مصير جروحك على طول الزمن تبرى
ويجيلك الطب، لا تعلم ولا تدرى
مثل سمعناه منقول عن ذوي الخبرة
الصبر يا مبتلى، جعلوه للفرج مفتاح
وفتح عم كامل عينيه وتثاءب، ثم نظر إلى الشاب الواقف على باب دكانه، فضحك هذا وعبر الطريق إليه وقرصه في ثديه الهش، وقال بسرور: عشقنا وستضحك لنا الدنيا!
فتنهد عم كامل وقال بصوته الرفيع: مبارك يا عم، ولكن هلا سلمتني الكفن قبل أن تبيعه لتحصل على المهر؟!
فضحك عباس الحلو ضحكة عالية، وغادر الزقاق متمهلا. كان يرتدي بدلته الرمادية، وهي الوحيدة أيضا، وكان قد قلبها منذ عام، ثم رفأ الرفاء بعض أطرافها، ولكنه كان يعنى بتنظيفها وكيها، فبدا - على نحو ما - أنيقا! وكان يضطرم حماسة ونشوة وشجاعة، ويضطرب بهذا الضيق الشديد الذي يسبق عادة البوح بمكنون الفؤاد. كان في تلك الفترة يحيا الحب .. للحب، ويدور بجناحيه الملائكيين في سماء السرور. وكان حبه عاطفة رقيقة ورغبة صادقة وشهوة جائعة، يهوى الثديين كما يهوى العينين، ويلتمس وراء الثديين حرارة الجسد، كما يتلمس في العينين نشوة غامضة ساحرة. وقد سر سرور الظفر يوم تعرض للفتاة في الدراسة، وصور له خياله إعراضها كما لو كان ذلك الإعراض السلبي الذي تلبي به النساء نداء الهوى. واستأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر ونشوته تخبو، لا لجديد جد؛ ولكن لتيقظ الشك وفعله. وراح يتساءل: لماذا يظن الإعراض دلالا؟ ولم لا يكون إعراضا حقا؟! ألأنها صدته في غير قسوة ولا فظاظة؟ ولكن هل يتوقع الإنسان من جارة العمر أقل من هذه المجاملة؟ .. حقا لقد غالى في سروره، وإنها لنشوة كاذبة. بيد أنه لم ينكص على عقبيه، وكان كلما لسعه الشك اندفع في سبيله ذائدا عن سعادته. كان عند الضحى يبرز أمام دكانه فيراها إذ تفتح النوافذ لتشمس الشقة، وفي المساء يجلس بكرسيه على عتبة القهوة تحت نافذتها، يدخن الجوزة، ويخطف النظرة تلو النظرة من الشباك المغلق يجثم وراء خصاصه الشبح المحبوب. ولم يقنع بهذا فتعرض لها مرة ثانية في الدراسة، ولكنها صدته كما صدته أول مرة، وأعاد الكرة فأفلتت منه أيضا. ولكنه رجع وقد عاوده الأمل وأظله الفرح والسرور، وقال لنفسه: إن السعادة مهيأة له ولا تقتضيه إلا مزيدا من الشجاعة والصبر. وهكذا انطلق هذه المرة ممتلئا شجاعة وثقة وهياما، ورأى حميدة وصويحباتها قادمات، فانتحى جانبا حتى مررن به، ثم تبعهن متمهلا. وقد لاحظ أن أعين البنات يثقبنه بخبث مريب، فداخله سرور وزهو، وتابع سيره حتى انفرط عقدهن عند نهاية الدراسة، فحث خطاه حتى صار منها على مرمى ذراع، وابتسم إليها ابتسامة رقيقة متعثرة بالارتباك، وغمغم بتحيته المحفوظة: مساء الخير يا حميدة.
كانت تنتظره بلا ريب، ولكنها كانت في حيرة من أمر نفسها. لم تكن تحبه ولم تكن تكرهه، ولعل كونه الفتى الوحيد الذي يصلح لها في الزقاق هو ما جعلها تشفق من قطعه أو صده بحزم وفظاظة. فأغضت عن تعرضه لسبيلها مرة أخرى، مكتفية بزجر لين، وإفلات لطيف، ولو شاءت أن تصعقه لصعقته، وكانت على رغم تجربتها المحدودة في الحياة تشعر بالفارق الكبير بين هذا الفتى الوديع وبين طموحها النهم الذي يضرمه نزوعها الغريزي إلى القوة والجموح والسيطرة والعراك! حقا كانت تهيج جنونا إذا قرأت في نظرة عين معنى للتحدي أو الثقة، ولكن لم تبعثها إلى الرضا هذه النظرة الوديعة الطيبة التي تلوح دواما في عيني الحلو، وتولاها شعور بالحيرة والقلق لترددها بين الحرص عليه بوصفه الفتى الصالح لها في الزقاق، والنفور منه لا ينهض على أسباب واضحة يطمأن إليها .. فلا ميل صريح ولا نفور صريح، ولولا إيمانها بالزواج كنهاية طبيعية محتومة لما ترددت في نبذه والقسوة عليه. لذلك أحبت مجاراته، وسبر غوره، واستخراج مكنون لسانه، لعلها تجد في ذلك كله أو في بعضه مخرجا لها من حيرتها المؤسية. وخاف الفتى أن يمتد صمتها حتى ينطوي الطريق، فغمغم كالضارع: مساء الخير.
وانبسط وجهها البرونزي الجميل، وتمهلت في مشيتها وهي تنفخ في ضجر مصطنع قائلة: ماذا تريد؟!
ولمح انبساط وجهها فلم يعبأ بضجرها، وقال بأمل ورجاء: ميلي بنا إلى شارع الأزهر؛ فهو طريق مأمون والظلام وشيك.
अज्ञात पृष्ठ