وشقا طريقهما متباعدين، وسارا في شارع الأزهر في صمت ثقيل، وقد أدركت أنها أعلنت - بالكلمة التي نطقت بها - تسليمها النهائي. وبلغا ميدان الملكة فريدة دون أن يخرجا من صمتهما الثقيل. ولم تعد تدري أين تتجه فوقفت، وسمعته في اللحظة التالية ينادي التاكس، وجاءت السيارة ففتح لها الباب، ورفعت قدمها لتصعد إليها، ففصلت هذه الحركة بين حياتين! وما كادت السيارة تنطلق بها حتى قال بصوت متهدج وبمهارة فائقة: الله وحده يعلم كم تعذبت يا حميدة! .. لم أنم من ليلتي ساعة واحدة. أنت لا تدرين يا عزيزتي ما الحب. ولكني اليوم سعيد، بل أكاد أجن من الفرح. رباه كيف أصدق عيني؟! شكرا يا محبوبتي شكرا. والله لأجعلن من السعادة أنهرا تجري تحت قدميك .. ما أجمل الماس حول هذا الجيد! (ومس جيدها برقة) .. ما أروع الذهب في هذا الساعد! (وقبل ساعدها) .. ما أفتن الروج في هاتين الشفتين! (وهوى برأسه ليقبل ثغرها؛ ولكنها تحامته فلثم خدها) .. يا لك من فاتنة نافرة!
واستراح قليلا ثم استدرك قائلا وعلى شفتيه ابتسامة: ودعي الآن عهد التعب، فلن تطالعك الحياة بكدر بعد اليوم! .. حتى ثدياك سيحملهما عنك رافع من الحرير.
ورضيت بالاستماع لهذا الكلام دون تنمر أو احتداد، وإن توردت وجنتاها، واستسلم جسمها للسيارة المندفعة التي تهرب بها من الماضي كله.
وانتهى التاكس إلى العمارة التي صارت مأواها، فغادراه، ومضيا مسرعين إلى الشقة، وكانت كما وجدتها بالأمس ضاجة بالأصوات المنبعثة من الأبواب، ثم دخلا الحجرة الرائعة، وقال ضاحكا: اخلعي الملاءة لنحرقها معا.
فغمغمت تقول وقد تورد وجهها: لم أحضر ملابسي.
فصاح بسرور: حسنا فعلت .. لا نريد شيئا من الماضي.
وأجلسها على مقعد وراح يقطع الحجرة جيئة وذهابا، ثم اتجه نحو باب أنيق إلى يمين المرآة العالية، ودفعه عن مخدع وثير وهو يقول: حجرتنا.
ولكنها قالت بسرعة وحدة: كلا .. كلا .. سأنام هنا.
فحدجها بنظرة ثاقبة، ثم قال بلهجة تنم عن التسليم: بل تنامين في الداخل، وأنام أنا هنا.
وكانت تصمم في نفسها على ألا تؤخذ كالماشية، وألا تسلم حتى تشبع رغبتها في العناد والإباء، والظاهر أن رغبتها هذه لم تغب عن مكره؛ لأنه دارى ابتسامة ساخرة، وتظاهر بالإذعان والتسليم، ثم قال لها بسرور وفخار: بالأمس يا عزيزتي دعوتني بالقواد، فاسمحي لي بأن أقدم لك نفسي على حقيقتها: محبك ناظر مدرسة، وستعلمين كل شيء في حينه.
अज्ञात पृष्ठ