أجملهن! ما أبدعهن! وذكرت عند ذاك فحسب ملاءتها وشبشبها فانقبض قلبها، واستيقظت من نشوتها كما يستيقظ الحالم من حلمه السعيد على لدغة عقرب. وعضت على شفتها في امتعاض، ثم تملكتها مرة أخرى روح التمرد والثورة والعراك! وتنبهت إلى أنه التصق بها وهي لا تدري، فأخذت تستشعر مسه الذي انتشر في حواسها، وحمي به قلبها، فهفت إليه بقوة فوق إرادتها. ورنا إليها بلحظ كأنما يستطلع ميولها، ثم تناول راحتها بلطف وجعلها بين راحتيه، وتشجع باستسلامها فهوى بفمه إليها. وكأنها أرادت أن تتقيه فألقت برأسها إلى الوراء قليلا، ولكنه لم يجد في ذلك رادعا كافيا، فطبع شفتيه على شفتيها وسرت في أعماقها رعدة، وشعرت برغبة جنونية تدعوها إلى أن تعض شفتيه حتى تدميهما! .. رغبة جنونية حقا، ركبتها كما يركبها عفريت العراك، ولكنه ارتد عنها قبل أن تنفذها! ولبثت شعلة الجنون متأججة في صدرها تهيب بها إلى أن ترتمي على صدره وتنشب أظافرها في رقبته، حتى أنقذه منها صوته وهو يقول برقة: هذا شارع شريف باشا .. وهذا بيتي على بعد خطوات، ألا تحبين أن تريه؟!

والتفتت متوترة الأعصاب إلى حيث تومئ سبابته، فرأت عمارات تناطح السحاب لم تدر أيتها يعني. وأمر السائق بالوقوف أمام واحدة منها، وقال لها: في هذه العمارة.

ورأت عمارة ضخمة سامقة ذات مدخل أوسع من زقاق المدق، ثم ارتد عنها طرفها في حيرتها، ثم سألت بصوت منخفض: في أي طابق؟

فقال مبتسما: الأول .. لن تتجشمي مشقة إذا تفضلت بزيارتها.

فرمقته بنظرة حادة منتقدة، فاستدرك قائلا: ما أسرع غضبك! .. ومع ذلك دعيني أسألك ما وجه العيب في ذلك؟ ألم أزرك دواما منذ وقعت عليك عيناي؟ فلماذا لا تردين الزيارة ولو مرة واحدة؟

ماذا يريد الرجل؟ .. أتحدثه نفسه بأنه وقع على صيد سهل؟ .. أأطمعته القبلة التي استسلمت لها فيما هو أجل وأخطر؟ هل أعماه غروره وشعوره بالظفر؟! .. وهل هذا مآل الحب الذي أفقدها وعيها؟! .. واشتعل الغضب بقلبها، وتوثبت جميع قواها للنضال والتحدي، وتمنت لو تطاوعها نفسها على السير معه إلى حيث يريد، لتريه من نفسها ما يجهل، ولترد إليه صوابه. أجل، دعاها شعورها المتمرد الجامح إلى خوض غمار هذه المعركة. وهل كان في وسعها أن تدعى إلى النزال ثم تعرض عن الداعي؟! لم يكن الذي يستفزها غضب للفضيلة أو الخلق أو الحياء، فهذه جميعها اعتبارات لم تألف الغضب لها أو الغيرة عليها، ولكنه غضب لكبريائها وشعورها الطاغي بقوتها ورغبتها الجنونية في الملاحاة والعراك، ولم تخل أيضا من جنون المغامرة الذي قذف بها إلى التاكس! وجعل الرجل ينعم إليها النظر وهو يقول لنفسه في تفكير وسخرية معا: «محبوبتي من النوع الخطر الذي يفرقع باللمس، فيستوجب العناء الشديد والترويض الماهر.» ثم قال لها برجاء ورقة: أرجو أن أقدم لك قدحا من الليمون.

ورمته بنظرة قاسية متحدية، ثم غمغمت: لك ما تشاء.

وفتح الباب مسرورا، وانزلق إلى الطريق، وتبعته على الأثر باستهانة وجرأة، ووقفت تتفحص المكان والرجل يدفع الأجرة للسائق. وجرت خواطرها إلى الزقاق الذي خرجت منه اليوم، وعجبت للمغامرات التي اقتحمتها غير هيابة حتى انتهت إلى هذه العمارة الهائلة! من يصدق هذا؟! وما عسى أن يقول السيد رضوان الحسيني مثلا لو رآها تمرق إلى هذه العمارة؟ وارتسمت ابتسامة على شفتيها، وداخلها شعور غريب بأن هذا اليوم هو أسعد أيام حياتها على الإطلاق.

وهرع الرجل إليها، وأخذ يدها، فدخلا العمارة معا، وارتقيا سلما عريضا إلى أول طابق، ثم سارا في ردهة طويلة إلى باب شقة على يمين القادم، واستخرج من جيبه مفتاحا عالج به الباب وهو يقول لنفسه بارتياح: «اكتسبت يوما أو يومين آخرين!» ثم دفع الباب وأوسع لها، فدخلت ودخل وراءها، ثم أغلقه. وجدت نفسها في دهليز طويل يعترض الداخل تحدق به الحجرات من الجانبين، ويضيئه مصباح كهربائي قوي الإشعاع. ولم تكن الشقة خالية، ففضلا عن المصباح الذي كان مضاء قبل مجيئها ترامت إلى أذنيها أصوات من وراء الأبواب المغلقة؛ كلام وزعق وغناء! واتجه فرج إبراهيم إلى الباب قبالة المدخل ودفعه، ودعاها للدخول، فانتقلت إلى حجرة متوسطة، مؤثثة بمقاعد جلدية ما بين كراسي وكنبات، تتوسطها سجادة مربعة مزركشة، وفي الصدر منها مرآة مصقولة تناطح السقف، وتنهض على منضدة مستطيلة مذهبة الأرجل، وقد طالع الرجل نظرة الدهشة الحائرة في عينيها بسرور وقال لها بلطف: اخلعي ملاءتك وتفضلي بالجلوس.

فاقتعدت كرسيا دون أن تخلع ملاءتها وقد ارتاح جسمها إلى مسنده ومقعده الطريين، وتمتمت بلهجة تنم عن التحذير: ينبغي ألا أتأخر!

فمضى إلى مائدة أنيقة وسط الحجرة قام عليها «ترموث» وفض سدادته وأفرغ منه في قدحين (شراب الليمون المثلوج)، وقدم لها قدحا وهو يقول: سيعود بك التاكس في دقائق.

وشربا معا حتى رويا، ثم أعاد القدحين إلى المائدة، وفي أثناء ذلك استرقت إليه نظرات فاحصة، سبرت بها جسمه الفارع الرشيق، وثبتت عيناها غير قليل على يده، فراعها جمالها وجاذبيتها .. كانت جميلة التكوين، رشيقته، سبطة الأنامل، توحي بالقوة والجمال معا، فنالها منها تأثير عجيب لم تجده لغير نظرته من قبل. وجعل يطيل النظر إليها مبتسما ابتسامة رقيقة كأنما يطمئنها ويشجعها، ولكنها لم يداخلها ظل من الخوف؛ وإن توترت أعصابها قليلا من الحذر والتوجس والتوثب، وذكرت الأصوات التي سمعتها حال دخولها الشقة، فعجبت كيف نسيتها؟! وسألته: ما هذه الضوضاء في الشقة؟

فأجابها قائلا وكان لا يزال واقفا قبالتها: بعض الأهل، وسوف تعرفينهم في الوقت المناسب .. لماذا لم تخلعي ملاءتك؟

وكانت ظنته يقيم بمفرده حين دعاها إلى بيته، فعجبت كيف يقودها إلى بيت مأهول؟! وتجاهلت سؤاله الأخير، ولبثت ترنو إليه بسكينة وتحد، ولم يعاود سؤاله، ولكنه اقترب منها حتى مس حذاؤه شبشبها، ومال نحوها قليلا ثم مد يده إلى يدها فشد عليها، وجذبها برقة وهو يقول: هلمي نجلس على الكنبة.

ولم تمانع .. فنهضت قائمة إلى حيث جلسا جنبا لجنب على كنبة كبيرة. وكانت تتقاسمها في تلك اللحظة مشاعر الميل إلى الرجل الذي تحبه، وأحاسيس التحدي للرجل الذي قد تمنيه نفسه بأنه قادر على الضحك على ذقنها. واقترب الرجل منها رويدا حتى لاصقها، ثم أحاط خاصرتها بذراعه، وهي مستسلمة ساكنة لا تدري متى يحق لها المقاومة .. ومد يسراه إلى ذقنها فرفع ثغرها إليه وهوى بفمه متمهلا كأنه ظمآن يكرع من جدول، حتى التقت الشفاه .. وطال التقاؤهما كأنما أخذتهما سنة من الغرام. وأما هو فكان يستجمع حرارته وقوته في شفتيه لينفذ بهما إلى ما يريد، أما هي فكانت تسكر وتثمل، إلا أن توثبها أفسد عليها رقية السحر التي تحرق شفتيها فظلت متنبهة متربصة، وأحست يده تسترخي عن خاصرتها، وترتفع إلى منكبها، ثم تهفو الملاءة عنه، فخفق فؤادها بعنف، وتصلب عنقها مبتعدا عنه، وأعادت الملاءة بحركة عصبية إلى موضعها وهي تقول بجفاء: كلا!

ونظر إليها بدهشة فوجدها تطالعه بنظرة جامدة تنطق بالإباء والعناد والتحدي، فابتسم متبالها وهو يقول لنفسه: «هي كما ظننت متعبة؛ بل متعبة جدا.» .. ثم خاطبها قائلا بصوت منخفض: لا تؤاخذيني يا عزيزتي فقد نسيت نفسي.

وأدارت وجهها عنه لتخفي ابتسامة ارتسمت على شفتيها سرورا بالظفر، ولكن ذلك لم يطل أمده، فقد وقع بصرها اتفاقا على يده، فأدركت لأول وهلة الفارق الكبير بين يده الجميلة ويدها الخشنة، وتولاها الحياء، ثم قالت له باستياء: لماذا جئت بي إلى هنا؟ .. هذا شيء سخيف!

فقال معترضا بحماس: هذا أجمل شيء فعلته في حياتي! .. لماذا تستوحشين من بيتي؟! أليس هو بالتالي بيتك أيضا؟!

ولاحت منه نظرة إلى شعرها وقد انحسرت عنه الملاءة، فأدنى رأسه ولثمه قائلا: لله ما أجمل شعرك! .. إنه أجمل شعر رأيته في حياتي.

قال ذلك صادقا رغم رائحة الغاز التي ذابت في أنفه، فلذها إطراؤه؛ بيد أنها سألته: إلام نبقى هنا؟ - حتى يتم التعارف بيننا، فلدينا بلا ريب أشياء وأشياء ينبغي أن نقولها، أخائفة أنت؟ .. محال! .. أراك لا تخافين شيئا!

فغلبها السرور حتى اشتهت أن تقبله، ورنق الصفاء في صدرها. وكان يتفرس في وجهها فقال لنفسه: «الآن فهمتك يا ابنة اللبؤة!» ثم قال لها بصوت تنتفض نبراته حرارة: لقد اختارك قلبي، وقلبي لا يكذبني، ومن يجمعهما الحب لا يفرقهما شيء، فأنت لي وأنا لك.

وأدنى وجهه منها كالمستأذن، فمالت بعنقها نحوه، فالتقيا في قبلة عنيفة، واستشعر ضغط شفتيها الساحر على شفتيه يكاد يعصرهما، فهمس في أذنها: محبوبتي .. محبوبتي.

وزفرت من الأعماق، ثم اعتدلت في جلستها لتسترد أنفاسها، وراح يقول برقة بالغة في صوت كالهمس: هنا مكانك، وهذا بيتك، بل هنا (وأومأ إلى صدره) مأواك .. فضحكت ضحكة قصيرة وقالت: أراك تذكرني بأنه ينبغي أن أعود الآن إلى البيت.

وكان في الواقع يستلهم خطة مرسومة من قبل، فقال بإنكار: أي بيت تعنين؟ .. بيت الزقاق! .. آه، ليتك تمسكين عن ذكر ذاك الحي جميعا. ماذا يعجبك في هذا الزقاق؟! لماذا تعودين إليه؟!

فضحكت الفتاة قائلة: كيف تسألني عن هذا؟! أليس هو بيتي وأهلي؟!

فقال بازدراء: لا البيت بيتك، ولا الأهل أهلك، إنك من طينة أخرى يا محبوبتي، ومن الكفر أن يعيش جسم حي نضير في مقبرة مليئة بالعظام النخرة! ألم تري إلى الحسان يرفلن في الثياب الفاخرة؟ وإنك لتفوقينهن جمالا وفتنة، فكيف لا تخطرين مثلهن في المطارف والحلي؟ .. إن الله أرسلني إليك لأرد إلى جوهرك النفيس حقه المسلوب؛ وعلى ذلك أقول: إن هذا بيتك وكفى.

ولعبت كلماته بقلبها كما تلعب أنامل العازف بأوتار الكمان، فخدر شعورها، وتقارب جفناها، ولاحت في عينيها نظرة حالمة؛ ولكنها تساءلت: ماذا يعني يا ترى؟ .. هذا حقا ما يهفو إليه فؤادها، فما السبيل إلى تحقيق الأحلام وتقريب المنى؟ .. لماذا لا يفصح عما يريد ويصرح بما ينوي؟ .. إنه يعبر أروع تعبير عن آمالها وأحلامها ورغباتها، إنه ينطق بلسانها الخفي ويشي بأعماقها جميعا، إنه يجلو الغامض الخفي ويجسم المعروف حتى لكأنها تراه رؤية العين، إلا شيئا واحدا لم يمسسه صراحة، ولم يقتحم السبيل إليه، فما حكمة التردد يا ترى؟! ونظرت إليه بعينيها الجميلتين الجسورتين وسألته: ماذا تعني؟

فشعر الرجل بأنه ينتقل إلى مرحلة خطيرة من مراحل خطته المرسومة، ورماها بنظرة منوم بارع، ثم قال بصوت خافت: أعني أن تبقي في البيت اللائق بك، وأن تتمتعي بأسعد ما تجود به الحياة.

وضحكت ضحكة قصيرة في ارتباك وحيرة وتمتمت: لا أفهم شيئا!

فمسح على مفرق شعرها بحنان، متعوذا بالصمت ريثما يرتب أفكاره، ثم قال: لعلك تتساءلين كيف يريدني على أن أبقى في بيته؟! .. فأذني لي أن أسألك بدوري: لماذا تعودين إلى المدق؟ .. ألتنتظري هناك شأن الفتيات البائسات حتى يتعطف رجل من مخلوقات الزقاق فيتزوجك ويلتهم حسنك النضير وشبابك الغض، ثم يتركك لقى في الزبالة؟! لست أحادث فتاة بلهاء تذهب بها كلمة فارغة وتجيء بها أخرى، ولكني أعلم علم اليقين أنك شابة قليلة الأشباه، جمالك فتان، ومع ذلك فهو مزية واحدة بين مزايا عديدة تكاد تغطي عليه. أنت الجسارة نفسها، ومثلك إذا أراد شيئا يقول له: كن فيكون.

وانكفأ لونها، وجمدت قسماتها، فقالت بحدة: هذه دعابة لا تجوز علي! .. بدأت مازحا، وانتهيت وكأنك جاد. - دعابة؟! .. لا والله، لا وحق قدرك عندي، أنا لا أداعب حين الجد خاصة شخصا مثلك ملأني تقديرا واحتراما وحبا. وإذا صدق حدسي فأنت قلب كبير يستهين بكل شيء في سبيل سعادته، ولا يمكن أن تقف في سبيله عقبة. إني أريد شريكا في حياتي، وإنك لشريكي دون الناس جميعا.

فهتفت به في انفعال شديد: أي شريك؟! .. إذا كنت تجد حقا فماذا تريد؟ .. الطريق بين. فإذا أردت ...

وكادت تقول: «أن تتزوجني»، ولكنها أمسكت، وسددت نحوه نظرات حادة مريبة، فلم يفته مرادها، واستشعر سخرية باطنة، ولكنه واصل سيره حيث لم تعد ثمة فائدة ترجى من التراجع، فقال بحماس تمثيلي: أريد شريكا محبوبا نقتحم معا حياة النور والثروة والجاه والسعادة، لا حياة البيت التعسة والحبل والولادة والقذارة، حياة النجوم اللاتي حدثتك عنهن.

وفتحت فاها منزعجة، ثم انبعث من عينيها نور مخيف، واصفرت غضبا وحنقا، وغلبها الهياج فصاحت به وقد استقام ظهرها: تدعوني للفساد! .. يا لك من مفسد أثيم.

هكذا هدرت في غضبها؛ وإن كان غضبها للمفاجأة التي دهمتها والخيبة التي أدركتها أكثر منه للفساد الذي لم تعتد أن تثور له!

وتبسم الرجل كالهازئ وقال: إني رجل ...

ولكنها قاطعته صارخة مدفوعة بطبعها الحامي: لست رجلا؛ بل أنت قواد.

فضحك ضحكة عالية وقال وما يزال يضحك: أليس القواد رجلا أيضا؟! .. بلى .. وهو رجل - وحق جمالك الفتان - ولا كل الرجال. وهل تجدين عند الرجل العادي غير وجع الدماغ؟! أما القواد فهو سمسار السعادة في هذه الدنيا! ولكن لا تنسي أني محبك كذلك. لا تدعي الغضب يحطم حبنا. إني أدعوك للسعادة والحب والجاه. ولو كنت فتاة بلهاء لخادعتك، ولكني قدرتك فآثرت معك الصراحة والحق. إن كلينا من معدن واحد ، خلقنا الله للحب والتعاون، فإذا اجتمعنا اجتمع لنا الحب والمال والجاه، وإذا افترقنا للشقاء والفقر والذل، أو افترق أحدنا - على الأقل - لذلك.

ولم تتحول عنه عيناها، وراحت تتساءل في ذهول: كيف تمخض عن هذا؟! ولبث صدرها يجيش بالهياج والانفعال، ومن عجب أنها ثارت به ووجدت عليه وتغيظت منه، ولكنها لم تحتقره، ولم تنفك عن حبه لحظة واحدة! لا، بل لم تنس - حتى في عنفوان هياجها - أنها تصارع الرجل الذي لقنها الحب وثبته في أعماقها. وأرهقها الانفعال فنهضت قائمة في حركة عنيفة وقالت في سخط وغيظ: لست كما تظن.

فتنهد بصوت مسموع متكلفا الحزن، وإن لم تخنه ثقته شأن رجال الأعمال، وقال بصوت آسف: لا أكاد أصدق أني انخدعت بك. رباه! أتصبحين يوما من عرائس المدق؟! حبل وولادة .. وحبل وولادة .. إرضاع أطفال على الأرصفة، ذباب وبصارة وفول، ذبول وترهل؟! .. كلا، كلا .. لا أريد أن أصدق هذا.

فصاحت به غير متمالكة نفسها: كفى!

وانطلقت نحو الباب فنهض مسرعا، ولحق بها وهو يقول برقة: «رويدك.» ولكنه لم يعترضها ففتح لها الباب، وخرجا معا. جاءت سعيدة غير هيابة، وذهبت مهيضة ذاهلة. ووقفا أمام الباب الخارجي حتى جاءهما غلام بتاكس ودخلاه كل من باب، ومضى بهما مسرعا. ابتلعتها أفكارها فغابت عن الدنيا، وجعل يسترق إليها النظر صامتا دون أن يجد حكمة في خرق الصمت المخيم. وانطوى الطريق على هذا الحال حتى بلغ التاكس منتصف الموسكي، فأمر السائق بالوقوف، وتنبهت على صوته فألقت ببصرها إلى الخارج ثم تزحزحت قليلا استعدادا للنزول، فوضع يده على أكرة الباب ليفتحه لها، ولكنه تريث قليلا، ثم مال نحوها فلثم منكبها وهو يقول: سأنتظرك غدا.

فابتعدت عن الباب وهي تقول باقتضاب وحدة: كلا!

فقال ويده تدير الأكرة: سأنتظرك يا محبوبتي .. وستعودين إلي.

ثم قال لها وهي تغادر التاكس: لا تنسي الغد، سنبدأ حياة جديدة رائعة .. أحبك .. أحبك أكثر من الحياة نفسها.

وراح يرقبها وهي تبتعد متعجلة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة وقال لنفسه: «مليحة بلا أدنى شك، وهيهات أن يكذبني ظني، فهي موهوبة بالفطرة .. هي عاهرة بالسليقة .. وسوف تكون نادرة المثال.»

24

سألتها أمها: لماذا تأخرت؟

فأجابتها بلامبالاة: دعتني زينب إلى بيتها فذهبت معها.

فبشرتها المرأة بأنهما سيشهدان عرس الست سنية عفيفي عما قريب، وأخبرتها أن الست ستهدي إليها فستانا لحضور الزفاف، فتظاهرت حميدة بالسرور، وجلست تصغي إلى ثرثرة أمها ساعة طويلة، ثم تناولتا عشاءهما وأوتا إلى حجرة النوم، وكانت حميدة تنام على كنبة قديمة، أما أمها فتفرش حشية على أرض الغرفة تستلقي عليها. ولم تكد تمضي دقائق حتى راحت الأم في نوم عميق، وملأت الحجرة شخيرا. ولبثت حميدة محملقة في النافذة المغلقة، وقد نضح خصاصها بنور القهوة المتصاعد. استحضرت ذاكرتها حوادث يومها العجيب، فلم يفتها منه حركة أو سكنة أو كلمة، وعاش في خيالها مرة أخرى، وذكرت ما وقع فيه من مغامرات جريئة لا يكاد يصدقها العقل، فشعرت على رغم قلقها الراهن بسرور غير خاف، سرور الزهو والفخار والجنون الكامن في غرائزها. ولم تنس مع ذلك أنها قالت عن ذلك الرجل وهي راجعة إلى زقاقها: «يا ليتني لم أره!» ولكنه كان قول لسان لم يجد له صدى في قلبها. والحق أنها عرفت من نفسها في ذلك اليوم ما لم تستطع معرفته مدى عمرها. وكأن هذا الرجل قد اعترض سبيلها ليجلو ما خفي من ذاتها ويبسطه لناظريها كمرآة مصقولة؛ بيد أنها قالت له: «كلا» وهي تفارقه، وربما لم يكن لها عن هذا القول مذهب، ولكن ما معناه على وجه التحقيق؟! أليس معناه أن تقبع في بيتها مترقبة عودة عباس الحلو؟! رباه، لم يعد للحلو مكان في نفسها .. امحى أثره، وتبدد رجع صداه .. وليس الحلو في الواقع إلا هذا الزواج التعس، وما يعقبه من حبل وولادة وإرضاع على الأرصفة وذباب، إلى آخر هذه الصورة البشعة الممقوتة. أجل .. لم يكن لعاطفة الأمومة نبع يتفجر في نفسها شأن الفتيات من أترابها، ولم تكن نسوة الزقاق بمتجنيات عليها فيما رمينها من قسوة وشذوذ، فماذا تبتغي إذا؟! .. وخفق قلبها خفقانا متتابعا، فعضت على شفتيها حتى كادت تدميهما. إنها لتعلم ما تبتغي، وبما تهفو إليه نفسها، كان يجري قبل اليوم في شعورها متقلقلا بين النور والظلمة، ولكنه شق اليوم غشاوة الغموض وأسفر جليا لا لبس فيه ولا إبهام. ومن عجب أنها لم تعان - في سهادها - ترددا خطيرا فيما ينبغي أن تختار من سبيل، ولم تشعر كثيرا بوطأة التجاذب بين ماضيها وحاضرها، أو بين ما في حياتها من خير وما يتصدى لها من شر، بل الحق أنها اختارت سبيلها بالفعل وهي لا تدري، ووقع اختيارها عليه وهي بين يدي ذلك الرجل، في بيته! كان لسانها يهدر غضبا وأعماقها ترقص طربا، كان وجهها يربد ويعبس وأحلامها تتنفس وتمرح! .. وفوق هذا كله فإنها لم تمقته لحظة واحدة، لا بل لم تحتقره قط، وكان - كما لم يزل - حياتها ومجدها وقوتها وسعادتها! لم يثر حنقها إلا إدلاله بثقته وهو يقول لها: «ستعودين إلي»!

أجل .. ستعود، ولكنه ينبغي أن يؤدي ثمن هذه الثقة الوقحة غاليا. فليس حبها عبادة وخضوعا، ولكنه معركة يحتدم أوارها ويتطاير شررها. طالما اختنقت في هذا البيت، وهذا الزقاق، وهيهات أن يعتاقها عائق بعد اليوم عن الانطلاق إلى النور والجاه والسلطان، وهل من سبيل إلى الإفلات من ربقة الماضي إلا عن يد هذا الرجل الذي أوقد في خيالها نارا؟ ولكنها لن تهرع إليه في خشوع وإذعان هاتفة: «إني عبد يديك، فافعل بي ما تشاء.» لأنها لا تعرف هذا الحب. كذلك لن تنطلق إليه كالرصاصة صارخة: «إني سيدتك فتخشع بين يدي.» فما أزهدها في الحب الناعم أو الحبيب الخرع. ولكنها ستذهب إليه وقلبها مشحون بالآمال والرغبات، ولسان حالها يقول: «إني قادمة بقوتي فلاقني بقوتك، ولنتناطح إلى الأبد في سعادة تجل عن الوصف، ثم متعني بما منيتني به من جاه وسعادة.» .. لقد وضح السبيل بفضله هو، وهيهات أن تفرط فيه ولو اشترته بحياتها.

ومع ذلك فلم تخل ليلتها من أفكار نغصت عليها عزمتها بعض التنغيص، تساءلت: «ترى ماذا يقولون عني غدا؟» وجاءها الجواب في كلمة واحدة: عاهرة! وتقبض قلبها حتى جف ريقها وذكرت كيف تلاحت مرة مع واحدة من صويحباتها بنات المشغل فسبتها صارخة: «يا ربيبة الشوارع .. يا عاهرة!» .. معيرة إياها بالعمل كالرجال والتسكع في الشوارع. فما عسى أن يقال عنها هي؟! .. وداخلها الحزن والأسى، فتململت في رقادها جزعا وضيقا. ولكن شيئا في الوجود لم يكن ليثنيها عما اعتزمت، أو يلوي بها عما اختارت، فقد اعتزمت بقوة أعماقها، واختارت بمجامع قلبها، فكانت تنحدر إلى مصيرها المحتوم لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق المنحدر إلى الهاوية من دقاق الحصا.

ثم انتقل تيار أفكارها فجأة إلى أمها، فالتفتت نحوها، وقد ملأ أذنيها شخيرها الذي كان غاب عنها ساعة طويلة، فتصورتها في غدها وقد طال انتظارها لها حتى أشفت على اليأس. وذكرت كيف أحبتها المرأة حبا صادقا لم يترك في قلبها إحساسا - وإن قل - بالحرمان من الأمومة، وكيف أحبتها هي أيضا على كثرة ما شجر بينهما من نزاع وشقاق، وكأنما خافت أحاسيس العطف التي أخذت تدب في نفسها، فزفرت بقوة وضجر وقالت لنفسها: «لا أب لي ولا أم، وليس لي في الدنيا سواه.» وولت الماضي كشحها، ولم تعد تفكر إلا في الغد وما عسى أن يتكشف عنه، ثم أمضها السهاد، وشعرت بحرارته تصهر جفونها ودماغها، فتمنت أن ينقذها النوم من عذابه وأن تغمض عينيها فلا تفتحهما إلا على نور الصباح. وأهابت بإرادتها أن تنش عن رأسها ما ينثال عليه من خواطر، فنجحت في طردها إلى حين، ولكنها تنبهت إلى الأصوات المتصاعدة من قهوة كرشة، ووقعت من نفسها موقعا مثيرا، فراحت تلعنها وتتهمها بتطيير النوم من عينيها. وجعلت تنصت إليها على رغمها، وتسب محدثها في حنق وغضب. «يا سنقر غير ماء النرجيلة.» .. هذا صوت الفاجر الحشاش كرشة. «يا سيدي .. ربك يعدلها.» وهذا عم كامل الحيوان الأعجم. «ولو .. كل شيء له أصل.» .. هذا الأعمش القذر الدكتور بوشي. وتمثل لها حبيبها - على غرة - بمجلسه المختار ما بين المعلم كرشة والشيخ درويش، وتخيلته وهو يشير إليها بقبلاته فخفق فؤادها، ثم استحضرت ذاكرتها صورة العمارة الهائلة، والحجرة الرائعة، وسرعان ما طن صوته في أذنيها وهو يهمس قائلا: «ستعودين إلي.» رباه! متى يرحمها النوم؟ «السلام عليكم يا إخوان.» .. هذا صوت السيد رضوان الحسيني الذي أشار على أمها برفض يد السيد علوان قبل أن يهتصره المرض، ترى ماذا يقول عنها غدا إذا تناهى إليه الخبر؟ ليقل ما يشاء، لعنة الله على الحي جميعا! وانقلب الأرق صداعا وسقما، ومضت تتقلب على جنبيها وبطنها وظهرها، ومضى الليل بطيئا ثقيلا مرهقا مضنيا. يزيده هولا خطورة الغد المرتقب. وقبيل الفجر بقليل غشيها نوم ثقيل استيقظت منه عند الضحى. وبادرها الصحو بأفكارها جملة كأنما سبقتها إلى اليقظة بوقت طويل، ولكن لم يساورها التردد وتساءلت في جزع: متى يأتي المغيب؟! وقالت لنفسها: إنها الآن زائرة عابرة في المدق، لا هي منه ولا هو منها، كما قال الحبيب. ونهضت كعادتها ففتحت النافذة، وطوت حشية أمها وكومتها في ركن الحجرة، ثم كنست الشقة، ومسحت الردهة الخارجية، وتناولت فطورها على انفراد؛ لأن أمها كانت قد غادرت البيت إلى شئونها التي لا تنتهي، ثم مضت إلى المطبخ فوجدت عدسا في طبق تركته أمها لتطبخه غدا ليومهما، فعكفت على تنقيته وغسله، وأوقدت الكانون وخاطبت نفسها بصوت مرتفع قائلة: «هذه آخر طبخة في هذا البيت، وربما كانت آخر طبخة في حياتي .. ترى متى آكل العدس مرة أخرى؟!» ولم تكن تستكره العدس ولكنها كانت تعلم أنه غذاء الفقراء وشعار مائدتهم. كذلك لم تكن تعلم شيئا عن طعام الأغنياء، إلا أنه لحم ولحم ولحم. وأنشأ خيالها ينعم بتصور غذاء المستقبل وكسائه وزينته حتى انبسطت أساريرها وقطر وجهها بشاشة حالمة. وغادرت المطبخ عند الظهر، فدخلت الحمام تستحم، ثم مشطت شعرها بأناة وعناية وجدلته صفيرة غليظة طويلة أرسلتها وراء ظهرها حتى مست أهدابها أسفل فخذيها. وارتدت خير ما لديها من ثياب، ولكنها استاءت من مظهر ملابسها الداخلية البالي، فتورد وجهها البرنزي وعجبت كيف تزف إليه في مثل هذه الثياب، واربد وجهها وهاج صدرها، فصممت على ألا تسلم إليه حتى تستبدل بهذه الثياب الرقيقة أخرى جديدة زاهية. وطاب لها هذا الرأي، وصادف من نفسها - التي تأبى الهوى إلا في حومة العراك والعناد - هوى ولذة. ثم وقفت في النافذة تلقي على حيها نظرات الوداع. وجعل بصرها يتردد بين معالمه بغير توقف: الفرن، قهوة كرشة، دكان عم كامل، دكان الحلاق، الوكالة، بيت السيد الحسيني، والذكريات تبعثها النظرات كأنها الشعلات يبعثها حك أعواد الثقاب.

ومن عجب أنها وقفت حيال ذلك كله جامدة باردة لا يندى صدرها بعطف أو مودة، لا للزقاق ولا لأهله. وكانت أسباب الجوار والصداقة مقطوعة ما بينها وبين غالبية نسوة الحي كأم حسين - أمها بالرضاعة - والفرانة، حتى امرأة السيد رضوان الحسيني لم تسلم من لسانها، فقد بلغها يوما أنها وصفتها ببذاءة اللسان، فتربصت بها حتى رأتها يوما على سطح بيتها تنشر الغسيل، فصعدت إلى السطح وثبا - وكان السطحان متلاصقين - واقتربت من السور وجعلت تعرض بالمرأة قائلة بتهكم وازدراء: «أسفي عليك يا حميدة من فتاة بذيئة اللسان، غير جديرة بمعاشرة الهوانم من ستات المدق بنات الباشوات!» ولكن المرأة آثرت السلامة، وتعوذت بالصمت. وقد ثبتت عيناها غير قليل على الوكالة فذكرت كيف طلب السيد سليم علوان يدها، وكيف ثملت بأحلام الثراء يوما وبعض يوم! لكم احترقت حسرة على ضياع هذا الرجل من يديها! ولكن شتان بين رجل ورجل! .. فإذا كان سليم علوان قد حرك - بثروته - جانبا من قلبها، فهذا الذي حرك قلبها كله حتى كاد يقتلعه. وعادت عيناها إلى دكان الحلاق فذكرت عباس الحلو، وتساءلت: ترى ماذا يفعل إذا رجع يوما من مهجره فلم يعثر لها على أثر؟! وذكرت وداعه الأخير على السلم بقلب متحجر، وعجبت كيف منحته شفتيها يقبلهما؟! ثم ولت النافذة ظهرها ومضت إلى الكنبة أشد ما تكون عزما وتصميما. ورجعت أمها إلى البيت ظهرا، فتناولتا غداءهما معا. وقالت لها المرأة في أثناء الطعام: «لدي زيجة مهمة، إذا وفقت فيها، فتح الله علينا.» فاستفسرت عن هذه الزيجة المرجوة بفتور، ولم تكد تلقي لما قالت بالا، وكثيرا ما كانت تقول مثل ذلك ثم يتمخض الرجاء عن بضعة جنيهات وأكلة لحم! أو أكلة لحم فحسب بالنسبة لها. ولما أن اضطجعت أمها لتنام قليلا، تربعت هي على الكنبة وراحت تطيل إليها النظر. هذا يوم الوداع، وربما لن تقع عليها عيناها بعد الآن. ولأول مرة عراها الضعف فدرت حناياها عطفا للمرأة التي آوتها وتبنتها وأحبتها ولم تعرف سواها أما، وتمنت لو تستطيع أن تقبلها قبلة الوداع.

وجاءت ساعة الأصيل فتلفعت بملاءتها وانتعلت شبشبها. وكانت يداها ترتعشان انفعالا واضطرابا، وقلبها يخفق بشدة. ولم يكن بد من أن تفارق أمها بغير وداع، فامتعضت، ثم رأتها آمنة لا تدري شيئا عما يخبئه لها الغد فازداد امتعاضها. وحم الرحيل فألقت عليها نظرة طويلة، ثم قالت وهي تهم بالمسير: فتك بعافية.

فقالت لها المرأة وهي تشعل سيجارة: مع السلامة .. لا تتأخري.

وغادرت البيت تلوح في وجهها أمارات الجد والاهتمام، وقطعت المدق لآخر مرة لا تلوي على شيء، وسارت من الصنادقية إلى الغورية، ثم انعطفت صوب السكة الجديدة وتقدمت في خطوات متمهلة. وأرسلت بصرها بعد تردد وإشفاق .. فرأته بموقف الأمس ينتظر! .. التهب خداها واجتاحتها موجة صاخبة من التمرد والغضب، وودت من أعماقها أن تثأر من ظفره هذا ثأرا يرد عليها بعض سكينتها. وغضت بصرها، ثم تساءلت: أتراه يبتسم الآن تلك الابتسامة الوقحة؟! .. ورفعت عينيها بنرفزة، ولكنها وجدته هادئا جادا رزينا يلوح في عينيه اللوزيتين الرجاء والاهتمام، فانفثأ هياجها قليلا. ومرت به وهي تتوقع أن يخاطبها، أو أن يأخذ يدها كما فعل بالأمس، ولكنه تجاهلها، وتريث قليلا حتى غيبها المنعطف، ثم تبعها متمهلا، فأدركت أنه بات أشد حذرا، وأعظم شعورا بخطورة الأمر. وسارت حتى أوشكت السكة الجديدة أن تنتهي، ثم توقفت بغتة كأنما ذكرت شيئا جديدا، وانفتلت راجعة، فتبعها قلقا وهمس لها متسائلا: ماذا أرجعك؟

فترددت قليلا ثم قالت وقد سامها النطق عناء: بنات المشغل.

فقال بارتياح: إلى الأزهر، فلا يرانا أحد.

وشقا طريقهما متباعدين، وسارا في شارع الأزهر في صمت ثقيل، وقد أدركت أنها أعلنت - بالكلمة التي نطقت بها - تسليمها النهائي. وبلغا ميدان الملكة فريدة دون أن يخرجا من صمتهما الثقيل. ولم تعد تدري أين تتجه فوقفت، وسمعته في اللحظة التالية ينادي التاكس، وجاءت السيارة ففتح لها الباب، ورفعت قدمها لتصعد إليها، ففصلت هذه الحركة بين حياتين! وما كادت السيارة تنطلق بها حتى قال بصوت متهدج وبمهارة فائقة: الله وحده يعلم كم تعذبت يا حميدة! .. لم أنم من ليلتي ساعة واحدة. أنت لا تدرين يا عزيزتي ما الحب. ولكني اليوم سعيد، بل أكاد أجن من الفرح. رباه كيف أصدق عيني؟! شكرا يا محبوبتي شكرا. والله لأجعلن من السعادة أنهرا تجري تحت قدميك .. ما أجمل الماس حول هذا الجيد! (ومس جيدها برقة) .. ما أروع الذهب في هذا الساعد! (وقبل ساعدها) .. ما أفتن الروج في هاتين الشفتين! (وهوى برأسه ليقبل ثغرها؛ ولكنها تحامته فلثم خدها) .. يا لك من فاتنة نافرة!

واستراح قليلا ثم استدرك قائلا وعلى شفتيه ابتسامة: ودعي الآن عهد التعب، فلن تطالعك الحياة بكدر بعد اليوم! .. حتى ثدياك سيحملهما عنك رافع من الحرير.

ورضيت بالاستماع لهذا الكلام دون تنمر أو احتداد، وإن توردت وجنتاها، واستسلم جسمها للسيارة المندفعة التي تهرب بها من الماضي كله.

وانتهى التاكس إلى العمارة التي صارت مأواها، فغادراه، ومضيا مسرعين إلى الشقة، وكانت كما وجدتها بالأمس ضاجة بالأصوات المنبعثة من الأبواب، ثم دخلا الحجرة الرائعة، وقال ضاحكا: اخلعي الملاءة لنحرقها معا.

فغمغمت تقول وقد تورد وجهها: لم أحضر ملابسي.

فصاح بسرور: حسنا فعلت .. لا نريد شيئا من الماضي.

وأجلسها على مقعد وراح يقطع الحجرة جيئة وذهابا، ثم اتجه نحو باب أنيق إلى يمين المرآة العالية، ودفعه عن مخدع وثير وهو يقول: حجرتنا.

ولكنها قالت بسرعة وحدة: كلا .. كلا .. سأنام هنا.

فحدجها بنظرة ثاقبة، ثم قال بلهجة تنم عن التسليم: بل تنامين في الداخل، وأنام أنا هنا.

وكانت تصمم في نفسها على ألا تؤخذ كالماشية، وألا تسلم حتى تشبع رغبتها في العناد والإباء، والظاهر أن رغبتها هذه لم تغب عن مكره؛ لأنه دارى ابتسامة ساخرة، وتظاهر بالإذعان والتسليم، ثم قال لها بسرور وفخار: بالأمس يا عزيزتي دعوتني بالقواد، فاسمحي لي بأن أقدم لك نفسي على حقيقتها: محبك ناظر مدرسة، وستعلمين كل شيء في حينه.

25

قال حسين كرشة لنفسه وهو يقترب من زقاق المدق: «هذا وقت اجتماعهم في القهوة، وسيرونني جميعا بلا أدنى شك، وسيخبرون أبي بمقدمي إذا عمي هو عنه.» كان الليل قد أرخى سدوله، فأغلقت دكاكين المدق. وخيم عليها السكون، وضجت قهوة كرشة وحدها بالسمار. كان الفتى يسير بخطوات ثقيلة، منقبض الصدر، متجهم الوجه، يتبعه على الأثر فتى في مثل سنه وفتاة في مقتبل العمر. وكان حسين يرتدي قميصا وبنطلونا، ويحمل في يمناه حقيبة كبيرة، وكذلك كان الفتى الذي يتبعه، أما الفتاة فرفلت في فستان أنيق - بلا معطف ولا ملاءة - وقد بدت في مشيتها ذات وسامة ورشاقة، وإن لم تخل من ابتذال يشي بطبقتها. واتجه حسين صوب بيت السيد رضوان الحسيني دون أن يلتفت ناحية القهوة، ودخل البيت يتبعه رفيقاه. ثم رقوا السلالم حتى الطابق الثالث، ودق الفتى باب الشقة وقد ازداد وجهه تجهما، فسمع وقع أقدام تقترب، ثم فتح الباب وبدت أمه وراءه تقول بصوتها الخشن: «من؟» ولم تعرف الشبح الماثل أمامها لشدة الظلمة، فقال حسين بصوت منخفض: حسين!

وهتفت المرأة وهي لا تكاد تصدق أذنيها: حسين! .. ابني!

وهرعت إليه، وأمسكت بذراعيه، وقبلته، وهي تقول بحرارة: عدت يا بني! .. الحمد لله الذي أثابك إلى رشدك وحماك من وسوسة الشيطان، ادخل بيتك (وضحكت في انفعال). ادخل يا غادر .. لكم أقضضت مضطجعي .. وقطعت قلبي.

ودخل الشاب مستسلما ليديها، دون أن يخف تجهمه، وكأن استقبالها الحار لم يكد يجدي شيئا في تفريج كربه. ولما أن همت برد الباب حال بينها وبينه قائلا وهو يوسع للفتاة وللفتى: معي أناس .. ادخلي يا سيدة، ادخل يا عبده .. هذه زوجي يا أمي، وهذا شقيقها.

وبهتت المرأة، ولاحت في عينيها دهشة لا تخلو من انزعاج، وراحت تنظر إلى القادمين بذهول، ثم تنبهت إلى اليد المبسوطة للسلام فتمالكت عواطفها وسلمت وهي تخاطب ابنها بلا وعي تقريبا: تزوجت يا حسين! .. أهلا بك يا عروس .. تزوجت يا حسين دون أن تخبرنا؟! .. كيف رضيت أن تزف في غياب والديك وهما على قيد الحياة؟!

فقال حسين بامتعاض: الشيطان شاطر! .. كنت غاضبا ثائرا ساخطا .. وكل شيء قسمة ونصيب!

وانتزعت المرأة المصباح من الحائط، وتقدمتهم إلى حجرة الاستقبال، ووضعته على حافة النافذة المغلقة، ووقفت تتفرس في وجه زوج ابنها، وقد قالت الفتاة بصوت أسيف: أحزننا والله غيابكم، ولكن ما باليد حيلة.

وأبدى شقيقها كذلك أسفه، فابتسمت المرأة، ولم تكن أفاقت بعد من دهشتها، وتمتمت: أهلا بكم جميعا.

ثم التفتت صوب ابنها وقد هالها تجهمه وجموده، وذكرت لأول مرة أن فمه لم ينفرج عن كلمة طيبة واحدة منذ حضوره، فقالت بعتاب: هكذا تذكرتنا أخيرا!

فهز حسين رأسه بكآبة وقال باقتضاب: استغنوا عني!

فقالت المرأة بإنكار وقد داخلتها خيبة جديدة: استغنوا عنك؟! أتعني أنك عاطل الآن؟!

وقبل أن يفتح فمه قرع آذانهم دق عنيف على الباب، فتبادلت المرأة وابنها نظرة ذات معنى، ثم غادرت الحجرة فلحق بها الشاب بعد أن أغلق الباب وراءه، وقال لها في الردهة الخارجية: هذا أبي بلا ريب.

فقالت له بقلق: أظن هذا، هل رآك؟ .. أعني رآكم وأنتم قادمون؟

ولكن الفتى لم يجبها، وتقدم من الباب وفتحه، فدخل المعلم كرشة مندفعا، وما إن رأى ابنه حتى قال وعيناه تحمران، وضباب الغضب يغشى وجهه: أهذا أنت؟! .. قالوا لي ذلك فلم أصدق .. لماذا عدت؟!

فقال حسين بصوت منخفض: يوجد في البيت غرباء، هلم إلى حجرتك نتكلم.

ومضى الشاب مسرعا إلى حجرة أبيه، فتبعه المعلم مزمجرا، ولحقت بهما المرأة، ثم أشعلت المصباح وهي تقول لزوجها في رجاء وتحذير: في الحجرة الأخرى زوج ابنك وشقيقها.

وارتفع جفنا الرجل الثقيلان في ذهول وهتف: ماذا تقولين يا مرة؟! .. أتزوجت حقا؟

واستاء حسين من أمه لأنها ألقت عليه الخبر دون تمهيد، ولم ير بدا من أن يقول: نعم يا أبت تزوجت.

وسكت المعلم دقيقة وهو يقرض أسنانه بحنق وغيظ، ولكنه لم يفكر لحظة في معاتبة ابنه على الزواج بدون علمه؛ لأن المعاتبة في نظره حال من المودة، وصمم في اللحظة التالية على إهمال هذا الخبر كأنه لم يسمعه، وقال بغيظ وحقد: هذا شيء لا يعنيني ألبتة؛ ولكن دعني أسألك لماذا عدت إلى بيتي؟ .. لماذا أريتني وجهك بعد أن أراحني الله منه؟

فلاذ حسين بالصمت، ونكس ذقنه عابسا، وانبرت المرأة تقول باستعطاف: استغنوا عنه يا معلم.

ونقم الشاب على أمه تسرعها للمرة الثانية. أما المعلم فقد ازداد حنقا وصاح بصوته الغليظ - مما جعل المرأة تغلق الباب - قائلا: استغنوا عنك؟! .. ما شاء الله! .. وهل بيتي تكية؟! .. ألم تنبذنا يا همام؟ .. ألم تعضني بنابك يابن الكلب؟ .. فلماذا تعود الآن؟ .. اغرب عن وجهي .. عد إلى الحياة النظيفة والماء والكهرباء .. هيا!

فقالت أم حسين برقة: هدئ روعك يا معلم، وصل على النبي.

فلوح لها الرجل بقبضته منذرا وصاح بها: تدافعين عنه يا بنت الأبالسة؟! .. كلكم جنس شياطين يستأهل جلد السياط وعذاب النار. ماذا تريدين يا أم الشر كله؟ .. أتريدينني على أن أويه وأهله؟ .. هل قالوا لك إني قواد يأتيني رزقي من يمين وشمال بغير تعب ولا جهد؟! .. ألا فاعلموا بأن الشرطة تحوم حولنا، وبالأمس قبضوا على أربعة من رفاقي، وغدكم أسود بإذن الله!

فاستوصت المرأة بالصبر وقالت برقة لا عهد لها بها: صل على النبي يا معلم ووحد الله.

فصاح بفظاظة: سليه عما جاء به؟

فقالت برجاء واستعطاف: ابننا أرعن مجنون، غواه الشيطان فأضله، وليس له الآن من ملجأ سواك.

فقال المعلم كرشة بحنق وسخرية: صدقت يا أم السوء، ليس له من ملجأ سواي .. سواي أنا الذي يسب حين السراء، ويلجأ إليه حين الضراء!

ثم تفحص حسين بنظرة قاسية وسأله باحتقار وسخرية: لماذا استغنوا عنك؟

وتنهدت الأم من الأعماق لأنها أدركت بغريزتها أن هذا السؤال - على لهجته المريرة - إيذان بالتفاهم المنشود. أما حسين فقد قال بصوت منخفض وهو يعاني مرارة القهر: استغنوا عن كثيرين غيري .. يقولون: إن الحرب وشيكة الانتهاء. - انتهت الحرب في الميدان، وستبدأ في بيتي أنا! .. ولماذا لم تذهب إلى أهل زوجك؟

فقال الشاب بغضاضة: ليس لها إلا شقيقها. - ولماذا لم تلجأ إليه؟ - استغنوا عنه أيضا.

فضحك هازئا وقال: أهلا .. أهلا .. وطبيعي أنك لم تجد ملجأ لهذه الأسرة الكريمة التي أناخ عليها الدهر إلا بيتي ذا الحجرتين! .. مرحى .. مرحى .. ألم توفر مالا؟

فقال الشاب باقتضاب وهو يتنهد: كلا. - أحسنت .. عشت عيشة الملوك، كهرباء وماء وصلاة، ثم عدت أخيرا كما بدأت شحاذا.

فقال حسين بانفعال: قالوا: إن الحرب لن تنتهي، وإن هتلر سيقاوم عشرات السنين ثم يهجم بعد ذلك. - ولكنه لم يهجم، واختفى (حتى في تلك اللحظة لم يقل إنه مات) تاركا شيخ المغفلين صفر اليدين، والبك شقيق الست؟ - الحال من بعضه. - عال .. عال .. البركة في أبيك. هيئي لهم البيت يا ست أم حسين، ولو أنه حقير لا يليق بالمقام، ولكني سأتدارك ذلك بإدخال الماء والكهرباء، وربما ابتعت حنطور السيد علوان ليكون تحت تصرفكم.

فنفخ حسين قائلا: حسبك يا أبي .. حسبك!

فنظر إليه كالمعتذر وقال بسخرية: لا تؤاخذني. أأثقلت عليك؟ .. مزاج رقيق، عز وجاه، ارحموا عزيز قوم بال. احتشم يا معلم كرشة ولا تحدث السادة إلا بحديث السادة. تفضل بخلع ملابسك. أما أنت يا ست أم حسين فافتحي الكنز في المرحاض وعبي للبك حتى يتريش وينبسط.

ولم ينبس حسين بكلمة وهو كظيم، فمرت العاصفة بسلام، وراحت المرأة تناجي نفسها: «يا ساتر استر.» وكان المعلم - على حنقه وسخريته - أبعد ما يكون عن طرده، بل لعله حتى في تلك الساعة الحامية لم يخل من ارتياح لعودته، وسرور بزواجه، لذلك كف عما كان آخذا فيه، وغمغم قائلا: الأمر لله، ربنا يتوب علي منكم.

ثم سأل الشاب مستدركا: ماذا أعددت للمستقبل؟

فقال الشاب وقد شعر بأنه اجتاز محنته: سأجد عملا إن شاء الله، ولا يزال لدي حلي زوجي.

فانتبهت أمه إلى كلمة «حلي» باهتمام وسألته بغير وعي: هل كنت ابتعتها لها؟

فقال حسين: أهديت إليها البعض، واشترى لها شقيقها البعض الآخر.

والتفت نحو أبيه مستطردا: سوف أجد عملا، وسيبحث عبده نسيبي عن عمل أيضا، وعلى أية حال فهو لن يقيم بيننا إلا أياما.

وانتهزت المرأة فرصة الهدوء الذي أعقب الزوبعة فقالت لزوجها: تعال يا معلم سلم على أهل ابنك.

ولحظت ابنها بطرف خفي وغمزت بعينها، فقال الشاب بغضاضة من يستكره التودد بطبعه: هلا أكرمتني حيال أهلي؟

وتردد الرجل لحظة ثم قال بامتعاض: كيف تريدني على الاعتراف بهذا الزواج الذي لم أباركه؟!

ولما لم يسمع من مجيب، نهض متأففا، ففتحت المرأة الباب وتقدمته، وانتقلوا إلى الحجرة الأخرى جميعا، وسلموا، ورحب المعلم بزوج ابنه وشقيقها .. انطوت الصدور عما بها؛ أما الوجوه فقد أشرقت بالترحاب والمجاملة. وكان المعلم كرشة قد سلم بالأمر الواقع، ولكنه لبث قلقا لا يدري أأخطأ بتسليمه أم أصاب؟! ولم تصف نفسه من موجدة واستياء. ثم انتبهت عيناه النائمتان في أثناء الحديث إلى شقيق الفتاة فتفحصه بعناية، وما عتم أن تولاه اهتمام مفاجئ أنساه قلقه وموجدته واستياءه! .. كان شابا يافعا، وسيم الطلعة، خفيف الظل، فجعل يحاوره ويرنو إليه بطرف يقظ، وطابت نفسه وصفت، وسرت في أعماقه هزة سرور وحماس، فتفتح قلبه للأسرة الجديدة، ورحب بها مرة أخرى ولكن بشعور جديد، وسأل ابنه بلطف: أليس لك أثاث يا حسين؟

فقال حسين: غرفة نوم مكومة عند الجيران.

فقال المعلم بلهجة آمرة: اذهب وأحضر عفشك. •••

وخلا حسين إلى أمه، وجلسا يتحدثان ويدبران أمورهما، وفي ختام الحديث صاحت به فجأة: ألم تعلم بما حدث؟! .. اختفت حميدة.

فلاحت الدهشة في وجه الشاب وسألها: كيف؟

فقالت المرأة دون أن تحاول إخفاء لهجتها الواشية بالشماتة: خرجت أول أمس كعادتها كل عصر، ولكنها لم تعد. ودارت أمها على بيوت الجيران والمعارف تفتش عنها دون جدوى، وذهبت إلى قسم الجمالية وقصر العيني، ولا حياة لمن تنادي. - ماذا حدث للبنت يا ترى؟

فهزت أم حسين رأسها في ارتياب وقالت بيقين: هربت وحياتك! .. غواها رجل فأكل مخها وطار بها. كانت جميلة ولكنها لم تكن طيبة قط.

26

فتحت عينين محمرتين من أثر النوم، فرأتا سقفا أبيض، ناصع البياض، يتدلى من وسطه مصباح كهربائي بارع الرونق في كرة كبيرة حمراء من البلور الشفاف. امتلأ بصرها دهشة، ولكن لم يدم ذلك سوى ثانية واحدة، ثم تدافعت إلى رأسها ذكريات الليلة الماضية، وذكريات الحياة الجديدة. واتجه ناظرها نحو الباب فألفته مغلقا، ثم رأت على خوان قريب من السرير مفتاح الباب بحيث تركته بالأمس. نفذت إرادتها فنامت وحدها، وقضى ليلته وحده في الحجرة الخارجية، وافتر ثغرها عن ابتسامة. وأزاحت عن صدرها الغطاء الوثير، فبدا فستانها مستخذيا خجلا فيما يغمر من مخمل وحرير. ما أعمق الهوة التي تفصل ما بينها وبين الماضي! وكانت النوافذ مغلقة تنضح بوهج الشمس، فينير جو الحجرة بضوء شاحب خفيف، فاستدلت على الضحى بسماته، ولكنها لم تدهش لاستيقاظها المتأخر، فقد أرقها السهاد حتى قبيل الفجر، وسمعت نقرا خفيفا على الباب، فتلفتت صوبه في انزعاج، وجمد بصرها عليه دون أن تأتي حركة أو تنطق بحرف، ثم غادرت الفراش، ودلفت إلى التواليت، ووقفت بين مراياه متحيرة مبهوتة. وعاد النقر في قوة ملموسة فهتفت: من؟ وجاءها صوته العميق وهو يقول: صباح الخير .. هلا فتحت الباب؟

ونظرت إلى المرآة فرأت شعرها متشعثا، وعينيها محمرتين، وجفنيها ثقيلين، .. رباه .. أليس ثمة ما تغسل به وجهها؟! ألا ينتظر حتى تتهيأ لاستقباله؟! وعاد ينقر الباب جزعا، ولكنها لم تلق إليه بالا، وذكرت قلقها يوم اعترض سبيلها في الدراسة أول مرة فلقيته وقد نسيت أن تأخذ زينتها، وهي تكون اليوم أشد قلقا بلا ريب! ورأت زجاجات الروائح العطرية منضودة على التواليت، ولكنها كانت تراها لأول مرة في حياتها، فلم تهتد إلى وجه الانتفاع بها في مأزقها. ثم تناولت مشطا عاجيا وسوت شعرها في عجلة ولهوجة، ومسحت بطرف فستانها وجهها، وألقت على المرآة نظرة أخرى، وتنهدت في قلق وغيظ، ثم أخذت المفتاح وسارت نحو الباب، وكأنما ضاقت بإشفاقها، فرفعت منكبيها استهانة وفتحت الباب. التقيا وجها لوجه وقد ابتسم إليها ابتسامة لطيفة وقال برقة بالغة: صباح النور يا تيتي! .. لماذا أهملتني كل هذا الوقت! .. أتريدين مواصلة النهار بالليل بعيدا عني؟!

فابتعدت عنه دون أن تنبس بكلمة، ولكنه تأثرها والابتسامة لا تفارق شفتيه، ثم سألها: لماذا لا تتكلمين يا تيتي؟!

تيتي! أسم تدليل هذا يا ترى؟ .. ولكن أمها كانت تدعوها «حمدمد» إذا أرادت أن تدللها، فما تيتي هذا؟! .. ورمقته بنظرة إنكار وغمغمت: تيتي!

فقال وهو يتناول راحتيها بين يديه ويشبعهما تقبيلا: هذا اسمك الجديد، فاحفظيه عن ظهر قلب، وانسي حميدة، فلم يعد لها وجود! .. ليس الاسم يا محبوبتي بالشيء التافه لا يقام له وزن، هو بالحري كل شيء. وما الدنيا - لو تعلمين - إلا أسماء.

وعلمت أنه يعد اسمها - كثيابها البالية - شيئا ينبغي انتزاعه وإيداعه مقابر النسيان، ولم تر في ذلك من بأس، فلا يجوز أن تنادى في شريف باشا بما كانت تنادى به في المدق. وفضلا عن هذا فهي تشعر شعورا عميقا لا يخلو من وسواس وقلق بأن أسباب الماضي قد انقطعت إلى الأبد، فلماذا تبقي على اسمها؟! .. بل ليتها تستطيع أن تستبدل بيديها يدين جديدتين جميلتين كيديه هو، وأن تستعيض عن صوتها - الذي تستغلظ نبراته العالية حتى الفظاظة والقبح - صوتا رقيقا رخيما، ولكن ما باله اختار هذا الاسم الغريب؟! .. ولم تملك أن قالت باستنكار: هذا اسم غريب، لا معنى له!

فقال ضاحكا: اسم جميل، ومن جماله ألا معنى له، فالاسم الذي لا معنى له يحوي المعاني كلها، بل هو من الأسماء الأثرية التي تسحر ألباب الإنجليز والأمريكان، ويسهل النطق به على ألسنتهم المعوجة.

فجالت في عينيها نظرة حيرى، تشي بالارتياب وتتحفز للعناد والانقضاض، فابتسم برقة واستدرك يقول: تيتي العزيزة .. رويدك، ستعلمين كل شيء في حينه. ألم تعلمي بأنك ستصيرين غدا سيدة باهرة الجمال بعيدة الصيت؟ .. هذه هي معجزة هذا البيت. أم حسبت أن السماء تمطر ذهبا وماسا؟ .. كلا يا عزيزتي، إن السماء في أيامنا هذه لا تمطر إلا شظايا، والآن خذي أهبتك لاستقبال الخياطة. ولكن معذرة لقد ذكرت أمرا هاما؛ ذكرت أنه ينبغي أن أصحبك لزيارة مدرستي - أنا ناظر يا محبوبتي ولست قوادا كما دعوتني بالأمس - فالتحفي بهذا الروب، وانتعلي هذا الشبشب.

وذهب إلى التواليت فأتى بزجاجة زرقاء كروية يتصل بفم معدني فيها أنبوبة من المطاط الأحمر، وسدد فوهتها نحو وجهها، وجعل يضغط على الأنبوبة فيمج في صفحة وجهها سائلا زكي الشذا، وقد ارتعشت بادئ الأمر شاهقة، ثم استنامت إلى طيبها في دهشة وارتياح. وألبسها الروب بنفسه، وجاءها بشبشبه فانتعلته، ثم تأبط ذراعها ومضى بها إلى الحجرة الأخرى، ثم إلى الردهة الخارجية. وسارا معا متجهين صوب أول باب إلى اليمين وهو يقول لها محذرا: إياك وأن تبدي خجلة أو خائفة .. إني أعلم أنك جسورة لا تهابين شيئا.

وأثابها تحذيره إلى رشادها، فحدجته بنظرة حادة، ورفعت رأسها في استهانة، فابتسم قائلا: هذا أول فصل في المدرسة .. فصل الرقص العربي.

وفتح الباب ودخلا. رأت حجرة متوسطة، جميلة البناء، ذات أرض خشبية لامعة، تكاد تخلو من الأثاث، اللهم إلا عددا من المقاعد نضدت في جناحها الأيسر، ومشجبا كبيرا في ركنها الأقصى، وقد جلست فتاتان على مقعدين متجاورين، ووقف في الوسط فتى في جلباب أبيض حريري مهفهف محزما بزنار. اتجهت الرءوس نحو القادمين، وجرت على الثغور بسمات التحية، فقال فرج إبراهيم بلهجة قوية تنم عن السيادة حقا: صباح الخير .. هذه صديقتي تيتي.

وحنت الفتاتان رأسيهما تحية، ثم قال الفتى بصوت متكسر مخنث: أهلا يا أبلة.

وردت تيتي التحية في شيء من الارتباك، وهي تطيل النظر إلى الفتى الغريب. كان - على غير ما يبدو - في نهاية العقد الثالث، وضيع الملامح، أحول العينين، يزين وجهه بزواق نسائي من كحل وحمرة وبودرة، ويلمع شعره الجعد بالفازلين. فابتسم فرج إبراهيم وقال يعرفه لها: سوسو معلم الرقص.

وكأنما أراد سوسو أن يقدم لها نفسه بطريقته الخاصة، فأشار إلى الفتاتين المتجاورتين غامزا بعينيه، فراحتا تصفقان على «الواحدة»، وانساب الأستاذ راقصا كالأفعوان، في خفة وليونة يثيران الدهشة، حتى خالته جسما بلا عظام ولا مفاصل، أو أنه قطعة من مطاط مكهرب. كان كل ما فيه يرتعش بلا توقف .. ردفاه .. وسطه .. صدره .. رقبته .. حاجباه. وكان يلقي بنظرة متكسرة متضعضعة، مبتسما ابتسامة فاجرة عن أسنان ذهبية. ثم اهتز هزة عنيفة ختم بها ارتعاشه الفني، واستقام ظهره فكفت الفتاتان عن التوقيع. لم يكن في نية سوسو أن يرقص؛ ولكنه رغب في أن يحيي القادمة المستجدة تحية راقصة على سبيل المثال، والتفت نحو فرج إبراهيم متسائلا: تلميذة جديدة؟

فالتفت هذا بدوره إلى تيتي وقال: أظن هذا. - ألم ترقص فيما سلف؟ - كلا.

فابتسم سوسو مسرورا وقال: هذا أفضل يا سي فرج. إذا كانت تجهل الرقص فهي عجينة طرية أصورها كيفما أشاء، أما أولئك اللاتي يتعلمن الرقص على غير أصوله فما أشق تعليمهن.

ونظر إلى تيتي، وثنى رقبته يمنة ويسرة وقال بصوت فاضح: أم تحسبين الرقص لعبا يا أبلتي؟! .. العفو يا حبيبتي .. هذا فن الفنون، وأستاذه له الجنة ونعيمها بغير حساب؛ جزاء ما يتجشم من عناء أو مشقة .. انظري.

وأرعش خصره بغتة في سرعة عجيبة، ثم أمسك وهو يرمقها بعجب وتيه، وسألها باستعطاف: هلا انتزعت هذا الروب لأطلع على جسمك.

ولكن فرج عاجله قائلا: ليس الآن .. ليس الآن.

فمط سوسو بوزه متأسفا وسألها: أتخجلين مني يا تيتي .. أنا أختك سوسو! .. ألم يعجبك رقصي؟

وكانت تدافع جاهدة شعورا بالضيق والارتباك، وتحاول في إصرار وعناد أن تبدو باردة هادئة مستهينة بل راضية، فابتسمت وقالت: رقصك بديع جدا يا سوسو.

فصفق سوسو بيديه حبورا وقال: دمت من فتاة كريمة .. الحياة فانية يا تيتي، وأجمل ما فيها كلمة حلوة، وهل دام شيء لإنسان؟ .. الواحد منا يشتري حق الفازلين ولا يدري أيكون لشعره أم لشعر ورثته؟! •••

وغادرا الحجرة - أو الفصل - إلى الردهة، فمضى بها إلى الحجرة التي تليها، وشعر بعينيها تلحظانه ولكنه تجاهلهما عن حكمة، حتى بلغا الباب فغمغم قائلا: فصل الرقص الغربي.

فتبعته صامتة. كانت تعلم أن النكوص قد بات مستحيلا، وأن الماضي قد عفاه الحاضر، فلم تر بدا من الاستسلام للمقادير، وتساءلت: هل تبلغ حقا السعادة المنشودة؟ وجدت هذه الحجرة في بنائها وصورتها كسابقتها إلا أنها حجرة حية متحركة صاخبة. كان الحاكي يبعث لحنا غريبا تلقته أذنها في دهشة وإنكار، وكان قوم يرقصون أزواجا، قوام كل زوج فتاتان، وقد انتحى شاب أنيق البزة جانبا وهو يراقبهن بعناية، ويوليهن بملحوظاته، وتبادل الرجلان التحية، وواصل الراقصات رقصهن وهن يتفحصن حميدة بنظرات ثاقبة ناقدة. ودارت عيناها بالمرقص والراقصات فعجبت لثيابهن البديعة وزينتهن البارعة، وسرعان ما تناست هواجسها، واستولى عليها انفعال عارم، فعانت شعورا مؤلما بالضعة، ثم استفزها إحساس حاد بالحماس والتوثب. ولاحت منها التفاتة إلى رجلها فوجدته محافظا على هدوئه ورزانته، تلوح في عينيه نظرة متعالية تنطق بالسيادة والقوة. والتفت نحوها فجأة كأنما جذبته عيناها، فانبسطت أساريره، ومال نحوها قليلا متسائلا: أيعجبك ما ترين؟

فقالت ببساطة وهي تقاوم انفعالها: جدا! - أي الرقصين تفضلين؟

فابتسمت ولم تجب. ولبثا قليلا صامتين، ثم غادرا الحجرة، واتجها نحو باب ثالث وقد تجلى الاهتمام في وجهها. وما كاد يدفع الباب حتى حملقت في دهشة وذهول. رأت في وسط الحجرة امرأة عارية منتصبة القامة. وظلت ثواني لا تحول بصرها عنها فلم تر شيئا سواها. ومن عجب أن المرأة العارية بقيت بموقفها كأنها لم تشعر بمقدمهما، وجعلت تنظر إليهما في هدوء واستهتار، وقد افتر ثغرها عن ابتسامة رقيقة كأنها تحييهما أو تحييه هو بالأحرى. وعند ذاك قرعت أذنيها أصوات، فتلفتت يمنة ويسرة وأدركت أن الحجرة معمورة بالآدميين. رأت إلى يسار الداخل صفا من المقاعد مشغولا نصفها بفتيات حسان أنصاف عرايا أو على وشك التعري! .. ورأت على كثب من المرأة العارية رجلا في بدلة أنيقة قابضا بيمناه على مؤشر قد ركز سنانه على مقدم حذائه، ولاحظ فرج إبراهيم دهشتها، فرغب أن يسري عنها، فقال لها: هذا الفصل لتعليم مبادئ اللغة الإنجليزية.

فحدجته بنظرة إنكار كأنها تقول له: «لا أفهم شيئا.» فأشار لها بالتمهل ثم وجه خطابه للرجل القابض على المؤشر وقال: استمر في درسك يا أستاذ.

فقال الرجل بصوت يدل على الطاعة: هذه حصة تسميع.

ورفع المؤشر بخفة ولمس بسنانه شعر العارية، فنطقت المرأة بلفظ غريب «هير»، فأنزله إلى جبينها فهتفت «فرنت»، وانتقل إلى الحاجب فالعين ثم الفم، وشرق وغرب، وصعد وصوب، وهي تجيب على أسئلته الصامتة بكلمات غريبة، لم تسمعها حميدة من قبل، وازدادت الفتاة دهشة وانزعاجا، وتساءلت: كيف تبدو هذه المرأة عارية حيال هذا الجمع؟ وكيف ينظر فرج إلى هذا الجسم المتجرد بهذه البساطة؟! .. وغلى دمها، والتهب خداها، وألقت عليه نظرة سريعة فرأته يهز رأسه راضيا عن التلميذة الذكية، ويتمتم «برافو .. برافو.» ثم خاطب الرجل قائلا: أرني شيئا من الغزل.

فنحى الرجل المؤشر جانبا، وأقبل على المرأة مخاطبا في لهجة إنجليزية، وعاطته المرأة قولا بقول، فتراطنا دقائق بلا تلعثم أو تردد، حتى صاح فرج إبراهيم: عظيم .. عظيم .. والأخريات؟

وأشار إلى الفتيات الجالسات، فقال الأستاذ: في طريق التحسن! .. وإني أقول لهن دائما: إن الكلام لا يحصل بالحفظ، ولكنه يكتسب بالتجربة، فالحانات والبنسيونات هي دور العلم الحقيقية، وما هذا الدرس إلا تثبيت للمعلومات المهوشة.

فقال فرج وهو ينظر إلى فتاته: صدقت .. صدقت.

وحياه بإيماءة من رأسه، وتأبط ذراع حميدة وانفصلا عن المكان معا، وقطعا الردهة الطويلة مرة أخرى صوب حجرتهما. كان وجهها جامدا، وفمها مطبقا، وعيناها تنمان عن الشرود والحيرة، وكانت تتلمس سببا للانفجار، لا لهدف ترمي إليه، ولكن للترويح عن صدرها الهائج المضطرب. ولازم الرجل الصمت حتى حواهما المخدع، ثم قال بلطف: يسرني أن أطلعتك على مدرستي، وأنك فتشت فصولها بنفسك. ربما تراءت لك ذات برنامج عسير شاق؛ ولكنك رأيت بعينيك تلميذاتها البارعات، وجميعهن بغير استثناء دونك ذكاء وجمالا.

فرمقته بنظرة عناد وتحد وسألته ببرودة: أتريدني على أن أفعل مثلهن؟

فابتسم في رقة، وقال بمكر ودهاء: لا سلطان لأحد عليك ولا راد لقضائك، وأنت وحدك صاحبة الأمر والنهي. ولكن واجبي أن أوضح لك المعالم، والخيرة لك. والحق أنه لمن حسن الحظ أني وجدت رفيقا لبيبا تكفيه الإشارة، قد حباه الله جمالا وهمة وبهاء. فإذا سعيت إلى استثارة حماسك اليوم، فعسى أن تسعي أنت غدا إلى استثارتي. إني أعرفك حق المعرفة، وأقرأ قلبك كصفحة مبسوطة، وها أنا ذا أقول لك عن عقيدة ويقين: إنك ستقبلين على تعلم الرقص والإنجليزية، وإتقان كل شيء في أقصر فترة من الزمن. ولقد اتبعت معك سبيل الصراحة من بادئ الأمر وتجنبت الكذب والخداع؛ لأني أحببتك حبا صادقا، ولأني أيقنت من أول لحظة بأنك لا تغلبين ولا تخدعين، فافعلي ما تشائين يا محبوبتي. جربي الرقص أو انبذيه، استهتري أو عفي، ابقي أو عودي، فلا قبل لي بك على جميع الأحوال.

ولم يذهب خطابه سدى، فقد سرى عنها، وخف توتر أعصابها، واقترب منها، وأخذ راحتها بين يديه، وضغط عليها بحنو وهو يقول: أنت أسعد حظ جادت به الحياة علي .. ما أفتنك! .. ما أجملك!

وحدق في عينيها بإمعان وافتتان، ورفع يديها - وهما مضمومتان - إلى فمه، وراح يقبل أطراف أناملها زوجا زوجا، وهي مستسلمة ليديه تجد لكل لثمة من شفته تكهربا في أعصابها، حتى تندت عيناها برقة وهيام، وند عنها نفس حار في شبه تنهدة، فأحاطها بذراعيه، وضمها إلى صدره رويدا حتى شعر بمس ثديها لقلبه؛ ثدي بكر ناهد يكاد لصلابته ينغرس في صدره، وراح يمسح على ظهرها براحتيه صعودا وهبوطا، ووجهها مدفون في صدره، ثم همس: «فمك» فرفعت رأسها ببطء وقد انفرجت شفتاها قليلا، فطبع شفتيه على شفتيها في قبلة طويلة جدا، فأطبقت جفنيها كأنما أخذتها سنة من نعاس. وحملها بيسر فصارت بين ذراعيه كطفل رضيع، وسار بها متمهلا نحو الفراش، وقد هز ساقيها المعلقتين هزة أطاحت بالشبشب، ثم أنامها، ولبث مائلا عليها معتمدا على راحته، منعما النظر في وجهها المورد .. وفتحت عينيها فالتقتا بعينيه، فابتسم إليها ابتسامة رقيقة، ولكنها ظلت ترنو إليه بنظرة ساجية. وكان في الحق متمالكا لأعصابه رغم تظاهره بعكس ذلك، وكان فكره أنشط من قلبه، وكان قد أجمع رأيه على خطة لا يحيد عنها، فاستوى واقفا وهو يغالب ابتسامة ماكرة، وقال بلهجة من ينزع نفسه عن هواها: مهلا .. مهلا .. إن الضابط الأمريكي يدفع خمسين جنيها عن طيب خاطر ثمنا لعذراء!

التفتت إليه داهشة! وسرعان ما غابت من عينيها النظرة الفاترة، وحل محلها نظرة صارمة قاسية قادحة، ونهضت جالسة في الفراش، ثم انزلقت إلى الأرض بسرعة فائقة فانتصبت حياله كالحية الهائجة، وثارت بها غريزتها العنيفة فرفعت يدها وهوت بها على خده بقوة وقسوة، وتجاوبت أركان الحجرة رنينها. ولبث ثواني جامدا، ثم تمدد جانب من فمه الأيسر في ابتسامة هازئة .. وبسرعة تفوق الفكر رفع كفه ولطمها على خدها الأيمن بقوة متناهية، ثم رفع يسراه - قبل أن تفيق من اللطمة الأولى - وصك بها خدها الأيسر بشدة بالغة! اصفر وجهها، وسرت ارتعاشة في شفتيها، وانتفض جسمها انتفاضة حيوانية، فارتمت على صدره، وأنشبت أناملها المتقبضة في عنقه .. وتلقى الرجل هذه الهجمة بسكينة، ولم يحاول مدافعتها، بل أحاطها بذراعيه وشد عليها حتى كاد يهرسها، مضت أصابعها تلين، ثم ارتدت عن عنقه، وتحسست منكبيه وعلقت بهما، ورفعت إليه وجها قانيا وثغرا مرتعشا مشوقا.

27

نشر الظلام رواقه على الزقاق وأطبق على جنباته سكون عميق، حتى قهوة كرشة أغلقت أبوابها وتفرق سمارها. وفي هذا الهزيع من الليل مرق من باب الفرن شبح زيطة، صانع العاهات، ينطلق إلى تجواله الليلي. قطع الرجل أرض الزقاق إلى الصنادقية، وعرج إلى اليسار متجها صوب الحسين، فكاد يصطدم بشبح قادم في منتصف الطريق، وما لبث أن تنور وجهه على ضوء النجوم الشاحب فهتف به: الدكتور البوشي! .. من أين أنت قادم؟

فأجابه الدكتور بعجلة ولهفة: كنت ماضيا إليك. - أعندك طلاب عاهات؟

فقال الدكتور بصوت كالهمس: عندي ما هو أهم، لقد توفي عم عبد الحميد الطالبي!

فأضاءت عينا زيطة في العتمة وسأله باهتمام: متى توفي؟ .. وهل دفن؟ - دفن مساء اليوم. - أعرفت مقبرته؟ - فيما بين باب النصر وطريق الجبل.

وتأبط زيطة ذراعه وسار به في الطريق الذي كان آخذا فيه وهو يسأله مستوثقا: ألا يمكن أن تضل الطريق في الظلام؟ - كلا .. كنت في أثناء سير الجنازة منتبها يقظا فحفظت علامات الطريق، وفضلا عن هذا فهو طريق معروف لكلينا، وطالما قطعناه معا في الظلام الدامس! - وأدواتك؟ - في مكان حريز أمام الجامع. - وهل المقبرة مكشوفة أم مسقوفة؟ - عند المدخل حجرة مسقوفة، ولكن القبر في فناء مكشوف.

فسأله بلهجة لم تخل من تهكم: أكنت تعرف المرحوم؟ - معرفة بسيطة؛ كان بائع دقيق في المبيضة. - أطقم كامل أم بضع أسنان فقط؟ - طقم كامل . - ألا تخشى أن يكون أهله قد انتزعوا الطقم من فمه قبل دفنه؟ - كلا، إن أهل البلد أهل تقوى، وهيهات أن يفعلوا ذلك!

فقال زيطة وهو يهز رأسه أسفا: مضى زمن والناس يودعون القبر حلي موتاهم.

فتنهد الدكتور قائلا: أين منا ذاك الزمن؟!

وبلغا الجمالية في ظلمة حالكة وصمت مخيم، ومرا في طريقهما بشرطيين ثم أخذا يقتربان من باب النصر، واستخرج زيطة من جيبه نصف سيجارة وأشعلها وراح يدخن بشغف. وقد فزع الدكتور بوشي من ضوء عود الثقاب وقال لصاحبه بنرفزة: بئس ما اخترت هذا الوقت للتدخين!

ولكن زيطة لم يأبه ومضى يقول وكأنه يخاطب نفسه: لا فائدة ترجى من الأحياء، وقليل من الموتى ذوو نفع.

ومرقا معا من باب النصر، ومالا إلى اليمين يقطعان طريقا ضيقا تحف به المقابر من الناحيتين، ويرين عليه صمت رهيب وكآبة شاملة. وقال زيطة عند نهاية الثلث الأول من الطريق: «هاك المسجد.» فتلفت بوشي فيما حوله، وتنصت قليلا في حذر، ثم اقترب من الجامع متحاميا إحداث أي صوت، وتحسس الأرض لصق جداره فيما يلي مدخله حتى عثر بحجر كبير، ثم أزاحه عن موضعه بيديه، واستخرج من نقرة تحته فأسا صغيرة ولفافة تحوي شمعة، وعاد إلى صاحبه، فاستطردا في مسيرهما وهو يقول همسا: «تقع المقبرة فيما قبل الطريق الصحراوي بخمس مقابر.» وجدا في السير، وعينا الدكتور تتطلعان إلى المقابر على يسار الطريق، وقلبه يدق بعنف، ثم تثاقل بغتة وهو يهمس: «هذه المقبرة.» ولكنه لم يقف، بل حث صاحبه على السير وهو يقول: سور المقبرة المطل على هذا الطريق عال، والطريق نفسه غير مأمون، فالأفضل أن ندور حول المقابر من ناحية الصحراء، ثم نتسور المقبرة من ناحيتها الخلفية حيث يوجد القبر في الفضاء المكشوف.

ولم يبد زيطة اعتراضا، فتقدما في صمت حتى انتهيا إلى طريق الصحراء، واقترح زيطة أن يجلسا على الطوار قليلا ريثما يراقبان الطريق، وجلسا جنبا لجنب، وراحا يراقبان المكان بأربع أعين. كان الظلام شاملا، والمكان مقفرا، وفيما وراءهما تنتثر القبور فتشغل مساحة من الأرض لا يحيط بها البصر. ومع أن هذه المخاطر لم تكن الأولى من نوعها إلا أن الدكتور بوشي لم يستطع أن يتمالك أعصابه أو يسيطر على دقات قلبه المضطرب، فلبث يحملق في الظلماء، فؤاده خافق، وريقه جاف، وأعصابه متوترة؛ في حين جلس زيطة جامدا، رابط الجأش، لا يبالي شيئا. ولما اطمأن إلى خلو الطريق قال للدكتور: دع الأدوات واسبقني إلى سور المقبرة الخلفي، وانتظرني هناك.

ونهض الدكتور على كره، وتسلل بين القبور مائلا نحو الأسوار الخلفية للمقابر، وسار لصق الجدران متلمسا طريقه في ظلام دامس ليس به من بارقة نور إلا ما تشعه النجوم، وجعل يعد الأسوار حتى بلغ خامسها، وألقى على ما حوله نظرة لص، ثم جلس القرفصاء، لم تعثر عيناه بشيء يريبه ولم يبلغ أذنه حس، ولكن القلق لم يزايله، واشتد جزعه. وبعد قليل رأى شبح زيطة على مدى أذرع منه، فنهض في حذر، وعاين الرجل السور ثم قال همسا: تقوس حتى أصعد على ظهرك.

وتقوس الدكتور معتمدا راحتيه على ركبتيه، ورقي الرجل ظهره، وتحسس الجدار حتى قبض على حافته، ثم تسوره بمهارة وخفة، ورمى بالفأس ولفافة الشمعة إلى داخل الفناء، ثم مد يده إلى الدكتور حتى التقت بيده، وأعانه على تسلق الحائط حتى تسنمه، وهويا معا، وتوقفا عند أصل السور يستريحان، والتقط زيطة في أثناء ذلك الفأس واللفافة. وكانت أعينهما قد اعتادت الظلام واستأنست بنور النجوم الخافت، فرأيا الفناء في شيء من الوضوح، وقبرين متجاورين ينهضان على كثب من موقفهما، وفي نهاية الفناء يقوم الباب المطل على الطريق الذي جاءا منه، وعلى جانبهما حجرتان. وسأل زيطة وهو يومئ إلى القبرين: أيهما؟

فأجابه بصوت يكاد ينحبس في حلقه: على يمينك.

ودنا زيطة من القبر بلا تردد، يتبعه بوشي مرتجف الأوصال، وحنى قامته متحسسا أرض المنزل فوجدها طرية ندية ما تزال، فأعمل فيها فأسه بحذر وهوادة، مكوما الثرى بين رجليه المنفرجتين. وثابر على العمل الذي لم يكن جديدا بالنسبة إليه، حتى كشف عن السلاليم التي تسقف منزل القبر، وشمر طرف جلبابه وجدله وعقده حول وسطه، وأقبل على طرف السلمة الأولى، ورفعها شادا على عضلاته حتى انتصبت قائمة، وأخذ ينيمها بمعونة البوشي حتى طرحها أرضا. وفعل مثل ذلك بالسلمة الثانية. واكتفى بالثغرة التي فتحها حيث يمكن أن ينزلق منها هو وصاحبه، ومضى إليها ونزل الأدراج وهو يقول للدكتور مغمغما: «اتبعني.» فتبعه منقبض الصدر، مقشعر البدن .. وكان الدكتور يجلس - في مثل هذا الظرف - على الدرجات الوسطى، ويشعل الشمعة ويثبتها في الدرجة السفلى، ثم يغمض عينيه ويدفنهما بين ركبتيه. وكان يدخل القبور على كره، وطالما ناشد زيطة الرحمة أن يعفيه من دخول القبر؛ ولكن الآخر أبى أن يؤدي له هذه الخدمة إلا إذا شارك في جميع خطواتها، مستلذا في أعماقه تعذيبه. وقد اشتعلت ذبالة الشمعة فأضاءت القبر، وألقى زيطة نظرة متحجرة على الجثث المدرجة في أكفانها، مطروحة في تتابع وتواز حتى غيابات القبر، يرمز نظامها إلى تسلسل التاريخ واطراد الزمن، وينطق صمتها الرهيب بالفناء الأبدي، ولكنها لم ترجع في صدر زيطة أي صدى، فسرعان ما استرد نظرته المتحجرة وثبتها على الكفن الجديد عند بدء القبر .. وجلس القرفصاء، ثم كشف عن رأس الجثة بيدين باردتين، وحسر الشفتين، وعالج بأصابعه الطقم حتى انتزعه، وأودعه جيبه وقد تلوثت أنامله .. ثم غطى الرأس كما كان، وتحول عن الجثة إلى الباب، فرأى الدكتور دافنا رأسه بين ركبتيه والشمعة في أسفل الدرج تزهر، فرماه بنظرة ساخرة وغمغم في ازدراء: «اصح!» فرفع الدكتور رأسه مرتعدا، ومال نحو الشمعة فتناولها ونفخها فأطفأها، ورقي السلم في عجلة كأنه يفر. ورقي زيطة الدرج كذلك، ولكنه قبل أن يبرز من الثغرة صكت أذنيه صرخة داوية، وسمع الدكتور يصيح بصوت كالعواء: «في عرضكم!» تسمرت قدماه، ثم تراجع نازلا الأدراج وهو لا يدري ما يفعل وقد أثلجت أطرافه، وما زال يتراجع حتى داس كعبه الجثة، فتقدم خطوة ووقف متسمرا لا يجد مهربا. وخطر له أن يرقد بين الجثث، ولكنه قبل أن يأتي حركة واحدة غمره نور وهاج أغلق جفنيه قسرا، وسمع صوتا شديدا يصيح به في لهجة صعيدية: اصعد، وإلا أطلقت عليك النار.

وطوقه اليأس فاستسلم، ورقي الدرج كما أمر، وقد نسي الطقم الذهبي في جيبه. •••

ولم يتناه إلى الزقاق نبأ القبض على الدكتور بوشي وزيطة في مقبرة الطالبي إلا عند عصر اليوم التالي. وفشا الخبر وعرفت أسبابه، وتناقله القوم في دهشة وانزعاج .. وما إن علمت به الست سنية عفيفي حتى استحوذ عليها الفزع وولولت صارخة، وانتزعت طقمها الذهبي ورمت به، وأخذت تلطم خديها في حالة عصبية شديدة، ثم سقطت مغمى عليها. وكان زوجها في الحمام، فلما أن قرع أذنيه صراخها أخذه الرعب فارتدى جلبابه على جسده المبلول وهرع إليها لا يلوي على شيء.

28

كان عم كامل جالسا على كرسيه على عتبة الدكان، مائلا رأسه على صدره غارقا في النعاس، والمنشة في حجره. ثم استيقظ على دبيب شيء على صلعته فتحركت يده حركة آلية ليطرد ما ظنه حشرة، ولكنها وقعت على كف آدمية، فقبض عليها ساخطا، وتأوه متذمرا، ورفع رأسه ليرد ذاك المداعب الثقيل الذي أيقظه من نعاسه اللذيذ، فوقعت عيناه على عباس الحلو .. لم يكد يصدق عينيه، فحملق فيه مشدوها، ثم اشتد احمرار وجهه المنفوخ فرحا، وهم بالنهوض، ولكن الشاب لم يمكنه من ذلك، واحتضنه بذراعيه فتعانقا عناقا حارا، والحلو يهتف به متأثرا: كيف حالك يا عم كامل؟

فيجيبه الرجل في لهفة وسرور: كيف أنت يا عباس .. أهلا وسهلا ومرحبا .. لشد ما أوحشتني يا عكروت!

ووقف الحلو بين يديه مبتسما، والآخر يتطلع إليه بعينين شيقتين. وكان يرتدي قميصا أبيض وبنطلونا رماديا، وقد حسر رأسه ورجل شعره فبدا أنيقا حسن المنظر، موفور الصحة، مورد الوجه، فرمقه عم كامل بإعجاب وقال بصوته الرفيع: ما شاء الله أنت رائع يا جوني!

فضحك عباس الحلو ضحكة رنانة صاعدة من قلب جذل وقال: ثنك يو .. لن يرطن الشيخ درويش بالإنجليزية وحده بعد اليوم!

وأجال الشاب عينيه في الزقاق المحبوب، فوقعتا على دكانه القديم، ورأى صاحبه الجديد مكبا على حلق ذقن زبون، فرنا إلى الدكان رنوة حنان وتحية. ثم طار بصره إلى النافذة فوجدها مغلقة كما كانت حين قدومه، فتساءل: ترى أهي في الدار أم في الخارج؟ وما عسى أن تفعل إذا فتحت الباب فوجدت أنه الطارق؟ سوف تحملق في وجهه بدهشة وذهول، فيملأ عينيه من حسنها الباهر! هذا يوم أغر من الأيام المعدودة في العمر. وانتبه إلى صوت عم كامل وهو يقول متسائلا: أتركت عملك؟ - كلا، ولكني أخذت إجازة قصيرة. - ألم تدر بما حصل لصاحبك حسين كرشة؟ هجر أباه، وتزوج، ثم استغنوا عنه فعاد إلى بيته يجر وراءه زوجه وشقيقها.

فلاح الأسف في وجه الحلو وقال: يا لسوء الحظ .. إنهم يستغنون عن العمال كثيرا في هذه الأيام .. وكيف استقبله المعلم كرشة؟

فمط عم كامل بوزه وقال: لا يفتأ شاكيا متبرما؛ أما الفتى وأهله فيقيمون في الدار.

وسكت الرجل نصف دقيقة، ثم قال متعجلا كأنما ذكر أمرا هاما: أما علمت بأن الدكتور بوشي وزيطة مسجونان؟!

ثم قص عليه كيف قبض عليهما في قبر الطالبي متلبسين بجريمة سرقة طقمه الذهبي. وقد وجم الحلو وجوما شديدا، ولم يكن يستبعد أن يرتكب زيطة أشنع الجرائم، ولكنه عجب للدكتور بوشي كيف سولت له نفسه اقتراف هذه الجريمة النكراء .. وذكر كيف طلب إليه أن يركب له طقما حين عودته من التل الكبير، فالتوت شفتاه امتعاضا وتقززا.

واستدرك عم كامل يقول: وقد تزوجت الست سنية عفيفي.

وكاد يقول له: «العقبى لك.» ولكنه أمسك فجأة وقد دق قلبه بعنف! ذكر عند ذاك حميدة! .. ولكم ذكر هذا الموقف فيما تلا ذلك من أيام متعجبا من نسيان ما كان ينبغي أن يذكره لأول وهلة! ولكن الحلو لم ينتبه لتغيره، وسرعان ما شغل بآماله وأفراحه فتراجع خطوتين قائلا: أستودعك الله إلى حين.

وأشفق الرجل أن يدهمه الخبر على حين غرة فسأله بلهوجة: أين تقصد؟

فقال الحلو وهو يهم بالمسير: إلى القهوة أسلم على من بقي من الصحاب.

فاتكأ عم كامل على ركبتيه وقام جاهدا، وتبعه متبخترا. وكان الوقت عصرا فلم يجدا بالقهوة من أصحابهما إلا المعلم كرشة والشيخ درويش، فسلم عباس على المعلم الذي لاقاه بترحيب، وشد على يد الشيخ درويش، فرمقه الشيخ بنظرة باسمة من وراء نظارته ولم ينبس بكلمة. وكان عم كامل يعاني انقباضا ثقيلا، وحزنا مريرا، ولا يدري كيف يفاتحه بالنبأ الأليم، فقال له برجاء: هلا عدت معي إلى الدكان قليلا؟

ووقف عباس مترددا بين رجاء صاحبه وبين الزيارة المنشودة التي انتظرها جزعا بضعة شهور، ولكن لم يهن عليه عم كامل، ولم يجد بأسا في المكوث معه فترة قصيرة من الوقت، فرجع معه إلى دكانه مداريا برمه بابتسامة لطيفة، وجلسا في الداخل جنبا لجنب، وهو يقول بسرور: الحياة في التل الكبير حياة عظيمة، عمل متواصل، وربح موفور .. إني لا أبعثر نقودي قانعا بعيشة متواضعة لا تكاد تختلف عن عيشة الزقاق، حتى الحشيش لم أذقه إلا مرات معدودات، مع أنه هناك كالماء والهواء، وقد ابتعت هذا .. انظر يا عم كامل، العقبى لك!

واستخرج من جيب بنطلونه علبة صغيرة وفتحها، فبان بداخلها عقد ذهبي مركب من سلسلة وقلب رقيق، ثم استطرد وعيناه البارزتان تلمعان بسرور: شبكة حميدة .. أما علمت؟! .. سأكتب الكتاب في إجازتي هذه.

وتوقع أن يقول الرجل شيئا، ولكن عم كامل لاذ بصمت ثقيل وغض بصره كأنه يخفيه، فنظر إليه الشاب باهتمام، ولأول مرة رأى ما ينطق به وجهه من وجوم واكفهرار. ولم يكن عم كامل من الذين يفلحون في إخفاء ما يعتمل في أنفسهم، فلاح باطنه عاريا في وجهه. وسرعان ما قطب الحلو وساوره القلق، فأغلق العلبة وأعادها إلى جيبه، وأنعم في صاحبه النظر فداخله خوف انقبض له قلبه. وأشفق على قلبه الجذل الحبور أن تطفئ جذوته خيبة لا يداريها ولا يتوقعها. أشفق من ذلك إشفاقا أليما موجعا، ولكن نذر الكدر تخايلت لعينيه في وجه الرجل المرتبك الواجم، ولم يستطع مع جموده صبرا، فسأله بارتياب: ما لك يا عمل كامل؟ .. لست كعهدي بك .. ما الذي غيرك؟ .. لماذا لا تنظر إلي؟!

فرفع الرجل وجهه إليه ببطء، وطالعه بعينين مظلمتين محزونتين، وفتح فمه ليتكلم، ولكن لسانه خانه فلم يطاوعه وبلغ الجزع بعباس مداه، وتنبأ قلبه بالفاجعة، فشعر بالقنوط يطفئ أضواء فرحه، ويخمد أنفاس أمله، فهتف بحزم قائلا: ماذا وراءك يا عم؟ ما الذي تريد أن تقوله؟ عندك ما تقوله بلا ريب، بل في ضميرك أشياء وأشياء، فلا تقتلني بترددك .. حميدة؟! .. أي والله حميدة! .. قل ما تشاء .. لا تعذبني بسكوتك، هات ما عندك دفعة واحدة.

فازدرد ريقه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: ليست موجودة! لم تعد هنا .. اختفت .. لا يدري أحد عنها شيئا.

أنصت إليه بذهول وفزع، ونقشت الكلمات في وعيه كلمة كلمة، ولكن غشي فهمه ضباب وغبار، وكأنما انتقل فجأة إلى دنيا المحمومين، فقال بصوت متهدج: لست أفهم شيئا .. ماذا قلت؟! لم تعد هنا، اختفت؟! ماذا تعني؟

فقال عم كامل بأسى: شد حيلك يا عباس .. يعلم الله أني حزين أسيف، وأني حملت همك من أول الأمر، ولكن ما باليد حيلة .. اختفت حميدة، ولم يدر أحد عنها شيئا؛ خرجت يوما كعادتها كل عصر ولكنها لم تعد .. فتشوا عنها في مظانها جميعا دون جدوى .. بلغنا قسم الجمالية، وبحثنا في قصر العيني، ولكن لم نعثر لها على أثر.

لاح في وجهه سهوم، ولبث حينا جامدا صامتا، لا يتكلم ولا يتحرك ولا يطرف، لا مذهب ولا مهرب، ألم يتنبأ قلبه بالفاجعة؟ بلى، وها هو يصدقه. يا عجبا .. ماذا يقول الرجل؟ .. اختفت حميدة؟ .. وهل يختفي البشر كما تختفي إبرة أو قطعة من النقود؟! لو أنه قال: ماتت أو تزوجت لأمكن أن يجد اضطرابه مدى أو نهاية، فاليأس على أية حال أروح من الشك والحيرة والعذاب. ولكن ما عسى أن يفعل الآن؟! بات اليأس نعمة لا يطمع فيها بحال. وخرج من جموده فجأة، فاستعرت نفسه هياجا وارتعشت أطرافه، وحدج الرجل بعينين محمرتين وصاح به: اختفت حميدة! .. وماذا فعلتم؟ .. بلغتم قسم الجمالية وبحثتم في قصر العيني؟ .. جزاكم الله كل خير، ثم ماذا؟ .. عدتم إلى أعمالكم كأن شيئا لم يكن! .. يا لطف الله! .. انتهى كل شيء، فرجعت أنت إلى دكانك وراحت أمها تطرق أبواب العرائس، وانتهت حميدة، وانتهيت أنا أيضا. ماذا تقول يا رجل؟ خبرني عما تعلم؟ ماذا تعرف من أمر اختفائها؟ .. كيف اختفت؟ ومتى وقع ذلك؟!

استحوذ الاضطراب على عم كامل لما بدر من صاحبه من حدة وغضب، وقال بصوته الحزين: مضى على اختفائها زهاء شهرين يا بني. كان حادثا مروعا مفزعا ارتجت له القلوب، والله يعلم أننا لم نأل جهدا في البحث والاستفسار، ولكن ما باليد حيلة!

فضرب عباس كفا على كف، وقد احتقن الدم بوجهه، وازدادت عيناه جحوظا، وقال وكأنه يخاطب نفسه: زهاء شهرين! .. رباه .. هذا تاريخ قديم، لا أمل في العثور عليها. ماتت؟ .. غرقت؟ .. خطفت؟ .. من لي بأن أدري؟ .. خبرني بما يقول الناس؟

فقال عم كامل وهو يرمقه بحزن وحنان: ظنوا ظنونا كثيرة، ثم رجحوا أنها ذهبت ضحية لحادث، أما الآن فلا يذكرون شيئا.

فهتف الشاب متأوها: طبعا .. طبعا، فلا هي ابنة لأحد منهم، ولا قريبة أحد، حتى أمها ليست بأمها. ترى ماذا حدث لها؟ .. كنت في هذين الشهرين أسعد الناس أحلاما. أرأيت كيف يحلم إنسان بالسعادة إذ الشقاء يترقب يقظته ساخرا هازئا طاويا مصيره بيديه القاسيتين؟! .. ولعلي كنت أنعم بلذيذ السمر؛ بينما كانت تنهرس تحت عجلة، أو تتخبط في قعر النيل .. شهران يا حميدة! لا حول ولا قوة إلا بالله.

ونهض قائما ضاربا الأرض بقدمه، ثم قال بامتعاض: أستودعك الله.

فسأله بلهفة: علام نويت؟

فقال بفتور: سأقابل أمها.

وذكر وهو يدلف من باب الدكان متثاقلا كيف جاء يكاد يطير من جلده فرحا، وكيف يذهب محطما مهيضا! فعض على شفته، وتسمرت قدماه وقد بلغ منه الأسى منتهاه، وتحول نحو صاحبه فرآه ينظر إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، ففقد جنانه وهرع نحوه بلا وعي، وارتمى على صدره في قنوط، ونشج منتحبا باكيا كالأطفال. •••

ألم يداخله شك في حقيقة اختفائها؟ .. ألم يساوره ما يساور المحبين من ارتياب وسوء ظن في مثل حالته؟ الحق أن طيف شك قد لاح بخاطره ولكنه لم يلق إليه بالا فتبدد. كان بطبعه شديد الثقة، يجود بالظن الحسن بغير حساب. كان طيب القلب جدا، ومن هذه القلة من الناس الذين ينزعون بفطرتهم إلى إقامة المعاذير لغيرهم، واختيار أخف التأويلات لأفظع الفعال. ولم يغير الحب من طبعه هذا، بل لعله رسخه وقواه، فلم تظفر منه وسوسة الغيرة وهمهمة الشك بأذن مرهفة. وقد أحب حميدة حبا شديدا باركته فطرته الطيبة بثقة وطمأنينة. وآمن - إلى هذا كله - بأن فتاته أكمل فتاة في الدنيا التي لم ير منها شيئا يذكر، فلم يداخله شك فيها، أو أن طيف الشك الذي لاح له لم يجد في قلبه مرتعا يعيث فيه. وقد ذهب لمقابلة أمها ذلك اليوم، ولكنها لم ترو له غلة، وأعادت عليه ما قصه عم كامل بصوت مختنق بالعبرات. وزعمت له أن الفتاة كانت لا تفتأ تتذكره وتترقب عودته بصبر فارغ؛ فضاعفت بكذبها أحزانه، وغادرها كما جاءها كسير الفؤاد، مبلبل الفكر، معذب النفس. وغادر الزقاق تسوقه قدماه الثقيلتان، وقد زعفر الأصيل هامة النهار، تلك الساعة التي اعتاد - في الأيام الخوالي - أن يرى فيها مطلعها المحبوب إذا خرجت لنزهتها اليومية. وقطع الطريق ذاهلا عما حوله، فتمثلت لعينيه بجسمها الملفوف في الملاءة السوداء وعينيها النجلاوين المحبوبتين، وهفت على قلبه ذكرى الوداع الأخير على البسطة، فتنهد من الأعماق، ونفخ محزونا قانطا. ترى أين هي الآن؟ .. ماذا تصنع؟ وماذا صنع الله بها؟ .. أتعيش على ظهر الأرض أم ترقد في قبر من قبور الصدقة؟ .. رباه .. كيف تحجر قلبه طوال ذلك العهد فلا استشف ريبة ولا شام نذيرا؟! .. كيف استنام إلى طمأنينة الأحلام ولذة المنى فأكب على العمل غافلا عما يخبئه له الغد؟! وأيقظه الزحام من ذهوله فتنبه إلى الطريق .. هذا الموسكي طريقها المختار بأناسه ودكاكينه، كل شيء فيه باق على حاله، إلا هي، اختفت كأن لم تملأ الدنيا بهاء بالأمس. وألمت به رغبة في البكاء، ولكنه لم يستسلم لها هذه المرة. لقد أراحه البكاء على صدر عم كامل، وأرخى توتر أعصابه، وتركه لحزن عميق هادئ، فيجدر به الآن أن يتساءل عما هو فاعل، أيدور على الأقسام وقصر العيني؟ .. ولكن ما جدوى ذلك؟ أيدوخ في شوارع القاهرة مناديا باسمها؟ أيطرق أبواب البيوت بابا بابا؟ الله ما أعجزه وما أعجز حيله! إذن هل يعود إلى التل الكبير متناسيا ما وراء ظهره؟ ولكن لماذا يعود؟ لماذا يصر على تحميل نفسه آلام الغربة؟ لماذا يكد ويكدح ويجمع النقود؟ الحياة بغير حميدة عبء ثقيل لا طائل تحته .. غاضت في قلبه مشاعرها جميعا إلا فتورا يزهق الأنفاس وخمودا يقتل الإحساس، وهوى إلى هذه الحالة المضنية التي تبدو فيها الحياة فراغا كئيبا يحدق به سد هائل من القنوط. كان يعيش على الفطرة لا يدري شيئا عما وراءها، مخلصا لقوانين الحياة الأولية، فوجد في الحب جوهر حياته وخلودها، فلما أن فقده فقد الأسباب التي تصله بالحياة، وتردى مزعزعا كذرة هائمة في الفضاء. ولولا أن الحياة - التي تجرع غصص الآلام - تتفنن في إغراء بنيها بالتعلق بها حتى في أحلك أوقاتها، لختم عمره وقضى. ولكنه مضى في سبيله حائرا قد ضل هدفه، بل شعر في تلك اللحظة أنه ضله إلى الأبد. بيد أنه ما زال معلقا بخيط يدق على وعيه، ولمح في عرض الطريق بنات المشغل العائدات، فما يدري إلا وهو يتجه نحوهن ويعترض سبيلهن، فوقفن داهشات وقد تذكرنه في غير مشقة، وقال لهن بلا أدنى تردد: مساء الخير يا بنات، لا تؤاخذنني، ألا تذكرن صاحبتكن حميدة؟

فقالت إحداهن: نذكرها جميعا! .. ونذكر كيف اختفت فجأة، فلم نرها منذ ذلك اليوم!

فسأل بصوت ينطق بالأسى: ألا تدرين شيئا عن اختفائها؟

فقالت أخرى وقد لاحت في عينيها نظرة ماكرة: لا ندري شيئا على وجه اليقين؛ إلا ما قلته لأمها حين جاءتني يوم اختفائها تسأل عنها، من أننا رأيناها مرات بصحبة أفندي يسيران معا في الموسكي.

وحملق في وجه محدثته بذهول وقد ارتعش جانب فيه، وسألها: أرأيتها بصحبة أفندي؟!

ونال منظره من الفتيات فاختفت من أعينهن نظرات خبيثة ساخرة، وتكلفن الرزانة، وقالت محدثته برقة: نعم يا سيدي. - وأخبرت أمها بذلك؟ - نعم.

وشكرهن بكلمة، وسار في طريقه. ولم يداخله شك في أنهن سيجعلن منه حديثهن بقية الطريق ، ولعلهن يضحكن كثيرا من الفتى المغفل الذي هاجر إلى التل الكبير ليجمع ثروة لمحبوبته، فآثرت عليه آخر وفرت معه. يا له من مغفل حقا! ولعل أهل حيه جميعا قد لغطوا بغفلته. وقد رحمه عم كامل فأخفى عنه الحقيقة، كما أخفتها أم حميدة، وهل كان بوسعهما أن يفعلا غير ما فعلا؟ وخاطب نفسه ولما يفق من ذهوله قائلا: «هذا ما حدثني به قلبي لأول وهلة.» ولم يكن صادقا في قوله؛ لأن الشك لم يلم به إلا إلمامة خفيفة، ولكنه لم يعد يذكر في محنته غير هذه الإلمامة الخفيفة من الشك، بيد أنه تاه في اللحظة التالية وتساءل وهو يبسط أصابعه ويقبضها في حركات تشنجية: «رباه كيف أعقل هذا؟! أهربت حميدة حقا مع رجل؟! من يصدق هذا؟!» لم تمت إذن، ولم يعرض لها حادث، ولقد أخطئوا خطأ كبيرا في البحث عنها في الأقسام وقصر العيني، وغاب عنهم أنها تنام سعيدة رخية البال بين ذراعي الرجل الذي خطفها. ولكنها وعدته ومنته! .. أفكانت تخادعه؟ .. أم توهمت خطأ أنها تميل إليه؟ .. كيف عرفت ذلك الأفندي؟ ومتى أحبته؟ وأي جرأة شيطانية أغرتها بالفرار معه؟! .. كان ممتقع اللون، بارد الأطراف، تلوح في عينيه نظرة ساهمة قاتمة، وتبرق فيها من آن لآن لمحة خاطفة تقدح شررا. خطر له خاطر فصعد رأسه إلى الدور على جانبي الطريق، ينظر إلى نوافذها ويتساءل: في أي دار ترقد لصق رجلها الآن؟ انقشع غبار الحيرة، وحل محله غضب ناري ومقت نهم، وتقبض قلبه وتلوى تحت ضغط يدي الغيرة القاسيتين، غير أن شعوره بالخيبة - الناشئة من ذهاب الأمل وتمرغ المعبود في التراب - كان أفظع من الغيرة نفسها. إن الغرور والكبرياء وقود للغيرة يؤرثان لهيبها. ولم يكن حظه منهما ملحوظا، ولكنه كان شديد الأمل كبير الأحلام، فذوى أمله وتبدد حلمه، وانفجرت نفسه غضبا. وأفاده الغضب من حيث لا يدري، فاستنقذه من ذاك الحزن الصامت الثقيل، وعلله بالانتقام يوما ولو على سبيل البصق والازدراء. والواقع أن فكرة الانتقام استحوذت على مشاعره في تلك الساعة الجهنمية من الغضب والقهر، فتمنى أن يتمكن من طعن قلبها الغادر بمدية حادة. الآن يستطيع أن يدرك سر مواظبتها على الخروج في العصاري، فقد كانت تنطلق عارضة نفسها على ذئاب الطرق! ولكنها جنت بغير شك، جنت بهذا الأفندي، وإلا لما آثرت العهر معه على الزواج به! وعض على شفته ألما لهذا الخاطر. وانتقل راجعا قد ضاق ذرعا بالمشي والوحدة. وتحسست يده علبة العقد في جيبه، فانطلقت من فمه ضحكة جافة ساخرة كأنها صرخة غضب في رداء ضحكة. ليته يستطيع أن يشنقها بسلسلة هذا العقد الذهبية! وذكر كيف وقف في دكان الصايغ يقلب عينيه بين الحلي وقلبه يكاد يقفز من صدره جذلا وسرورا، وهفت الذكرى على قلبه كالنسيم الواني، إلا أنها التقت بوهج قلب مضطرم، فانقلب النسيم حرورا.

29

ما إن وقع السيد سليم علوان على العقد المبسوط على المكتب حتى شد الخواجا الجالس قبالته على يده وقال له: مبارك عليك يا سليم بك. هذه ثروة طائلة.

وعلق بصر السيد بالخواجا وهو يمضي في سبيله حتى توارى وراء باب الوكالة، صفقة رابحة. وبحسبه أنه تخلص من مخزون الشاي الذي اشتراه الخواجا جملة، فربح الكثير وأمن شر المخاوف، خصوصا وأن صحته لم تعد تطيق أهوال السوق السوداء. بيد أنه قال لنفسه ساخطا متبرما: «ثروة طائلة ولكنها ملعونة، لقد حلت اللعنة بكل شيء في دنياي.» والحق أنه لم يبق من السيد القديم إلا شبح هزيل، وكانت أعصابه أشد ما يضنيه، وكأنها تعهدت بالقضاء عليه، فسامته تفكيرا متواصلا في الموت حتى صار الموت شغله الشاغل. ولم يكن الرجل في الأصل بالضعيف الإيمان، ولا كان بالرعديد الجبان، ولكن تهافت أعصابه أنساه آداب الإيمان وألوى بشجاعته. وما انفك يفكر في ساعة الاحتضار - وقد ذاق بعض مرارتها في إبان مرضه - ويستذكر ذكرياته عنها عمن حضرهم الموت من أقاربه، ذاك الرقاد المستسلم الأليم، وصعود الصدر وهبوطه، وهذه الحشرجة المتقطعة، وإظلام المقلتين، وبين هذا وذاك تنتزع الحياة من الأعماق والأطراف، وتودع الروح الجسد. أفيقع كل هذا في يسر؟! إن الإنسان ليجن إذا انتزع ظفره، فكيف يكون إذا انتزعت روحه وحياته؟! ولا يدري إلا المحتضر نفسه حقيقة هذا الألم، فما تستطيع أن تلمس غير آثار الاحتضار الظاهرة، أما صداها في الروح ورجعها في الجسد، فسر الميت الذي ينطوي عليه صدره، ويقبر معه في جدثه، وآخر ذكرياته عن آلام الدنيا في أفظع حالاتها وأبشعها، ولو أنه أتيح لميت أن ينطق عن عذاب احتضاره لما نعم إنسان بساعة صفو واحدة في الحياة، ولمات الناس ذعرا قبل أن تدركهم النهاية. وطالما تمنى أن يسلكه الله في زمرة المحظوظين، ممن يموتون بالسكتة القلبية. ما أسعدهم بين الأحياء والأموات على السواء، إنهم ليموتون وهم يتكلمون أو يأكلون، أو حين يقومون أو يقعدون، كأنهم يمكرون بالاحتضار فيتحينون منه غفلة ثم ينسلون خفية إلى باب الأبدية! .. ولكنه في شبه يأس من هذه الميتة السعيدة، وقد ضرب له أبوه - وجده من قبل - مثل الميتة التي يشعر قلبه المتهافت الفزع بأنها ستجري عليه؛ احتضار طويل يغشى نصف يوم ونزع شديد تشيب له الولدان. من كان يصدق أن السيد سليم علوان - الرجل القوي السعيد - سيمسي فريسة لهذه الأفكار والمخاوف؟ .. هكذا كان، ولم يكن الاحتضار بفزعه الوحيد؛ فقد انجذبت أفكاره المحمومة نحو ضجعة الموت نفسها، فأطال فيها التفكير والتفلسف على طريقته! وصور له خياله وثقافته المتوارثة عن الأجيال، أن بعض شعوره سيلازمه بعد الموت، أليس يقولون: إن عيني الميت تريان من يحدقون به من الأهل؟ .. فحتم أن يرى الموت جهرة، وأن يشعر بالنهاية الأبدية وهي تشمله، وأن تتصل حواسه بظلمة القبر ووحشته وغربته وهياكله وعظامه وأكفانه، بل بضيقه واختناقه، وما يحتمل أن يتردد في النفس من أشواق وحنين وحب للدنيا وأهلها! .. تمثل ذلك كله بصدر منقبض، وقلب متشنج، وأطراف باردة، وجبين يتفصد عرقا، ولم ينس ما وراء ذلك من بعث ونشور وحساب وعذاب، أواه .. ما أبعد الشقة بين الموت والجنة!

لذلك تعلق بأهداب الحياة بقوة الخوف واليأس، على رغم أنها حياة عاطلة من أسباب النعيم، فلم تترك له دورا يلعبه في مسرحها إلا المراجعة وعقد الصفقات، ودأب عقب نقاهته على استشارة طبيبه، فأكد له الطبيب شفاءه من الذبحة وآثارها، ولكنه نصحه بالحذر والاعتدال. وشكا إليه عدة مرات ما يعاني من سهاد وهواجس، فأشار عليه باستشارة أخصائي في الأعصاب، ومن ثم مضى يتردد بين الأخصائيين في الأعصاب والقلب والصدر والرأس، وتفتح له باب المرض عن عالم لا يقل عن عالمنا اتساع رقعة وازدحاما بالسكان من الجراثيم والأعراض الخفية. ومن عجب أنه لم يكن يؤمن لا بالطب ولا بالأطباء، ولكنه آمن بهما في اضطرابه، ولعل إيمانه هذا كان من بين أعراض المرض الذي ألم بأعصابه!

في هذا الجحيم من الهواجس كادت تنحصر حياته، وفي أوقات عمله، وأويقات السلام التي تصفو فيها نفسه وتنقى من نمش الهواجس، كان كأنه يتفرغ لإفساد علاقاته بالمحيطين به من البشر، فهو إما في حرب مع نفسه، وإما في حرب مع الناس. وأدرك عمال الوكالة من بادئ الأمر أن سيدهم قد استحال شخصا شاذا ملعونا، فترك الوكيل وظيفته بعد خدمة طويلة استمرت ربع قرن من حياته، وبقي من بقي من العمال على مضض وتوجس واستكراه. وقال عنه أهل الزقاق: إنه بين العقل والجنون، وقالت حسنية الفرانة بشماتة لم تحاول إخفاءها: «إنها صينية الفريك، والعياذ بالله.» ويوما قال له عم كامل عن قصد حسن ونية سليمة: هلا أمرتني يا سي السيد أن أصنع لك صينية بسبوسة مخصوصة ترد عليك ثوب العافية بإذن الله! ولكن السيد غضب غضبا شديدا وانفجر صائحا فيه: إليك عني أيها الغراب، أجننت يا أعمى القلب والبصيرة؟! .. إن أمثالك فقط من البهائم تبقى لهم أمعدتهم سليمة حتى الق...

ولم يعد بعدها عم كامل إلى التعرض له بخير أو بشر.

أما زوجه فباتت رمية سهلة لغضبه وسخطه، ولم يفتأ يلقي على حسدها المزعوم له تبعة ما حصل له في جسمه وعقله، وكان ينتهرها قائلا: لشد ما نقمت على صحتي وعافيتي، حتى تحطمت بين يديك، فهنيئا لك الراحة يا أفعى!

واشتد به سوء الظن، حتى ارتاب يوما أن يكون نما إليها عزمه على الزواج من حميدة؛ لأن أمثال هذه الأمور تتصدى لها أعين كثيرة فتراها في خفية من صاحبها، وتتطوع ألسنة كثيرة لإذاعتها وإيصالها لصاحب الشأن، ولم يستبعد عند ذاك أن تكون المرأة قد انتقمت منه بأن عملت له «عملا» هو الذي أودى بصحته وعقله! .. ولم يكن في حالة تسمح له بأن يزن ما يعرض له من فكر بميزان العقل، ولا أن يسبرها بمسبار الحكمة، فسرعان ما انقلبت الريبة يقينا. فتميز غيظا، وامتلأ حنقا، وتوثب للانتقام .. اشتط في معاملتها، ودأب على سبها ونهرها؛ ولكنها قابلت قسوته بالامتثال والصبر والأدب، فلم يجده شططه، ولبث يتحرق إلى إثارتها، وإخراجها من التعوذ بالصمت والصبر إلى الأخذ بأسباب التشكي والتذمر وذرف الدموع، فقال لها مرة بجفاء وازدراء: لقد مللت عشرتك، ولا أخفي عنك أني شارع في الزواج، وسوف أجرب حظي مرة أخرى .. وصدقته المرأة، فتصدع بنيان رزانتها المتماسك، وفزعت إلى أبنائها، فباحت لهم بما تلقاه على يديه من سوء القول والفعل، وهالهم الأمر، ودهمهم الخطب، فأيقنوا أن أباهم ينزلق إلى مهوى وخيم العواقب، وزاروه واقترحوا عليه - إبقاء على صحته - أن يصفي تجارته ويفرغ للراحة والعناية بنفسه. وفطن الرجل إلى ما يساورهم من خوف غير جديد عليه؛ فغضب غضبة هائجة، وعنفهم بفظاظة لا عهد لهم بها، وخاطبهم بحدة قائلا: حياتي ملك لي أصرفها كيفما أشاء، وسأبقى عاملا ما راق لي العمل فاعفوني من نصحكم المغرض.

وضحك متهكما، ثم استدرك وهو يقلب في وجوههم عينيه الذابلتين: ألم تحدثكم أمكم عما اعتزمت من الزواج مرة أخرى؟ .. هو الحق! لقد شرعت أمكم في قتلي، فسآوي إلى كنف امرأة جديدة على شيء من الرحمة، وإذا تضاعف عددكم بهذا الزواج فثروتي كفيلة بإشباع أطماعكم جميعا.

وأنذرهم بأنه سيقبض يده عنهم، وأن على كل منهم أن يعتمد في حياته على موارده الخاصة .. قال بسخط وغضب: إني كما ترون لا أكاد أذوق غير مر الدواء، فلا يصح أن يتمتع الآخرون بمالي.

قال كبيرهم: كيف تخاطبنا بهذه اللهجة المرة ونحن أبناؤك البررة؟

فقال السيد ساخرا : بل أبناء أمكم.

ونفذ وعيده، فلم يعد يحمل شيء من طرفه إلى بيوت أبنائه، وحرم مطبخ سراياه من الأنواع الفاخرة التي اشتهر بها، والتي حرمت عليه هو بعد مرضه، ليشاركه الجميع - خصوصا زوجه - فيما فرض عليه. ولهج بحديث الزواج المزعوم حين وجد السهم النافذ الذي تحطمت دونه ما تدرع به زوجه من صبر وأناة. وتشاور أبناؤه فيما بينهم، وقد ألفاهم الخطب قلبا واحدا في التوجع لأبيهم، والإخلاص له في محنته، وقال كبيرهم: نتركه وشأنه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

بيد أن المحامي قال بشيء من الحزم مستدركا: اللهم إلا إذا شرع في الزواج حقا، فأشد ما نتخذه من احتياط أهون من أن نتركه هملا بين أيدي الطامعين. •••

وكان اختفاء حميدة حدثا فظيعا في حياته. ومع أنه لم يعد إلى ذكرها - منذ مرضه - فتخلفت عن تيار شعوره، إلا أن خبر اختفائها أثار اهتمامه وجزعه، فتتبع بقلق بحث الباحثين عنها. ولما تناهى إليه ما تهامس به اللاغطون من أنها فرت مع رجل مجهول، انزعج انزعاجا شديدا، وثار غضبه ذلك اليوم، فلم يجرؤ أحد على الدنو منه، فرجع مع المغيب إلى بيته مهدم الأعصاب، وأصابه صداع شديد أرقه حتى مطلع الفجر. وحنق على الفتاة الهاربة حنقا كبيرا، وتآكل قلبه حقدا وغضبا، وتمنى أن يراها يوما متدلية من مشنقة، مندلقة اللسان، جاحظة العينين. ولما علم بعودة عباس الحلو من التل الكبير سكن روعه لغير ما سبب واضح، ودفعته رغبة لا تقاوم إلى استدعاء الشاب، وقربه ولاطفه في الحديث وساءله عن أحوال معيشته، متجنبا ذكر الفتاة، فسر الشاب بعطفه، وشكر له حدبه، وأقبل على الحديث في استفاضة من استنام إلى لطفه، والسيد يسترق إليه النظر من عينيه الغائرتين .. وفي الأيام الأولى التي أعقبت فرار حميدة وقع حادث، ربما كان في ذاته تافها، ولكنه مما يؤرخ به في زقاق المدق .. كان السيد سليم علوان متجها نحو الوكالة في ضحوة من النهار، فالتقى بالشيخ درويش ذاهبا لبعض شأنه، وكان السيد - في عهده الأول - من محبي الشيخ درويش، وكثيرا ما تعاهده بالبر والإحسان والهدايا، ولكنه أغفله في مرضه وأهمله، وكأنه لم يعد يشعر له بوجود. ولما التقيا على كثب من باب الوكالة هتف الشيخ درويش وكأنه يخاطب نفسه: اختفت حميدة.

فبهت السيد، وظنه يعنيه بقوله، فما تمالك أن صاح به: ما لي أنا ولهذا؟!

ولكن الشيخ درويش واصل خطابه قائلا: ولم تختف فحسب، ولكنها هربت، ولم تهرب فحسب؛ ولكنها هربت مع رجل؛ ويسمون ذلك في الإنجليزية

Elopement

وتهجيتها:

E...

وقبل أن يتم الرجل تهجية الكلمة انفجر السيد صارخا: إنه ليوم شؤم إذ أصبحت على وجهك يا مجنون، اغرب عن وجهي، عليك لعنة الله.

وجمد الشيخ في مكانه، تسمر في الأرض، ولاحت في عينيه نظرة طفل مذعور إذا لوح له شخص بعصا مهددا، ثم أعول باكيا، ومضى السيد لطيته، ولبث الشيخ درويش بموقفه باكيا، وعلا صوته فصار أشبه بالصراخ، حتى أهاب نواحه بالمعلم كرشة وعم كامل والحلاق العجوز، فهرعوا إليه متسائلين، وقادوه إلى القهوة، وأجلسوه على أريكته وهم يطيبون خاطره ويسكنون روعه. وطلب له المعلم كرشة قدحا من الماء، وربت عم كامل على كتفه قائلا بتوجع: وحد الله يا شيخ درويش، اللهم اكفنا السوء .. بكاء الشيخ نذير غير محمود العواقب .. اللهم لطفك!

ولكن الشيخ ازداد بكاء وعويلا، فاضطربت أنفاسه، وارتجفت أوصاله، وأطبقت شفتاه في توتر وتشنج، وراح يشد ربطة رقبته بعنف، ويضرب الأرض بقبقابه. وفتحت نوافذ الدور، وأطلت الرءوس في دهشة وانزعاج، وجاءت حسنية الفرانة، وشق النحيب طريقه إلى مسمعي السيد سليم علوان في الوكالة، فأنصت إليه غاضبا حانقا، وظل ينصت إليه هائجا، وجعل يتساءل: متى يمسك عن العويل؟ .. وعبثا حاول أن يغيب بانتباهه عنه، فكأنه كان يلح في مطاردته والتضييق عليه، حتى خيل إليه أن الدنيا جميعا تبكي وتنوح. وسكت غضبه وسكن هياجه، ولكن ما طفق البكاء يرعش أوتار قلبه فترن في إشفاق وألم. ليته شكم غضبه ولم ينتهر الشيخ الولي! .. لتيه لم يصادفه في طريقه! وما كان ضره لو أغضى عنه ومر به مر الكرام! وتأوه نادما، ومضى يقول: إن الإنسان في مثل حالته من المرض حري بأن يزدلف إلى الله، لا أن يغضب وليا من أوليائه. وطوى كبرياءه، ونهض قائما، وغادر الوكالة متوجها إلى قهوة كرشة، وقصد الشيخ الباكي غير عابئ بالأنظار التي سددت نحوه في دهشة، ووضع يده على منكبه برفق، وقال بلهجة تنم عن الاعتذار والأسف: يا شيخ درويش .. سامحني.

30

كان عباس الحلو يجلس مختبئا في شقة عم كامل حين دق الباب بعنف، فنهض إليه وفتحه، فرأى حسين كرشة مرتديا القميص والبنطلون، تبرق عيناه الصغيرتان كعادته، ثم بادره قائلا: كيف لم تقابلني وهذا ثاني يوم لك في المدق؟! .. كيف حالك؟ فمد له الحلو يده مبتسما ابتسامة باهتة وقال: كيف أنت يا حسين؟ .. لا تؤاخذني .. فمتعب أخوك، لا ناس ولا مهمل، هلم نسر معا.

وخرجا معا. وكان عباس الحلو قد قضى ليلته مسهدا، وقطع النهار متفكرا، فسار مصدع الرأس، مثقل الجفون، لم يكد يبقى من ثورة الأمس أثر، سكت الغضب الجنوني، وبرد الهياج الحامي، وتلاشت خواطر الانتقام الدموي، على حين رسب في قرارة نفسه حزن عميق ويأس مدلهم، وبمعنى آخر تخلصت نفسه مما لا تطيقه من ألوان الانفعال، مسلمة بكليتها للحزن واليأس. وقال له حسين متسائلا: أما علمت بأني كنت هجرت بيتنا عقب سفرك مباشرة؟ - حقا؟ - وتزوجت، وأخذت بأسباب حياة رائعة.

فقال الحلو وهو يكسب صوته شيئا من الاهتمام الذي لا يجده: حمدا لله .. مبارك .. عال .. عال.

وكانا بلغا الغورية، فضرب حسين الأرض بقدمه وصاح بحدة: بل زفت وهباب! .. استغنوا عني فعدت إلى الزقاق على رغمي، وأنت، هل استغنوا عنك أيضا؟

فأجابه الشاب بفتور: كلا .. ولكني منحت إجازة قصيرة.

فأكلت الغيرة قلبه، وضحك ضحكة باردة ثم قال: أنا الذي دفعتك إلى العمل دفعا وأنت تمانع، وها أنت ذا تنعم به؛ على حين أتسكع أنا متعطلا.

وكان عباس من أدرى الناس بما تنطوي عليه طبيعة صاحبه من غل وشر، فقال بانكسار: نهايتنا قريبة على أية حال، هذا ما يؤكدونه لنا.

فارتاح حسين قليلا، ثم استدرك يقول بصوت أسيف: كيف انتهت الحرب بهذه السرعة؟! من كان يصدق هذا؟!

فهز الحلو رأسه دون أن ينبس بكلمة. سيان عنده أن تستمر الحرب أو تنتهي، وأن يبقى في عمله أو يفصل منه، إنه لا يبالي شيئا على الإطلاق. وكاد يضجره حديث صاحبه، إلا أنه ألفاه أخف من الوحدة والفكر، ومن ناحية أخرى تحمله - كما اعتاد أن يتحمله - دفعا لشره. واستطرد حسين قائلا: كيف انتهت بهذه السرعة؟! .. كان الأمر معقودا بهتلر أن يطيلها إلى ما لا نهاية، ولكن أنهاها حظنا الأسود. - صدقت.

فصاح حسين بشدة: نحن تعساء .. بلد تعيس وأناس تعساء .. أليس من المحزن ألا نذوق شيئا من السعادة إلا إذا تطاحن العالم كله في حرب دامية؟! فلا يرحمنا في هذه الدنيا إلا الشيطان!

وأمسك قليلا وهما يشقان طريقا بين سابلة السكة الجديدة، وقد أخذ ستار الظلام في الانتشار، ثم قال متنهدا في حسرة: لشد ما تمنيت أن أكون جنديا محاربا! تصور حياة جندي باسل، يخوض غمار الحرب، وينتقل من نصر إلى نصر، يركب الطيارات والدبابات، يهاجم ويقتل ويسبي النساء الفارات، ويبذل له المال عن سخاء، فيسكر ويعربد فوق القانون. هذه هي الحياة. ألا تتمنى أن تكون جنديا؟

الحق أن ركبتيه كانتا تتخلخلان إذا سمع صفارة الإنذار، وكان من رواد المخبأ المواظبين، فكيف يتمنى أن يكون جنديا من المحاربين؟ بيد أنه تمنى صادقا لو كان خلق جنديا فظا متعطشا للدماء، فيسهل عليه الانتقام ممن آذوه وبددوا حلمه في السعادة والحياة الرغيدة! وقال بلهجته الفاترة: من لا يتمنى ذلك؟!

وانتبه إلى الطريق، فازدحمت برأسه الخواطر، رباه .. كيف للزمان أن يمحو ذكريات هذا الطريق من صدره؟! إن أرضه لا تزال تحمل آثار قدميها اللطيفتين، وإن هواءه لا يبرح معبقا بأنفاسها المحبوبة، وكأنه يراها رؤية العين وهي تخطر بقوامها المعتدل الممشوق، أنى له أن يطمع في نسيان هذا كله؟! وقطب متغيظا على نفسه لجودها بهذا الحنان لغير أهله، وأطبق فمه فلاح وجهه صارما قاسيا، وعاودته لفحة من ثورة الأمس؛ ينبغي أن ينبذ من ينبذه، وأن يطرح من يخونه، وألا يحرق أضلعه حزنا - ولا حتى غضبا - على من يرقد ناعما بين أحضان غريم له. تبا للقلب من صاحب خئون، دسيسة على الروح والجسم، يحب من لا يحبهما، ويحرص على من يفرط فيهما، فيسيم صاحبه الخسف والهوان. واستيقظ عند ذاك على صوت حسين الصاخب وهو يلكزه هاتفا: حارة اليهود.

وأوقفه بيده عن السير متسائلا: ألا تعرف حانة فيتا؟ .. ألم تدمن الخمر في التل الكبير؟

فأجابه عباس قائلا باقتضاب: كلا. - كيف عاشرت الإنجليز ولم تشرب الخمر؟ يا لك من خروف تعس .. الخمر شراب منعش ومفيد للمخ، تعال.

وتأبط ذراعه ومال به إلى حارة اليهود، وكانت فيتا تقع على بعد يسير من مدخلها؛ على جانبها الأيسر، وهي أشبه بدكان متوسطة، مربعة الشكل، تمتد في جانبها الأيمن طاولة ذات سطح رخامي ينهض وراءها الخواجا فيتا، وقد ثبت في الجدار خلفه رف طويل صفت عليه الزجاجات، وقامت في نهايته من الداخل براميل ضخمة، وعلى سطح الطاولة وضعت جفان الترمس والأقداح، ازدحم حولها الشاربون من أهل البلد؛ حوذية وعمال وآخرون حفاة ونصف عراة كالشحاذين إن كان الشحاذون يسكرون. وبقي من الحانة غير ذلك موضع اتسع لبعض المناضد الخشبية. فجلس إليها أعيان السوقة والعاجزون عن الوقوف لكبر أو لسكر شديد. ورأى حسين مائدة شاغرة في نهاية الحانة فقاد صاحبه إليها، وجلسا حولها، وقلب عباس عينيه في المكان الصاخب المدوي في صمت وقلق، حتى استقرتا على غلام في الرابعة عشرة قصير مفرط في البدانة، مطين الوجه والجلباب، حافي القدمين، يزحم الشاربين ويكرع من قدح مترع، ويتمايل رأسه سكرا، فاتسعت عيناه دهشة ولفت حسين إليه، ولكن هذا لوى بوزه استهانة وقال بسخرية: هذا عوكل بائع الجرائد، يبيع الجرائد في النهار ويسكر في الليل، غلام ولكن قل في الرجال مثله، أرأيت يا غشيم؟!

ومال برأسه نحوه قليلا وقال: كأس النبيذ بقرش ونصف لذة للمتعطلين أمثالي. منذ شهر كنت أشرب الوسكي في بار فنش ولكنها الدنيا القلب، معلهش يا زهر!

وطلب كأسين، فجاء بهما الخواجا ووضعهما على المائدة ومعهما طبق ترمس. ونظر عباس إلى كأسه بقلق وقال مشفقا من لسان صاحبه إشفاقه من الإقدام على التجربة الجديدة: يقولون إنها مؤذية!

فقبض حسين على قدحه وهو يقول بسخرية: تخاف على نفسك؟! خلها تقتلك .. في داهية يا سيدي، لا أنت في الزيادة ولا في النقصان، صحتك.

وقرع كأسه بكأسه، ثم أفرغه في جوفه بغير مبالاة، ورفع عباس كأسه وكرع منه كرعة، ثم أبعده عن فيه متقززا، وقد شعر كأن لسانا من لهب اندلع في حلقه، فتقبض وجهه وكأنه لعبة من المطاط ضغطته أصابع طفل، وقال متأففا: فظيع .. مر .. حامي.

فتضاحك حسين ساخرا، شاعرا بزهو واستعلاء وقال بازدراء: تشجع يا طفل، الحياة أمر من هذا الشراب، وأوخم عاقبة.

ورفع كأسه ووضع حافته بين شفتيه وهو يقول: «اشرب حتى لا يندلق على قميصك.» فتجرعه الآخر حتى الثمالة. ونفخ متقززا، ثم أحس حرارة في بطنه، سرت بسرعة عجيبة ناشرة وهجها في جوفه، فشغل بالانتباه إليها عن تقززه، وتتبع أثرها وهو يندفع مع دمه، ويجري في عروقه، حتى إذا بلغ رأسه خفت وطأة الدنيا عليه قليلا، وقال حسين بسخرية: اكتف اليوم بكأسين ولا تزد.

وطلب كأسا أخرى لنفسه وراح يقول: أقيم الآن مع أبي ومع زوجي وشقيقها، ولكن نسيبي وجد عملا في الترسانة وسيفارقنا اليوم أو غدا. ويقترح أبي علي أن أشرف على القهوة نظير ثلاثة جنيهات في الشهر، وبمعنى آخر أشتغل من الفجر حتى نصف الليل بثلاثة جنيهات! .. ولكن ماذا تقول لحشاش مجنون؟! .. وهكذا ترى أن الدنيا تناصبني العداء، وتستفز غضبي ومقتي، وليس عندي إلا جواب واحد: فإما الحياة التي طابت لنا، وإما حرقنا الدنيا ومن عليها.

فسأله عباس، وكان أخذ يستشعر راحة وجدها عجيبة لذيذة بالنسبة لما تعناه طوال يومه من هم وفكر: ألم توفر مالا؟

فقال حسين بحدة وسخط: ولا مليما! كنت أسكن شقة نظيفة بالوايلية، فيها الكهرباء والماء، وكان عندي خادم صغيرة تقول لي بكل احترام: «يا سيدي.» وكنت أرتاد السينما والفرقة القومية، ربحت كثيرا، وضيعت كثيرا، وهذه هي الحياة! إن أعمارنا ذاهبة فلماذا تبقى النقود؟ بيد أن النقود ينبغي أن تساير العمر حتى نهايته، وإلا فالويل لمصر إذا لم تساير النقود الأعمار. ليس لدي الآن إلا قليل من الجنيهات غير حلي زوجي.

وصفق طالبا كأسا ثالثة، ثم قال بإشفاق: والأدهى من ذلك أن زوجي تقيأت في الأسبوع الماضي.

فقال عباس متظاهرا بالاهتمام: لا بأس عليها. - لا بأس ولا زفت، هذه أمارات الحبل، كما تقول أمي، وكأن الجنين غثت نفسه تقززا من الحياة التي تنتظره فأعدى أمه.

ولم يطق عباس أن يتابعه بالإصغاء لسرعته ولهوجته، ولم يعد يهتم بذلك، وانتابته كآبة فجائية بعد أن نعم ساعة بالراحة، ولاحظ الآخر شروده وسهومه فقال باستياء: ما لك؟ .. إنك لا تصغي إلي.

فقال عباس بصوت حزين: اطلب لي كأسا أخرى.

وحقق حسين مشيئته بسرور، ورنا إليه بنظر مريب، ثم قال: أنت متكدر، وأنا أعلم بسبب كدرك.

فخفق فؤاد الشاب وقال بعجلة: لا شيء مطلقا، هات ما عندك، إني مصغ إليك.

ولكنه لم يباله وقال بلهجة لم تخل من احتقار: حميدة.

فاشتد وجيب قلبه، وكأنه تجرع كأسا ثالثة، فهاج دمه وسرى إليه الوجد والحزن والغضب، فقال بصوت متهدج: أجل حميدة، هربت، خطفها رجل، عار وشقاء! - لا تحزن كثيرا كالحمقى، وهل طابت حياة من لم تفر عنهم نساؤهم؟!

وتناهى الانفعال بالشاب فقال بغير وعي: ترى ماذا تفعل الآن؟!

فضحك حسين ساخرا وأجابه: تفعل ما عسى أن تفعله أية امرأة فرت مع رجل. - أنت تهزأ بألمي. - ألمك سخيف، خبرني متى علمت بفرارها؟ .. مساء الأمس! .. كان ينبغي أن تكون نسيتها الآن.

وهنا أحدث عوكل - الغلام الشريب بائع الجرائد - حركة لفتت إليه أنظار الجلوس، وكان استوفى شربه ومضى ثملا مترنحا، حتى إذا بلغ عتبة الحانة نظر فيما حوله بعينين زائغتين ورأسه يميل إلى الوراء في عظمة وسلطنة، وصاح بلسان ملتو: أنا عوكل شاطر الشطار وسيد الرجال، أسكر وأنبسط، وها أنا ذاهب إلى عشيقتي، فهل لأحد منكم اعتراض؟ .. أهرام، مصري، البعكوكة.

واختفى الغلام تاركا وراءه عاصفة من الضحك ، أما حسين كرشة فقد عبس غاضبا، ولاح الشر في عينيه، وبصق بصقة طارت إلى الموضع الذي كان به الغلام، وأخذ يسب ويلعن. كانت أقل إثارة من تحد - وهو على سبيل المزاح - كافية لإشعال غضبه وإهاجة روح الاعتداء الكامنة فيه، ولو كان الغلام بمتناول يده للكمه أو ركله أو أخذ بتلابيبه. والتفت إلى عباس - وكان يتجرع كأسه الثانية - وقال بحدة وكأنه نسي ما كانا آخذين فيه من أسباب الحديث: هذه حياة وليست لعبة خشبية، يجب أن نعيش .. ألا تفهم؟

ولم ينتبه عباس إليه، كان يخاطب نفسه قائلا: «لن تعود حميدة، اختفت من حياتي إلى الأبد، وماذا تجدي عودتها؟ ولكن سأبصق على وجهها إذا التقيت بها يوما، هذا أشد من القتل .. أما ذاك الأفندي فالويل له مني، سأدق عنقه.»

واستدرك حسين قائلا: هجرت المدق فأعادني الشيطان إليه، سأضرم به النار، هذه خير وسيلة للتحرر منه.

فقال عباس بأسى: زقاقنا لطيف، وما طمعت يوما في أكثر من حياة طيبة فيه. - إنك خروف! وحلال أن تنحر في عيد الأضحى. علام تبكي؟ إنك عامل وفي جيبك نقود، ولتجمعن غدا بتقتيرك مالا وفيرا، فماذا تشكو؟

فقال عباس بلهجة تشف عن الاستياء: إنك أكثر مني شكوى، وعمرك ما حمدت الله.

فحدجه الشاب بنظرة قاسية أثابته إلى رشده وجعلته يستدرك قائلا بلين: لا عليك من هذا، لكم دينكم ولي دين.

فقهقه حسين بصوت ارتجت له الحانة، وقال وقد أخذت الخمرة تلعب برأسه: خير لي أن أشتغل خمارا من أن أشتغل مكان أبي في القهوة، الربح هنا موفور، وفضلا عن هذا فالخمر مبذولة للخمار بغير حساب.

فابتسم عباس ابتسامة فاترة وقد بات أشد حذرا في مخاطبة صاحبه الديناميتي، وكان دبيب الخمر يسري في أعصابه، ولكنه بدل أن ينسى شجوه تركزت خواطره فيه. وصاح حسين مرة أخرى: فكرة رائعة! .. سأتجنس بالجنسية الإنجليزية، في بلاد الإنجليز الكل سواسية، لا فرق بين الباشا وابن الزبال، فلا يبعد أن يصير ابن القهوجي رئيس وزارة.

وانبعثت نشوة مباغتة في دم الحلو، فقال بحماس: فكرة طيبة! .. سأتجنس أيضا بالجنسية الإنجليزية.

ولكن حسين لوى شفتيه ازدراء وقال بسخرية: مستحيل، أنت خرع، فالأنسب أن تتخذ الجنسية الإيطالية، ومهما يكن من أمر فسنسافر على سفينة واحدة .. قم بنا.

ونهضا واقفين، وأديا حسابهما، وغادرا الحانة والحلو يتساءل: أين نذهب الآن؟

31

لعل الساعة الوحيدة التي داومت عليها من حياتها الغابرة هي انطلاقها إلى الخارج في الأصيل من كل يوم. ولكنها الآن تطيل الوقوف أمام المرآة المصقولة، أصلها ثابت في الحوض الذهبي، وفرعها سامق في سماء الغرفة. وكانت قد فرغت من ارتداء ملابسها وأخذت زينتها، فبدت امرأة جديدة كأنما ولدت في أحضان النضارة، ونمت وترعرعت في مطارف الجاه والنعيم؛ على الرأس عمامة بيضاء مرتفعة في تقوس كالخوذة، عقص تحتها شعرها المدهون العبق، الخدان والشفتان مصبوغتان بالحمرة على خلاف بقية الوجه خلا من الأصباغ، بعد تجربة طويلة دلت على أن بشرتها البرنزية أفتن للجنود الحلفاء وأحب إليهم، الأشفار مكحلة والأهداب مدهونة مفصلة تهدف إلى عل أطرافها الحريرية، وعلى الجفون ظلال بنفسج مقطرة من نسائم الفجر، هلالان مزججان خطتهما يد ماهرة مكان الحاجبين، سلسلتان من البلاتين ذات نبقتين من اللؤلؤ تتدليان من الأذنين، غير ساعة ذهبية في معصمها وهلال منغرس في مقدم العمامة .. فستان أبيض يشف أعلاه عن قميص وردي وتنضح حاشيته بسمرة فخذيها، جورب رمادي من الحرير الخالص لبسته لا لشيء إلا غلو ثمنه، وقد تطاير شذا عبق من تحت إبطيها وراحتيها وعنقها. فلشد ما تغير كل شيء! •••

ولقد اختارت سبيلها من بادئ الأمر بمحض إرادتها، وبعد تجربة وعناء، تكشف لها أفقه عن أفراح وضاءة وخيبة مريرة، فوقفت على قمة الامتحان تردد عينيها بين اليمين والشمال متلهفة.

علمت من أول يوم ما يراد بها، فثارت غاضبة هائجة، لا لتكسر إرادة عشيقها الحديدية، ولكن استسلاما لداعي عجرفتها وإشباعا لغريزتها المتعطشة للعراك، ثم أذعنت بعد ذلك وكأنها تذعن بمحض مشيئتها. وأدركت بوضوح وبفضل بلاغة فرج إبراهيم أنها لكي تتمرغ في التبر ينبغي أن تتمرغ في التراب، فلم تبال شيئا، وفتحت صدرها للحياة الجديدة بحماس وسرور وهمة، حتى صدق عليها عشيقها يوم وصلها بالتاكس إلى حيها من أنها «عاهرة بالفطرة!» وتجلت مواهبها فبرعت في فترة قصيرة في أصول الزينة والتبرج، وإن سخروا أول الأمر من سوء ذوقها، فكانت سريعة التعلم محسنة للتقليد، ولكنها سيئة الاختيار لألوان ثيابها وفي ميلها إلى الحلي تبذل ملموس. ولو كان ترك الأمر على ما تشتهي وتحب لتبدت وكأنها «عالمة» في زواقها الفاقع وحليها التي تكاد تغطي جسمها. وفيما عدا ذلك فقد تعلمت الرقص بنوعيه، ودلت على مهارة في تعلم المبادئ الجنسية للغة الإنجليزية. ولم يكن النجاح الذي جاءها يجر أذياله بمستغرب، فتهافت عليها الجنود وتساقطت عليها أوراق النقود، وانتظمت في سلك الدعارة لؤلؤة منعدمة النظير. وبدا لها أنها فازت بكل شيء، وأنها لم تخسر شيئا، فلم تكن في عهدها الأول بالساذجة فتأسى للخدعة التي أطاحت بها، ولم تكن بالفتاة الطيبة فتذهب نفسها حسرات على ما فقد من أمل في الحياة الطيبة، ولم تكن بالفاضلة حقا فتبكي على شرفها المثلوم، ولم تشدها إلى ذلك الماضي ذكرى حسنة يهفو إليها الفؤاد، فانغمرت في حاضرها المحبوب لا تلوي على شيء. وعلى العكس من ذلك كانت غالبية الفتيات اللاتي يضطربن في مضمارها؛ فمنهن جماعة يتطاحن في قلوبهن الأسى والطمع والشقاء واليأس، ومنهن بائسات يشقين ليقمن أود أسرات جائعات، ومنهن تعيسات يخفين تحت شفاههن المصبوغة قلوبا دامية، ونفوسا حنانة إلى الحياة الفاضلة؛ أما هي فقد طابت بحياتها نفسا، وأذكت عيناها الفاتنتان ضياء الزهو والحرية والرضا والفرح، ألم تتحقق أحلامها؟! بلى، والثياب والحلي والذهب والرجال المتهافتون آيات على ذلك، ناهيك بهذه السطوة السحرية التي دان لها المعجبون .. أفمن الغريب بعد ذلك أن يلوح المدق كما يلوح السجن للآبق الطليق؟ ولقد ذكرت يوما كيف أسفت فيما مضى على رغبة عشيقها عن الزواج منها، وتساءلت: أكانت تفضل حقا أن تتزوجه؟ وجاءها الجواب بالنفي بلا تردد. ولو تحقق ذاك الزواج لكانت الآن قابعة في بيت، دائبة على القيام بدور الزوجة والخادم والأم، وغير ذلك من الواجبات التي تدري الآن عن تجربة ويقين أنها لم تخلق لها. فلله ما أبرعه وما أفطنه وما أبعد نظره! ومع ذلك أقول حذار! .. إياك أن تتصورها امرأة شهوانية، تستحوذ عليها شهوة طاغية! هي أبعد ما تكون عن ذلك! والحق أن شذوذها لا يكمن في قوة شهوتها. لم تكن من هذه الطائفة من النساء اللاتي تستأسرهن الشهوة وتستذلهن فيجدن بكل غال في سبيل إرضائها، كانت تتلهف بروحها وجسمها على الظهور والسطوة والعراك، وكانت - حتى بين ذراعي الرجل الذي محضته الحب - تتلمس أنامل الحب خلال اللكمات والصفعات، وقد باتت شاعرة بهذا الشذوذ في عواطفها، أو هذا النقص في طبيعتها، وكان ذلك من دواعي تماديها واستهتارها، بيد أنه كان ذلك من أسباب تعلقها بعشيقها، وعن هذا التعلق نجمت الخيبة المريرة التي منيت بها. •••

كانت تجتر خواطر هذه الخيبة وهي ماثلة أمام المرآة تأخذ زينتها، ثم طرق أذنيها وقع خطاه - ذلك الرجل - رأت صورته في المرآة وهو يقتحم عليها الغرفة بوجه جامد رزين كأنه لم يكن ذاك العاشق الولهان، فتحجر بصرها وتشنج قلبها. لم يعد الرجل الذي عرفته من قبل، وهذه هي الخيبة المريرة، ولو طال به العهد لربما هان الخطب بعض الشيء، ولكنه دهمها في نشوة الأيام الأولى، فلم تنعم بحبه خالصا في لذة وسعادة وحلم وخيال وهناء وأمل، إلا زهاء عشرة أيام! ثم غلب المدرب فيه على العاشق، ومضى يتكشف رويدا عن التاجر، ذلك الرجل القاسي الفظ الذي يتجر بالأعراض. والواقع أن قلبه لم يعرف الحب قط، ولعله من الغريب أن تقوم حياته على هذه العاطفة التي لم تحرك فؤاده أبدا. وكانت طريقته إذا أوقع فريسة في شباكه أن يمثل معها دور العاشق - وهو ما أتقنه بطول الممارسة وأسعفته عليه فحولته - حتى إذا استنامت إليه تمتع بها فترة قصيرة، ومن ثم يطمئن إلى سيطرته عليها بما يبعثه فيها من تعلق به وما يكبلها به من قيود مالية، ثم بما يتهددها عادة من رقابة القانون! .. فإذا تم له سعيه بدا على حقيقته، وتمخض العاشق عن تاجر الأعراض . ولقد عزت حميدة فتور عاطفته إلى الجو المشبع بأنفاس النساء الذي يعيش فيه، فانقلبت ولا هم لها إلا الاستئثار به، وصار همها هذا شغلها الشاغل الذي نغص عليها صفوها، فباتت فريسة للحب والغيرة والغضب. واستحوذت عليها هذه المشاعر جميعا وهي تنظر إلى صورته التي تطالعها على صفحة المرآة، فتحجر بصرها وتوثبت إرادتها وتوترت أعصابها. أما هو فقال بلهجة سريعة متظاهرا بالعجلة: أنتهيت يا عزيزتي؟

ولكنها لم تعبأ به، وتعمدت ألا تجيبه استكراها لما يبدي من ملاحظات عن «العمل»، وتذكرت بحسرة عهدا لم يكن يحدثها إلا عن الحب والإعجاب؛ الآن لا تنفرج شفتاه إلا عن العمل أو الربح! .. والآن لا تستطيع عنه فكاكا بحكم هذا العمل، وبطغيان عواطفها نفسها. وإن الغضب ليملأ صدرها، ولكن ماذا يجدي هذا الغضب؟! .. لقد فقدت حريتها التي استباحت في سبيلها كل منكر. وإنها ليداخلها شعور بالقوة والسيادة ما دامت في الطريق أو الحانة. حتى إذا رأته أو ذكرته حل محل هذا الشعور الباهر إحساس بالأسر والذل. ولو اطمأنت إلى قلبه لهان كل عسير، فذل الحب في أعماقه ظفر، أما والحال غير ذلك فما تدري إلا الجنون مهربا من حيرتها، وكان فرج إبراهيم يعلم بما يختلج في صدرها، ولكنه كان يريدها على أن تعتاد جفوته لتحسن التسليم بالقطيعة المرتقبة. ولو كانت امرأة أخرى لهان عليه هجرها بغير عناء، ولكنه آثر أن يجرعها كأس القنوط نقطة فنقطة، واستوصى بالصبر والأناة شهرا طويلا، حتى بات متأهبا للضربة الحاسمة، قال بلهجته العارية عن العاطفة: هيا يا عزيزتي فالوقت من ذهب.

فصرفت وجهها إليه بعنف وقالت بحدة: هلا أقلعت عن هذه العبارات السمجة؟! - هلا أقلعت أنت يا عزيزتي عن الإجابات الجافة؟!

فتهدج صوتها غضبا وهي تقول: أهكذا يحلو لك أن تخاطبني الآن؟!

فتظاهر بالملل وقال: أوه .. أنعود مرة أخرى إلى هذا الحديث الممجوج؟! «تخاطبني بهذه اللهجة» .. «أنت لا تحبني» .. «لو كنت تحبني لما اعتبرتني مجرد سلعة!» .. ما جدوى هذا الكلام؟ .. ألا أكون عاشقا إلا إذا رددت صباح مساء «أنا عاشق»؟ .. ألا أكون محبا إلا إذا بادرتك كلما التقينا «أحبك»؟ .. ألا يكون حب إلا إذا شغلنا بحديث الحب عن عملنا وواجباتنا؟ .. أحب أن يكون عقلك كبيرا كغضبك، وأن تكرسي حياتك - كما أكرس حياتي - لعملنا العظيم، وأن تجعليه فوق الحب نفسه وفوق كل شيء.

وأصغت إليه بوجه مصفر من الغضب. هذا كلام بارد فاتر، هذه مراوغة لا أثر فيها لعاطفة، ولقد بلت مثل هذا الكلام من قبل، وكادت تألفه مذ آنست منه الفتور. وإنها لتذكر كيف بدأ الماكر بنقدها متعمدا، فكان يفحص يديها بعناية، ويحثها على المزيد من الاهتمام بهما قائلا: «أطيلي أظافرك واصبغيها بالمنيكور .. يداك نقطة ضعف في جمالك!» وقال لها مرة أخرى متشفيا وقد طال بينهما الجدل: «حذار، هذه نقطة ضعف أخرى ما فطنت لها من قبل، صوتك يا عزيزتي .. ازعقي إذا شئت من الفم لا من الحنجرة، فهذا صوت خشن فظ، ولو أهملناه بلا تهذيب وترهيف فظع، ولعله أن يذكر السامع بالمدق ولو كنت في عماد الدين!» هكذا تكلم الفاجر! .. لشد ما آلمها قوله وأذل قلبها الفخور. وظل يصطنع معها المراوغة والملاينة كلما طرقت حديث الحب، ولكنه بكرور الأيام أسقط من تمثيله حتى هذه الملاينة الكاذبة، وربما قال لها في ملل: «الحب لعب ونحن جادون!» أو قال بغير مبالاة: «هلمي إلى العمل .. الحب كلام فارغ.» تبا له، لشد ما ملأ وعاء خيالها بالذكريات الأليمة! وقد حدجته بنظرة قاسية وقالت بحدة: كلامك هذا لا يجوز علي، لماذا تذكرني دائما بالعمل؟ ألاهية عنه أنا؟! إنك لتعلم أني أفوق الأخريات وأبرع عليهن، وإنك لتربح من كدي أضعاف ما تربح من كثيرات مجتمعات، فاهجر هذا الحديث المعاد الممجوج، وخبرني صراحة فقد ضقت باللف والدوران. أما زلت تحبني؟!

وحدثته نفسه بأن يقذفها بالجواب القاطع! ألم يمهد له بما فيه الكفاية؟ .. ونشط فكره في سرعة وقلق وعيناه اللوزيتان لا تتحولان عن وجهها الغاضب، ولكنه تردد وآثر السلامة ولو إلى حين، فقال يداريها: عدنا كما توقعت إلى الحديث القديم!

فانفجرت صارخة: أجبني صراحة، أحسبتني أموت أسى لو حرمتني من نعمة حبك؟

ليس الوقت مناسبا. لعله لو جابهته بهذا السؤال على أثر إيابها من الخارج، أو في الصباح - حين يتسع الوقت للملاحاة والشجار - لكان أجابها كما يشاء؛ أما الآن فالجواب الصريح حري بإضاعة ثمرة اليوم هباء، فلذلك ابتسم ابتسامة باردة وقال بهدوء: أحبك يا عزيزتي.

أقبح بكلمة الحب إذا ندت عن فم مملول، كالبصقة! استحوذ عليها القهر، وشعرت في قهرها بأنها لا تتأبى عن هوان وإن جل لو ضمن أن يعيده إلى أحضانها! وأحست لحظة أن حبه مطلب تهون من أجله الحياة، ولكنها كانت لحظة عابرة سرعان ما أفاقت من غشيانها، ثم امتلأ قلبها ضغينة، فاقتربت منه خطوات وعيناها تلمعان لمعان الماس الناشب في عمامتها، وقالت مصممة على أن تشق طريق التحدي حتى نهايته: تحبني حقا؟ إذن فلنتزوج.

ونطقت عيناه بالدهشة، ونظر إليها بين مصدق ومكذب، ولم تكن تعني ما قالت؛ ولكنها أرادت سبر أغواره، فقال لها: وهل يغير الزواج من أمرنا شيئا؟ - أجل، لنتزوج، ولنهجر هذه الحياة.

ونفد صبره، وتولدت في صدره عزمة صادقة أن يحسم الأمر بما يقتضيه من صراحة وقسوة، وأن يحقق ما جال بخاطره طويلا ولو ضاعت ثمرة الليلة، وقهقه ضاحكا في غيظ وسخرية وقال هازئا: نعم الرأي! أحسنت يا عزيزتي، نتزوج ونعيش كما يعيش الشرفاء .. فرج إبراهيم وحرمه وأبناؤهما ليمتد! ولكن خبريني ما هو الزواج؟ .. لقد أنسيته كما أنسيت الآداب الشريفة جميعا، أو دعيني أتذكر قليلا .. زواج؟! .. شيء خطير فيما أذكر يتضمن رجلا وامرأة ومأذونا ووثيقة دينية وطقوسا كثيرة .. متى عرفت هذا كله يا إبراهيم؟ .. في الكتاب أو المدرسة؟! ولكن لا أدري أما تزال هذه العادة متبعة أم قد أقلع الناس عنها! .. خبريني يا عزيزتي، ألا يزال الناس يتزوجون؟

وارتعشت أطرافها غضبا، وأفعم قلبها يأسا وغما، ونظرت إليه فإذا به مبتسما هازئا سادرا فجن جنونها وارتمت عليه ناشبة أظافرها في عنقه، ولم تفجؤه حركتها المباغتة فتلقاها بسكينة، وقبض على ساعديها وفرج بينهما، ثم تخلص منها والابتسامة الهازئة لا تفارق شفتيه، فاشتد حنقها وغضبها ، ورفعت يدها بسرعة خاطفة وصفعته بكل ما أوتيت من قوة وعصبية. وغاضت ابتسامته ولاحت في عينيه نظرة وعيد وشر، فردت عليها بنظرة جريئة متحدية، وانتظرت شبوب العاصفة بجزع وتلهف، وكادت تنسى أسباب آلامها في لذة العراك المرتقبة، ومنتها أحلامها الهستيرية بختام سعيد لهذا النضال البهيمي. ولكنه كان من ناحية يقدر عواقب الاستسلام للغضب، ولا يغيب عنه أن دفع العدوان بالعدوان سيوثق الرباط الذي يروم نقضه، ويزيد من تعلقها به، فضبط نفسه، وكبح جماح غضبه، وصمم على أن يكاشفها بالقطيعة السافرة، وذلك بالانسحاب من المعركة دون دفاع، فتراجع خطوة، وانفتل آفلا وهو يقول بهدوء: هلمي إلى العمل يا عزيزتي.

ولم تكد تصدق عينيها، وألقت على الباب الذي غيبه نظرة ساهمة رنق بها القنوط. وأدركت سر تقهقره بغريزتها فاستشف قلبها الحقيقة المفجعة، وتقلقل صدرها برغبة حارة مباغتة في قتله! انفجرت في صدرها بقوة آسرة لا كأمنية الضعيف الحاقد، ولكن رغبة فتاكة شعرت بأنها في نطاق طاقتها. لقد عرفت جوانب كثيرة من نفسها على ضوء هذا الرجل، وها هو يتم صنائعه فيكشف عن أخطر هذه الجوانب جميعا. ولكن أيرضيها حقا أن تبيع الحياة من أجل الفتك به؟ إنها استهانت بكل شيء في سبيل الحياة، أما الاستهانة بالحياة نفسها .. وانقبض صدرها، واستحوذ عليها قلق مفعم بالنفور، وبقيت رغبتها في الانتقام تتلظى ويندلع لهيبها. ينبغي أن تغادر البيت أولا، وفي الخارج مهرب من جحيم الفكر، ومجال للأناة والتدبير، وسارت متثاقلة صوب الباب، ثم ذكرت أنها تهجر هذه الحجرة - حجرتهما - لآخر مرة، فدارت على عقبيها كأنما لتلقي عليها نظرات الوداع. تنزى قلبها في صدرها في تلك اللحظة الفاصلة، رباه .. كيف انتهى كل شيء بهذه السرعة؟! .. هذه المرآة كم بدت على صفحتها فرحة مستبشرة، وهذا السرير الوثير مهد الغرام والأحلام، وعلى هذا الديوان كانت تجلس بين يديه تصغي إلى إرشاداته بين العناق والقبل، وهذا الخوان يحمل صورتهما معا في ثياب السهرة! ثم ولت الذكريات ظهرها وفرت من الحجرة. وفي الطريق لفحها الهواء الدافئ فتنسمته في إعياء، وأخذت في سبيلها وهي تقول لنفسها: «لن أعدم طريقة للفتك به!» كم يكون هذا شافيا على شرط ألا تدفع حياتها ثمنا له، لم تخلق الحياة للتضحية، الحياة فوق كل شيء، بل فوق الحب نفسه. حقا بات الحب ندبا عميقا في سويداء قلبها، ولكنها ليست المرأة التي يفنيها الحب، بها جرح عميق، ولكن الجريح يعيش وهو ينزف، بل يستطيع أن يتمتع بحياة عريضة فيها الذهب والسرور والسطوة والعراك. هكذا لاقت خيبتها. ورأت عربة فأشارت إلى الحوذي وركبت، واستشعرت حاجة ملحة إلى مزيد من الراحة والهواء فقالت له: إلى ميدان الأوبرا أولا، ثم عد من شارع فؤاد الأول .. واحدة واحدة من فضلك.

وجلست وسط المقعد مائلة بظهرها إلى الوراء، واضعة رجلا على رجل، فانحسر الفستان الحريري عن بطن فخذيها، واستخرجت من حقيبتها علبة سجائر، وأشعلت سيجارة، وراحت تدخن بشغف غير عابئة بالأنظار التي تتخاطف ما انجلى من لحمها.

وغرقت في خضم الفكر، هيهات أن يبرأ قلبها من أوجاعه، ومع ذلك فهيهات أن تسترخي يدها القابضة على حبل الحياة. وتعزت بآمال كثيرة ومسرات مرتقبة، ولكن لم يجر لها في خاطر أنها قد تستجد حبا ينسيها هذا الحب الخائب؛ لأنها كانت حاقدة على الحب، ولأن الإنسان - إذ يفقد جوهرة الحب اللامعة - لا يتصور أنه سيسعد بالعثور عليها مرة أخرى. وانتبهت إلى الطريق، فإذا بالعربة تدور في محيط الأوبرا، ولمحت في دورانها عن بعد ميدان الملكة فريدة، فطار الخيال بها إلى الموسكي والسكة الجديدة والصنادقية والمدق، ولاحت لعينيها أخلاط أطياف؛ نساء ورجالا، وتساءلت: ترى هل يعرفها أحد من هؤلاء إذا رآها في هذا الزي؟ .. أيستطيع أحدهم أن يستشف حميدة وراء تيتي؟! وماذا تبالي؟! لا أب لها ولا أم! ونفخت دخان سيجارتها في استهانة ورمت بالعقب. وأخذت تتسلى بمشاهدة الطريق حتى رجعت العربة إلى شارع شريف، واتجهت نحو الحانة التي تقصدها، وفي تلك اللحظة قرع أذنيها صوت كأنما انشق عنه قبر هاتفا: «حميدة» .. فالتفتت نحوه وقد تملكها الذعر، فرأت عباس الحلو على بعد ذراع منها لاهثا.

32

وهتفت وهي لا تدري: عباس.

كان الفتى يلهث مبهورا بعد أن ركض شوطا كبيرا وراء العربة من ميدان الأوبرا، وقد اندفع لا يلوي على شيء، ويصطدم بالكتل البشرية، لا يعتاقه ما ناله من دفع، ولا يثنيه ما لحقه من شتم ولعن. وكان قبل ذلك يسير متأبطا ذراع حسين كرشة، يتخبطان على غير هدى - عقب مغادرتهما لحانة فيتا - حتى انتهى بهما التخبط إلى ميدان الأوبرا، فالتقى بصر حسين بالعربة التي تحمل حميدة، ورأى الجالسة بداخلها، فلم يعرفها وأرعش حاجبيه استحسانا وهو يلفت صاحبه إليها. ونظر عباس إلى العربة المقبلة عليهما في طوافهما بالميدان، وعلق بصره بالفتاة الغائبة في أفكارها ولم يستطع أن يسترد عينيه، جذبهما بقوة سحرية شيء في الوجه، وفي القوام، شيء كالشبه، أو هو شبه رقيق يحسه القلب قبل أن تحسه العينان، وتمشت في مفاصله رعدة انقلب بعدها من سكره الخفيف صاحيا، وهتف القلب: «هي؟» وكانت العربة قد ولته ظهرها مبتعدة نحو حديقة الأزبكية، فلم يأل عدوا وراءها بلا تدبر ولا تفكير، وصاحبه يزعق وراءه معربدا صاخبا، وعاقته حركة المرور برهة عند مطلع شارع فؤاد الأول، ولكن عينيه لم تتحولا عن العربة، ثم استأنف العدو جاهدا لا تكاد تسعفه قدرته إلا قليلا، حتى أدركها وهي توشك أن تدخل الحانة فناداها. ولما أن التفتت إليه وهتفت باسمه قطع الشك باليقين، وأدركت حواسه ما سبق القلب إليه، فوقف حيالها لاهثا مبهورا لا يدري كيف يصدق عينيه. وغلبتها الدهشة والانزعاج أول وهلة، واستحوذ عليها الانفعال، ثم شعرت بحرج موقفها وأشفقت من فضول المتسكعين، فتمالكت مشاعرها وأشارت إليه ومضت في عجلة إلى عطفة سابقة للحانة - وهو يتبعها - ودخلت أول باب إلى يسارها، وكان حانوت أزهار .. وحيتها بائعة الزهور - التي عرفتها بحكم ترددها على المكان - فردت تحيتها، وسارت به إلى نهاية الحانوت متحامية مواقع الأنظار. وأدركت بائعة الزهور أنها تريد أن تختلي بصاحبها، فمضت إلى مقعدها وراء معرض الزهور وجلست بغير مبالاة كأن أحدا لم يقتحم عليها حانوتها. وقفا وجها لوجه، يلفه الانفعال والحيرة وترتعش أطرافه تأثرا، ما الذي دعاه إلى هذا العدو القاتل؟! ماذا يروم من هذا اللقاء المغتصب؟! وجد نفسه في تلك اللحظة عريا من كل رأي أو عزم. ولقد كانت ذكريات الشر الذي هصر آماله - في أثناء عدوه - تذر على عينيه غبارا فتكاد تحجب عنه الطريق، ولكنه لم يبيت رأيا أو يستجد عزما، فركض ركضا آليا لا يتبين له غاية، حتى إذا هتفت باسمه فقد البقية من وعيه وتبعها إلى الحانوت كالسائر في نومه. وأخذ يفيق رويدا رويدا من الإعياء والجهد والانفعال، وراح بصره يعاين المرأة الواقفة حياله بلباسها الجديد وزينتها الغريبة، متلمسا عبثا أن يجد فيها موضعا للفتاة التي أحبها، فارتد البصر كليلا، وتجرع قلبه غصص اليأس المرير. لم تكن بساطة قلبه من البلاهة بحيث لا يدرك حقيقة ما يرى، ولقد أجبرته الشائعات في المدق على تصديق أمر فظيع، ولكن الشائعات بلا ريب كانت دون الحقيقة الماثلة لعينيه، وامتلأ قلبه المقهور شعورا بتفاهة الحياة وعبثها، بيد أن غضبه الذي أصلاه نارا حامية في ليله ونهاره لم ينفجر، فكان أبعد ما يكون عن البطش بها أو حتى البصق عليها. وجعلت حميدة تنظر إليه في ارتباك وحيرة، واستشعر قلبها خوفا حيال هذا الأثر من الماضي الذي تتحاماه، ولكنه لم يحرك بها عطفا أو ندما، بل استثار ازدراءها ومقتها، فلعنت في سرها شؤم الحظ الذي رمى به في طريقها. واشتد الصمت على أعصابهما، ولم يعد في الوسع احتماله، فقال الحلو بصوت مبحوح متهدج: حميدة! أهذا أنت؟ رباه كيف أصدق عيني؟! .. كيف هجرت بيتك وأمك وانقلبت إلى هذه الحال؟!

وأجابته في ارتباك غير خاف: لا تسألني عن شيء، فليس عندي ما أقوله، وهذا قضاء الله الذي لا يرد.

وأحدث ارتباكها وقولها المستكين عكس المنتظر، فاستفزا غضبه وأثارا حنقه، فعلا صوته مزمجرا حتى ملأ الحانوت: كاذبة فاجرة .. أغواك فاجر مثلك ففررت معه، وتركت وراءك في حيك أسوأ الذكرى، وها هو الفجر السافر يطالعني في وجهك وتبرجك الفاضح.

واستفز هذا الغضب المفاجئ شراستها الطبيعية، فغضبت غضبة عنيفة مسحت عن صدرها ما اعتوره من ارتباك وخوف، وضاعفها ما احتملته في يومها من حنق وخيبة، فاربد وجهها وصرخت في جنون: صه .. لا تزعق كالمجانين، أحسبت أنك تخوفني بصراخك؟! ماذا تريد مني يا هذا؟ لا حق لك علي، فاغرب عن وجهي.

وخبا غضبه قبل أن تتم كلامها! قهر غضبها غضبه فأماته في صدره، وكأنه كان يشعله الماء وتطفئه النار. وحملق في وجهها ذاهلا وغمغم بصوت مرتعش النبرات: كيف سولت لك نفسك أن تقولي هذا القول؟ .. ألست ... ألم تكوني خطيبتي؟

وتشفت بهزيمته، وارتاحت إلى غضبتها التي أسعفتها في الوقت المناسب، وقالت بتململ: أي فائدة تجني من ذكر الماضي الآن؟ لقد مضى وانقضى.

فقال متحيرا متوجعا: أجل مضى وانقضى، ولكني في حيرة من أمري وأمرك، ألم تقبلي يدي؟ .. ألم أهاجر إلى ذاك البلد البعيد من أجل سعادتنا معا؟!

لم تعد تشعر نحوه بارتباك أو حرج، وتساءلت في جزع: متى يمسك عن هذا؟ متى يفهم؟ متى يرحل؟ ثم قالت بلهجة لا تخلو من برم: أردت شيئا، وأرادت الأقدار سواه.

ولم يغب عنه تململها ولكنه بات أشد تشبثا بالكلام والاستفسار، واستمد من سكوت غضبها شجاعة فراح يقول بيأس: ماذا صنعت بنفسك؟ كيف انقلبت إلى هذا المصير الأسود؟ .. أي شؤم أعمى بصيرتك؟ .. ومن يكون (وهنا استغلظ صوته) ذلك المجرم الذي خطفك من حياتك الطاهرة وطرحك في مزبلة الدعارة؟

واكفهر وجهها، وتناهى بها الجزع، وقالت بلهجة تشي بالملل: هذه حياتي، هذه النهاية التي لا مهرب منها، نحن الآن غريبان، وكلانا ينكر صاحبه، لم يعد بوسعي الرجوع، ولن تستطيع مهما قلت أن تغير من الواقع شيئا، وحذار أن تغلظ لي القول، فلست على حال أملك معها السماحة أو العفو، وإني لأقر بعجزي حيال حظي ومصيري، ولكني لا أحتمل أن يضاعف لي إنسان الكرب بالغضب والزجر. انسني، واحتقرني كما تشاء، واتركني بسلام.

ما هذه بفتاته! أين منها حميدة التي أحبها وأحبته؟ يا عجبا؟ ألم تحبه حقا؟ ألم تلصق شفتيها بشفتيه على بسطة السلم؟ ألم تدع له يوم الوداع وتعده باستشفاع الحسين لإجابة الدعاء؟ .. فمن تكون هذه الفتاة؟ ألا تستشعر ندما؟ ألم تلنها إثارة من حنان قديم؟ وأوشك أن يغضب مرة أخرى لولا إشفاقه من غضبها، فتنهد تنهد المغيظ المقهور وقال: إنك تحيرينني، وكلما أصغيت إليك تضاعفت حيرتي، لقد عدت بالأمس من التل الكبير فدهمني الخبر الأسود على غرة، أتعلمين ماذا دعاني لهذه العودة؟! .. (وأبرز علبة القلادة وأراها إياها) .. عدت بهذه هدية لك، وكان في نيتي أن أعقد عليك قبل أن أرجع إلى البلد.

وألقت على العلبة نظرة صامتة. وفي أثناء ذلك وقعت عيناه على الهلال الماسي والقرط اللؤلؤي فتراجعت يده بالعلبة إلى جيبه، وتناهى به الضيق فسألها بحدة: ألا تأسفين على هذه النهاية؟!

ولمعت عيناها بخاطر غامض بث في نفسها يقظة محمومة، فقالت بلهجة حزن مصطنعة: أنت لا تدري كم أني شقية!

فاتسعت عيناه في دهشة وريبة، وقال بألم بالغ: يا للشقاء يا حميدة! .. لماذا أصخت لنداء الشيطان؟ .. كيف هانت عليك حياتك الشريفة؟ .. كيف نبذت الحياة الطيبة والأمل المرتقب من أجل (وهنا تحشرج صوته) .. مجرم آثم وشيطان رجيم؟! .. هذه جريمة لا تغتفر.

وكانت حمى ذلك الخاطر لا تزال تلهم أفكارها، فقالت بلهجتها الأسيفة الجديدة: إني أؤدي ثمنها من لحمي ودمي.

وازدادت دهشته، وخالطها ارتياح غامض سرورا بالشقاء المزعوم الذي اعترفت به، ولكنها لم تنكسر عن حدتها اعتباطا، كانت أفكارها تتوارد بسرعة جنونية في إلهام شيطاني، خطر لها أن تحرضه على الرجل الذي هرس قلبها بقسوة وسخرية، وأملت أن تجعله أداة انتقامها وهي بمأمن من عوادي الشقاء، ورقت نظرة عينيها وهي تقول بصوت ضعيف: لست إلا شقية يا عباس، لا تؤاخذني على سوء قولي فقد أفقدني الشقاء وعيي. إنكم جميعا ترونني عاهرة فاجرة. والحق أني شقية بائسة، خدعني الشيطان الرجيم كما دعوته بحق، لا أدري كيف أذعنت إليه، ومع ذلك فلست أنتحل لنفسي عذرا، ولا أطمع أن أسألك العفو، فإني أعلم أني مذنبة، وها أنا ذا أدفع ثمن جريرتي النكراء. اعف عن غضبي الذي أهاجته كلماتك العادلة، وأبغضني واحتقرني ما شاءت لك نفسك الطاهرة الكريمة، واشمت بي فلست في حاضري إلا ألعوبة رخيصة في يد من لا يرحم، يطلقني في الطرق ويستغل شقائي بعد أن استلبني أعز ما أملك. إني أمقته، أمقته بكل ما في من شقاء ومهانة هما من غرسه، ولكن هيهات أن أجد لي منه مهربا!

أذهله حديثها الشاكي عن نفسه، وراعته نظرة الشقاء تغشى عينيها، فنسي المرأة المتنمرة التي كادت تفتك به منذ برهة قصيرة، وأهابت به رجولته أن يغضب، فزمجر صائحا: يا للشقاء يا حميدة! إنك شقية، وإني شقي، كلانا شقي بفعل هذا المجرم. أجل، لا أستطيع أن أنسى أنك أخطأت خطأ أثيما، وأن هذا الخطأ يحول بيننا إلى الأبد، ولكن بينا يشقى كلانا بهذا الخطأ، إذا بالمجرم الأول مطمئن سعيد كأنما يسعد بشقائنا، فلا كانت الحياة إذا أنا لم أحطم رأسه!

وشعرت بالارتياح فنكست بصرها قبل أن يفضحها، وكانت سرعة انزلاقه إلى شباكها فوق مطمعها، وارتاحت بصفة خاصة إلى قوله: «هذا الخطأ يحول بيننا إلى الأبد.» فأمن قلبها أن يجرجره الانفعال إلى حد العفو عنها، والسعي لاستردادها، وما كانت تحلم بهذا كله. أما الحلو فاستدرك يقول عابسا راغبا: لا ارتاح لي بال قبل أن أحطم رأسه وأهشم عظمه! أجل، لا أستطيع أن أنسى أنك فررت معه، ولا أنهم رأوك تسيرين في صحبته، فلا أمل من أن نجتمع مرة أخرى، لقد فقدت حميدة التي أحببتها إلى الأبد، ولكن يجب أن يشقى المجرم بما أشقى كلينا، خبريني أين أجده؟

فقالت وعقلها في تفكيره أسرع من لسانها في نطقه: لا سبيل لك عليه اليوم، ولكن تعال يوم الأحد ظهرا إذا شئت فتجده في الحانة عند أول هذه العطفة، ولن تجد مصريا سواه فيها، فإذا التبس عليك الأمر أشرت إليه بعيني .. ولكن ماذا تنوي أن تفعل به؟

نطقت بالعبارة الأخيرة بلهجة تنم عن الإشفاق عليه من العواقب، ولكنه أجاب في جنون الغضب واليأس قائلا: سأحطم رأس القواد الوضيع.

وتساءلت وعيناها تتفرسان في وجهه: أيستطيع الحلو أن يقتل؟!

ولم يغب الجواب عن فراستها، ولكنها أملت أن يثير من حوله فضيحة تسوقه إلى يد القانون، فتنتقم منه وتخلص من أسره. وارتاحت إلى أفكاره بلا تدبر أو نقد، بيد أنها لم تخل من رغبة صادقة في ألا يصيب الحلو شر فادح من مخاطرته، وتمنت على الله أن ينتقم لها من غريمها دون أن يذهب ضحية لفعله! .. ولذلك قالت تحذره: لا تبلغن بك الرغبة في الانتقام منه حد الاستهانة بحياتك! اضربه .. افضحه .. جره إلى القسم فيكون فيه القضاء عليه وعلى جرائمه.

ولكنه لم يكن يصغي إليها، وكان يقول وكأنه كان يخاطب نفسه: لا يصح أن نشقى بلا ثمن .. انتهت حميدة، وانتهى عباس، فكيف يروح القواد آمنا ضاحكا من تعاستنا؟ لأدقن عنقه ولأكتمن أنفاسه، (ثم علا صوته موجها إليها الخطاب): وأنت يا حميدة، ماذا تصنعين بحياتك إذا نحيت عن سبيلك هذا الشيطان؟

وخافت على نفسها ما عسى أن يؤدي إليه هذا السؤال، وأشفقت من أن يتطرق إلى مسارب نفسه ضعفه القديم، فقالت بحزم وهدوء: انقطع ما بيني وبين العالم القديم، ولكني سأبيع ما عندي من حلي وأجد لنفسي عملا شريفا في مكان بعيد.

وصمت صمتا طويلا متفكرا محزونا، فعانت في صمته من القلق ألوانا، حتى طامن من رأسه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: لا يستطيع قلبي أن يعفو .. لا يستطيع، لا يستطيع .. ولكن لا تعجلي بالاختفاء مرة أخرى حتى نرى كيف ينتهي هذا الأمر.

ووجدت في لهجته ما ينذر بالسماحة والعفو والاستسلام، فلمعت عيناها في حذر وقلق، وآثرت في أعماق قلبها الثائرة أن يهلك هو وغريمها على أن يعود إليها فاتحا ذراعيه، بيد أنها لا تستطيع أن تفصح له عما يدور بخلدها، ولن يشق عليها الاختفاء إذا شاءته، وإذا تم لها الانتقام الذي تتلهف عليه فما أيسر أن تشد الرحال إلى الإسكندرية التي حدثها عنها فرج إبراهيم كثيرا، وهناك تصفو لها الحياة وتطيب في حرية لا يحدها قيد، وفي أمن من المتطفلين؛ ولذلك لم تجد بأسا في أن تقول له بمثل لهجته الرقيقة : لك ما تشاء يا عباس.

وكان قلبه يعاني مرارة الشقاء والقنوط والتحفز للانتقام، ولكنه ما انفك ينبض بالحيرة والعطف.

33

كان يوم وداع وسرور، فدبت في قلوب الزقاق عاطفة واحدة؛ ذلك أن للسيد رضوان الحسيني منزلة رفيعة في القلوب جميعا على السواء. كان السيد قد استخار الله في أداء فريضة الحج هذا العام فأخاره، وعلم الجميع أنه يسافر عصر اليوم بمشيئة الرحمن إلى السويس في طريقه إلى الأراضي المقدسة. وامتلأ بيته بالمودعين من أصدقاء العمر وإخوان الصفاء .. وحفوا به في الحجرة القديمة الوديعة التي طالما أصغت جدرانها إلى سمرهم الورع اللطيف عاما بعد عام. واستفاض حديث الحج، وثارت ذكرياته، ولهجت بها الألسن في أركان الغرفة حول خط متموج من دخان البخور يتصاعد من المجمرة، ورووا نتفا من أخبار الحج شملت المعاصرين والغابرين، واستشهدوا بالكثير المأثور من الأحاديث الشريفة والأشعار الجميلة. ورتل ذو صوت رخيم بعض ما تيسر من آي الذكر الحكيم، ثم أنصتوا جميعا إلى فيض من كلام السيد رضوان أفصح به فؤاده عما يكنه من رقة وطيبة.

وكان أحد الأصفياء قد قال له: سفر سعيد وعود حميد.

فأشرقت في وجه السيد ابتسامة وضاءة كسته جمالا على جمال، وقال بصوته الحنان: أخي لا تذكرني بالعود، إن من يقصد بيت الله وفي قلبه خاطر من خواطر الحنين إلى الوطن حقيق بأن يبطل الله ثوابه ويخيب دعاءه وينفد سعادته. سأذكر العودة حقا إذا فصلت عن مهبط الوحي في طريقي إلى مصر، وأعني بها العودة إلى الحج مرة ثانية إذا أذن الرحمن وأعان. من لي بمن يقرني ما تبقى من العمر في البقاع الطاهرة، أمسي وأصبح فلا أرى إلا أرضا تطامنت يوما للمس أقدام الرسول، وهواء خفقت بتضاعيفه أجنحة الملائكة، ومغان أصغت للوحي الكريم يهبط من السماء إلى الأرض، فيرتفع بأهل الأرض إلى السماء، هناك لا يطوف بالخيال إلا ذكريات الخلود، ولا يخفق الفؤاد إلا بحب الله، هنالك الدواء والشفاء. أخي .. أموت شوقا إلى استطلاع أفق مكة، واستجلاء سماواتها، والإنصات إلى همس الزمان بأركانها ، والسير في مناكبها، والانزواء في معابدها، وإرواء الغلة من زمزمها، واستقبال الطريق الذي مهده الرسول بهجرته فتبعته الأقوام من ثلاثمائة وألف عام ولا يزالون، وثلوج الفؤاد بزيارة القبر النبوي والصلاة في الروضة الشريفة، وإن بقلبي من مكنون الهيام ما يقصر الزمان عن بثه، ولدي من فرص الزلفى والسعادة ما يعجز العقل عن تصوره. أراني يا إخوان ضاربا في شعاب مكة تاليا الآيات كما أنزلت أول مرة. كأنما أسمع درسا للذات العلية، أي سرور! .. وأراني ساجدا في الروضة متخيلا الوجه الحبيب كما يتراءى في المنام، أي سعادة! .. وأراني متخشعا لقاء المقام مستغفرا فأي طمأنينة! وأراني واردا زمزم أبل جوارح الشوق بندى الشفاعة فأي سلام! أخي لا تذكرني بالعودة، وادع الله معي أن يحقق لي المنى.

فقال له صاحبه: حقق الله مناك، ومتعك بطول العمر والعافية.

فضم السيد راحته المبسوطة على لحيته وقد تألقت عيناه بسرور وهيام وراح يقول: نعم الدعاء! والحق أن حبي الآخرة لا يدفعني إلى الزهد في الدنيا أو التململ من الحياة، لطالما لمستم بأنفسكم حبي الحياة والسرور بها، كيف لا وهي من خلق الرحمن؟ خلقها الله وملأها بالعبر والأفراح، فمن شاء فليتفكر ومن شاء فليشكر، ولذلك أحبها؛ أحب ألوانها وأصواتها، وليلها ونهارها، ومسراتها وآلامها، وإقبالها وإدبارها، وما يدب على ظهرها من حي أو يقيم عليه من جماد، هي خير خالص، وما الشر إلا عجز مرضي عن إدراك الخير في بعض جوانبه الخافية، فيظن العاجز المريض بدنيا الله الظنون، لذلك أقول لكم: إن حب الحياة نصف العبادة وحب الآخرة نصفها الآخر، ولذلك يهولني ما تنوء به الدنيا من دموع وأنات وسخط وغضب وغل وسخيمة، وما تبتلى به فوق هذا كله من ذم المرضى العاجزين. أكانوا يؤثرون لو لم تخلق حياتنا؟ أكانوا يحبون لو لم تخرج من العدم؟ أتسول لهم نفوسهم الاعتراض على الحكمة الإلهية؟ وما أبرئ نفسي، فلقد ملكني الحزن مرة على اقتطاع فلذة من كبدي، وتساءلت في غمرة الحزن والألم: لماذا لم يبق الله على طفلي حتى يتمتع بحظه من الحياة والسعادة؟ ثم شاء الله أن يهديني، فقلت لنفسي: أليس هو - عز وجل - الذي خلقه؟ فلماذا لا يسترده وقتما يشاء؟! ولو أراد الله له الحياة للبث في هذه الدنيا حتى يشاء الله، ولكنه استرده لحكمة اقتضتها مشيئته، فهو لا يفعل شيئا إلا لحكمة، والحكمة خير، فقد أراد ربي به وبي خيرا، وسرعان ما غلبني السرور بإدراك حكمته على حزني، ولسان قلبي يقول: ربي لقد وضعتني موضع البلاء لتختبرني، وها أنا ذا أجوز امتحانك ثابت الإيمان، ملهما حكمتك، «فاللهم شكرا»، وسار ديدني إذا أصابتني مصيبة أن ألهج من أعماق قلبي بالشكر والرضا، كيف لا والله يخصني بالامتحان والعناية، وكلما عبرت محنة إلى بر السلام والإيمان ازددت إدراكا لما في مقاديره من حكمة وما فيها بالتالي من خير، وما تستحق بعد ذلك من شكر وسرور، وهكذا وصلت المصائب ما بيني وبين حكمته على دوام لا ينقطع، حتى خلتني طفلا مدللا في ملكوته يقسو علي لأزدجر، ويخوفني بعبوس مصطنع ليضاعف سروري بالأنس الحقيقي الدائم، وإن الحبيب ليسبر محبوبه بالصد حينا، وإن عرف المحبوب أن الصد مكر محب لا هجر قال، تضاعف حبه وسروره. فما عدوت أن وقر في اعتقادي أن المصابين في هذه الدنيا هم أحباب الله وأولياؤه، خصهم بحب مقنع، ورصدهم غير بعيد، ليرى إن كانوا حقا أهلا لحبه ورحمته .. فالحمد لله كثيرا، بفضله عزيت من حسبوا أنني أهل للعزاء.

ومسح على صدره الواسع ببشر وانشراح وهو يجد من إلحاح التعبير عن مكنون صدره ما يجده المغني إذا سكر بحلاوة الطرب وتاه في سلطنة الفن، فاستدرك يقول بحرارة ووجد: يذهب أناس إلى أن هذه المصائب وأمثالها مما يبتلى به الأبرياء عنوان عدالة انتقامية، لا يفطن لحكمتها عامة الناس، وتراهم يقولون: إنه لو تفكر الأب الثاكل مثلا لوجد أن ثكله جزاء ذنب اقترفه هو أو أحد آبائه الأولين؛ ولكن لعمري، إن الله أعدل وأرحم من أن يأخذ البريء بالمذنب. وتراهم يستشهدون على صواب رأيهم بما وصف الله به نفسه من أنه عزيز ذو انتقام، ولكني أقول يا سادة: إن الله تعالى غني عن الانتقام، وأنه إنما أضاف هذه الصفة لذاته لينبه الإنسان إلى احتذائها، وقد سبقت إرادته بألا تستقيم أمور هذه الدنيا إلا بالثواب والعقاب، أما ذاته العزيزة الجليلة فسنتها الحكمة الربانية والرحمة الإلهية. ولو أنني اكتشفت تحت مصائبي عقابا أستحقه، أو وجدت وراء جثث أبنائي جزاء أستأهله، لاعتبرت حقا، ولازدجرت حقا، ولكن كان يبقى في النفس ضنى وفي العين دموع، ربما هتف قلبي المحترق: ضعيف أذنب وبريء هلك، فكيف العفو والرحمة؟! فأين هذا من مصيبة تستشف الحكمة والخير والسرور؟!

وأثار رأيه اعتراضات كثيرة، فتمسك البعض بالنص، وأول البعض التفسير، ورد آخرون الانتقام إلى الرحمة. وكان كثيرون أقوى منه عارضة وأوسع علما، ولكنه لم يكن متهيئا للجدل، كان متفتحا فحسب للتعبير عما يضطرم في فؤاده من الحب والسرور، فجعل يبتسم ببراءة الطفل، متورد الوجه متألق العينين، وراح يقول بصوت رققه الهيام فكان أندى من مناجاة العاشقين: معذرة يا سادة، فإني أحب الحياة، بل أحب نفسي، لا كذات تتعلق بي، ولكن كفلذة من قلب البشرية، ونبض من الحياة، وخلق للصانع الأجل، وتجربة للحكمة الإلهية، وأحب الناس جميعا حتى المجرمين الشائهين؛ أليسوا يرمزون إلى عناء الحياة الممض في سبيل الكمال؟! .. أليسوا ظلمة تلقي عتمتها على بهاء الخير ضياء، ذروني أبح لكم بسر دفين، أو تعلمون ما الذي بعثني إلى الحج هذا العام؟

وصمت السيد هنيهة وعيناه الصافيتان تسطعان بنور بهيج، ثم قال يجيب نظرات الاستطلاع التي عكستها الأعين: لا أنكر أن الحج أمنية طالما نازعني الفؤاد إليها، ولكن قضت إرادة الله أن أؤجلها عاما بعد عام، حتى حسبتني قد بت أوثر الشوق إلى الحبيب على الحبيب نفسه، ولأشواق العبادات لذة كقضائها. ثم كان من أمر زقاقنا ما تعلمون، فشد الشيطان على أعين رجلين وفتاة من جيراننا؛ أما الرجلان فقادهما إلى قبر ينبشانه وغادرهما في السجن، وأما الفتاة فاستدرجها إلى هاوية الشهوات وغاص بها في حمأة الرذيلة. هناك زلزل قلبي زلزالا شديدا تصدعت له أضلعي، ولا أكتمكم يا سادة أن شعورا بالذنب داخلني لأن أحد الرجلين كان يقتات على الفتات، وقد نبش القبر لعله يجد بين عظامه النخرة لقمة يستسيغها، كالكلب الضال يلتقط رزقه من أكوام الزبالة، فلشد ما ذكرني جوعه بجسمي المكتنز ووجهي المتورد، حتى استحوذ علي الخجل وغلبني استعبار، وقلت لنفسي معنفا متقززا: ماذا فعلت - وقد آتاني الله خيرا كثيرا - لدفع البلاء أو التخفيف من وقعه؟ ألم أترك الشيطان يعبث بأهل جيرتي وأنا ذاهل عنه بسروري وطمأنينتي؟ ألا يكون الإنسان الطيب بتقاعده عونا للشيطان من حيث لا يدري؟ .. واستصرخني الضمير المعذب أن ألبي النداء القديم، وأن أشد الرحال إلى أرض التوبة مستغفرا، حتى إذا شاء الله لي أن أعود عدت بقلب طاهر، وجعلت من قلبي ولساني ويدي أعوانا للخير في مملكة الله الواسعة.

ودعا له الإخوان بصدق وحرارة، وواصلوا الحديث في سرور وحبور. •••

وأبى السيد رضوان بعد أن ودع بيته إلا أن يزور قهوة كرشة مودعا، فاقتعد مجلسه محوطا بالمعلم «كرشة» وعم كامل والشيخ درويش وعباس الحلو وحسين كرشة. وجاءت المعلمة حسنية الفرانة فقبلت يده وحملته السلام أمانة، وقد قال لهم السيد: الحج فريضة على من استطاع إليه سبيلا، يؤديها عن نفسه وعمن تقعد بهم الأعذار من الصادقين.

فقال له عم كامل بصوت الأطفال: صحبتك السلامة في الحل والترحال، وعسى ألا تنسى أن تجيئنا بسبحة من المدينة المنورة.

فابتسم السيد وقال: لن أكون كمن وهبك كفنا ثم ضحك عليك.

وضحك عم كامل وكاد يعود إلى هذا الموضوع القديم لولا أن رأى وجه عباس الواجم فأمسك. وقد أثار السيد هذه الذكرى متعمدا ليدخل منها إلى نفس الشاب التعس مدخلا لطيفا، والتفت إليه بحنان وقال: يا عباس، أصغ إلي كما ينبغي لشاب شهد له جميع أهل الزقاق بالعقل واللطف، عد إلى التل الكبير في أول فرصة، بل اليوم إن سمعت وأطعت، واعمل بما أوتيت من همة، واقتصد من النقود ما تشق به حياة جديدة إن شاء الله، وإياك وأن تلقي برأسك في خضم الفكر ، أو أن تهن عزيمتك لقاء اليأس والغضب، ولا تحسبن ما اعترضك من سوء الحظ هو ختام ما قدر لك في الحياة .. إنك بعد شاب في نهاية الحلقة الثانية من عمرك، وما تلقاه من ألم ليس إلا بعض ما يصيب الإنسان في حياته، وكأنه ما ينتاب الطفل من أوجاع التسنين والحصبة ولفهما، فإذا صمدت له بشجاعة جزته رجلا خليقا بالرجولة، وذكرته فيما يقبل من حلقات العمر ببسمة الظافر وتأسي المؤمن. انهض مستوصيا بالصبر، متعوذا بالإيمان، واسع إلى رزقك، ولتهنأ بسرور المؤمن إذا أدرك أن الله قد اختاره لمصاف المصابين من أوليائه.

ولم يحر عباس جوابا، ولكنه لما رأى عيني السيد لا تتحولان عنه، ابتسم فيما يشبه الاقتناع والرضا، وغمغم بلا وعي تقريبا: سيمضي كل شيء كأن لم يكن.

فابتسم السيد، والتفت نحو حسين كرشة وهو يقول: أهلا بشاطر زقاقنا! سأدعو الله لك الهداية في أرض مستجابة الدعاء، ولأجدنك إن شاء الله حين عودتي محتلا مكان أبيك كما يريد لك، ونعم ما أراد، وطوبى للمعلم الصغير الجديد.

وهنا خرج الشيخ درويش عن صمته وقال مطرقا: يا سيد رضوان، اذكرني إذا أحرمت، وذكر أهل البيت بأن محبهم تلف وشغفه الغرام، وأنه أضاع ما يملك من مال وعتاد على حب لا تنفع له غلة، واشك إليهم خاصة ما يلقى من ست الستات. •••

وغادر السيد رضوان القهوة يحف به الصحاب، ولقد لحق به من البيت قريبان اعتزما السفر معه حتى السويس، ومال السيد إلى الوكالة فوجد السيد سليم علوان مكبا على بعض دفاتره، فابتسم قائلا: تأذن الرحيل فدعني أعانقك.

ورفع الرجل وجهه الذابل في دهشة، وكان علم بميعاد الرحيل دون أن يحرك ساكنا. ولكن السيد رضوان لم يلق بالا إلى إهماله، وكان يعلم من سوء حالته ما يعلم الجميع، فأبى أن يغادر الحي قبل أن يودعه. وكأنما شعر الآخر بخطئه في هذه اللحظة فاعتراه ارتباك، إلا أن السيد احتواه بين ذراعيه وقبله ودعا له طويلا، ولبث عنده مليا، ثم قال وهو ينهض قائما: لندع الله أن نحج معا في عامنا القادم.

فغمغم السيد سليم وهو لا يعني ما يقول: إن شاء الله.

وتعانقا مرة أخرى، ورجع السيد إلى أصحابه، ومضوا جميعا إلى مطلع الزقاق حيث كانت تنتظره عربة محملة بالحقائب، فصافح الرجل مودعيه بحرارة وركب هو وقريباه، وانحدرت العربة صوب الغورية تتعلق بها الأعين، ثم مالت إلى الأزهر.

34

قال عم كامل لعباس الحلو: ليس وراء نصح السيد رضوان مذهب لناصح، فاجمع شتات نفسك وتوكل على الله وسافر، وسوف أنتظرك طال الزمن أو قصر، وستعود بإذن الله ظافرا وتكون على رأس حلاقي هذا الحي جميعا.

وكان الحلو يجلس على كرسي أمام دكان البسبوسة غير بعيد من عم كامل ينصت إلى صاحبه دون أن ينبس بكلمة، ولم يكن باح لأحد بسره الجديد، وقد هم حين نصحه السيد رضوان الحسيني بالإفصاح عما يثقل كاهله، ولكنه تردد لحظة فوجه السيد خطابه إلى حسين كرشة، وسرعان ما عدل عما قام بنفسه. ولم تضع نصيحة السيد رضوان هباء، فتفكر فيها مليا، بيد أن يوم الأحد استحوذ على الشطر الأكبر من أفكاره، وكان مضى على اللقاء الغريب في حانوت الورد ليلة ونهار، فقلب وجوه الفكر في هدوء وأناة وعرف في النهاية أنه لا يزال يحب الفتاة، وإن كانت أسبابهما قد انقطعت إلى الأبد، وأن رغبته في الانتقام من غريمه لا تقاوم، وقد أنصت إلى كلام عم كامل صامتا، ثم تنهد من الأعماق تنهد إنسان تعس كبلته الأقدار بأغلال الشقاء، ووضعته على شفا جرف هار من الدمار. وسأله عم كامل بقلق: خبرني عما اعتزمت؟!

فنهض الشاب قائما وهو يقول: سأمكث هنا بضعة أيام أخر، على الأقل حتى يوم الأحد، ثم أتوكل على الله.

فقال عم كامل في إشفاق: ليس السلوان بالمطلب العسير إذا نشدته صادقا.

فقال الشاب وهو يغادر موضعه: صدقت! .. السلام عليكم.

ومضى وفي نيته أن يقصد حانة فيتا، حيث يظن أن حسين كرشة قد سبقه إليها عقب توديع السيد رضوان مباشرة. وظل فكره فريسة للأفكار القلقة، وقلبه نهبا للعواطف المضطرمة. إنه ينتظر يوم الأحد، وما يوم الأحد ببعيد، ولكن ما عسى أن يصنع إذا حان الحين؟! أيمضي إلى الموعد حاملا خنجرا ليغمده في قلب غريمه؟ لعل هذا ما يتحرق إليه بكل ما يمتلئ به قلبه من غضب وحقد وشقاء، ولكن هل يسعه ارتكاب الجريمة؟ هل تطيق يده تسديد الضربة القاتلة؟! وهز رأسه في شك وكمد وحقد؛ إنه أبعد ما يكون عن العنف والإجرام، وهذا ماضيه يشهد له بالوداعة والمسالمة، فما عسى أن يصنع إذا جاء يوم الأحد! وتضاعفت رغبته في لقاء حسين كرشة ليقص عليه قصة حميدة ويسأله المشورة والعون! بل العون قبل سواه؛ لأنه يبدو عاجزا بغير هذا العون. وفي هذه الحال من الإقرار بالعجز عاودته نصيحة السيد رضوان الحسيني «... عد إلى التل الكبير في أول فرصة، بل اليوم إن سمعت وأطعت .. إياك وأن تلقي برأسك في خضم الفكر أو أن تهن عزيمتك لقاء اليأس والغضب.» استحضر كلام السيد الذي أوشك أن ينساه، أجل، لماذا لا يطوي الماضي بأحزانه وينطلق في شجاعة وصبر في طريق السلوان والعمل؟ لماذا يحمل نفسه ما لا طاقة لها به؟ لماذا يعرض حياته لأهوال أخفها السجن؟ وارتاح إلى أفكاره الجديدة ولكن دون أن يقطع برأي حاسم، ولم تزل نفسه تنازعه إلى الانتقام، ولعل الانتقام لم يكن وحده الذي يستبد بشعوره، ولعله خاف العدول عنه؛ لأن في هذا العدول قطعا حاسما لهذا الخيط الواهي الذي وصله بحميدة أمس، وقد أبى أن يصدق أنه يستطيع العفو عما سلف، وقال وكرر القول - بداع وبلا داع: إن أسبابهما قد انقطعت إلى الأبد، ولكن هذا الإلحاح في القول نفسه أخفى رغبة - لعله لم يدرها - في استردادها ووصل ما انقطع من وشائجهما! فكان نزوعه إلى الانتقام ظلا لتعلقه بالمرأة التي يحبها ولا يطيق هجرها. وبهذا القلب الحائر قطع الطريق ودخل حانة فيتا. وكان حسين كرشة بمجلسه يكرع من النبيذ الأحمر ولما تلعب الخمر برأسه، فمضى إليه وحياه تحية مقتضبة، وقال برجاء حار: حسبك ما شربت، فإني أريدك لأمر هام .. هلم معي .

ورفع حسين حاجبيه منكرا، وكأنما كبر عليه أن يعكر القادم صفوه، ولكن عباس - وقد أذهله الهم عن وعيه - أمسك بذراعه وشده حتى أقامه وهو يقول: إني في مسيس الحاجة إليك.

فنفخ الشاب مستاء، ودفع ما عليه، وغادر الحانة برفقة صاحبه، وقد أصر عباس على انتزاعه من الحانة أن يغلبه السكر فلا ينتفع بمشورته.

ولما صار في الموسكي قال وكأنما يزيح كابوسا عن صدره: وجدت حميدة يا حسين.

فلاح الاهتمام في العينين الصغيرتين وسأله: أين؟ - ألا تذكر امرأة العربة التي عدوت وراءها أمس وسألتني عنها اليوم دون أن تظفر مني بجواب شاف؟ هي حميدة دون غيرها.

فصاح الشاب بدهشة وسخرية: أسكران أنت؟! ماذا قلت؟

فقال عباس بلهجة جدية شديدة التأثر: صدقني فيما قلت، هذه المرأة هي حميدة بلحمها ودمها، وقد عرفتها من أول نظرة فركضت وراء عربتها كما رأيت، حتى أدركتها وحادثتها.

فتساءل حسين في دهشة وإنكار: كيف تريدني على أن أكذب عيني؟!

فتنهد الحلو بأسى، وراح يروي له ما دار بينهما من حديث دون أن يخفي عنه شيئا، والآخر يصغي إليه باهتمام شديد، حتى ختم حديثه قائلا: هذا ما أردت أن أطلعك عليه، ولقد تردت حميدة في الهاوية ولا نجاة لها، ولكنني لن أترك المجرم الأثيم بغير عقاب.

وحدجه حسين بنظرة طويلة احتار في تفسيرها، وكان الفتى بطبعه مستهترا قليل الاكتراث، فأفاق من دهشته بأسرع مما قدر صاحبه، ثم قال بازدراء: حميدة هي المجرمة الأصلية، ألم تفر معه؟ .. ألم تستسلم له؟ .. أما هو فماذا نؤاخذه به؟ .. فتاة أعجبته فغواها. ووجدها سهلة فنال منها وطره، وأراد أن يستغلها فسرحها في الحانات، هذا لعمري رجل حاذق، وبودي لو أفعل مثله حتى تنجاب عني هذه الأزمة التي أكابدها. حميدة هي المجرمة يا صاح.

وكان عباس يحسن فهم صاحبه، فلم يداخله شك في أنه لا يتورع عن شيء مما ارتكبه غريمه، ولذلك تحامى عن حكمة ذم الرجل في سلوكه أو خلقه، وعمد إلى إثارة نخوته من سبيل آخر فقال: ولكن ألا ترى أن هذه الرجل قد اعتدى على كرامتنا بما يستوجب تأديبه؟

ولم يغب عنه قوله: «كرامتنا»، وأدرك أنه يشير إلى الأخوة التي تربطه بحميدة، وذكره لتوه شقيقته المطروحة في السجن بسبب فضيحة مماثلة، فاستشاط غضبا وحنقا وزأر صائحا: هذا شأن لا يعنيني، ولتذهب حميدة إلى الشيطان.

ولكنه لم يكن صادقا كل الصدق فيما قال، ولو كان لقي ذلك الرجل وقتذاك لوثب عليه كالنمر وأنشب فيه مخالبه، ولكن الحلو خدع بقوله فصدقه وقال له بلهجة لا تخلو من عتاب: ألا يغضبك أن يعتدي رجل على بنت من زقاقنا هذا الاعتداء المنكر؟ أسلم لك بأن حميدة مجرمة حقا، وأن عمل الرجل في ذاته لا غبار عليه، ولكن أليس هو بالنسبة إلينا اعتداء مشينا يستوجب الانتقام؟!

فصاح حسين بحدة: أنت أحمق، ولست تغضب لكرامتك كما تتوهم، ولكن نيران الغيرة تلتهم قلبك الخرع، ولو أن حميدة رضيت بأن تعود إليك لطرت بها فرحا. كيف لقيتها يا رطل؟! نازعتها الحديث والشكاة؟! مرحى .. مرحى .. حييت من رجل همام! .. لماذا لم تقتلها؟ .. لو كنت مكانك ورمت المصادفات إلى يدي بالمرأة التي خانتني لخنقتها بلا تردد، ثم ذبحت عشيقها، واختفيت عن الأنظار! .. هذا هو ما كان يجب أن تفعله يا رطل.

وتلبست وجهه الضارب للسواد صورة شيطانية، فاستدرك مزمجرا: لست أقول هذا متهربا، فالحق أن هذا الرجل ينبغي أن يدفع ثمن اعتدائه غاليا، وليدفعنه غاليا، وسنمضي معا في الموعد المضروب ونوسعه ضربا، ثم نرصده بمظانه جميعا ونوالي ضربه، ولو اقتضى الحال أن نحشد له جيشا من الأعوان، ولا نكف عنه حتى يفتدي نفسه بمبلغ كبير من المال، وبذلك ننتقم ونستفيد معا.

وسر عباس بهذه النتيجة غير المتوقعة، وقال بحماس: نعم الرأي هو .. حقا أنت رجل الملمات!

وسره الثناء، ومضى يفكر في تنفيذ خطته مدفوعا بغضب لكرامته، وميله الطبيعي إلى العدوان، وطمعه في الحصول على مبلغ من النقود، ثم غمغم بصوت ملؤه النذير: «ما يوم الأحد ببعيد!» وبلغا عند ذاك ميدان الملكة فريدة فتوقف عن المسير وهو يقول: عد بنا إلى حانة فيتا.

ولكن الآخر تشبث بذراعه وهو يقول: أليس من الأفضل أن نمضي إلى الحانة التي سنلقاه بها يوم الأحد لتعرف الطريق بنفسك؟

وتردد حسين لحظات، ثم سار معه كما أراد وقد حثا الخطى. وكانت الشمس قد مالت للمغيب، ولم يكد يبقى من نورها إلا ظلال خفيفة، وشمل السماء ذلك الهدوء الحالم الذي تخلد إليه إذا تراءت لها طلائع الظلام، واشتعلت مصابيح الطريق واطرد سبل السابلة لا يعبئون اختلاف الليل والنهار. ودوى سطح الأرض على غير انقطاع، فمن جعجعة الترام إلى أزيز السيارات، ومن نداء الباعة إلى نفخ الزمارات غير همهمة البشر، فكأنهما بخروجهما من المدق إلى هذا الطريق قد انتقلا من المنام إلى يقظة صاخبة. وارتاح عباس الحلو وانقشعت الحيرة التي غشيته طويلا فعرف سبيله بفضل صاحبه الجريء القوي، أما حميدة فقد ترك أمرها معلقا للظروف المجهولة تفصل فيه بما تشاء، ولم يستطع أن يبت فيه برأي، أو أنه أشفق من البت فيه برأي حاسم. وقد خطر له لحظة أن يفاتح صاحبه ببعض خواطره؛ ولكنه ما كاد يختلس إلى وجهه الأسود نظرة حتى غاص الكلام في حلقه فلم ينبس بكلمة. وواصلا السير حتى بلغا موقف الأمس الذي لا ينسى، فلكز عباس صاحبه وهو يقول: هاك دكان الأزهار الذي حادثتها فيه.

ونظر حسين إلى الدكان الذي يشير إليه صامتا، ثم سأله باهتمام: وأين الحانة؟

فأومأ له إلى باب غير بعيد وهو يغمغم: «ها هي ذي.» وراحا يقتربان على مهل وحسين كرشة يتفحص المكان وما يحيط به بعينيه الصغيرتين الحادتين. ونظر عباس الحلو إلى داخل الحانة وهما يمران بها، فجذب عينيه منظر غريب ندت عنه شهقة، وتصلبت عضلات وجهه، ثم جرت الحوادث سريعة قبل أن يفقه لها حسين كرشة معنى .. رأى حميدة في جلسة شاذة بين نفر من الجنود، كانت تجلس على كرسي وإلى ورائها جندي واقفا يسقيها خمرا من كأس في يده، ينحني عليها قليلا وتميل هي برأسها إليه وقد مدت ساقيها على حجر آخر يجلس قبالتها، وحف بهم آخرون يشربون ويعربدون. بهت الفتى وتسمر في موقفه، ونسي ما كان علمه من مهنتها، وكأن الخطب يدهمه على غير علم به، وطمس الدم الفائر بصيرته، فلم يعد يعرف غريما له في دنياه سواها، واندفع إلى الحانة كالمجنون وصاح بصوت كالرعد: حميدة!

وفزعت الفتاة مستوية على الكرسي، وحملقت في وجهه بعينين ملتهبتين، وغلبتها الدهشة ثواني، ثم ثابت إلى رشدها وقد هالها ما يتهددها به حمقه من الفضيحة، فصاحت به بصوت خشن فظ جعله الغضب كالزئير: لا تبق هنا لحظة واحدة .. اغرب عن وجهي.

وفعلت به غضبتها وصراخها فعل النفط بالنار فجن جنونه، واختفى من نفسه ما طبع عليه من تهيب وتردد، ووجد أخيرا ما عاناه في الأيام الثلاثة الماضية من قهر وعذاب وقنوط ثقبا في مرجل نفسه، فانطلق منه صارخا، مصفرا مجنونا، ولمح إلى يساره بعض زجاجات الجعة الفارغة على طاولة الحانة، فتناول واحدة وهو لا يدري ما يفعل وقذفها صوبها بكل ما يملك من قوة وغضب وقنوط، في سرعة خاطفة لم يستطع أن يمنعها أحد، لا من الجنود ولا من عمال الحانة، فأصابت الزجاجة وجهها، وتفجر الدم غزيرا من أنفها وفمها وذقنها، وانمزج بالأدهنة والمساحيق، وسال على عنقها وفستانها، واختلط صراخها بزئير السكارى الهائجين، وانقض عليه الغاضبون كالوحوش الكواسر، وتطايرت اللكمات والركلات والزجاجات.

ووقف حسين كرشة على باب الحانة يرى صاحبه تتقاذفه الأيدي والأرجل، وهو كالكرة لا يملك للقضاء دفعا. وكلما تلقى ضربة هتف صارخا: «يا حسين .. يا حسين.» ولكن الفتى الذي لم ينكص عن خوض معركة في حياته لبث متسمرا لا يدري كيف يشق سبيله إلى صاحبه وسط أولئك الجنود الكواسر الفاتكين، وتملكه الغضب، واشتعلت بصدره ثورة جائحة، وأخذ يتلفت يمنة ويسرة عله يجد آلة حادة أو عصا أو سكينا، وبقي مقهورا مغلوبا على أمره، وقد مضى السابلة يتجمعون عند مدخل الحانة متطلعين للمعركة بأعين فزعة وأيد مغلولة.

35

أضاء الصباح بجنبات الزقاق، وألقت الشمس شعاعا من أشعتها على أعلى جدران الوكالة ودكان الحلاق. وغدا سنقر صبي القهوة فملأ دلوا ورش الأرض . وكان المدق يقلب صفحة من صفحات حياته الرتيبة، وأهله يستقبلون الصباح بهتافاتهم المحفوظة. وفي هذه الساعة الباكرة ينشط عم كامل على غير عادته، فيقف أمام صينية البسبوسة يحف به صبية المدرسة الإلزامية ويمتلئ جيبه بالملاليم، وفي مواجهته أكب الحلاق العجوز على المواسي يشحذها، ومضى جعدة الفران يحمل العجين من البيوت، وأقبل العمال على الوكالة يفتحون أبوابها ومخازنها ويخرقون السكون المخيم بجلبتهم التي لا تنقطع طوال النهار، بينما تربع المعلم كرشة وراء صندوق الماركات في جلسة حالمة يقضم شيئا بثنيتيه ويلوكه في فمه، ثم يعتصره بقدح من القهوة، وقد جلس على كثب منه الشيخ درويش في صمت وغيبوبة. وفي هذه الساعة الباكرة أيضا تلوح الست سنية عفيفي في نافذتها، تشيع زوجها الشاب وهو يغادر الزقاق في طريقه إلى القسم. هكذا تطرد الحياة في المدق على وتيرة واحدة إلا أن يقلقها اختفاء فتاة من فتياته، أو ابتلاع السجن لرجل من رجاله، لكن سرعان ما تنداح هذه الفقاعات في بحيرته الهادئة أو الراكدة، فلا يكاد يأتي المساء حتى يجر النسيان ذيوله على ما جاء به الصباح. أضاء الصباح والزقاق يستقبل هذه الحياة الهادئة المطمئنة، ولما أن أقبل الضحى جاء حسين كرشة مكفهر الوجه، ملتهب الجفون من عدم النوم ليلة كاملة يضرب الأرض بخطوات ثقال، فمضى إلى مجلس أبيه وارتمى على كرسي لقاءه، وهو يقول بصوت غليظ دون تحية أو سلام: قتل عباس الحلو يا أبي.

وكان المعلم قد أوشك أن ينتهره لقضائه الليل خارج البيت، فلم ينبس بكلمة، وحملق في وجهه بعينين ذاهلتين، ولبث لحظات جامدا ساهما كأنه لم يفهم ما ألقي على سمعه، ثم سأل بانزعاج شديد: ماذا قلت؟

وكان حسين ينظر فيما أمامه بعينين شاردتين فقال بصوت أجش: قتل عباس الحلو! قتله الإنجليز!

وازدرد الفتى ريقه ثم أعاد على أبيه ما حدثه به عباس وهما يسيران في الموسكي قبيل مغيب أمس، وقال بصوت حاد مضطرب: وقد مضى بي ليريني الحانة التي وعدته إياها الفتاة الشريرة، وإنا لنمر ببابها إذ رأى العاهرة تعربد في جمع من الجنود، ففقد وعيه واندفع إلى داخل الحانة ورماها بزجاجة في وجهها قبل أن أتنبه لقصده، وهاج الجنود وانقضوا عليه عشرات وعشرات وأوسعوه ضربا حتى سقط بينهم لا حراك به.

وكور قبضته وقرض أسنانه قائلا بغضب: يا للشيطان! ما كان بوسعي أن أخف إلى نجدته! .. حالت دون ذلك جموع الجنود الكثيفة التي سدت الباب سدا .. آه، لو بلغت يدي عنق جندي من أولئك الملاعين!

وكان هذا ما يحز فؤاده حزا، وما يشب في صدره نار الغضب من غير انقطاع، حتى لقد انقلب إلى الزقاق يكاد يستخفي من الخزي والعار. أما المعلم كرشة فقد ضرب كفا بكف وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا فعلتم به؟ - جاءت الشرطة بعد نفاذ القضاء، وضربوا حول الحانة حصارا، وما عسى أن يفيد الحصار؟ وحملوا جثته إلى قصر العيني، ونقلوا العاهرة إلى الإسعاف.

فسأل المعلم باهتمام: وهل قتلت؟

فأجاب الشاب والحقد يأكل رأسه: لا أظن .. لا أظن الضربة كانت قاتلة .. ضاع الفتى هدرا. - والإنجليز؟

فقال الشاب بلهجة أسيفة: تركناهم والشرطة تحيط بهم. ولكن من ذا يستطيع أن ينال منهم حقا؟

فضرب المعلم كفا بكف مرة أخرى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل علم أهل الفتى بالخبر الأسود؟ اذهب إلى خاله عم حسن القباقيبي بالخرنفش وآذنه بموته، والله يفعل ما يريد.

ونهض حسين يغالب تعبه وإعياءه وغادر القهوة. وذاع الخبر، وأعاد المعلم كرشة القصة التي رواها ابنه مرات ومرات على السائلين، فتناقلتها الألسن، وزادت عليها ما شاء لها الهوى، وجاء عم كامل القهوة مترنحا وقد دهمه الخبر فصعقه وارتمى على أريكة وراح يبكي بكاء مرا وينتحب كالأطفال، ولا يكاد يصدق أن الفتى - الذي أعد له كفنا - لم يعد من الأحياء. ونمى الخبر إلى أم حميدة فغادرت البيت مولولة حتى قال بعض من رآها: إنها «تبكي على القاتل لا القتيل!» وكان أشد الناس تأثرا السيد سليم علوان؛ لا حزنا على الفقيد، ولكن فزعا من الموت الذي اقتحم عليه الزقاق فأثار مخاوفه وضاعف آلامه، فعاودته أفكاره السوداء، وتصوراته المريضة، وأخيلة الاحتضار والموت والقبر التي نهكت أعصابه، واستحوذ عليه القلق فقامت قيامته ونبا به مجلسه، وجعل يروح ويجيء في الوكالة، أو يخرج إلى الزقاق فيلقي نظرة زائغة على الدكان الذي كان دكان الحلو أعواما طوالا. وكان أعفى نفسه - لشدة الحرارة - من شرب الماء الدافئ، فأمر العامل المكلف بخدمته بأن يدفئ له ماء للشرب كما كان يفعل في الشتاء، وقضى تلك الساعة نهبا للخوف والقلق وبكاء عم كامل يصك مسامعه صكا. •••

وانداحت هذه الفقاعة أيضا كسوابقها، واستوصى المدق بفضيلته الخالدة في النسيان وعدم الاكتراث، وظل كدأبه يبكي صباحا - إذا عرض له البكاء - ويقهقه ضاحكا عند المساء. وفيما بين هذا وذاك تصر الأبواب والنوافذ وهي تفتح، ثم تصر كرة أخرى وهي تغلق. ولم يحدث في هذه الفترة أمر ذو بال. اللهم إلا ما كان من إصرار الست سنية عفيفي على إخلاء الشقة التي كان يقطنها الدكتور بوشي قبل سجنه، وما كان من تطوع عم كامل بنقل أثاثه ومعداته الطبية إلى شقته، وقيل في تفسير هذا: إن عم كامل آثر إشراك الدكتور في مسكنه على الوحدة التي لم يألفها، ولم يعاتبه أحد في ذلك، بل لعلهم عدوها له من المكرمات؛ لأن السجن لم يكن مما يشين المرء في المدق.

وتحدثوا في تلك الأيام عن اتصال أم حميدة بابنتها التي دخلت في طور النقاهة والشفاء، وعما تحلم به المرأة من جني بعض ثمار هذا الكنز المترع. ثم ثار اهتمام الزقاق فجأة حين سكنت أسرة أحد القصابين شقة الدكتور بوشي، وكانت مكونة من القصاب وزوجه وسبعة من الأطفال وفتاة حسناء. قال حسين كرشة عنها: إنها كفلقة القمر. ولكن عندما اقترب موعد عودة الحاج رضوان الحسيني من الأقطار الحجازية لم يعد يفكر أحد إلا في هذا اليوم الموعود، وقد علقت الثريات والأعلام وفرشت أرض الزقاق بالرمل، ومنى الجميع نفوسهم بليلة فرح وسرور تدوم ذكراها على الأيام.

ويوما رأى الشيخ درويش عم كامل وهو يمازح الحلاق العجوز.

فهتف وهو يرفع رأسه إلى سقف القهوة:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه

ولا القلب إلا أنه يتقلب

فتجهم وجه عم كامل، وانطفأ لونه، واغرورقت عيناه. ولكن الشيخ درويش هز منكبيه استهانة، وقال وعيناه لا تزالان شاخصتين إلى السقف:

من مات عشقا فليمت كمدا

لا خير في عشق بلا موت

ثم وحوح متنهدا واستدرك قائلا: يا ست الستات .. يا قاضية الحاجات .. الرحمة .. الرحمة يا آل البيت، والله لأصبرن ما حييت، أليس لكل شيء نهاية؟ بلى لكل شيء نهاية.

ومعناه بالإنجليزية

end

وتهجيتها:

e n d .

अज्ञात पृष्ठ