وعلى هاته المزارع التي تمتد على جانبيه وتمد له في أحلامه، كان كثيرا ما يرى جماعة من العمال أو العاملات الذين عرف من قبل فيهديهم تحياته، وقد يقف معهم قليلا. فلما كان في بعض الأيام إذا إبراهيم كعادته على رأس عصابة يخفون القطن. فذهب إليهم ووقف معهم، وجعل يسأل كلا منهم عن حاله ، ومن بينهم صغير باش الوجه طلق المحيا ذلق اللسان خفيف الروح جاء من عمله يشارك حامدا وإبراهيم الحديث، فسأله حامد عن أخته فاطمة ولم لا تحضر إلى الخف، ولكن الصغير لم يلبث أن سمع ذلك حتى ضحك ملء أشداقه وأجابه أنها تزوجت في بلدة غير بلدهم. وأخيرا أمره إبراهيم أن يذهب إلى عمله، واستحث الجميع، ورجع إلي حامد يجيبه عما يسأل عنه.
بجوار هذا الصغير كانت تشتغل أخت زينب، فسألها حامد عنها، وعلم أنها اليوم قد ذهبت لتطحن. ثم سأل من بعد أخريات عن أنفسهن وأخواتهن؛ وبقي معهن حتى ابتدأت السماء يتغير لونها. هنالك تركهم وسار في طريقه يفكر في أمرهم وفيما عساه يكون مصيرهم. ثم جاء إلى نفسه ذكر زينب، وارتسم أمامه خيالها الجميل، وعيناها الناعستان، وقوامها تحت ثياب العاملة البسيطة. لكن تلك الشهور الطوال لم يرها فيها واعتقاده القديم أن لن يقدر على أن يحبها جعل نفسه بدل أن تهتاج وتأخذها الرعدة تحس لتلك الذكرى العذبة بنشوة تدخل إلى قلب حامد، وسرور يخالط وجوده وينسيه ذلك العالم الذي حوله، وتمثل أمام ناظره أيام الصيف القديمة وتلك الساعات يرجعان فيها والليل يلقي على النهار سدوله ويرفرف على الوجود بجناحه، وهما صامتان ساكتان، يشعر كل واحد بالسعادة تفيض عنه وتلفه في ثوبها مع صاحبه.
والأيام تتعاقب، وتعاوده الذكرى كلما وجد الخلوة وسط صمت الطبيعة. ويزيده تعاقبها ذكرا للحوادث والكلمات والحركات والأماكن، ولكن أثبتها في نفسه أثرا وأعلقها بخاطره ذكرى ذلك اليوم الذي شعر فيه بأنه مفارقها عن قريب، وأنه لم يبق إلا أيام معدودات حتى يهجر القرية. •••
كان ذلك أول الخريف والبنات في قفولهن يتحدثن عن الجلاليب التي أعددن أو يعددن لجمع القطن، ويحكين حكايات عن هاته الأيام الجميلة التي مضت حين كن يشتغلن باليومية ويتسلين بالغناء عن تعب العمل، فترتفع أصواتهن العالية المرتبة يحيط بها ضوء الشمس، ثم تنتشر في الهواء، وتهتز أشجار القطن المتوجة بثمرها الناضج الناصع البياض يعطي المزرعة الواسعة معنى المشيب، وكأنها في اهتزازها قد أثار هذا الصوت شجنها فطربت وبعث إليها وهي في منتهى حياتها سرورا لم تعرفه من قبل.
كان ذلك أول الخريف، والوجود يسلم إلى الماضي أيام النشوة الفرح، ويأخذ عدته لصمت الشتاء. وحامد يرسل على الأراضي وإلى الناس نظرات الوداع، ويسير جنبا لجنب مع زينب، وقد تحركت نفسه وارتاع جنانه، وثارت كل حواسه أن ذكر فراقه القريب لتلك الأماكن المقدسة، وتلك الطبيعة وبناتها، ولم يملك لسانه أن يقول: وأنا مسافر بعد أسبوع..!
وتلا ذلك نظرة تجلت فيها كل إحساساته وما يجيش بصدره، أرسل بها إلى الفتاة التي لم تجب بكلمة، بل أسبلت عيونها وكلها الأسى والحزن لذلك الفراق العاجل. وكأنما أحست بهذا اليوم القريب حين تصبح كغيرها من الفتيات ولا حامد إلى جنبها. وحامد يفتش في ذاكرته عن شيء لا يدري ما هو، وتكاد نفسه تفيض من غير سبب يعلمه، ويقرب من زينب حتى يزحمها على سعة الطريق، ثم يتباعدان، وتظهر عليه علامات القلق كأنه ينتظر أمرا، وساعة المغرب تبعث بالظلام يغطي الكون، فلا يزيده إلا قلقا.
فلما انعطفا إلى طريق القرية - وقد سبقا الآخرين وخلا بهما المكان - مالا إلى مرتفع من الأرض مختف فجلسا فوقه. وبعد برهة أمسك حامد بيد زينب، ثم ضم أصابعها ضما شديدا. ولكنها بدل أن تتألم أو تتأوه أو تسحب يدها طوت هي الأخرى أصابعها على يده وضمتها. وحينذاك مال برأسه نحوها وفي شبه الظلمة المحيطة بهما وضع قبلة على خدها، فما إن أحست بها حتى عرتها الرعدة، وتلفتت يمينا وشمالا. فلم يفهم حامد من هذا شيئا، وجذبها نحوه فطوقها بذراعيه، وجعل يقبلها في صدغها وخدها وعنقها وعلى القليل الظاهر من شعرها. والبنت كأنما أصابتها جنة قد أستسلمت إليه، وتضمه من حين لحين وتقبله. ثم وضعت فمها على فمه، وأسبلت عينيها وكاد يغيب رشدها. وأحس حامد في تخدره كأنما يرشف من لسانها الشهد المذاب. وفي هاته الضمة الكبرى تاه رشدهما، وبقيا كذلك حينا من الزمن. وما كادت تفترق شفاههما حتى ضمها إليه، وألصق جسمها بجسمه، وصدرها قام فوقه نهداها المتقدان يرتعشان من قوة النار الكامنة في كل وجودها، والدم قد علا إلى أصداغها تركها في يد حامد تائهة لا تعي.
ذكر حامد ذلك في وحدته ثم سأل نفسه: هل عند الأيام من الجود أن تسمح له بمثل هذه الساعة من جديد؟ وخيل إليه أن يذهب لوقته فيبحث عن زينب ويجدها أينما تكن. ولو علم ما شغل بالها اليوم، وما تكن من الحب لإبراهيم، لعرف ما بينه وبينها الآن من حجاب. وهل حجاب أقوى من الحب ينسي صاحبه الأشياء والناس إلا محبوبه وما في القلب من ذكرى هذا المحبوب. لكن حامدا لا يعلم شيئا مما في قلبها، وكل ما يعتقده حائلا بينهما أنها ستتزوج عما قريب بحسن. لولا أنه يحترم هاته الصلات الشرعية بين الجنسين لكان أول همه أن يصل إلى قلب تلك الفتاة ليختص به نفسه. وأي إنسان يزهدها وقد حوت في بديع خلقها أبدع ما جادت به يد الخالق؟!
7
جاءت عزيزة إلى القرية كعادتها كل عام. هذه أيام صيف يهجر الناس فيها المدن. وإذا كانت ستجد مكان الحيطان حيطانا فعلى كل حال في الانتقال تغيير هواء، كما أنها تخرج في بعض الليالي المقمرة مع أهل البيت يخفرهن رجال من أهلهن. فلما علم حامد بمجيئها ترك التفكير في كل شيء سوى أن يذهب إليها، فيسلم عليها، ويجلس إلى جانبها يسألها عن حالها.. ما أحلى هاته البنية أيام كانت صغيرة خفيفة سريعة الحركة كثيرة الضحك، أيام كانا يلعبان معا منفردين فلا يسألان عما يفعلان!
अज्ञात पृष्ठ