ومع يسر الوسيلة له كان يحس دائما كأن عليه ألف رقيب، وكأن الناس جميعا مطلعون على خفايا ما في نفسه وكل ما يكنه صدره، ويجول في فؤاده، فيتردد دون الذهاب ولا يقدر عليه. لكنه أحس أخيرا بدافع شديد لم يستطع مغالبته يحثه على إطراح كل ذلك من وراء ظهره والإقدام إلى حيث ملاكه الذي أعطاه من الخيالات والصور، ورسم له أمام نفسه تمثال الشباب والحب، وإن كان لم ير صاحبته من أربع سنين مضت ، أي من يوم كانت تؤمن على حياتها ووجودها، ثم نزل أهلها عن الثقة بها، وظنوا في صعودها للكمال والجمال سعيا نحو الشيطان وغوايته.
لم يرها من ذلك اليوم البعيد. ولكنها دون شك ككل الفتيات اللائي يرى تحت الشمس، متى جلست على عرش الشباب أخذت بأسباب الجمال، وكملت في كل شيء، وظهرت أمام العين زينة للناظرين.
ولم تطل مدة تردده. فلما كان أصيل اليوم الثاني ليوم حضورها أخذ بعضه وسار حتى وصل إلى باب منزلها وقلبه يجف، وفؤاده يرتعد، وقد جاشت نفسه. ودخل فإذا هي بين أقاربها وأقاربه. وقاموا جميعا فسلموا عليه، وقبلته كبيراتهم ما بين عينيه، ثم تقدم ليسلم عليها، وجلس على مقعد إلى جانبهم، ورجع القوم جميعا إلى حديثهم. وفيما بين ساعة وأخرى تسأله واحدة من القاعدات عن حاله وكيف هو؟ ولم لا يتردد عليهم؟ ويجيب بالأجوبة المعتادة المحفوظة. ثم يسكت ولا يأخذ في الحديث بنصيب، ويلقي ببصره إلى الأرض إلا أن يرفعه أحيانا فيجيله في الحجرة التي هم فيها. ومع ما كانوا يصلون إليه في حديثهم من الضحك العالي على بعض حكايات يقولها أحدهم، فإنه لم يزد على الابتسام. وفي تلك اللحظة التي يعلو فيها الفرح الوجوه كان يرسل النظرات إلى تلك التي شاركته بخيالها في أحلامه زمنا ليس بالقصير، وشغلت من حياته موضع آمال كبار، يريد أن يرى ذلك الوجه الذي عرفه صغيرا وقد استكمل خلقه، ويجتلي من ذلك الثغر الجميل ابتسامته، ثم يرجع إلى نفسه يسائلها عن إحساس الفتاة نحوه فلا يشك لحظة في أنها شريكته، وأنها تحبه كما يحبها.
وكأنما خشي أن يطلع أحد على ما في نفسه، فلم يطل مدة مكثه، واستأذن للانصراف. وبالرغم مما طلبه إليه القوم ليبقى معهم تمسك برأيه، وزعم أن عنده موعدا لا بد أن يوفيه. وما كان في تلك اللحظة أكثر ارتياحا وطمأنينة! بل لقد خيل إليه أن عيونا ترقبه من سقف المكان وتطلع على خبايا فؤاده، وأن لم يبق إلا قليل حتى ينفضح مكنون سره، ويبين للجميع ما دعاه للتعجيل بفراقهم. وخرج من بينهم وهو لا يملك دقات قلبه ولا اضطراب نفسه، وولى هاربا من الناس إلى حديقة قريبة ارتمى تحت شجرة من أشجارها إلى جانب الممشى، وقد سال الماء في قناة عن يمينه. وتمر مع التيار ما بين حين وآخر ورقة من أوراق الشجر الذابل، أو ضفدع انساب مع الماء عائما. وبعد مدة مكثها ذاهلا تائه الرشد ابتدأ يقذف إلى الماء بحصى رفيع وجده إلى جانبه. وما بين هنيهة وهنيهة يسكت ويستعيد قواه. فلما عاوده هدوءه، وراجعه التفكير في الحياة وشأنها، وتلك الفتاة وهي تنظر إليه خفية، كما كان ينظر إليها خفية، انتقل إلى أحلام السعادة التي تحيط بالمحبين، وبكل من يخالط الحب نفسه ولو مجونا. انتقل لتقدير حساب المستقبل السعيد وهو إلى جانبها وحده، وهي في حيرتها قد جاءته لموعد ينتظرها فيه.. ثم الحديث الذي يدور بينهما وهو أحلى من الشهد يقدر كلماته تقديرا، وهما في زاوية من الكون هادئة لا حركة فيها إلا أن ينعشها الهواء البليل بهبوبه، والطير بشجي نغماته، وتبعث عليها الطبيعة آثار النعمة والسرور، ويغرقان في ذلك إلى الأبد. ما أحلى تلك الساعات وأهنأها على قلبه، ولكأنه يلمسها بيده ويراها تتحقق! •••
ولما كان اليوم الثاني، وعاوده التفكير في الذهاب ليراها، خشي أن يعد عليه من معها ذلك، ويلاحظوا تكرار زيارته، فأراد أن يغالب نفسه ويقف دون إرادته، لكن محاولته ذهبت هباء، ومغالبته لم تجد نفعا، وانحنى أمام إحساسه. وفي مثل الساعة التي ذهب لأمسه ذهب فيها ذلك اليوم الثاني، ووجد الأشخاص هم هم لم يزد عليهم أحد، ويحكون حكاياتهم على طريقة الأمس. أما هو فأحس في ذلك اليوم كأن نفسه تثور، وحواسه كلها تأخذها الرعدة، حتى كادت تبدو عليه علامات القلق، فلم يتمهل أن انصرف بحجة أكثر وهنا من حجته بالأمس. وخرج هائما إلى المزارع يسير على غير انتظام، فيتمهل أحيانا حتى يكاد يقف في مسيره، ثم يسرع، ثم يتمهل وكأنه يريد أن يرجع على أعقابه. وتوترت أعصابه، وكان يقطب حاجبيه ما بين حين وحين ... ليت شعري أي شيء عرا ذلك الإنسان الهادئ حتى يقيم نفسه ويقعدها، ويرسل به إلى حدود الجنون؟ وأي قضاء من السماء حل به من أجل جرمه الذي قارف في إسلام نفسه للحب؟ وهل إرسالنا النفس تتمتع بأول عاطفة شريفة في الحياة يجر عليها الويلات؟ أو ماذا عساه يكون قد أصاب حامدا حتى جعله يكاد يهذي؟
وانساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبا حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة كبيرة، وجلس كأن به مسا من الجن، يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبا لجنب، ولتحدثه، وليضمها إليه، ولتكون ملكه؟
ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غرارا. وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود. وانساب وسط ظلمات يتسلل فيها النور كما يتسلل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميز بعد قد «بهت» عليها حجاب الليل الهزيم، والنجوم تتقلص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يحكم على الوجود، فلا تسمع هسيسا إلا أن يقطعه من حين لآخر صوت الديكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السموات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلا قليلا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل. ثم احمرت السماء إلى المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على المروى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها، وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرا يطرق أحيانا ويتطلع إلى ما حوله أحيانا أخرى.
ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك، ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مر بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمر في سيره مندهشا.. ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار؟
وحامد يفكر كيف يتسنى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، وأن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه؟
يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟
अज्ञात पृष्ठ